قال الله تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
قال الله تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ * وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 114 - 119].
التوحيد شقان، أولهما معرفة وحدانية الله تعالى بأسمائه وصفاته، وهو التوحيد الاعتقادي، وثانيهما العمل بمقتضى هذه المعرفة في الحياة العامة والخاصة أعمالًا باطنةً؛ كالإيمان بالله واليوم الآخر، والقضاء والقدر، والرضا والسخط، والمحبة والبغض، وظاهرةً كالصلاة والزكاة وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود وشكر النعم، والنصح للمسلمين، وتلك هي العبادة التي خلَقنا لها وأمرَنا بالإخلاص فيها؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، ونقطة الارتكاز في ذلك كله أن يتجلى التوحيد بشقيه الاعتقادي والعملي في حياة المؤمن، فيتم التوافق الإرادي بينه وبين فطرته بأطرها على الكتاب والسنة، وبينه وبين الكون الذي يعبد الله طوعًا وفطرةً؛ كما قال تعالى: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44]. إلا أن هذا التوافق لدى المرء بين الفطرة وبين ما خلقت له، يختل أحيانًا بأي تعارض يحدث بين ما يعتقده وما يعمل به، بين توحيده الاعتقادي وتوحيده العملي، وهو ما أشار إليه عز وجل باستفهام استنكاري، وقال: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 60]، وذلك ما حاول المشركون استدراج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، عندما أفحمهم بالقرآن الكريم والآيات الكونية التي سألوها، فجاءتهم ورأوها، فطلبوا غيرها، فلما كشف القرآن تلاعبَهم بسؤال الخوارق، وتلهِّيَهم باقتراح المعجزات، وفضح عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره بالإعراضِ عنهم وترْكِهم وما يفترون، وبيَّن لهم أنه مبلغ لرسالة ربه، وليس وكيلًا عليهم، فيحملهم على الإيمان، واصلوا تفلُّتَهم ومراوغاتهم، وسألوا التحاكم إلى طرف ثالث غيره وغيرهم، وقالوا له كما ورد في الآثار: "اجعل بيننا وبينك حكمًا نرتضيه"، وهو مكر آخر منهم يحاولون به وضع الرسول صلى الله عليه وسلم في مقام الشاك فيما بعث به، المتناقض مع ما بلغه من قبل في القرآن من قوله تعالى: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40]، لذلك كان جوابه صلى الله عليه وسلم تَلْقِينًا من ربه عز وجل: ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ﴾ [الأنعام: 114]؛ أي: قل لهم يا محمد: هل أرتضي بيني وبينكم حكمًا يقضي فيما نزل من أمر الله، والهمزة في هذه الآية استفهام إنكاري لما سأله المشركون من اتخاذ غير الله حكمًا يقضي في أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، والفاء لترتيب ما بعدها من استفهام إنكاري على ما قبلها مما سأله المشركون، وقد كان ما قبلها طلبهم آيات أخرى غير التي نزلت، وقَسَمٌ منهم بأنها إذا جاءت ليؤمنن بها، وسؤالهم اتخاذ حكم يحكم فيما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأنهم بذلك يريدون أن يجعلوا من أنفسهم حكامًا على آيات الله تعالى الكونية وآياته في القرآن الذي عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، وكان ما بعدها إنكارًا واستنكارًا لإصرارهم على الشرك، ومكرِهم في السؤال، وسوءِ أدبهم مع ربهم، وسفاهةِ عقولهم وخِفَّتِها في التعامل مع الوحي. ولفظ: "حَكَم" في قوله تعالى: ﴿ أَبْتَغِي حَكَمًا ﴾ من فعل "حَكَمَ"، يحكُم مضموم العين، يفيد القضاء؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ﴾ [غافر: 20]، ويفيد المنع من الظلم؛ كما ذكر ابن فارس في مقاييس اللغة، ومنه يقال: "حَكَمْتُ السَّفِيهَ وَأَحْكَمْتُهُ": إذا أخذت على يديه وحجرت