منتديات قصايد ليل

منتديات قصايد ليل (http://www.gsaidlil.com/vb/index.php)
-   …»●[قصايد ليل للتربيهـ والتعليــم والاجتماعيات والتنمية البشرية]●«… (http://www.gsaidlil.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   زُبيْدة بنت جعفر بن المنصور زوج الرَّشيد (http://www.gsaidlil.com/vb/showthread.php?t=72571)

إرتواء نبض 03-01-2015 06:43 PM

زُبيْدة بنت جعفر بن المنصور زوج الرَّشيد
 




زُبيْدة بنت جعفر بن المنصور زوج الرَّشيد


* زُبيدة للمأمون بعد مقتل ابنها الأمين: "أهنيك بخلافة قد هَنَّأْتُ نفسي بها عنك قبل أن أراك، ولئن كنتُ قد فقدتُ ابنًا خليفةً، لقد عُوِّضْتُ ابنًا خليفة لم ألده، وما خَسِرَ مَنِ اعتاضَ مِثْلَكَ، ولا ثَكِلَتْ أُمٌّ مَلأتْ يَدَها مِنكَ، وأنا أسأل الله أَجْرًا على ما أَخَذَ، وإمتاعًا بما عوَّض".
أُمُّ جعفر زبيدةُ بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطَّلب بن هاشم.


سيدة جليلة، ذات يدٍ طُولَى في الحضارة والعُمران، والعطف على الأدباء والشُّعراء والأطباء، ومن ذوات العقل والرَّأي، والفصاحة والبلاغة.
أَعْرَسَ بها الرَّشيد سنة 165 هـ في خلافة المهدي ببغداد، فولدت له محمَّدًا الأمينَ، فأحبَّتْهُ حُبًّا عظيمًا جعلها تهيئ له كلَّ العوامل الَّتي تعتقدُها واصلةً به إلى عرش الخِلافة، ولما ولدتْ محمدًا الأمين قال مروان بن أبي حفصة:

لِلَّهِ دَرُّكِ يَا عَقِيلَةَ جَعْفَرِ مَاذَا وَلَدْتِ مِنَ النَّدَى وَالسُّؤْدُدِ
إِنَّ الخِلافَةَ قَدْ تَبَيَّنَ نُورُهَا لِلنَّاظِرِينَ عَلَى جَبِينِ مُحَمَّدِ
إِنِّي لأَعْلَمُ إِنَّهُ لَخَلِيفَةٌ إِنْ بَيْعَةٌ عُقِدَتْ وَإِنْ لَمْ تُعْقَدِ



فأمر له الرشيدُ بثلاثة آلاف دينار، وأمرت زبيدة أن يُحْشَى فُوهُ جَوْهَرًا، فكانت قيمتُهُ عشرةَ آلاف دينار.
واغتمَّتْ زُبيدة غَمًّا شديدًا لما ذَكَر الرَّشيدُ البَيْعَةَ لابنه المأمون، فدخلت على الرشيد تُعاتِبُهُ في ذلك أشدَّ المعاتبة، وتؤاخذه أعنفَ المؤاخذة:
فقال الرشيد: ويحكِ إنما هي أُمَّة محمد، ورعاية من استرعاني الله تعالى مُطَوَّقًا بعنقي، وقد عرفتِ ما بين ابني وابنِكِ، ليس ابنُكِ يا زبيدةُ أهلاً للخِلافة، ولا يصلح للرعيَّةِ.


قالت: ابني والله خيرٌ منَ ابنِكَ، وأصلح لما تريد، ليس بكبير سفيه، ولا صغير فيه[1]، أسخى منَ ابنِكَ نَفْسًا، وأشجع قلبًا.
فقال هارون: ويحك إن ابنك لأحب إلي، إلا أنها الخِلافة لا تصلح إلا لمن كان لها أهلاً، وبها مستحقًّا، ونحن مسؤولون عن هذا الخلق، ومأخوذون بهذا الأنام، فما أغنانا أن نَلْقَى الله بِوِزْرهم، وننقلب إليه بإثمهم، فاقْعُدي حتى أعرِضَ عليك ما بين ابْنِي وابْنِكِ.


