منتديات قصايد ليل

منتديات قصايد ليل (http://www.gsaidlil.com/vb/index.php)
-   …»●[دواويــن الشعــراء والشاعرات المقرؤهـ المسموعهــ]●«… (http://www.gsaidlil.com/vb/forumdisplay.php?f=37)
-   -   ابي عبد الرحمن بن عقيل (http://www.gsaidlil.com/vb/showthread.php?t=40931)

جنــــون 07-02-2011 10:10 PM

ابي عبد الرحمن بن عقيل
 
مبادئ فى نظريةالشعروالجمال لأبي عبد الرحمن بن عقيل

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
أولاً : من هو الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهرى؟
قال شيخنا عبد العزيز الحنوط حفظه الله : أما عن شيحنا أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري ـ حفظه الله تعالى ـ فقد كان في العلم بحراً لا تكدِّره الدِّلاء ، وله لَسَنٌ وبلاغة وبصر في الحديث ورجاله ،وعربية مُتقنةٌ ، وباعٌ مديد في الفقه لا يُجارى فيه ، وكان حجة في التفسير ، وكذا في الأداب والمنطق والشعر والتأريخ والأنساب ، وكان عجيباً في الفهم والذكاء وسعة العلم ، وكان عجباً في إلقاء الدرس ، وكان ذا ذهنٍ ثاقب وحدْسٍ صائبٍ ، عذب المنطق ، كريم الشمائل ، وكامل السُّؤدُد ، لا يَملُّ جليسُه منه ، متواضعاً ذا فضائل جمة ، وتواليف كثيرة تصل إلى مائة عنوان مابين كتاب من عدة مجلدات إلى رسائل صغيرة ، وتتناول هذه المؤلفات مختلف الفنون والمعارف فبعضها في الدين والأدب والتاريخ وبعضها في النقد والشعر والفلسفة وقسم آخر في اللغة والرحلات والأنساب وغير ذلك .والميزة العظيمة لهذا الشيخ الجليل أنه سلفي المنهج لا يتعصب لإمام ولا مذهب إنما الدليل غايته والحق مطلبه ونصرته .

ومن أراد أن يتعرف على السيرة الذاتية لشيخنا الجليل فما عليه إلا أن يرجع إلى ماكتبه الشيخ عن نفسه في :
1ـ شيء من التباريح ( سيرةٌ ذاتيةٌ ... وهمومٌ ثقافية ) وقد صدر منه جزءين .
2ـ الحِباءُ من العَيْبَةِ غِبَّ زيارتي لطيبة
ولمن يريد ترجمة عن العلامة الكبير أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري ـ حفظه المولى تعالى ـ فلينظر إلى كتاب : " شَيْخُ الكَتَبَة أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري : حياته ، وآثاره ، وما كتب عنه " للدكتور أمين سليمان سيدو.
الطبعة الأولى 1425ه 2004م ـ النادي الأدبي بالرياض


القسم الأول
استفتاح وتوطئة

الحمد لله الذي خلق الإنسان .. علمه البيان ..خلق الإنسان من علق وهو الأكرم الذي علم بالقلم .. علم الإنسان ما لم يعلم .
والصلاة والسلام على هادي الأمة، ونبي الرحمة .. معلم الكتاب والحكمة .
وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن الشعر فن قائم بذاته وهو فرع من الأنواع الأدبية يشترك معها في كونه تعبيراً فنياً، وله خصوصيته التي تميزه عن بقية الأنواع الأدبية .
والسلف يصنفون الشعر في الآداب فحسب، ويشعرون في لفتاتهم النقدية بأنه فن جميل، ويتسع مدى معرفتهم بعلاقته بأحد فروع الفنون الجميلة، وهو فرع الموسيقى .
وتطور العلم البشري، واكتسب التصنيف العلمي دقة وتمحيصاً، فأدخلت الأنواع الأدبية - بما فيها الشعر- في الفنون الجميلة.
قال أبو عبدالرحمن : وإذن نبدأ بتحليل الشعر في تصنيفه العلمي من الأعم إلى الأخص، فنرى أولاً أنه فن جميل .
وفي نفس الوقت نرى أن الشعر في ذاته نص فني، أو نموذج جمالي.. وهذا يقتضي أن يكون له علم خاص به كأي حقل معرفي .
وعلم الشعر نقده، ونظريته، وتاريخه، وظواهره الأصولية .. إنه متن لعلم .
وبما أن الجمال هو أعم ما يُصنف فيه الشعر: فإن علم الجمال ونظرياته هو أساس قيم الشعر النقدية .