عليه، والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، والْمُحَكمُ هو المجرب المنسوب إلى الحكمة الذي يُلجأ إليه لفضِّ أي خلاف أو نزاع، والحَكَم بفتح الفاء والعين كذلك، فيقال: حكم له، وحكم عليه، وحكم بينهما، ومنه قوله تعالى في فض الخلاف بين الزوجين: ﴿ فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 35]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يَقضِيَنَّ حَكَمٌ بينَ اثنينِ وهو غَضبانُ). إن الحكمَ - مطلقًا - بمعنى القضاء، لا يكون عادة إلا في الخلافات الدنيوية، ولكنه في القضايا العقدية والأحكام العملية بين المسلمين، ليس له من مرجع إلا القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 10]، وقال: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]. وهؤلاء المشركون يريدون أن يحاكموا القرآن نفسه إلى حَكَم من البشر يرضونه، وفي ذلك من المكر بالدين - رسالةً ونبوةً وقرآنًا - ما لا يوحي به إلا الشيطان وأولياؤه؛ كما في قوله تعالى من قبل: ﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112]. إن كل الديانات المنحرفة تتحاكم لشرائعها مهما كانت باطلة، فاليهود الملتزمون بديانتهم يتحاكمون إلى تشريعات ما حرَّفوه من التوراة، وكذلك النصارى وعبدة الأوثان على اختلاف أصنافها، وهؤلاء المشركون في مكة يعادون مصداقية الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته، ويريدون استدراجه للتحاكم إلى غير ما بعث به، والله تعالى يقول: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴾ [الأنعام: 57]، ويقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [الزمر: 46]. إن الحَكَم لغة وعرفًا هو من يتحاكم إليه الناس فيما يختلفون فيه من أمر الدنيا، فيرضون بحكمه وينفذون ما حكم به، أما القرآن الكريم فالله تعالى هو الذي أنزله ورضِيه لخَلْقه، فكيف يتحاكم إلى غيره، ولذلك عقب عز وجل بقوله: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ ﴾ [الأنعام: 114]، كيف يعقل أن يُبتغَى غيرُ الله حكمًا، والحال أنه هو الذي أنزل إليكم القرآن مُفَصَّلًا، فيه كل ما تحتاجونه من أحكام الدين والدنيا، عقائدَ وشرائعَ وأخلاقًا، وقِيمًا إنسانية، وأقوالًا حسنة طيبة، وأعمالًا صالحة قويمة مثمرة، مفصلة بنصوص آياته المحكمة مبنى ومعنًى، ومبينة بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم قولًا وعملًا وقدوةً وإقرارًا، كيف تشككون في القرآن وتلتمسون حكمًا في أمره وقد آمن به خيارُكم، وشهدوا أنه من الله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ [الأنعام: 114]؛ أي: والحال أنكم تعرفون من آمن به من أهل الكتاب يهودًا ونصارى، من الذين علموا أنه أنزل بالحق من الله تعالى، وشهدوا لكم بذلك، ومنهم ورقة بن نوفل وكان نصرانيًّا سمع التوراة والانجيل، ولما أخبرته خديجة الصديقة رضي الله عنها بما رآه صلى الله عليه وسلم في غار حراء أول بَعثته، وقصت عليه ما سمعه من جبريل عليه السلام، قال ورقة: "والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتني يا خديجة، إنه لنبي هذه الأمة، وإنه ليأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى عليه السلام، فقولي له فليثبت"[1]، ومنهم عبدالله بن سلام وكان قبل إسلامه حبرًا يهوديًّا، فقال: "لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف[2] له، فكنت مُسِرًّا لذلك، صامتًا عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم..."