فقعدت معه على الفراش، ثم دعا ابنه عبدالله المأمون، فلمَّا صار بباب المجلس سَلَّمَ على أبيه بالخِلافة، ووقف طويلاً وقد طَأْطَأَ برأسه، وأغضى ببصره، ينتظر الإذن حتى كادت قدماه تَرِمُ، ثم أذن له بالجلوس فجلس، فاستأذن بالكلام، فأذن له فتكلم، فحمد الله على ما منَّ به من رؤية أبيه، ويرغب إليه في تعجيل الفَرَجِ مِمَّا به، ثم استأذنه في الدُّنُوِّ من أبيه، فدنا منه، وجعل يَلْثم أسافل قدميه، ويُقبِّلُ باطن راحَتَيْهِ، ثم انثنى ساعيًا إلى زبيدة، فأقبل على تقبيل رأسِها، ثُمَّ انْثَنَى إلى قدميها، ثم رجع إلى مجلسه، فحَمِدَ الله إليها فيما منَّ به عليها من رِضَى أبيه عنها، وحُسْنِ رأْيِه فيها، ويسأله تعالى العون على بِرِّهِ، وأداءِ المفروض عليها من حقِّهِ، ويرغب أن يُوزِعَهَا شُكْرَهُ وحَمْدَهُ.


فقال الرشيدُ: يا بُنَيَّ إني أريد أن أَعْهَدَ إليكَ عهد الإمامة، وأُقْعِدَكَ مَقْعَدَ الخِلافة، فإنِّي قد رأيتُكَ أهلاً لها، وبها حقيقًا.
فاسْتَعْبَرَ عبدالله المأمون باكيًا، وصاح مُنتَحِبًا يَسألُ اللَّهَ العافِيةَ من ذَلِكَ، ويرغب إليه أن لا يُرِيَهُ فَقْدَ أبيه، فقال له: يا بُنَيَّ! إنّي أراني لما بي، وأنت أحقُّ، وسلِّمِ الأمرَ لِلَّه، وارض به، واسأله العَوْنَ عليه، فلا بد من عهدي يكون في يومي هذا، فقال عبدالله المأمون: يا أَبْتَاهُ! أخي أَحَقُّ منِّي، وابنُ سَيِّدَتِي، ولا إِخالُ إلا أنَّه أَقْوَى على هذا الأمر منِّي، وأشدُّ استطلاعًا، عَرَضَ اللهُ لك ما فيه الرشاد والخَلاص، وللعباد الخير والصلاح، ثم أذن له فقام خارجًا.


ثم دعا هارون بابنه محمَّدٍ الأمينِ، فأقبل يَجُرُّ ذَيْلَهُ، ويتبخْتَرُ في مِشْيَتِهِ، فمشى داخلاًً بنعْلِه، قد أُنْسِيَ السلامَ، وذهِل عن الكلام نَخْوَةً، وتَجَبُّرًا، وتعظُّمًا، وإعجابًا، فمشى حتى صار مستوِيًا مع أبيه على الفراش.
فقال هارون: ما تقول أَيْ بُنَيَّ، فإني أريد أن أعهد إليك؟
فقال: يا أمير المؤمنين، ومن أحق بذلك منِّي، وأنا أسنُّ وَلَدِكَ، وابنُ قُرَّة عَيْنِكَ؟!
فقال هارون: اخرج يا بنيّ.
ثم قال لزبيدةَ: كيف رأيت ما بين ابني وابنِكِ؟
فقالت: يا أمير المؤمنين، ابني أحقُّ بما تريد، وأَوْلَى بما لَدَيْكَ.


فقال هارون: فإذا أَقْرَرْتِ بالحق، وأنصفتِ ما رأيتِ، فأنا أعهد إلى ابني، ثُمَّ إلى ابنِكِ بعدُ. فكتب عَهْدَ عبدالله المأمون، ثم محمد الأمين بعدُ[2].
وكما سبق، كان الكِسَائِيُّ يُؤَدِّبُ الأمينَ بِشِدَّةٍ، ويقول: "إنَّ محمَّدًا مُرَشَّح للخلافة بعد أبيه، ولا يجوز التقصير في تأديبه"[3].
ولما قُتِلَ ابنُها الأمينُ، دخل إليها بعض خَدَمِها فقال: ما يُجْلِسُكِ وقد قُتِل أمير المؤمنين محمَّد؟ فقالت: ويلَكَ وما أصنع؟! فقال: تخرجين فتطلبين بثأره، كما خرجت عائشة تطلب بدم عثمان، فقالت: اخْسَأْ لا أُمَّ لَكَ، ما لِلنّساءِ وَطَلَبِ الثَّأْرِ ومُنَازَلَةِ الأبطالِ؟![4] وهذا يدلُّ على رجاحة عقلها.
ثُمَّ أمرتْ بثيابها فُسُوِّدَتْ، ولَبِسَتْ مِسَحًا من شَعْر، ودعت بدواة وقِرطاسٍ فكتبت إلى المأمون:


لِخَيْرِ إِمَامٍ قَامَ مِنْ خَيْرِ عُنْصُرِ وَأَفْضَلِ رَاقٍ[5] فَوْقَ أَعْوَادِ مِنْبَرِ
وَوَارِثِ[6] عِلْمِ الأَوَّلِينَ وَفَخْرِهِمْ[7] وَلِلْمَلِكِ المَأْمُونِ مِنْ أُمِّ جَعْفَرِ
كَتَبْتُ وَعَيْنِي تَسْتَهِلُّ دُمُوعُهَا إِلَيْكَ ابْنَ عَمِّي مِنْ جُفُونِي وَمَحْجِرِي
أُصِبْتُ بَأَدْنَى النَّاسِ مِنْكَ قَرَابَةً وَمَنْ زَالَ عَنْ كِبْدِي فَقَلَّ تَصَبُّرِي
أَتَى طَاهِرٌ[8] لا قَدَّسَ اللَّهُ طَاهِرًا فَمَا طَاهِرٌ فِي فِعْلِهِ[9] بِمُطَهَّرِ
فَأَبْرَزَنِي[10] مَكْشُوفَةَ الْوَجْهِ حَاسِرًا وَأَنْهَبَ أَمْوَالِي وَأَحْرَقَ أَدْؤُرِي [11]
يَعِزُّ عَلَى هَارُونَ مَا قَدْ لَقِيتُهُ وَمَا نَالَنِي مِنْ نَاقِصِ الْخَلْقِ أَعْوَرِ[12]
فَإِنْ كَانَ مَا أَسْدَى لأَمْرٍ أَمَرْتَهُ صَبَرْتُ لأَمْرٍ مِنْ قَدِيرٍ مُقَدِّرِ
وَقَدْ مَسَّنِي ضُرٌّ وَذُلُّ كَآبَةٍ وَأَرَّقَ عَيْنِي يَا ابْنَ عَمِّي تَفَكُّرِي[13]
وَهِمْتُ لِمَا لاقَيْتُ بَعْدَ مُصَابِهِ فَأَمْرِي عَظِيمٌ مُنْكَرٌ جِدُّ مُنْكَرِ
سَأَشْكُو الَّذِي لاقَيْتُهُ بَعْدَ فَقْدِهِ إِلَيْكَ شَكَاةَ الْمُسْتَهَامِ الْمُقَهَّرِ
وَأَرْجُو لِمَا قَدْ مَرَّ بِي مُذْ فَقَدْتُهُ فَأَنْتَ لِبَثِّي خَيْرُ رَبٍّ مُغَيِّرِ



فلمَّا قرأ المأمون شِعرها بَكَى، ثم قال: اللَّهُمَّ إني أقول كما قال أمير المؤمنين عليٌ لمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ عثمانَ: والله ما قتلتُ، ولا أمرتُ، ولا رَضِيتُ، اللهمَّ حَبِّلْ قَلْبَ طاهر – بن الحسين - حُزْنًا".
ولمَّا لقيتِ المأمونَ قالتْ له: يا أمير المؤمنين، إن لكما يومًا تجتمعان فيه، وأرجو أن يغفر الله لكما إن شاء الله.


وفي رواية الخطيب البغداديِّ أن زبيدة قالت للمأمون عند دخوله بغدادَ: أُهَنِّيكَ بخلافة قد هَنَّأْتُ نفسي بها عنكَ قبل أن أراكَ، ولئن كنتُ قد فقدتُ ابنًا خليفَةً، لقد عُوِّضْتُ ابنًا خليفَةً لم أَلِدْهُ، وما خَسِرَ منِ اعْتَاضَ مِثْلَكَ، ولا ثَكِلَتْ أمٌّ مَلأتْ يَدَهَا مِنْكَ، وأنا أسأل الله أَجْرًا على ما أَخَذَ، وإمتاعًا بما عَوَّضَ، فأخذ المأمون بعد ذلك يَزِيدُ في تكريمه لزبيدةَ وأُسْرَتها.