ومن أهم هذه العلاقات ما لم تتم هوية الشعر إلا به، وذلك هو المدد الموسيقي للشعر.
ومنها ما لا تكمل جماليته بدون واحد منها كالتصوير .
إذن يضاف ثانية إلى الشعر (النقد، والنظرية) عناصر نقدية من خصوصيات الفنون الجميلة كالموسيقى والتصوير.. وكل ذلك أخص من علم الجمال المتعلق بفلسفة الإحساس بالجمال، وسيكولوجيته، ورسم خصائصه في الذات والموضوع.
ثم ننظر إلى الشعر ثالثة فنراه جمالاً تعبيرياً كلامياً، فنسبر من نماذجه ونماذج الفنون التعبيرية الكلامية الجميلة الأخرى ما يشارك فيه غيره من خصائص جمالية لنحقق الجمال الشعري الأخص.
وحينئذ نسترفد اللغة في متونها وعلومها، ونسترفد البلاغة في علومها ونماذجها لبناء نظرية الشعر - بخاصيته - ونقده .
إذن الغرض من استرفاد متون وعلوم التعبير الكلامي أن نستخلص علم ما هو جميل من الكلام، لنميز خاصية الجمال الكلامي عن بقية الفنون الجميلة، لأننا نسبر فناً من الفنون الجميلة .
والذي يحكم لنا بجمال ما نستخلصه من متون التعبير الكلامي وعلومه هو ما لدينا من نظريات وأصول علم الجمال، وعلوم الفنون الجميلة .
قال أبو عبدالرحمن : وتبقى أمور مقحمة في نظرية الشعر ونقده وعلومة ليست من خاصية الشعر وتصنيفه، فمن ذلك المضمون كأن يكون جميلاً خلقياً أو قبيحاً، وكأن يكون جميلاً منطقياً أو قبيحاً (والمعادل لكل ذلك أن يكون خيراً)، أو شراً، أو حقاً، أو باطلاً) .. فهذه أمور تتعلق بسلوك الفكر، وسلوك الجوارح .. وهذان السلوكان هما مضمون الشعر، وليسا شرط وجوده .
وبيان ذلك بالإلماح إلى ظاهرتين :
أولاهما : أن للغة العربية حقيقة، وهي أن تكون محفوظة عن العرب وقت السليقة، وأن ترتبط بمعناها المأثور، وتسميها حينئذ لغة عربية .
ثم تسمع كلمة أخرى مرتبطة بمعناها، ولكنها ليست محفوظة عن العرب، وهي مما حدث بعد السليقة، وليست جارية على أصول الفصحى، فتحكم بأنها غير عربية، وبأنها عامية أو أعجمية.
ثم تركب الكلمات العربية المأثورة معبراً وداعياً إلى قبح من شر أو باطل، فتظل المفردة عربية، ويظل التركيب عربياً، لأن المضمون الجميل أو القبيح ليس شرط التمييز بالعربية، وتحقيق ماهية اللغة العربية .
وهكذا الشعر ومضمونة .. يظل فسق أبي نواس في فنه الشعري شعراً، لأنه حقق مدلولاً ما هو جميل في التعبير الكلامي وفق أصول مأخوذة من علم الجمال بعامة، ثم من علوم الفنون الجميلة، ثم من خاصية الجمال في التعبير الكلامي .
قال أبو عبدالرحمن : ومعاذ الله أن أكون داعية للباطل والشر والقبح، وإنما أقول : قبح السلوك الفكري والعملي من قيم أخرى خارج دائرة التخصص الشعري يقوم بها المربون والمصلحون، ونبراسهم الدين والأخلاق وعزائم الفكر.. وبغير فن التخصيص الشعري يقولون : أيها الشعراء المدهشون الذين تملكون إبداع النص وظفوا شعركم - باسم المنطق والأخلاق لا باسم التخصيص الشعري - لرسالتكم الحقيقية في الحياة .
وهذا النداء متوجه للغة الشعر الخصوصية، وللغة العلم العادية التقريرية المباشرة، وللغة الخطابة التي هي تعبير بين وبين .
وأخراهما : أن الشعر ومضمونة غيران، وليسا شيئاً واحداً .
وهذه حقيقة تُحرِج من درَّبه بعض معلميه التراثيين مدى عمره الأدبي بأن الشكل والمضمون لا ينفصلان .
قال أبو عبدالرحمن : الانفصال متحقق في وجهتين :
أولاهما : أن تأخذ مضمون النص الشعرى وتعبر عنه بكلام عادي مباشر لا مسحة فيه من الجمال، فتقول : هذا مضمون واحد عَّبر عنه الشاعر فكان شعراً، وعبرتُ عنه فكان نظماً، فالشكلان مختلفان .
