منتديات قصايد ليل

منتديات قصايد ليل (http://www.gsaidlil.com/vb/index.php)
-   الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية (http://www.gsaidlil.com/vb/forumdisplay.php?f=91)
-   -   سورة الحجر (الآيات 36 : 40) (http://www.gsaidlil.com/vb/showthread.php?t=212082)

كـــآدي 08-09-2022 07:26 PM

سورة الحجر (الآيات 36 : 40)
 
قول ربِّنا - تبارك اسْمُه -: ﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 36-40].



"النَّظَر" - بفتح النون والظاء -:

الانْتِظار، يُقال: نظَرْتُه، وأنظرتُه، وانتظرتُه؛ أيْ: أخَّرْته، فمعنَى "أنظرنِي"؛ أي: أخِّر هلاكي، وامْدُد في عمري إلى أن تَبعث الموتى من قبورهم، وتَحشرهم للحساب والجزاء، فهو قد طلب الانتظار والتأخير إلى يوم البعث؛ أيْ: إنَّه يريد الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا يَلْحقه فناء؛ لأنَّ بعد البعث تكون الآخرة، وهى الحياة الدائمة الخالدة، فهو في طلبه هذا وَقحٌ أبعد الوقاحة، باغٍ أشدَّ البغي؛ إذْ يُحاول مشاركة الربِّ سبحانه في صفة البقاء والحياة الدَّائمة، وما يُلازم ذلك من الصِّفات والخصائص؛ لأنَّه يعدُّ نفسه الخبيثة لمشاركة الربِّ في خضوع قلوب بَنِي آدم له، ويرشِّح نفسه لأنْ يكون ندًّا لربِّ العالمين، في الطَّاعة والتقديس والعبادة، وخَسِئ الملعون الرَّجيم، فلقد أعماه تَمرُّدُه واستكباره عن الحقِّ، وأضلَّه بغْيُه وخبثه عن سبيل الرشد، فأُبعِدَ عن الحقِّ البدهي، الذي ينطق كلُّ شيء بدليله الواضح وبرهانه الواضح، ومنه قول هذا الرَّجيم نفْسِه: "ربِّ" فهل يكون المربوب العاجز المخلوق شريكًا للربِّ الخالق القويِّ العزيز، أو ندًّا له؟! سبحان الله ربِّي!



وهكذا إخوان الشَّيطان وأولياؤه الذي نفذ فيهم سلطانه بِعَماهم، وتَجاهُلِهم آياتِ الله وسُننَه الحقَّة، يستجيبون لِدَعوة وليِّهم العدوِّ الْمُبين، فينتفخون كِبْرًا، ويذهبون في غرورهم يتخبَّطون في عمايات السَّفه والبغي، يُفْسدون في آيات الله وسننه ونِعَمِه بعمايتهم، مُحاولين بأمانيِّهم الكاذبة وآمالِهم الخياليَّة أن يُطاولوا الزَّمن، ويُبَدِّلوا سنن الله في حقائق الوجود، وهو ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2] وما يزالون في غيِّهم يَعْمهون، وفي تِيهِ أمانيِّهم وإفسادهم يتَخبَّطون، ظانِّين أنَّهم قد قدروا على الحياة فذلَّلوها لأهوائهم، حتى تفجعهم الصَّيحة، فتأخذهم وهم يَخِصِّمون، فلا يستطيعون توصية، ولا إلى أهلهم يرجعون، تقطَّعَت بِهم بيوت العنكبوت من أوليائهم التي كانوا بها يتعلَّقون، وضلَّ عنهم ما كانوا يَعْملون، وفَرَّ مِن حولِهم ما كانوا بِكُفرهم بنعم الله عليهم، وغبائهم وعَماهم عن سُنَنِ الله يستكبرون، ووجدوا ما عملوا من الفساد والإفساد، والبغي والدَّجل والكذب على الله حاضرًا، ولا يظلم ربك أحدًا.