[3]. ثم توجَّه الوحي الكريم عقب هذا الرد إلى جميع المؤمنين في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى كافة المخاطبين بالقرآن في كل زمان كأنهم رجل واحد، يحضهم على الإيمان ويثبتهم عليه فقال: ﴿ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [الأنعام: 114]؛ أي: لا تكونَنَّ من المتشككين، من الامتراء وهو لغةً تعمُّد استخراجِ الشُّبَهِ وانتحالها للتشكيك في أي أمر، كما في قوله تعالى: ﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ﴾ [النجم: 55]، والخطاب في الآيتين معًا وفي شبيهاتهما للرسول صلى الله عليه وسلم، يراد به أمته وجميع المخاطبين بالقرآن في كل زمان، والمعنى نفسه أكده القرآن من قبل في سورة يونس بقوله عز وجل: ﴿ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [يونس: 94]، كما أكده في الفترة المدنية بقوله عز وجل: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [البقرة: 146، 147]. إن المشركين والممترين المشككين في رسالة الإسلام نبوة ووحيًا، ليس لهم من هدف إلا محاولة الانتقاص من قدر القرآن، وما جاء به من أحكام وتكاليف استثقلتها نفوسهم بعد أن أفحمهم بيانه، وعجزوا عن الإتيان بمثله، ولذلك أيأسهم الحق تعالى بقوله عقب ذلك، معلنًا تمام كلمته فقال عز وجل: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]، وتمام أي شيء هو بلوغه كاملًا إلى أحسن ما يراد له أو منه، أما لفظ: "كلمة"، فيطلق بدهيًّا على مجرد كلمة تكتب أو تنطق، كما أطلق في الأدبيات العربية على الخطبة أو القصيدة يلقيهما الخطيب أو الشاعر، أما في القرآن الكريم وقد قرأها عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف بصيغة الإفراد"كلمة"، وقرأها غيرهم بصيغة الجمع "كلمات"، فتعني سواء قُرئت بالجمع أو بالإفراد ما تشتمل عليه رسالة الإسلام من تمام العقيدة والشريعة والأمر والنهي، والبشارة والنذارة والمواعظ، وخبري الدنيا والآخرة، وغير ذلك، وإن كانت سياقاتها تفصِّل معانيها بما نزلت له، فقد وردت بمعنى الإسلام وشهادة التوحيد؛ كما في قوله عز وجل: ﴿ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40]، وقوله تعالى: ﴿ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 64]، ووردت بحسب الظاهر المتبادر بقرينة السياق بمعنى ما أمر الله بوقوعه وإيقاعه؛ كما في قوله عز وجل: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 119]، وبمعنى ما وعد به عباده المصطفين؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 171 - 173]. أما كلماته تعالى في الكون المطلق، فهي كل ما يأمر به، أو يفعله أو يخلقه، أو يفنيه أو يزيد فيه، أو ينقص منه، أو يريده أو يرضاه، أو يقدِّره ويقضي به، وتلك كلمات ومعانٍ تجلُّ عن الوصف والإحصاء، وتقصر دونها أفهامُ الخلق وقدرات المخلوقين؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [لقمان: 27]، وقال: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ [الكهف: 109]. ولئن نزلت هذه الآية الكريمة: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ﴾ [الأنعام: 115] في الفترة المكية قبل نصر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه في الفترة المدنية ببدر وغيرها، فإن الفعل الماضي فيها: ﴿ وَتَمَّتْ ﴾، يفيد تمامها أزلًا وأبدًا، في الماضي والمستقبل مطلقًا، وكلمة الله في هذا السياق هي القرآن الذي أراد الله أن يُتِم نزولَه ويحفَظه، ويُعمَل به على رغم من كفر أو يكفر به، فتم بنزول سورة المائدة في حجة الوداع وقال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وحفظه الله بقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، ويعمل به إلى يوم الدين لقوله عز وجل: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]، وقوله عز وجل: ﴿ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾ [الأنعام: 89]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ). ثم وصف الحق