وأخراهما : إبقاء المضمون على تعبير الشاعر - وذلك هو الشكل - والتفريق بينهما بالحكم، فتقول : بيت أبي نواس في الخمرة شعر جميل، لأنه عبر عنه بشعر!.
وذلك المضمون قبيح، ولكن بغير ملكة الجمال التي تعطي شكل الشعر خاصيته، وإنما ذلك بحكم الدين والأخلاق اللذين يستقبحان هذا السلوك، فهو جمال فكري معنوي، وليس جمالاً تعبيراً .
وتوظيف الشعر، وشرف مضمونه رسالة لا تعطيك إياها نظرية الشعر التي من الدين والمنطق خارج دائرة النظرية الشعرية التي يتخصص بها ما هو شعر دون ما هو خلق ودين وحقيقة .. أو عصيان وفجور وإباحية .
ولو جاء مدح العفة في نظم عادي لا مسحة فيهمن مسحات الجمال الشعري لكان المضمون جميلاً في الدين والأخلاق، ولكان النص قبيحاً أو بارداً بمفهوم الشعر، أو لكان بارداً لا يثير جمالأ ولا قبيحاً .
إذن حقيقة الجمال الشعري مثول القدرة على التعبير الجميل عن أي مضمون جميل أو قبيح.
قال أبو عبدالرحمن : والذي أحرج القوم في غياب التصور للفصل بين الشكل والمضمون أنهم يطالبون بتحقيق وجودين منفصلين لنص شعري، فتقول : قال أبو نواس شكلاً منفصلاً عن المضمون !! .
وهذا محال بلا ريب، لأن الشاعر حقق مراده بحيله الفني، ولا ينفصل مضمونه عن وسيله أدائه، إلا أن هذه الوحدة غير مؤثرة في محل النزاع .
وإنما محل النزاع القدرة على التعبير الجميل عن مضمون جميل أو قبيح، وهذا متحقق بالجهتين اللتين ذكرتهما آنفاً.
فالشعر قدرة على الأداء الجميل لأي مضمون .
والمضمون إرادة سلوكية فحسب تكون بالشعر وبالكلام العادي .
والتفريق بين المضمون والشكل تفريق لغوي، وتفريق تجربة بشرية .. إنه تفريق مثلاً بين أساليب طه حسين والزيات وسيد قطب ودريني خشبة وأساليب الهمذاني والحريري وكتاب عصور البديع المتكلف لو تناولوا كلهم مضموناً واحداً.. إذن المضمون الواحد قابل التعبير به أكثر من شكل .
أما أنهما لا ينفصلان إذا اجتمعا فتلك قضية أخرى لا تمنع من قدرة الأديب في البداية -قبل الجمع بينهما- من اختيار الأسلوب الذي يريده للمضمون الذي أراده.
ألا ترى أن زيداً من الناس لا ينفصل لحظة من الزمن منذ وجد من كونه حياً أو ميتاً بالتعبير الحقيقي لا المجازي .. فهل كون زيد حياً حتماً أو ميتاً حتماً .. لا ينفصل عن الحياة أو الموت .. هل كونه حتماً كذلك يمنع من كون زيد والحياة غيرين، وكون زيد والموت غيرين ؟!.
قال أبو عبدالرحمن : ومن الأمور الفضولية المقحمة في علم الشعر ونقده ونظريته وتاريخه ما يتعلق بصحة البناء لغة من جهة المفردة والرابطة والصيغة وصحة التركيب نحواً. فهذا شرط عربية اللغة، أو فارسية اللغة، أو إنجليزية اللغة .. إلخ.
والشعر إنما تصطفي نظريتهُ الظاهرةَ الجمالية في التعبير، لا مقومات الصحة لغوياً .
وإذا أراد الشاعر أن يعبر بلغة عربية، فمن شرط إرادته أن يحقق الصفة لشعره بأن يكون عربياً .
وإذا كان حقُّ على عربي أن لا يقول غير الشعر عربي فصيح فليس ذلك من مقتضيات خاصية الشعر، وإنما يطلب لذلك مسوغ من غير نظرية الشعر.
ومسائل البلاغة عناصر جمالية، وهي تراعي قدرة الشاعر على تحقيق مراده، فإذا كانت إرادته أن يقول شعراً فصيحاً فحينئذ يكون عجزه قبحاً بمقتضى النظرية الشعرية .
ومن الأمور الفضولية المقحمة إدخال دلالة الشعر اللغوية والتاريخية والأخلاقية والجغرافية في علم الشعر.