﴿ قَالَ ﴾ الربُّ القاهر فوق عباده الحكيم الخبير: ﴿ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴾؛ إنَّك أيُّها الملعون الرجيم تطلب المستحيل، وتُحاول الأمر الذي ليس إليه من سبيل، فلَقَد حكمْتُ الحكم الذي لا معقِّب له، وقضيتُ القضاء الذي لا نقض له: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [الرعد: 41] ذلك في خَلْقي وسننِي الكونيَّة من المنظرين إلى الوقت الذي حدَّدتُه، وعيَّنتُه أنا، فهو معلوم لديَّ، متى يكون، وكيف يكون؟ وقد أخفيت عِلْمَه عنك وعن كلِّ مَن خلَقْتُ؛ لأنَّ ذلك شأن الربِّ المَلِك العليِّ العظيم وحده، فأنت باقٍ بما جعَلْتُ فيك ولك من الفتنة والمِحَن لبني آدم، ما بَقِي الممتحَنون المبتلَوْن، فإذا جاء حينهم، وحلَّت ساعة فناء دارهم، وآن أوان تبديل الأرض غير الأرض والسموات، قهرَتْك سُنَّةُ اللهِ القاهرةُ فوق الجميع، وحلَّ بك الهلاك ونزل بك الموت، وانتقلْتَ أنت وحِزْبُك إلى دار الجحيم، وحلَّ بك وبِهم الجزاء الأَوْفَى من العذاب الأليم.



لقد أسرف إبليس الخبيث في العدوان في الدُّعاء، وطلب البقاء والحياة الدَّائمة؛ ولذلك لَم يستجب الله دُعاءه، فإنَّ الله لا يُحبُّ المعتدين، فما أعطاه إلاَّ ما قد سبق قضاؤه به، وما هو المعلوم عنده سبحانه، وإنَّ ربَّنا - تبارك وتعالى - ليَعِظ عباده بما يقصُّ عليهم من نبأ إبليس وحِزْبِه، ويكشف لهم أوضح الكشف عن خُطَطِه وكيده ومَكْره الذي يغوي به بني آدم، ويزيِّن به الفساد في الأرض، والقرآنُ كلُّه، بل ورسالاتُ الرُّسل جميعها، إنَّما هي كشْف وبيان، وتخويف وتحذير من ذلك العدو، وإرشادٌ وهداية إلى سبيل الله السَّوي، سبيل الحق والرَّشاد، وعدَّة وسلاح وحصون ينجو بها كلَّ النجاة، ويَسْعد كلَّ السعادة مَن أخذ بِها ولجأ إليها، على بيِّنة من أمره، وبصيرة من ربِّه، وعلمٍ من عدوه وكيده.



طلب إبليس طلب المستكبرِ الباغي، فكان لا بدَّ مع البغي والاستكبار من العدوان، وطلب المستحيل الذي لن يتحقَّق ولن يُستجاب، وهو أمَلٌ يتعلَّق به الداعي ويرجوه، ويربط به هناءَه ورحْمَتَه، فيلزمه لتلك الخيبةِ في دعائه والخسرانِ لأمله الشَّقاءُ والحسرة الدائمة، وتَصْطبغ بذلك نفسُه، وتُحيط بها، فتتلوَّن به كلُّ طبائعه وعناصر حياته، فتَسودُّ وتُظْلِم، وينشأ عن ذلك كلُّ أسباب الشرِّ والبغي والفساد، مِن غَبْن وضيم وبَغْضاء، واحتقار وتصغير لكلِّ نعم الله، وعمًى عن كلِّ آيات الله، وتشبُّث بكلِّ وهْمٍ وهوًى، وعبادة لكلِّ شهوة، وتَخيُّل كلِّ الحقائق أوهامًا، والأوهام حقائق وآمالاً، فلا يزال عيشُه بذلك نكدًا، ولا تزال حياته أحزانًا وشقاء: ﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الروم: 10].



ولقد أرشدنا الله - سبحانه وتعالى - إلى الدواء من كلِّ ذلك، والشِّفاء العاجل من كل تلك الأدواء والمهالك، فقال في سياق قصص إبليس من سورة طه: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124] وقال في سورة الأعراف المبتدأة كذلك بشرح حال إبليس، والكشف عن مكايده وآلاتِ إضلاله: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 55 - 56] وقال عن أنبيائه الذين اصطفاهم وأوحى إليهم الهدى والرَّحْمة، وأقامهم للناس قادةً وهُداة، ينجو الناس باتِّباعهم من كيد ذلك العدوِّ ومكره، قال ربُّنا في سورتهم: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 90].