تعالى هذا القرآن وصفًا جامعًا مانعًا، فقال: ﴿ صِدْقًا ﴾؛ أي: بالغ الغاية في صدق أخباره عن الغيب، ألوهية وربوبية وأسماءً وصفات، ووعدًا ووعيدًا، وثوابًا وعقابًا، وأحكامًا شرعية، وأحوالًا لمن تقدمنا من الرسل والأنبياء، ومن سبقنا من الأقوام مَن آمن منهم ومَن كفر، ﴿ وَعَدْلًا ﴾: منزهًا عن الظلم والمشقة فيما أتى به من الأوامر والنواهي، وأحكام العبادات والمعاملات، وما أخبر به من جزائها في الآخرة. ولأن كلمة الله تعالى في الخلق والتدبير والتسيير والسنن، والأسباب والمسببات مطلقًا - قد قامت بها السماوات والأرض وما بينهما، فإنها غير قابلة للعد والإحصاء، أو الحصر والاعتراض، أو التبديل والحذف، أو سوء التأويل والتغيير، لذلك عقَّب تعالى بقوله: ﴿ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾، وحقيقة التبديل مطلقًا هي تغيير الشيء، أو إبطاله أو نقضه بما يخالفه حقيقة أو مجازًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ﴾ [إبراهيم: 48]، وقوله عز وجل: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ ﴾ [الفتح: 15]، وكلماته تعالى في القرآن صدقًا وعدلًا قطعية في ثبوتها ومعانيها، ووجوب تصديقها، والعمل بمقتضاها، والاستعداد لتلقي جزاءاتها سلبًا وإيجابًا في الآخرة، لا أحد يحاول تبديلها، فيثبت له التبديل أو تغييرها، فيثبت له التغيير، والآية بذلك تيئيس للمشركين مما كانوا يمنون به أنفسهم، ويحاولونه من تشكيك في القرآن ومصداقيته، وصحة نزوله من الله عز وجل؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأنعام: 34]. أما قوله تعالى عقب الإخبار باستحالة تبديل كلماته: ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾، فهو تحذير من عاقبة ما يرتكبه المشركون مما أشارت إليه الآيات السابقة من سورة الأنعام، معاندة منهم للوحي ومجادلة فيه بالباطل، ومشاقة للنبوة، وأيمانًا كاذبة، ومضارَّة في طلب الآيات والمعجزات بغير استعداد لقبولها والإيمان بها، وإصغاء لشياطين الجن والإنس، وإنكارًا للبعث والنشور والمحاسبة والجزاء، وتذكير بأنه تعالى هو السَّمِيعُ لكل ما يصدر عنهم من أقوال كفر أو خديعة أو نفاق، أو عزيمة إضرار، أو مكر برسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين برسالته، وأنه سبحانه هو الْعَلِيمُ بما يرتكبونه من الآثام والسيئات شكًّا فيما نزل إليهم، وكفرًا به، ومجادلة عن شركهم، وإصرارًا عليه. والعليم بكل تصرفاتهم في السر والعلن، كلمة تقال أو فعلًا يمارس، أو نأمة تصدر، أو مكرًا يُمكَر، وفي الآية بذلك تحذير آخر مبطن لمن ابتغى غير الله حكمًا، أو سعى لتبديل كلماته لفظًا أو معنى، أو استهدف بالتشكيك أحكامه عقيدة وشريعة ومناهجَ حياة. وما دام القرآن هو الصدق والعدل، وكلمة الله هي الحق الثابت الذي لا يتبدل، وسبيله هو النهج القاصد الذي لا عوج فيه، فليس للمؤمن كي ينجو ويفوز إلا أن يطيع أوامره ونواهيه، وينضبط بما فيه من الصدق والعدل، ولذلك عقب الحق تعالى بقوله تحذيرًا من اتباع غير منهج القرآن وطاعة غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 116، 117]. ولفظ تُطِعْ من فعل "طاع"، و"أطاع"؛ أي: امتثل للأمر، من "الطاعة" ضد العصيان؛ كما في قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 13، 14]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (السَّمعُ والطاعةُ على المرءِ المسلمِ فِيمَا أحب وأكره مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ)، وقوله عليه السلام: (فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ). والطاعة بذلك هي الامتثال لتعاليم الإسلام في الكتاب والسنة، وما سواها طاعة للكثرة الضالة في الأرض؛ كما قال تعالى عقب