لقد كانت زبيدة كاتبة، يُسمع من قَصْرها دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْل من قراءة القرآن الكريم، شَمِلَتْ بعَطْفِها الفقراءَ، وأربابَ التَّقْوَى والصلاح والعلماء، ومِن آثارها وأعمالها الجليلة التي خلفتها وانتفع بها المسلمون خيرَ انتفاع، أنها سَقَتْ أهل مكة الماء، بعد أن كانت الراوية عندهم بدينار، وأَسالَتِ المياهَ عَشْرَةَ أميال بِحَطِّ الجبال ونَحْتِ الصَّخْرِ، غَلْغَلَتْهُ من الحِلِّ إلى الحَرَم، ومَهَدَتِ الطريقَ لمائها في كُلِّ خَفْضٍ ورَفْع، وسهل وجبل ووَعْر، وعُرفت هذه العين بعين الشِّماسِ، وكان جملة ما أُنْفِقَ عَلَيْها مِما ذُكر وأحصي ألف ألف وسبع مائة ألف دينار.


ووصف اليَافِعِيُّ في القرن الثامن للهجرة تلك العَيْنَ، فقال: "إن آثارها باقية ومشتملة على عِمارة عظيمة عجيبة، مما يَتَنَزَّهُ برؤيتها على يمين الذاهب إلى مِنًى من مكة، ذات بُنْيان مُحْكَم في الجبال، تَقصُر العبارة عن وصف حُسنِهِ، وينزل الماء منه إلى موضع تحت الأرض عميقٍ، ذاتِ دَرَجٍ كثيرٍ جدًّا، لا يُوصَل إلى قراره إلا بهبوطٍ كالبير، يُسمُّونه لظُلْمَتِهِ، يفزع بعض الناس إذا نزل فيه وَحْدَهُ نهارًا فضلاً عنِ الليل"[14].


وبلغتْ نَفَقَاتُها في بعض حَجَّاتها ألفَ ألفِ دينار، وبلغت نَفَقَتُها في ستين يومًا أربعة وخمسين ألف درهم، فرفع إليها وكيلُها حسابَ النفقة، فنهته عن ذلك وقالت: ثواب الله بغير حساب.
وقال ابن جبير بعد أن ذكر المصانع، والبِرَكَ، والآبار، والمنازل التي من بغداد إلى مكة: إنَّ كل ذلك من آثار زبيدة، فانتدبتْ لذلك مُدَّةَ حياتها، فأبقت في هذه الطريق مَرَافِقَ ومنافع تَعُمُّ وَفْدَ الله تعالى كل سنة من لَدُنْ وفاتها إلى الآن، ولولا آثارُها الكريمة في ذلك، لما سُلِكَتْ هذه الطريقُ، والله كفيل بمجازاتها، والرضى عنها[15].


ويُنْسَبُ إلى زُبَيْدَة مسجد زبيدة أمِّ جعفر ببغدادَ، كان قريبًا من مسجد الشيخ معروف الكَرْخِيِّ، وقدِ انْدَرَسَ سنة 1195 هـ، وكان هذا المسجد واسعًا، وطيدَ البناء، قَوِيَّ الأركان، ولما بنى سليمان باشا الكبير والي بغداد سور الجانب الغربي استُعمِلَتْ أنقاضُهُ في بناء السور، ولم يبقَ من ذلك المسجد سوى قبرِ زبيدة، وعليه قبةٌ مَخْرُوطِيَّةُ الشكل من نوادر الفن المعماري.


وينسب إليها (المحدث): وهو منزل في طريق مكة بعد النقرة، على ستة أميال منها، فيه قصر وقبات متفرقة، وفيه بِركة وبيران ماؤها عذب، وينسب إليها (العنابة)، وهي بركة لزبيدة بعد قباب على ثلاثة أميال تلقاء سُمَيْرَاءَ، وبعد توز[16]، وماؤها مِلح غليظ، وينسب إليها بركة أمِّ جعفر، وهي في طريق مكة بين المغيثة[17] والعذيب[18]، وينسب إليها القنيعة، وهي بركة بين الثعلبية[19] والخزيمية[20] بطريق مكة، وينسب إليها الحسني، وهو بئر على ستة أميال من قَرَوْرَى[21] قرب معدن النقرة، وينسب إليها الزبيدية، وهي بركة بين المغيثة والعذيب، وبها قصر ومسجد عمرتهما زبيدة.