ألاَ فلْنَكن على بيِّنة من أمرنا، ولنتأمَّل سنن الله وآياتِه الكونيَّةَ وحكمته، ولْنَتْلُ القرآن حقَّ تلاوته، ولنتدبَّر آياتِه، ولنتفقَّه فيها جيِّدًا، ولنعتَبِر بمواعظه وعِبَرِه، فنسير في حياتنا على حذر وتثبُّت وهُدًى من ربِّنا وسننِه وحكمته، ومعرفةٍ بعدوِّنا وبمكايده ومكره؛ فنكون بفضل ربِّنا وتوفيقه مِمَّن لا يضلُّ ولا يشقى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، ولا نسأل ولا ندعو إلاَّ ربَّنا وحده، ولا نسأله إلاَّ ما تقتضيه سننه ورَحْمتُه، فلقد قال الله في الذين صدَّق عليهم إبليسُ ظنَّه فاتَّبعوه، فكانوا أضلَّ من الأنعام سبيلاً، يَدْعون ويطلبون مِمَّن زعموهم أولياء، وهم لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا: ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ﴾ [الرعد: 14].



وقال في أهل النَّار وحزب إبليس الذي وعدَهم الله وعْدَ الحقِّ، فلم يستمعوا له ولم يصدِّقوا، ووعدهم الشيطان الأمانِيَّ والغرور، فصدَّقوه: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ﴾ [غافر: 49 - 50]؛ لأنَّهم دعَوْا في حياتِهم ما لا تقضيه صفات الربِّ العليم الحكيم، وسنته وحكمته، ورحمته ونعَمه، وهم في النَّار يَدْعون كذلك ما لا تقضيه صفاتُ العليم الحكيم وعدْله وحكمته ورحمته، فكان دُعاؤهم كله - الأوَّل والآخِر - في ضلال، نسأل الله العافية في ديننا ودنيانا وآخرتنا.



(قال) إبليسُ الرَّجيم - أعاذنا الله منه -: ﴿ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الحجر: 39]، ﴿ الْغَيِّ ﴾ [الأعراف: 202] إساءة التصرُّف والتخبُّط في الأعمال والأقوال بسفه وجهالة، فتكون الخيبة والخسران، والحسرة والنَّدامة، وهو ضد الرشد، الذي هو التبصُّر والتأنِّي والتثبُّت في الأقوال والأعمال والمقاصد، والتحرِّي للسداد والاستقامة؛ ليكون الظفر بالمقصود والراحة والسعادة.



وقد ذكر الله الرشد وقابله بالسَّفَه في قوله: ﴿ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ [النساء: 5-6]، وذكره وقابَلَه بالغيِّ، مبيِّنًا سببه في قوله: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 146] وفي قوله: ﴿ لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، وذكره مقابَلاً بالشرِّ وبالضرِّ في قوله: ﴿ وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ في الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴾ [الجن: 10] وقولهِ: ﴿ قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا ﴾ [الجن: 21]، وذكره بمقابل الجَوْر والظُّلم في قوله: ﴿ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴾ [الجن: 14-15] وقد ذكَر الله سبحانه وتعالى أنَّ الغي نتيجة حتميةٌ للتقليد الأعمى بالانسلاخ من آيات الله تعالى في الإنسانية السميعة البصيرة، المُفَكِّرة العاقلة، والإخلاد إلى أرض البهيمية السافلة، واتِّباع الهوى والشهوات، والغفلة عن نِعَمِ الله ورحمته وحكمته، فقال: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسلخ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الأعراف: 175].



وختم خصائص هؤلاء الغاوين الظَّالمين لأنفسهم بالتفلت والانْسلاخ من آيات ربِّهم وتكذيبها بقوله سبحانه: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179] وذكر أنَّ عصيان الله والفسوق عن أمره باتِّباع الشهوات ملازِمٌ للغي، فقال: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مريم: 59] وقال: ﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [طه: 121].



وذكَر أن الغيَّ نتيجة لازمة للغفلة والعمى عن الآيات، وعمَّا أعطى الله الإنسانَ بِها وبالنِّعم من أسباب وقُوًى وعناصرَ في نفسه وفيما حوله؛ ليعرفها ويحتفظ بِها، ويتَّقي بِها كُلَّ ما يكره من الخيبة والخسران، وغضَبِ الله وسخطه في الدُّنيا والآخرة، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ في الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201-202].



وذكر أن الغيَّ لازم لا ينفكُّ عن تقليد الشُّيوخ والعلماء وتقديسهم، وتهيئة الأسباب للأحبار - المعظَّمين عند الدَّهْماء باسْمِ العلم - والرُّهبان - المقدَّسين باسم الزُّهد والعبادة - أن يكونوا أربابًا من دون الله، يشرعون ما لم يأذن به الله، فيُسمع لَهم ويُطاعون، ويُقدَّم تشريعهم الباطل على قول الله العليم الحكيم وقولِ الرسول الصادق الأمين، فيكون التابعون والمُتَّبَعون بذلك مُجرمين، قال ربُّنا سبحانه: ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ﴾ [الشعراء: 90-99]، وقال: ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فيقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾ [القصص: 62-63] وقال: ﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ﴾ [الصافات: 27-34].