فهذا يسرد نصوص الشعر في وصف الطبيعة بالأندلس، وآخر يسرد النصوص ويبوِّبها على أغراض الشعر من مدح وهجاء وغزل.. إلخ، وثالث يستظهر من نماذج الشعر أسماء الأعلام البلدانية أو الأحداث التاريخية، ثم يسمون ذلك نقداً أدبياً، أو دراسات أدبية .
وإنما كل ذلك تاريخ، وجغرافيا، وترجمة للشاعر.. وعلاقة الشعر بكل ذلك أن الشعر رافد ومصدر.
ولا يدخل في علم الشعر إلا ما رصد ظاهرة جمالية فقننها، أو أرخ لها، أو فلسفها سيكلوجياً رابطاً لها بملكة الإبداع، أو سبرها في المسار الأدبي التاريخي، وذلك هو الأدب المقارن .
قال أبو عبيد عبدالرحمن : وحينما أربط الشعر بشرطه الجمالي : فليس معنى ذلك أن فلسفتي الجمالية جزئية، ولا أنها دونية تقنع بمجانية الجمال للتسلية فحسب!.
بل الجمال في تجربتي العلمية عطاء علمي وفكري، والحس الجمالي ذو مستويات علواً ودنواً تُرصد في الموضوع بناء على مستويات ذاتية علواً ودنواً أيضاً في التربية والفكر والعلم .
وتضمحل مجانية الجمال في الإحساس بمقدار ما يتربى الحس علمياً وفكرياً .
ومن أهم عناصر الجمال الدهشة، والإثارة، والقدرة على التغيير باستقطاب الجمهور المتلقي، والجبروت الفكري، والجدة والابتكار، والإيحاء ، والعظمة.
إنني لا أدعو إلى الجمالية بتعبير شعبي رخيص، وإنما أعبر عن علم ضخم قائم بذاته هو المعيار الثالث من معايير الوجود التي لا معيار آخر إلا وهو مشتق منها.
وكل ذي تجربة علمية عريضة في فن الشعر متناً وعلماً، وكل ذي تطلع إلى مزيد من الكشف والإضافة يؤذيه غاية الإيذاء موقفان غير حميدين :
أولهما: موقف من نظر إلى الشعر (نظرة تاريخية محدودة الزمان والمكان محصورة التجربة العلمية) على أنه فن مستقل غاية الاستقلال عن روافد أخرى، وعن فنون شقيقة يرضع معها من لبان واحد .
فهو مثلا ينظر إلى موسيقية الشعر وفق النموذج المأثور منذ عهد امرئ القيس إلى عهود الموشحات، ولا ينظر إلى المسار التاريخي للجمال في الفنون الجميلة الأخرى (وهو يحفل بمعطيات جمالية يتجدد بها شباب الشعر، ومتعته فلا يبدو مملاً) .
وثانيهما : موقف من تحمس للتجديد بدون تأصيل واحترام لخصوصيات العلوم والفنون التي تميزها .
فعلى سبيل المثال : الموسيقية جزء من ماهية الشعر، وليس من الضروري أن تكون تلك الموسيقية هي معهودنا التراثي التاريخي .
فسلب الشعر موسيقيته تغيير لهوية الشعر، والخلط بين المتغايرات ليس من لغة العلم، ولا من سلوك عصر يحترم التخصص!.
والجمود على المعهود الموسيقي تعطيل للملكة، وانصراف عن مسار جمالي يكتسب منه الشعر وجودة المعتبر.
إذن لابد من الانطلاق بالشعر إلى مجاله الجمالي الأرحب المتدفق، لتكون عناصر التجديد للموسيقى في ذاتها عناصر تجديد في الشعر .
كان البيت في تراثنا ذا لحن واحد، وكانت القصيدة كلها تكراراً للحن البيت ،لأن الموسيقى كانت كذلك .
وصارت الموسيقى هذا اليوم ذات ألحان (كوبليهات)، زكان الموسيقار يتلطف في الانتقال من كوبليه بأنغام تدريجية حتى لا يصدم مشاعر الأذن، فاقتضى الأمر أن تلبي القصيدة هذا المطلب.
وقل (1) مثل ذلك عن بقية الفنون الجميلة ذات العلاقة الوشيجة بالشعر.
ولقد حدد الأستاذ مجاهد دائرة النقد في مجال ضيق من العمل الفني، وجعل السعة لعالم الجمال.. قال :"العمل الفني عبارة عن ثلاث دوائر متداخلة :
الدائرة الأولى الأكبر تضم العناصر التي تجعل هذا العمل الفني بالذات شعراً أو قصة أو رسماً.. إلخ كالإيقاع أو اللون مثلاً.