ومن أخبارها:
وقع خلاف بين هارون الرَّشيد وزُبيدة في بيت من الشعر هو:

إِنَّ الْعُيُونَ الَّتِي فِي طَرْفِهَا حَوَرٌ قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلانَا[22]



فكان الرشيد يقول: "يحيين": وزبيدة تقول: "يجنين" بالجيم والنون، فتخاطرا على ذلك بألفي دينار، ودعوا مسرورًا الخادم، وأعطياه على أن يخرج فيسأل أفضل من ببغداد من أهل العلم، فإن صوَّب قول الرشيد أعطاه ألفًا، وإن صوَّب قول زبيدة فألفها، وخرج مسرور بالشموع يطلب من يفتيه في ذلك فدُلَّ على الكسائي، وكان قريب عهد القدوم من الكوفة إلى بغداد، وكان يأوي إلى المسجد، فدخل مسرورٌ عليه بخيله وحشمه، فتحفز له الكسائي، فقال: لا بأس، إنه بيت أشكل علينا، واستفتاه في الكلمتين فصوبهما جميعًا، فأعطاه الألفين، فأصبح وقد استفاد بكلمة أوضحها ما أغناه، وهذا دليل على حسن تأتيه ولطافة أدبه[23].


وأنشد رجلٌ زبيدةَ:

أَزُبَيْدَةُ ابْنَةَ جَعْفَرٍ طُوبَى لِزَائِرِكِ المُثَابْ
تُعْطِينَ مِنْ رِجْلَيْكِ مَا تُعْطِي الأَكُفُّ مِنَ الرِّغَابْ



فوثب إليه الخَدَمُ يضربونه، فمنعتهم من ذلك، وقالت: أراد خيرًا وأخطأ، وهو أحبُّ إلينا مِمَّن أراد شَرًّا فأصاب؛ سمِع قولَهم: "شِمالُكِ أَنْدَى مِنْ يَمِينِ غَيْرِكِ"، فظَنَّ أنه إذا قال هكذا كان أبلغَ، أَعْطُوهُ مَا أَمَّلَ، وعَرِّفُوهُ مَا جَهِلَ.[24]
ومات لها قِرْدٌ، فساءَها ذلك، ونالها من الغمِّ ما عرفه الصغير والكبير من خاصَّتها، فكتب إليها أبو هارون العبدي: أيَّتُها السيِّدة الخطيرة، إنَّ موقِعَ الخطْبِ بِذَهاب الصغيرِ المعجِبِ، كموقع السرور بنَيْلِ الكثير المفرِح، ومن جَهِلَ قَدْرَ التعزية عنِ التافِهِ الخَفِيِّ، عَمِيَ عنِ التهنئة بالجليل السَّنِيِّ، فلا نَقَصَكِ اللَّه الزائدَ في سُرورِك، ولا حَرَمَكِ أَجْرَ الذاهب من صغيركِ، فأمرتْ له بجائزة[25].


اختلف الرشيدُ وأمُّ جعفر في اللوزينج والفَالَوْذَجِ أيهما أَطْيَبُ؟ فمالتْ زبيدة إلى تفضيل الفَالَوْذَج، ومال الرشيد إلى تفضيل اللوزينج، وتخاطرا على مائة دينار، فأَحْضَرَا أبا يوسف القاضي، وقالا له: يا يعقوبُ قدِ اخْتَلَفْنا في كذا على كذا وكذا، فاحكم فيه، فقال: يا أمير المؤمنين ما يُحْكَم على غائب، وهو مذهبُ أبي حنيفة، فأحضر له جامَيْنِ منَ المذكورَيْنِ، فطَفِقَ يَأْكُلُ من هذا مَرَّةً، ومن هذا مَرَّةً، وتحقَّق أنَّه إن حَكَمَ للرشيد لم يأْمَنْ غَضَبَ زُبيدة، وإن حكم لها لم يأمن غَضَبَ الرشيد، فلم يزل في الأكل إلى أن نَصَفَ الجامَيْنِ، فقال له الرشيد: إِيهِ أبا يوسفَ، فقال: يا أمير المؤمنين، ما رأيتُ خَصْمَيْنِ أَجْدَلَ منهما، كُلَّمَا أردتُ أن أُسَجِّلَ لأحدهما أَدْلَى الآخَرُ بحُجَّتِهِ، وقد حِرْتُ بينهما، فضَحِكَ الرشيدُ، وأعطاه المائة دينار، وانصرف مشكورًا[26].