وذكر سبحانه أنَّ الغاوي يركب رأسه المَغْرور، ويهيم على وجهه في كلِّ وادٍ بلا عقل ولا تفكير ولا تدبُّر للعواقب، ولا تقدير ولا وزن لمبدأ ولا لغاية، فيكون لذلك أسوأ النَّاس عاقبة، وأخسرهم عملاً، وأعظمهم حسرة وندامة، قال تعالى: ﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 221-226].



وقرن ربُّنا سبحانه الضلال - الذي هو التخبط في كل وادٍ على غير رؤية أو تبصُّر - وطاعة الهوى في القول أو العمل بالغيِّ، فبَرَّأ الله نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحَماه من ذلك في قوله: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ [النجم: 1-3] وذكَر سبحانه أنَّ الغاوي ما دام متمسِّكًا بغيِّه، مَخدوعًا به، غارقًا فيه، فإنَّه لا يمكن أن ينتفع بنفسه، ولا يسمح بنصح ناصح، مهما بلغ من الشَّفَقة به والإخلاص له، ومهما أُوتِي النَّاصح من قوَّة البيان والصَّبر، فقال على لسان عبده ورسوله نوح - عليه السَّلام -: ﴿ وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [هود: 34].



هأنا قد جَمعتُ لك هذه الآيات التي استعمَل اللهُ فيها ﴿ الْغَيِّ ﴾؛ لأنِّي حاولتُ أن أشرح لك معناه اللُّغوي، على ما عرفتَ من طريقتي التي أحرص عليها؛ لأعطيك أكثر ما أقدر عليه من معاني القرآن ومقاصده، مع إيماني الوثيق بأني مقصِّر، مهما بذلتُ من الجهد، وأنَّ القرآن، مهما استخرج مهَرَةُ الغوَّاصين من لآلائه، فهُم لا يقدرون على استخراجها كلِّها، ولعلَّك تكون أقدر على استخراجه؛ لظروفك وشديد رغبتك، وصِدْق لجئِك وضراعتِك إليه سبحانه، فهو الحكيم الحميد، وهو بعباده الرؤوف الرحيم.



أقول: حاولتُ أن أشرح لك المعنى اللُّغوي لكلمة ﴿ الْغَيِّ ﴾ على طريقة استعمال العرب واشتقاقهم، فلم أجد لذلك سبيلاً أقرب من أن أحشد لك هذه الآيات، وأضعَها أمام عقْلِك باقةً كريمة، تستطيع بِمَعونة ربِّك، أن تأخذ منها معنى "الغيِّ" وأسبابَه وعواقبه - عافانِي الله وإيَّاك منه.



(قال) إبليسُ الخبيث: ﴿ ربِّ ﴾ يُكلِّم ربَّه ويخاطبه بكلِّ وقاحة وفُجور، فيقول: يا ربِّي، يا مَن أنت الذي خلقتني من العدم، وأنت الذي تربِّيني، فتعطيني بربوبيتك أسباب الحياة والقوَّة ﴿ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾ [الحجر: 39]؛ أيْ: بسبب إغوائك لي، وأنَّك أنت الذي أغويتَنِي، أو الذي خلقْتَه فِيَّ مِن عناصر الغيِّ والشر والفساد، والكفر والضَّلال، فهو بذلك يزعم أنه لا جريرة له في الغيِّ، وإنَّما الربُّ هو الذي أغواه وأفسده، أو هو الذي خلقه غاويًا بالجبِلَّة والطبيعة، بحيث لا يقدر على الرشد ولا يستطيعه؛ لأنَّه مستحيل عليه، فهو غيرُ مؤاخَذٍ ولا مَلوم على غيِّه، ولا مسؤولٍ عنه، وإنَّما المسؤول عنه الربُّ الذي أغواه، أو جبَلَه على الغي.



وهل الله يحبُّ الغيَّ والفساد، حتى يكون هو المُغْوي لإبليس، والذي يأمره بالغي والفساد؟!