ذلك: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 116]؛ لأن الحياة الدنيا ليس فيها إلا سبيلان، سبيل رشد واحد يفضي إلى الجنة، وسبيل ضلال ذي شعب كثيرة تقود إلى النار، وكل الكفار في كل عصر يتوزعون شعب الضلال المتكاثرة هذه، لا فرق بينها فيما يؤولون إليه، لا فرق بين مَن شعبةُ ضلالِه وثنٌ حجري أو صنم بشري، أو تصورٌ فاسد لثوابت الدين، أو تخيلٌ منحرف للآخرة، وما فيها من مواقف صدق وعدل ومحاسبة، وهم في كل الأحوال كثرةٌ باعتبار أصناف ضلالهم، وحدةٌ واحدة باعتبار ابتعادهم عن الحق؛ كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن مسعود صحيحًا: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَعَنْ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرَخَاةٌ وَعِنْدَ رَأْسِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: اسْتَقِيمُوا عَلَى الصِّرَاطِ وَلَا تَعْوَجُّوا وَفَوْقَ ذَلِكَ دَاعٍ يَدْعُو كُلَّمَا هَمَّ عَبْدٌ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ)، ثُمَّ فَسَّرَهُ فَأَخْبَرَ: أَنَّ الصِّرَاطَ هُوَ الْإِسْلَامُ وَأَنَّ الْأَبْوَابَ الْمُفَتَّحَةَ مَحَارِمُ اللَّهِ وَأَنَّ السُّتُورَ الْمُرَخَاةَ حُدُودُ اللَّهِ، وَأَنَّ الدَّاعِيَ عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ هُوَ الْقُرْآنُ وَأَنَّ الدَّاعِيَ مِنْ فَوْقِهِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤمن). والطاعة بذلك أخطر وسيلة لدى السالكين كلهم، طاعة للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به هي سبيل النجاة، وطاعة لدعاة شعب الضلال من شياطين الجن والإنس وأوليائهم، وليس فيها حظ من الصدق أو نصيب من العدل أو النجاة؛ لأنها مبنية على جرف هار من الظن والخرص؛ كما قال تعالى عقب ذلك: ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ [الأنعام: 116]؛ أي: إن طاعتهم مجرد اتباع أعمى لمعتقدات باطلة وتصورات وهمية، وأباطيل مظنونة لم يتحققوا من وجودها أو صوابها، ومزاعم طقوس تديُّنٍ ملفقة يخرصونها خرصًا[[4]]، فمن ظنهم وخرصهم مثلًا أن الأصنام تقربهم إلى الله، وأن الملائكة بنات الله، ومن خرصهم الاستقسام بالأزلام والتطيُّر، وتصديق العرافين والكهنة في شؤون حياتهم الخاصة والعامة، وهي كلها سبل الهلاك والتردي؛ قال عز وجل عنها: ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ [النجم: 23]، فلينظر كل امرئ لمن تكون طاعته؛ قال عز وجل: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]. وما دامت الطاعة المعتبرة في ميزان الله قلبية رضائية، فقد جعل سبحانه أمر حقيقتها طيَّ علمه في الدنيا وميزان حسابه في الآخرة، وعقب بقوله عز وجل: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 117]؛ أي: إنه تعالى الأعلم بمن طاعته صادقة يبتغي بها وجهه، وبمن طاعته نفاق ولعب وتدجيل، ولكنه عز وجل لطفًا بعباده وتيسيرًا لسبل التواصل بينهم، وضع معالم يُميز بها العقلاء الأقرب إلى الطاعة والأبعد عنها، أبرز هذه المعالم أن يُصدِّق سلوكُ المرء إيمانَه، وأن يُتْبِعَ إعلانَه الإيمانَ طاعةَ مقتضى هذا الإيمان في النفس والأهل والولد، أوامرَ ونواهيَ ومناسكَ وقرباتٍ، فيحل ما أحله الله، ويُحرم ما حرمه، لذلك عقب تعالى بتكليف خفيف لا تعب فيه ولا مشقة، تكليفٍ يكون توطئة وتدريبًا عمليًّا للمؤمنين في هذه المرحلة المكية على تعوُّدِ تنزيل ما يؤمنون به إلى أرض واقعهم، تعاملًا وتعايشًا، وتمهيدًا كذلك للمرحلة المدنية القادمة التي وسعت كل التشريعات، فقال تعالى: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 118]، وهذه الآية أمْر إباحةٍ لأكل ما ذكر اسم الله عليه عند ذبحه، وتحريمٍ لما لم