هذه لمحات من حياة زبيدة بنت جعفر بن المنصور، التي تُوُفِّيَتْ ببغدادَ في جُمَادَى الأُولَى سنة 216 هـ، ولقد كانت سيدة مؤمنة جليلة، مُحِبَّة للعمران، عَطُوفَةً على ذوي الرأي والبلاغة والعلم.


ومِمَّا قيل فيها:
"امرأة لها اثنا عَشَرَ مَحرَمًا كُلٌّ منهم خليفةٌ: عاتكة بنت يزيد بن معاوية، يزيد أبوها، ومعاوية بن أبي سفيان جَدُّها، ومعاوية بن يزيد أخوها، وعبدالملك بن مروان زوجها، ومروان بن الحكم حَمُوها، ويزيد بن عبدالملك ابنها، والوليد وسليمان وهشام أبناء عبدالملك أولاد زوجها.
ومِثْلُها في بني العباس زُبيدة بنت جعْفَر بن المنصور، جدُّها المنصور، وأخوه السفَّاحُ، وزوجها الرشيد، وعمها المهدي، وابنها الأمين، وأبناء زوجها المأمون والمعتصم والواثق والمُتوكِّل"[27].


وزوجها الرشيد خليفة، سلم عليه بالخلافة عمه، وعم أبيه، وعم جده، سلم عليه سليمان بن المنصور، والعباس بن محمد عم أبيه المهديّ، وعبدالصمد بن علي عم جده أبي جعفر المنصور.
وابنُها مُحمَّد الأمين، ولَّى الرشيدُ الكسائيَّ تأديبَه وتأديبَ عبدالله المأمون، يقول الكسائيُّ: "فَكُنْتُ أُشَدِّدُ عليهما في الأدب، وآخُذُهما به أَخْذًا شديدًا، وبخاصَّةٍ محمَّدٌ، فأَتَتْنِي ذات يوم "خالصةُ" جارية أمِّ جعفر – زُبَيْدة – فقالت: يا كِسائيُّ، إنَّ السَّيّدةَ تَقْرَأُ عليْكَ السَّلام، وتقول لك: حاجتي إليك أن تَرْفُقَ بابنِي محمَّد؛ فإنَّه ثمرة فؤادي، وقُرَّةُ عَيْنِي، وأنا أَرِقُّ عليه رِقَّةً شديدة، فقُلْتُ لخالصةَ: إنَّ محمَّدًا مُرَشَّحٌ للخلافة بعد أبيه، ولا يجوز التقصير في تأديبه، فقالت خالصةُ: إنَّ لِرِقَّةِ السيِّدة سَبَبًا أنا مخبرَتُكَ به:


إنَّها في الليلة التي ولدتْهُ أُرِيَتْ في منامها كأن أربعَ نسوة أقبلنَ إليه، فاكْتَنَفْنَهُ عن يمينه وشماله وأمامه ووراءه، فقالتِ التي بين يديه: مَلِكٌ قليل العُمر، ضيِّقُ الصَّدر، عظيمُ الكِبْر، واهي الأمر، كثيرُ الوِزْرِ، شديدُ الغَدْر، وقالتِ الَّتي من ورائه: ملكٌ قَصَّاف، مُبذِّر مِتْلافٌ، قليل الإنصاف، كثير الإسراف، وقالتِ الَّتي عن يَمِينِهِ: ملكٌ ضخم، قليل الحِلم، كثير الإثم، قطُوع للرَّحِمِ. وقالت التي عن يساره: ملكٌ غدَّار، كثير العَثَار، ثم بكتْ خالصةُ وقالت: يا كِسَائِيُّ، وهل يُغني الحَذَر؟!"[28].