سبحان ربِّنا وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، فإنَّ لربنا الحَمْد على كلِّ حال؛ لأنَّه الجميل في صفاته، والجميل في أفعاله، والجميل في خَلْقه، والجميل في أمره، ولا يكون منه إلاَّ الخير والجميل، والحقُّ والعدل والإحسان، فإنَّ الله سبحانه دعا إبليس إلى الخير والرشد، وأمره بالسجود لآدم كما أمر الملائكة، فسجد الملائكة كلُّهم أجمعون، وأبَى إبليس واستكبر، وكان من الكافرين، وقال متوعِّدًا ومهدِّدًا: ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [الإسراء: 62]، فالله سبحانه بدَأَه بالإحسان، ولكنَّه أبَى الكرامة والحسنَى، وغلبه الحسَدُ والبغي، فكان من الغاوين، وكذلك يوحي إبليس إلى حزْبِه ويزيِّن لَهم ما رَضِيَه لنفسه وخطَّه من سبل الغيِّ، مُحاولاً تبرئة نفسه وتَنْزيهَها من العيب - وكلها عيب وشرٌّ - وملقيًا تَبِعةَ إجرامه وفساده وإفساده، وأمْره بالسوء والفحشاء على ربِّه، فتجد حزبه من شياطين الإنس يتنفجون غرورًا، ويفرضون أنفسهم على الدَّهْماء والغوغاء سادةً وأربابًا، يشرعون لَهم الإثم والفجور، والشِّرك والوثنية والخرافات، ويزعمون أنَّ ذلك من الدِّين الذي يحبُّه الله ويرضاه، وأنَّهم استنبطوه من باطن النُّصوص التي اختصُّوا بعلمها من دون الناس، أو أنَّهم تلقَّوْه بالإلْهام والمنام، أو هتَكوا حجُبَ الغيب فقرؤوه ونقلوه من اللَّوح المَحفوظ، وقد مكَّنَت العامة لأولئك الطواغيت من أنفسها بِخُنوعها واستخدامها ما ألزموها به من التقليد بقتل الإنسان العاقل ونفسه المفكِّرة المدبِّرة المميِّزة، بِمَا صدَّقوا من مزاعم هؤلاء الشياطين: أنَّ العامة لا سبيل لها في الدِّين إلا التقليد الأعمى، وأن تُسْلم نفسها وقلبها وكلَّ شأنِها للشُّيوخ، وتكون معه كالميت بين يدي الغاسل، مؤمِنة بأنَّه جاسوس القلوب، وخازن السَّماء، ووكيل الله على الناس، فتسلم لهم بكل ذلَّة وخضوع وعبادة، وتكون آلة صمَّاء لأهوائهم وشهواتهم، وبغيهم وفسادهم وإفسادهم، مَخْدوعة بِزَعم أنَّهم يبلِّغونَها أمر الله، ويَدفعونَها بذلك إلى طاعة الله.



ولو فقه الناس بقلوبِهم، وأبصروا بأعينهم، وسمعوا بآذانهم، لعَلِموا علم اليقين أنَّ ما يأمر به أولئك الطَّواغيت، وما يدعوهم إليه هؤلاء الشياطين إنَّما هو دين الباطل لا دين الحقِّ، وأنَّه في مرضاة الشيطان، لا في طاعة الرَّحْمن؛ لأنَّه من أمْحَل المُحال أن يكون من دين الحقِّ الذي يُرضي الرَّحْمن: إبطال الحقائق الكونية بإلغاء العقول والأبصار والأسماع، وإفساد الحقائق، بِزَعم أنَّ الموتى وراء رِمَمِهم تحت التراب أحياء حياة أبديَّة، يسمعون ويبصرون، ويقدرون على التصرُّف في شؤون أولئك الغافلين، يَسْمعون دعاءهم ويستجيبون لَهم، ويقضون حاجاتِهم.



بل لو فقهوا بعقولهم، وسمعوا بآذانهم، وأبصروا بأعينهم، لعقلوا أنَّ مِن أقبح الكفر وأشنع الضلال: أن تضرب للهِ الحيِّ القيوم الأمثالَ بالخَلْق الذين لا يعلمون، ولا يَقْدرون، ولا يتصرَّفون في شؤون مُلْكِهم ورياستهم إلاَّ بالهوى والشهوات.



فيا عجبًا للأغبياء الغافلين الذين يزعمون زورًا أنَّهم من المسلمين، يستجيبون لأولئك الشياطين في أمرهم بأفحش المنكر مِن سبِّ ربِّ العالمين وانتقاصه، باتِّخاذ الموتى وُسَطاءَ وشفعاءَ يَدْعونَهم ويخافونهم ويرجونهم، ثم يزيدون الكفر ظلمات، فيقولون معتذرين: إنَّنا نتَّخِذ الوُسَطاء للربِّ السميع البصير، كما نتَّخِذهم للملوك والرُّؤَساء، ثُمَّ يَرْكبهم الشياطين إلى كلِّ فاحشة دون ذلك من أنواع الفسوق والعصيان! ولقد حدَّثَنا الله عنهم بقوله وهو أصدق القائلين: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 27-28] إلى قوله -: ﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 30].