يذكر اسم الله عليه، وتعليقٍ للتسمية على الذبائح بالإيمان بقوله عز وجل تتمة لها: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنعام: 118]؛ أي: إن كنتم حقًّا تؤمنون بأحكام القرآن وآياته، فكلوا مما ذُكِر اسم الله عليه، وبذلك جعلت هذه الآية الكريمة طاعةً الله في هذا الأمر، شرطًا لصحة الإيمان، وعلامة عليه، وعنوانًا له؛ لأن ما يذبحه الناس لأكلهم بهيمةَ أنعامٍ أو طيرًا، أو غير ذلك كله من خلق الله تعالى، لا يستباح أكله إلا بإذن مولاه الذي سخره، وإذنُه تسمية الله عند ذكاته ذبحًا أو نحرًا، وإلا كان الفعل عدوانًا وتعديًا؛ قال عز وجل: ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [الحج: 36]، ولا داعي في مجال التفسير للإطالة بذكر تفاصل الأحكام الشرعية العملية للذكاة المبيحة للأكل؛ لأن السنة النبوية العملية والقولية قد بيَّنته بالتفصيل، ويرجع إليها في مباحث فقه الفروع. إن تسمية الله على الذبائح وفي بداية كل أمر ذي بال سنة الأنبياء والرسل مطلقًا؛ قال تعالى عن نوح عليه السلام: ﴿ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [هود: 41]، وقال عن سليمان عليه السلام: ﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [النمل: 30]، وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة: (يا غلام، سمِّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك). وإن ربط التسمية بصحة الإيمان في قوله تعالى: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنعام: 118]، عنوان كبير لموضوع أكبر يتعلق بمبدأ التزام المؤمن بمقتضيات إيمانه بالله مطلقًا، أمرًا ونهيًا وفعلًا، وتركًا وإباحةً وإيجابًا وتحريمًا، في جميع مجالات الحياة، لا سيما وقد باع نفسه لربه، وليس له إلا الطاعة والاستبشار بالبيع، وهو أمر طالما نبه له القرآن الكريم، وحرَّض عليه منذ بدء نزول الوحي؛ إذ ربط الإيمان بالعمل الصالح في أكثر من خمسين آية، وجعل عدم مطابقة العمل لما في القلب نفاقًا، فقال عز وجل: ﴿ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ [الفتح: 11]، وقال سبحانه: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ [المنافقون: 1]، ونبهت إليه السنة النبوية الصحيحة؛ إذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - شُعْبَةً؛ أَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمان)، وقال: (إِنَّ مَثَلَ مَا آتَانِي اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ ذَلِكَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَأَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَمِلَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ). إن الإهلال بالذبائح لغير الله كان عرفًا مشاعًا في الأرض، ونسكًا تعبديًّا يتقرب به المشركون لأوثانهم وأنصابهم، ويبلغ الأمر بهم أحيانًا أن يجعلوا من البشر ذبائح، ومن أبنائهم قرابين، باستثناء قلة كانت تحتفظ ببقايا دين توراتي وإنجيلي تتعفف به عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، من ذلك ما رُوِيَ عن موسى بن عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل الوحي عليه لقي زيد بن عمرو بأسفل بَلْدَح[5]، فقدمت قريش إلى النبي سُفْرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قدمتها إلى زيد، فقال: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه. ثم عقب نزول الوحي وإعلان النبوة، وتحريم هذه العادات الذميمة، أخذ التشريع الإسلامي كتابًا وسنة في مجال الأطعمة يتبلور تدريجيًّا مسددًا ومقاربًا، فكانت سنته صلى الله عليه وسلم القولية والعملية أن يذكر اسم الله على الطعام مطلقًا، ثم أخذ تشريع الذكاة ذبحًا ونحرًا ينزل