لم نَسُقْ ما قالتْهُ "خالصةُ" لصحة الصفات التي وردت بحقِّ ابن زبيدة محمَّدٍ الأمينِ، إنها رؤيا أوردتْها بعض الكتب مُنَمَّقَةً مَسْجُوعَةً، والحقيقة تقول: جلس الأصمعيُّ يَمْتَحِنُ ويَخْتَبِرُ الأمينَ والمأمونَ، فقال: "ثُمَّ أمَرنِي – الرَّشيدُ – مُطارَحَتْهُما، فكنتُ لا ألقي عليهما شيئًا من فنون الأدب إلا أجابا فيه وأصابا".
ورأيُنا أنَّ الأخبار التي وردتْ عن الأمين هي إمَّا أحلام، وإمَّا أنها كُتبت في عهد المأمون وإخوته؛ أي بعد انحسار العنصر العربيِّ وتغلُّبِ الشعوبيَّة، وما من شكٍّ أنَّ الرَّشيد كان يُقدِّم الأمين، ولولا ذلك فما الذي كان يمنعُهُ من تقديم المأمون؟! ورواية الأصمعيِّ عنهما تؤكد أن الأمين كان على مستوى الخلافة، غير أنَّ الحديث عنه تقرُّبًا من المأمون والفُرْس، وهل كان الرشيد منساقًا في عواطفه مع زبيدة؟! إنَّ ما جاء في هذا من أخبار الأمين والمأمون فيه نظر.
قال الرشيد لزبيدة يومًا: أتزوَّج عليكِ؟
قالتْ زُبيدة: لا يَحِلُّ لك أن تتزوَّج عليَّ.
قال: بلى.


قالت: بيني وبينك مَن شئتَ.
قال: ترضَيْنَ بسُفيانَ الثَّوريِّ؟
قالت: نعم. فوَجَّهَ إلى سفيان الثوريِّ.
فقال الرشيد: إنَّ زبيدة تزعم أنه لا يَحِلُّ لي أن أتزوج عليها، وقد قال الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، ثم سكت؟:


فقال سفيان: تَمِّمِ الآيةَ، يريد أن يقرأ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}، وأنت لا تَعْدِل، فأمر لسفيان بعشرة آلاف درهم، فأبى سُفيان أن يقبلها[29].
وجرى بين الرشيد وبين ابنةِ عَمِّهِ زبيدة مناظرةٌ ومُلاحاة في شيء من الأشياء، فقال الرشيد لها في عُرْضِ كلامه: أنت طالق إن لم أَكُنْ مِن أهل الجنَّة، ثم نَدِمَ واغتمَّا جميعًا بهذه اليمين، ونزلت بهما مصيبة لموضع ابنة عَمِّهِ منه، فجمع الفقهاء وسألهم عن هذه اليمين فلم يجد منها مَخْرَجًا، وفي جِلْسَةٍ ضَمَّتْ فقهاءَ من سائر الأمصار، تكلَّم كلهم باستثناء اللَّيْثِ بن سَعْد، فدعاه الرشيد وقرَّبه، فطلب من الرشيد إحضار مصحَفٍ جامع، فأمر به فأُحْضِرَ، فقال الليث بن سعد: يأخذه أميرُ المؤمنين فيتصفَّحه؛ حتى يصل إلى سورة الرحمن، فأخذ الرشيد وتصفَّحَهُ، حتَّى وصل إلى سورة الرحمن، فقال اللَّيْثُ: يقرأ أمير المؤمنين، فقرأ فلمَّا بلغ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، قال: قِف يا أمير المؤمنين ههنا، فوقف، فقال: يقول أمير المؤمنين والله، فاشتدَّ على الرشيد وعليَّ ذلك، فقال له الرشيد: ما هذا؟! قال: يا أمير المؤمنين على هذا وقع الشرط، فنَكَّسَ أمير المؤمنين رأسه – وكانت زبيدة في بيت مُسْبَلٍ عليه سِتْرٌ قريبٍ من المجلس تسمع الخطاب – ثم رفع الرشيد رأسه إليه فقال: والله! قال الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إلى أن بلغ آخِرَ اليمين، ثم قال الليث: إنك يا أمير المؤمنين تخاف مقام الله؟ قال الرشيد: إني أخاف مقام الله، فقال: يا أمير المؤمنين فهِيَ جنَّتان؛ وليستْ بِجَنَّة واحدة، كما ذكر الله تعالى في كتابه، ففَرِحَتْ زُبيدة، وقال الرشيد: أحسنتَ والله بارك الله فيك، ثم أمر بالجوائز والخِلَعِ للَّيث بن سعد، وأمرت زبيدة له بضعف ما أمر به الرشيد، فحُمِلَ إليه، واستأذن في الرجوع إلى مصر، فحُمِلَ مُكَرَّمًا.