وهكذا يلقِّن الشيطانُ حزْبَه، ويوحي إليهم التَّعليلات وما يظنُّونه أعذارًا تُخليهم من المسؤولية، وتَرْفع عنهم بزعمهم الإثْمَ والعقوبة واللَّعنة، مرَّة بالجَبْريَّة وأنَّ الله قدَّر علينا هذا، وما لنا من حيلة في دَفْعه، والمكتوب على الجبين لا بدَّ من نفاذه، وأخرى بأنَّ ذلك دين الشيوخ والآباء، وأخرى بأن ذلك إجْماع الناس وإطباقهم، ومن المستحيل أن تَخرج على إلْفِ الناس وما ارتضوه جيلاً بعد جيل، وأخرى بتكلُّف الألَم وإظهار الحزن على الناس من الفساد والفسوق والعصيان، وإلقاء التَّبِعَة على فلانٍ من الشُّيوخ، أو فلان من الحكام، أو فلان من الزُّعماء، فإذا صكَكْتَ هذا المتباكي في وجهه بفساده هو وفسوقه، وفساد أولاده وزوجه وفسوقهم عن أمر الله، بادرك الجواب ضمن وحْي وليِّه الرَّجيم: إنِّي عاجز عن تقويم نفسي وزوجي وأولادي في هذا المجتمع الفاسد، فيا ليت لنا دارَ هجرة نأوي إليها ونفرُّ بديننا من هذا الفسوق والعصيان!



والله يعلم، وهو نفسه يعلم أنَّه كاذبٌ في كلِّ ذلك، وأنَّ فساده وفساد زوجه وأولاده من نفسه أوَّلاً، لا من الناس، ولا من المُجتمع، فما من رئيس ولا حاكم يَدْخل البيوت ويُلْزِم أهلها الفسق والفساد، وما من شيخ ولا (متمشْيِخ) يَلِج على الناس دُورَهم، ويُكْرِههم على الشِّرك والفسق والعصيان، ولكنَّهم عَمُوا وصمُّوا؛ لأنَّهم يفقهون بعقول الشيوخ والآباء، ويُبْصِرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم، فأما قلوبُهم هم وأعينهم وآذانهم هم التي خلَقَها الله وجعلهم بِها من بني آدم، فإنَّها ماتت بالجهالة والتقليد؛ لِطُول ما عطَّلوها وحرموها الغذاء النافع المُحيي لها؛ من التفكير في آيات الله الكونية، والتدبُّر لآياته القرآنية، والاهتداء بِهَدْي رسول الله، ولو آمن الناس بالله وأسمائه وصفاته وآياته الكونية في أنفسهم وفي الآفاق، وبآياته القرآنية البيِّنات، وبرسوله، لاَهْتدوا إلى الرُّشد وإلى الصِّراط المستقيم، ولفقهوا بقلوبِهم، وأبصروا بأعينهم، وسمعوا بآذانِهم، ولآمنوا بأنَّ كلهم راعٍ، وكلَّهم مسؤولٌ عن رعيته، ولقوَّموا أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، فاستقاموا على الصراط السويِّ، واستقام لهم أمر دينهم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فلا يفقهون ولا يعقلون.



ثم قال إبليسُ الرَّجيم: ﴿ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ في الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الحجر: 39].



﴿ الزِّينة ﴾ الأصل فيها: الحُسْن والجمال الذي تستمتع به الحواسُّ الظاهرة، وتهشُّ له النفس، وتسرُّ به وتطلبه، وقد يكون ذلك وهْميًّا خياليًّا إذا فسدَت الفطرة بالجهل وغلبَةِ سلطان الْهَوى والشهوة البهيميَّة، ويكون حقيقيًّا إذا سلمت الفِطْرة، وكان صاحِبُها من عباد الرَّحْمن المخلصين، بصيرًا متأمِّلاً لآيات الله الكونيَّة، متفكِّرًا في الآيات القرآنية، عارِفًا بربِّه وحكمته، وفضله وإحسانه، فتكون الزِّينة عنده هي الجمال بِحُسن الوضع، وإحكام التَّفصيل والتَّنسيق، والأجزاء والألوان والأشكال، بِحَيث يكون متعة للنَّاظر، يبعث السُّرور ويدعو إلى تكرير النَّظر والتفكير في آيات الله، وأنه ما خلق شيئًا من ذلك باطلاً، وكلُّ هذه الزينة بجميع معانيها قد أتَمَّها الله للأرض ومَن فيها، فجعل كلَّ ما فيها جميلاً بكلِّ ألوان الجمال: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [الكهف: 7].