والدائرة الثالثة الأصغر تضم العناصر الأسلوبية والخصائص المميزة للأديب أو المفكر مثل الجمل القصيرة غير المترابطة عند هيمنجواي، أو عالم الكابوس كما عند الروائي التشيكي فرانزكافكا.
إن الدائرة الأخيرة هي مجال تخصص الناقد الذي يُعنى بالأسلوب الخاص للفنان وقدرته على استخدامه ومدى أصالته.
أما الدائرة الأولى فهي مجال تخصص عالم الجمال، لأنه معني بالمسائل العامة والأسس المشتركة للأعمال الفنية، وما الذي يميزها؟ .
أما الدائرة الوسطى فهي أرض مشتركة بين عالم الجمال والناقد .. فالأول يستطيع أن يبين الخصائص النوعية للنوع الفني لدى الفنان أو الأديب .
إن الناقد مهتم بإصدار الحكم على العمل الفني على حين أن عالم الجمال مهتم بما وراء هذا الحكم من خصائص موجودة في العمل الفني .. الناقد يقف عند حدود ما هو جزئي بينما عالم الجمال مهتم بما هو كلي يُطبَّق على كل الفنون" (2) .
قال أبو عبدالرحمن : بل الدائرة الأولى ميدان الناقد في بناء النظرية الأدبية التي يستمد منها أحكامه النقدية .
فالدائرة الأولى هي المجال التأصيلي للناقد، والدائرة الثالثة هي المجال التطبيقي للناقد.
وعمل عالم الجمال في الدائرة الأولى التأصيل لما هو جميل بإطلاق.
وعمل الناقد في الدائرة الأولى التأصيل للجمال الفني فحسب.
وليست مهمة الناقد الحكم فحسب .. بل التأصيل، والتفسير التصوري لمدلول النص، والتفسير التعليلي لقدرة الفنان، وجلاء سر الإبداع والجمال في النص.
قال أبو عبدالرحمن : وكنت أحس بنشاط في التأليف والبحث، وأنجز العمل، وأنشط لتصحيح التجارب لأولى منه، ثم يدركني العجز والملل من مواصلة التصحيح والتعديل، ويتعلق نشاطي بعمل آخر لا أكرر فيه جهدي ..
وبهذا السبب تكدست لدى أسفار تنتظر معاودة التصحيح والتعديل .. بعضها مر عليه أعوام ، وبعضها مر عليه شهور، فاضطررت إلى الاستعانة - بعد الله - بأخوين كريمين ضليعين في لغة العرب، بصيرين بدقائق الرسم الإملائي هما الأستاذان مجاور السكران، وعبدالله بن عبدالعزيز الهدلق .. والأخير شاب وقور من أبناء بلدتي شقراء .. وقد بهرني علم هذا الشاب الصموت بحفظه، ووعيه العلمي المبكِّر، ومتابعته .. وكنت قبله أحسبني في لغة العرب وعلومها ابن بَجدتها وعذيقها المرجَّب !! .. فجلى عني غمة غماء في الإسراع بإنجاز أعمالي، وصحح لي ما ندَّ عن بصري وبصيرتي من إصلاح، وما كنت أجهله أصلاً، وترجح لي أن أعمالي مستقبلاً ستصدر إن شاء الله سليمة الأداء محكمة البناء، وكنت قبل ذلك أعاني كثرة التطبيع فيما نشر من مؤلفاتي مع أوشاب من اللكنة، وأخطاء في الرسم الإملائي .. لا أستثني سوى كتيب صغير أجهدت نفسي في تكرار تصحيحه - وهو كتيب الألوان من كتاب الفصل لابن حزم الذي صدر منذ بضعة عشر عاماً - فخرج كما أهوى بريئاً من العلل. وفي كتابي هذا عن النظرية الشعرية والجمالية أوردت قول أحمد عبدالمعطي حجازي: "كما تمدنا الحضرة الصوفية".. فعلقت بقولي :"هذا التعبير دليل على تغلغل قدسية التصوف في نفوس المثقفين فضلاً عن العامة".
ولم أتنبه إلى أعجمية هذا الأسلوب، فكتب أخي الهدلق يقول :"قال العدناني :"ويقولون : فلان لا يملك ديناراً فضلاً عن فَلْس .. والصواب : فلان لا يملك فلساً فضلاً عن دينار، لأن كلمة (فضلاً) تستعمل في موضع يُستبعد فيه الأدنى الذي يجب أن يأتي قبلها، لذا تقع (فضلاً) بين كلامين متغايرين المعنى، وأكثر استعمالها بعد نفي كما يقول القطب الشيرازي.