بالتدريج، فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ [النحل: 115]، ثم نزل قوله عز وجل أكثر وضوحًا وتثبيتًا لحرمة ما لم يذكر اسم الله عليه: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنعام: 118]. وقد لقيت الدعوة إلى تسمية الله على الذبائح وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه لغطًا شديدًا، ومعارضة من المشركين، وقال بعضهم: (ما بالكم لا تأكلون ما قتل الله - أي الميتة - وتأكلون ما قتلتم بأنفسكم)، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 119]؛ أي: ما الذي يمنعكم من أكل ما ذكر اسم الله عليه؟ إن كان امتناعكم عنادًا ومجادلة بالباطل، فمرد ذلك لضَعف الإيمان أو انعدامه في قلوبكم كما بيَّنته الآية السابقة، وإن كان امتناعكم للجهل بالأحكام الشرعية، فلديكم في القرآن والسنة ما يرفع عنكم الجهل: ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [الأنعام: 119]؛ أي: والحال أن الله قد بيَّن لكم ما حرم عليكم بتفصيل في الكتاب والسنة، ثم رخص للمضطرين منكم، فقال: ﴿ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 119]؛ أي: إلا في حالة اضطراركم لأكل ما حرَّم عليكم؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات كما هي القاعدة الفقهية، على شروط وقيود لا بد من حصولها وتوفرها، بيَّنها عز وجل في نفس هذه السورة المباركة بقوله عز وجل: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145]. بهذا البيان المفصل لوجوب التسمية عند التذكية ذبحًا أو نحرًا، لم يبق مبرر للمخالفين إلا العناد والمجادلة بالباطل؛ كما هو شأن كثير من الذين يتبعون أهواءهم جهلًا وعدوانًا، لذلك عقب الحق تعالى بقوله: ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 119]؛ أي: وإن كثيرًا من الذين يجادلونكم فيما أنزل الله لكم من أحكام دينكم في المأكل والمشرب والحلال والحرام - ليس لهم من هدف إلا العدوان عليكم وعلى دينكم باستدراجكم إلى الضلال، ثم ختم عز وجل هذه الآيات الكريمة المباركة بتحذير واضح بيِّن لكل من يضمر عدوانًا أو ظلمًا، أو يُبَيِّتُهما أو يوقعهما بالإسلام وأهله، فقال: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 119]. إنه تعالى الأعلم بنيَّات أهل العدوان، المطلع على ما يعتلج في قلوبهم من غيظٍ على المؤمنين، وما يُبيتونه لهم من مكر، العليم بما يستحقونه في الدنيا من عقوبة وفي الآخرة من عاقبة، والآية بذلك تحذير واضح بسوء مصير المعتدين؛ قال عز وجل: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ [النساء: 30]. |
الله على اختيارك للموضوع الروووعه
شكرآ على المجهووود بالتووفيق ان شاء الله نجمكم |
ماشاء الله تبارك الرحمن
ذوق في اختيارك وعافيه عليك وعلى الطرح الراقي لاحرمك الله رضاه لك كل تقديري واحترامي مجنون قصآيد |
سلمت آناملك آلمتألقه لروعة طرحهآ..
ودي لك ولروحك ,,~ http://www.jreee7.com/vb/images/smilies/157.gifhttp://www.jreee7.com/vb/images/smilies/261.png |
جمال الاختيار
خلفه ذآئقة جميله جدا تعرف ماذا تقدم محتوى الطرح اكثر من راقي من الاعماق اقدم لك شكري واحترامي ليل المواجع محمد الحريري |
|
سلمت يمناك
طرح جميل جدا |
يسعدني المروور بصفحتك
ومشااهدة جهووودك المميزه سلمت وسلم لنا طرحك يعطيك العااافيه شااكره لك |
سلمت يمنآكـ على مآحملتهـ لنآ
موضوع عآلي بذوقهـ ,, رفيع بشآنه مودتي |
جزاك الله خيرا
طرحك راقي وممميز فَلَكْ مزيد من الشُّكر .. بإنتظآر جَديدككْ بكل شَوقْ تَقْدِيري لسُمُوكْ |
الساعة الآن 03:09 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع حقوق النشر لشعارنا و كتابنا ومسميات الموقع خاصة و محفوظة لدى منتديات قصايد ليل الأدبية