وكلما كانت البصيرة صافية مَجْلوة، والإنسانيَّة كريمة عاقلة مفكِّرة مقدِّرة، كانت الزِّينة والجمال في الحقائق الكونية على ما خلَق الله، وبَرَأ وصوَّر العليم الحكيم، فكان هَمُّ الإنسان الكريم موجَّهًا إلى جَمال الحقائق، وحسن إبداع الله وكمال نِعَمه في نفسه وفي الآفاق، وفيما أوحى إلى رسله من العلم الجميل، والْهُدى الحقِّ، واتَّخَذ من كل هذا الجمال والكمال غذاءً لقلبه وروحه، فدامت عليه نعم الله، وزادها الله فيه نفعًا وحسنًا وجَمالاً، وسَمَا بها على معارج الكرامة، وهذا هو ما يكرهه إبليس الرَّجيم ويَمْقته أشدَّ المقت هو وجندُه وحِزْبُه؛ فهو لذلك يعمل جاهدًا بكل كيده واحتياله حتى يوقع الإنسان بتحسين وتزيين التقليد الأعمى، والانْسلاخ من آيات الله، واتِّباع الشهوات البهيمية؛ حتَّى يكون من الغاوين؛ فيرى الحقَّ باطلاً، والجمال قبحًا، والقبح جمالاً، وتكون الزينة عنده والجمال حينئذٍ وَهْمًا وخيالاً، ومظاهر خادعة غرَّارة في كل لذَّة بَهيمية، ويُرضي نفسه الأمَّارة بالسُّوء، فلا يكون إلا الفسوق والعصيان وما يلزَمُه من الرُّعونة والطَّيش، والسَّفَه والحماقة، والوهن والضعف، والجُبْن والشَّرَه، والحسد والضغن والحقد، وخسران الدنيا والآخرة.



ألا ترى الغاوين كيف يُعينون الغاويات على تشويه ما خلَقَ اللهُ من جَمال الوجه والصورة بالأصباغ القَذِرة، وكيف يشوِّهون زينة الثياب السابغة، بالثياب الهاتكة الفاجرة؟! وكيف يتجمَّلون للناس بالكفر والفسوق، والكذب والزُّور، والتمرُّد على كتاب الله وشرائعه وهَدْي رسوله، وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعًا؟!



وكل ذلك في الواقع قبيحٌ أشنع القبح، ولا يمكن مهما حاولوا تزيينه، وقد جعل الله بِحكمته ورحمته في الإنسان ضميرًا يوقظه الله ما بين الفَيْنة والفينة، لعلَّه يثوب إلى رُشْده، ويميِّز الجَميل من القبيح، والْهُدى من الضَّلال، وليكون حجَّة الله عليه، وإذا ما ملَكَه سلطان الْهَوى والشيطان، فعندما يستيقظ هذا الضمير ويتنبَّه، يعلم أنَّ كل ما هو فيه قبائح وسيِّئات، قد أحاطَتْ به خطيئتُه، ويَخشى أن يعرف الناس منه ذلك، فيكرَهُوه ويطرحوه من أنفسهم، ويُسقطوه من أعينهم، وهو جدُّ حريصٍ على رضاهم عنه، فيتداركه الشيطان بِخَيال ووهم جديد، وغباوة وسفَهٍ من الأوَّل، ويزيِّن له المظهر الحيواني، في الثياب واللِّسان والمسكن ونحوها، فيذهب يتفانى في شكله وصورته البهيميَّة وما يُحيط بها، فينمِّق الكلام مُخادعًا، ويتظاهر بالصَّلاح منافِقًا، ويهوي إلى حضيض عبادِه بإرضائهم في كلِّ شيء ولو خَسِر دينه وعِرْضَه وماله، فكان أتعس الناس وأنكَدهم عيشًا في قرارة نفسه، وإنْ ظنَّه الأغبياء أمثالُه أسعدَ الناس، خليقًا أن يَحْسدوه ويَكيدوا له كيدًا، وصدق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذْ قال: ((تَعِس عبْدُ الدِّرهم، تعس عبد الدِّينار، تعس عبد القطيفة والخميصة، تعس وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انتَقَش))[1].