جنــــون 07-02-2011 10:10 PM

وعندما نقول : فلان لا يملك كوخاً فضلاً عن قصر: نعني أنه لا يملك كوخاً ولا قصراً، وعدم ملكه للقصر أولى بالانتفاء ، فكأننا قلنا: لا يملك كوخاً فكيف يملك قصراً؟.
قال أبو حيان التوحيدي:"لم أظفر بنص على أن مثل هذا التركيب من كلام العرب".
ولست أرى بأساً باستعمال هذا التركيب،وإن كنت أرى أ، قولنا :"لا يملك فلساً بَلْه ديناراً" أبلغ"(3) .
فصحة العبارة إذن :"هذا التعبير دليل على تغلل قدسية التصوف في نفوس العامة فضلاً عن المثقفين .."اهـ.
قال أبو عبدالرحمن : وحرصت أن أتمحل لتعبيري بوجه يخرجه من اللكنة حفظاً لسمعتي العلمية، ولكنني وجدت العبارة فاسدة على كل تقدير، وليس العيب أن الأدنى لم يرد قبلها لننفي الأعلى الذي يأتي بعدها، فنقول كما قال العدناني :" لست أرى بأساً باستعمال هذا التركيب" .
وليس الخلل في كون هذا التركيب لم يسمع من العرب ، فقد برهنت في مباحثي أن التركيب عمل عقلي لا نقلي يشترط سماعة، وإنما المشترط صحة المفردة لغة، وصحة التركيب نحواً وبلاغة .. ولو كان وجه الخلل ذلك، لأخذنا استقراء أبي حيان على البال .
وإنما الخلل في كون كلمة "فضلاً" لا تنتج لغةً هذا المعنى الذي فهموه من هذا التركيب الأعجمي .. أي لا تنتج نفي الأعلى الذي بعدها، فقد استقرأت معانيها في المعجم، فلم أجد من بينها هذا النفي.. لهذا أعتبر هذا التركيب عامياً لا يليق بالفصحاء، ولهذا أيضاً ألغيت عبارتي في التعليق على حجازي، ووضعت بديلاً خيراً منها.
ولقد بيَّن ابن فارس أن الأصل في مادة الفاء والضاد واللام زيادة في شئ (4) .
وقال الراغب :"الفضل. الزيادة عن الاقتصار، وذلك ضربان : محمود كفضل العلم والحلم، ومذموم كفضل الغضب على ما يجب أن يكون عليه.. والفضل في المحمود أكثر استعمالاً، والفضول في المذموم.
والفضل إذا استعمل لزيادة أحد الشيئين على الآخر فعلى ثلاثة أضرب:
فضل من حيث الجنس كفضل جنس الحيوان على جنس النبات.
وفضل من حيث النوع كفضل الإنسان على غيره من الحيوان .. وعلى هذا النحو قوله: "ولقد كرمنا بني آدم" (سورة الإسراء/70) إلى قوله: "تفضيلاً".
وفضل من حيث الذات كفضل رجل على آخر .. فالأولان جوهريان لا سبيل للناقص فيهما أن يزيل نقصه، وأن يستفيد الفضل كالفرس والحمار .. لا يمكنهما أن يكتسبا الفضيلة التي خص بها الإنسان .. والفضل الثالث قد يكون عرضياً فيوجد السبيل على اكتسابه، ومن هذا النوع التفضيل المذكور في قوله :"والله فضل بعضكم على بعض في الرزق" (سورة النحل/71)، "لتتبتغوا فضلاً من ربكم" (سورة الإسراء /12).. يعني : المال وما يكتسب" (5) .
-قال أبو عبدالرحمن : الأصل في المادة الزيادة المحمودة، ولهذا أُخذ من المادة الوصف للمدح كفاضل، والتسمية للتيمن كالفاضل، ثم توسع بها لكل زيادة وإن كانت غير محمودة .
والبقية تسمى فضلة وهي الأقل، وإنما روعي في تسميتها أنها بقيتْ زيادةً عن الحاجة .
ونقل الزبيدي عن التوقيف للمناوي أن الفضل ابتداء إحسان بلاغة (6) .
قال أبو عبدالرحمن هذا الاصطلاح مبني على الحقيقة اللغوية، إذ الأصل الزيادة المحمودة.. وما زاج عن حاجة الكريم يصدق به، فسمى فضلاً، لأنه زيادة ، ولأنه زيادة ممدوحة.