هذه هي زبيدة، التي تزوَّجها الرشيد عام 165 هـ، واسمُها الحقيقي (أَمَةُ العزيز)، وغَلَبَ عليها لقبُ زُبَيْدَةُ، لقد كان جَدُّها المنصور يداعبها في طفولتها: ويقول لها يا زبيدة (لبَضَاضَتِهَا ونَضَارَتِها)[30]، فغلب ذلك على اسمها.
لقد كانتْ كما وصفها ابن تَغْرِي بَرْدِي: "أعظم نساءِ عصرِها دِينًا وأصلاً وجمالاً وصيانة ومعروفًا، ولقد تركتْ على طريق الحَجِّ مَرَافِقَ ومنافِعَ عَمَّتِ الجميعَ قُرُونًا، وهكذا كانت بحقٍّ من فُضْلَيَاتِ النساء وشَهِيرَاتِهِنَّ".
تغمَّدها الله برحمتِهِ، وأجزل لها الثواب.






نظرة الحب 03-01-2015 10:02 PM

طرح رائع قلبي

وربي مايحرمنا من تواجدك وجديدك الراقي

غَيْمَةُ فَرَحْ ☁ 03-01-2015 10:21 PM

**


سلمت آنآملك على رقي طرحك..
بإنتظار جديدك بكل شووق."

مجنون قصايد 03-01-2015 10:52 PM

عافيه عليك وعلى الطرح الراقي
لاحرمك الله رضاه

لك كل
تقديري واحترامي

مجنون قصآيد

http://i18.servimg.com/u/f18/12/38/24/05/4afakk10.jpg

هدوء 03-01-2015 10:53 PM

الله يعطيك العافية
على الطرح الراقي والجميل
تسلم الانامل على ماخطته لنا من الروائع
بانتظار جديدك القادم
تحياتي وتقديري

فزولهآ 03-01-2015 11:33 PM

طرح رائع

عـــودالليل 03-02-2015 02:55 AM

جذبني
هذا الطرح على التواجد هنا

وطبع تواجدي البسيط
على هذا المتصفح العذب المليئ بالجمال

كنت هنا وسأكون بإذن الله




http://img.el-wlid.com/imgcache/282050.gifhttp://img.el-wlid.com/imgcache/282050.gif



احترامي

محمد الحريري




http://img.el-wlid.com/imgcache/282050.gifhttp://img.el-wlid.com/imgcache/282050.gif

مْلكَة زمْانــْے 03-02-2015 03:36 AM

http://img84.imageshack.us/img84/898...07ql40u10o.gifhttp://img84.imageshack.us/img84/898...07ql40u10o.gifhttp://img84.imageshack.us/img84/898...07ql40u10o.gifhttp://img84.imageshack.us/img84/898...07ql40u10o.gif
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
http://img508.imageshack.us/img508/3285/318962106.gif
يسلموااااااااااااا ع الموضوع و النصاااائح
و المعلوماااااات الهاااامة طرح كتيير مميز
عسااااااكم ع القوة >>> لا عدمناااااكم
أنتظر جديدكم >>> بـــ كل لهفة و شوق
شكـــــــــ و جزاكم الله كل خير ـــــــــــــراً جزيلاً
حداااااااااائق من الكادى و الجورى
لـــ رووووووعة موضوعكم
و جميل نصائحكم
http://img121.imageshack.us/img121/5...r12uad4x55.gif
تحياااااااااااااااااتى
رِوْحَ الآنوٍثـِـِہ

http://img84.imageshack.us/img84/898...07ql40u10o.gifhttp://img84.imageshack.us/img84/898...07ql40u10o.gifhttp://img84.imageshack.us/img84/898...07ql40u10o.gif

آلفيصل 03-02-2015 03:48 AM

/ ..

بحجمْ مسَاحاتْ هذا البياض .."

المُمتـدة هُنـا وهُنـاكْ ..!
مُمتَلِىء حرفُك بَالجَّمَالِ دوماً ..‘‘

ودّي .."

.. /

أوتآر هآدئه 03-02-2015 07:44 AM

/
طَرحْ رآئع رَبِي يِعْطِيكْ ـاَلفْ عَافْيَةْ
سَلمت وَ سلمتْ
يمْنَاكْ
..لْرَوعَة طَرحُكْ العُطْر
,’
لِرُوحكْ
الوَردْ
..؛’
؛/


الساعة الآن 02:48 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع حقوق النشر لشعارنا و كتابنا ومسميات الموقع خاصة و محفوظة لدى منتديات قصايد ليل الأدبية