نسأل الله العافية من الغي وتحكُّم الهوى وتزيين الشيطان، وأن يَجعلنا من عباده المخلصين الذين رأَوا السُّنن الكونية حقائِقَ، وما خلق الله في السموات والأرض هو الجمال كل الجمال، وما أوحى إلى رسله هو الكمال كل الكمال، ونفعنا الله بذلك غذاءً نافعًا لألبابنا، وحياة طيِّبة لقلوبنا، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله محمَّد، وعلى آله أجمعين.



وأنتهز هذه الفرصة؛ لأشكو إليك نفسي، فلعلَّك تشكينِي، أو لعلَّك تدعو ربَّك وأنت ساجد تناجيه في جوف الليل: أن يَمدَّني بمعونته، ويسدِّدني في القول والعمل، وأن يُفَقِّهني في كتابه، وأسلوب كتابه الحكيم المبين، فإنِّي يا أخي أقرأ الآيات، وأضَعُها في رأسي، وأنشغل بِها وتفكيري فيها وفي أخواتها ومناسباتها من السُّور أمثالِها، بل والقرآن كله، الأيَّامَ والليالي الكثيرة، ثم أقرأ ما تصل إليه يدي من كتب التَّفسير، ثم أراجع كتب اللُّغة والاشتقاق قدْرَ طاقتي، ثم أرسم خُطَّة الكتابة، وقد وضعت نصب عينِي موقفي أمام ربِّي وحسابه العسير عمَّا أقدِّم لك من شرحٍ لكلامه العزيز، وهو موقف رهيب أشدَّ الرهبة، ومن ورائي أخي الأستاذ صادق عرنوس، وأعضاء مجلس الإدارة وأنتم كلُّكم، تلهبون جنبي بأسواط الاستحثاث بقوارص الكلم وشديد الملام، ونفسي من وراء الجميع كذلك هي تستحثُّنِي بقوارص التأنيب، على تأخير المِجلَّة عن مواعيدها، بل وعمَّال المطبعة كذلك في كلِّ ساعة يستحثُّونني، ويشدِّدون القول عليَّ بأن المواد كلَّها قد صفَّتْ حروفُها، وقد تعطَّلت الحروف وتعطل العامل، وما أزال في أشدِّ أزمة نفسية حتى يأتيني المدد من ربِّي، ويَجيئَنِي التوفيقُ منه سبحانه، فأُمسكَ القلمَ وأكتب، فما أتركه إلاَّ وقد تَمَّ ما أردت من هذا التفسير.

جنــــون 08-09-2022 10:10 PM

لَآعِدَمَنِآ هـَ الَعَطَآءْ وَلَآَ هَـ الَمْجَهُودَ الَرَائَعْ
كُْلَ مَآتَجَلَبَهْ أًنَآَمِلكْ بًأًذخْ بَاَلَجَّمَآلْ مُتًرّفْ بَ تمًّيِزْ
وُدِيِّ

https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...b66adb0a14.gif

شموخ 08-09-2022 11:30 PM

سلمت اناملك لروعة ذوقك
يسعدك ربي ويحقق أمانيك

مجنون قصايد 08-09-2022 11:52 PM

بيض الله وجهك
طرح واختيار روعه للموضوع
لاحرمك الله رضاه

لك كل
تقديري واحترامي


مجنون قصآيد

http://i18.servimg.com/u/f18/12/38/24/05/4afakk10.jpg

نظرة الحب 08-10-2022 05:49 AM

سلمت أناملك على الجلب المميز
اعذب التحايا لك

ضامية الشوق 08-10-2022 09:46 AM

جزاك الله خيرا

عـــودالليل 08-10-2022 01:08 PM

اختيار جميل جدا
يدل على ثقافه عاليه

شكرا من القب
على هكذا طرح




احترامي
محمد الحريري

إرتواء نبض 08-12-2022 11:04 PM

قلائد أمتنان لهذة
الذائقة العذبة في الانتقاء
لروحك الجوري

نجم الجدي 08-13-2022 06:12 AM

الله يعطيك العافيه على الطرح
اللي كله ابداااااااع

حضوري شكر وتقدير لك
ولاهتمامك في مواضيعك

اخوك
نجم الجدي

كـــآدي 08-26-2022 12:09 PM

يسلمو على المرور


الساعة الآن 12:16 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع حقوق النشر لشعارنا و كتابنا ومسميات الموقع خاصة و محفوظة لدى منتديات قصايد ليل الأدبية