وقال الزبيدي :"والفضولي بالضم المشتغل بما لا يعنيه .. وقال الراغب: الفضول جمع الفضل .. وقد استعمل الجمع استعمال المفرد فيما لا خير فيه، ولهذا نسب إليه على لفظه، فقيل : فضولي لمن يشتغل بما لا يعنيه، لأنه جعل علماً على نوع من الكلام فنزِّل منزلة المفرد .. والفضولي في عرف الفقهاء من ليس بمالك ولا وكيل ولا ولي؟ .. وزاد الصاغاني : وفتح الفاء منه خطأ"(7).
قال أبو عبدالرحمن : تلخص من معاني فضل دورانها على الزيادة، والبقية. وقولهم :"فلان لا يملك درهماً فضلاً عن دينار": لا ينطبق على معنى فضل لغة، لأنك إن جعلت فضلاً بمعنى الزيادة كان المعنى : فلان لا يملك درهماً زيادة عن دينار. وليس معنى الجملة نفي ملكه للدرهم والدينار معاً، بل المراد نفي ملكه للدرهم تنصيصاً، ونفي ملكه للدرهم والدينار معاً، بل المراد نفي ملكه للدرهم تنصيصاً، ونفي ملكه للدينار بالأولوية .
وإن جعلت فضلاً بمعنى البقية كان المعنى : فلان لا يملك درهماً بقية عن دينار. وليس معنى الجملة نفي ملكه للدرهم . وبعد هذا فلا معنى لكون الدرهم بقية عن دينار، لأن الدرهم جزء من الدينار، ولا يوصف بالبقية إلا في سياق خاص، كأن يكون في جراب دينارُ مصروفاً دراهم، فتجد في الجراب درهماً، فيقال لك : هذا بقية الدينار .
قال أبو عبدالرحمن : وبعد هذا التحرير - خلال رحلتي لتونس في الأسبوع الأخير من شعبان عام 1417هـ ، وجدت رسالة خطية لابن هشام بدار الكتب الوطنية التونسية برقم 2636 أجاب فيها على أسئلة نحوية أولها إعراب "فلان لا يملك درهماً فضلاً عن دينار" (8) وقال في هذه الرسالة :"وهذا التركيب زعم بعضهم أنه مسموع، وأنشد عليه:
"فلا يبقى على هذا الغلق * * * صخرة صماء فضلاً عن رمق"
ثم قال :"وانتصاب فضلاً على وجهين محكيين عن الفارسي: أحدهما : أن يكون مصدراً لفعل محذوف، وذلك الفعل نعت للنكرة .
والثاني : أن يكون حالاً من معمول الفعل المذكر". ، ثم قال "يقال : فضل عنه، وعليه. بمعنى زاد.
فإن قدرته مصدراً فالتقدير : لا يملك درهماً يفضل فضلاً عن دينار. وذلك الفعل المحذوف صفة، بل يجوز أن يكون حالاً".
ثم ذكر أن وجه الصفة أقوى ، لأن نعت النكرة يكون أقيس .وإن قدرته حالاً فصاحبها يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون ضمير المصدر محذوفاً (9) أي لا يملكه الملك .
الثاني : أن يكون درهماً حالاً . وسوغ مجيء الحال من النكرة أنها في سياق النفي، فخرجت النكرة من حيز الإبهام إلى حيز العموم، وسوغه أيضاً ضعف مجيء الوصف هاهنا .
ثم قال : فإن قلت :"هلا أجاز الفارسي في "فضلاً " كونه صفة لدرهم :قلت : زعم أبو حيان أن ذلك لا يجوز، لأنه لا يوصف بالمصدر إلا إذا أُريدت المبالغة".
ثم رد على أبي حيان وناقشه، ثم حكم أن تنزيل وجوه الإعراب تلك على المعنى المراد عسر، ثم قال :"والذي يظهر لي في توجيه هذا الكلام أن يقال : إنه في الأصل جملتان مستقلتان، ولكن الجملة الثانية دخلها حذف كثير وتغيُرُ حصل الإشكال بسببه. وتوجيه ذلك أ، يكون هذا الكلام في اللفظ أو في التقدير جواباً لمستخبر (10)
قال : أيملك فلان درهماً؟! . أو رداً على مخبر :قال : فلان يملك ديناراً.
فقيل في الجواب: فلان لا يملك درهماً. ثم استؤنف كلام آخر . ولك في تقديره وجهان:
أحدهما : أن يقدر : أخبرتك بهذا زيادة عن الإخبار عن دينار استفهمت عنه - أو زيادة عن دينار أخبرتَ بملكك له. ثم حذفت جملة "أخبرتك بهذا"، وبفي معموله وهو فضلاً" .
والثاني : أن يقدر فضل انتقاء الدرهم عن فلان على انتقاء الدينار عنه.
ومعنى ذلك أن يكون حالة هذا المذكور في الفقرة معروفة عند الناس . والفقير إنما يُنفى عنه في العادة ملك الأسياء الحقيرة لا ملك الأموال الكثيرة(12) ، فوقوع نفي ملك الدرهم عنه في الوجود فاضل عن وقوع نفي الدينار عنه. أي أكثر منه .
قال أبو عبدالرحمن : الشاهد أورده ابن هشام بصيغة "زعم" ولم يُعز إلى قائل ،ولم يحُقَّق ثبوته عن العرب، ولعله - إن صح - عن راجز بعد فساد السليقة ، وهو لا يوافق معاني "فضل" في لغة العرب ، وهذا يكفي في رده، لأن المعجم المنقول أثبتُ وأوجبُ مما فيه من دعوى شاهد لم يحقق .
وأما إعراب فضلاًُ مصدراً فتقديره : لا يملك درهماً يفضل فضلاً عن دينار .
والإعراب يوهم أحد معنيين هما :
1.أنه لا يملك درهماً يفضل عن دينار. أي لا يملك درهماً يفضل عن ملكه ديناراً . ومعنى الجملة : لا يملك درهماً ولا يملك ديناراً من باب أولى .
2.أنه لا يملك درهماً يفضل عن دينار . أي يفضل عن جملة الدينار المكَّون من دراهم. فهو لا يملك جزءاً من دينار .
وهذا يحقق بعض معنى الجملة وهو انتقاء ملكه لجزء من دينار وهو الدرهم، ولا يحقق بقية معنى الجملة وهو أنه لا يملك كل الدينار من باب أولى .
وهكذا إعرابه حالاً تقديره : لا يملك درهماً حالة كونه فاضلاً عن دينار.
وهو يحتمل الاحتمالين المذكورين آنفاً عن الإعراب بالمصدر، ويخالف المعنى المستعمل لجملة "فلان لا يملك درهماً فضلاً عن دينار" .
ووجه المخالفة في كل ذلك أن فضلاً لغة لا تدل على معنى أولوية المنفي في الجملة المذكورة .
وأما تقدير ابن هشام على الوجه الأول فيصبح لغة ونحواً ما بقي المقدر ظاهراً، أو ما بقيت الجملة في سياق يشعر بأن المقدر زيادة الخبر أو الإخبار .
أما جملة "فلان لا يملك درهماً فضلاً عن دينار" فالمعنى الذي تستعمل له لا يقتضي تقدير زيادة الخبر أو الاستخبار، وإنما يقتضي نفي الملك للدرهم، ونفي الملك للدينار علي سبيل الأولوية .
ودعوى التقدير بهذا الطول - على فرض صحتها - تفسِّر استعمال هذه الجملة بهذا المعنى غير المطابق لمعاني فضل اللغوية، ولا تسوِّغ مشروعية استعمالها، لتغيُّر فضلاً من معنى الزيادة إلى الأولوية .
ولو فتح باب دعوى التقدير بمثل هذا - دون برهان - لما ساغ وجود خطأ أو عامية .
وأما تقدير ابن هشام الثاني فينجو إلى استعمال فضلاً بمعنى البقية، وهذا صحيح في لغة العرب، والمعنى حينئذ: فلان لا يملك درهمأ ، وهذا المنفي فاضل عن نفي الأكثر وهو الدينار.
وهذا المعنى الصحيح لغة لا يكاد يظهر وجهه نحواً، وعلى توجهه فالمنفي إنما هو الأقل الفاضل عن نفي الأكثر. وإنما جاء هذا بدلالة خارجية هو أن الفقير يُنفى عنه الحقير من الأشياء .
وهذه الدلالة غير مسلَّمة، لأن الفقير ما كان فقيراً إلا بنفي ما يسد خلته من الضروري لا من الحقير.
وعلى التسليم بهذه الدلالة فلا يكون معناها كما قال ابن هشام "وقوع نفي ملك الدرهم عنه في الوجود فاضل عن وقوع نفي الدينار عنه" ، وذلك لسببين :
أولهما : أن الناس - في دعوى ابن هشام - نفوا الحقير ولم ينفوا الكثير . فصار نفي الكثير من باب أولى .
لا أن الحقير الذي نفوه عقيدةً فاضل عن الكثير الذي لم ينفوه إلا بدلالة العقل بدلالة الأولوية .
وثانيهما : ليس نفي ملك الدرهم فاضلاً عن نفْيِ ملك الدينار، لأن من لا يملك الدينار قد يملك الدرهم. وإنما نفْيُ ملكَ الدينار حاصل من نفي ملكية الدرهم . وقد عبَّر عن هذا المعنى بكلمة لا تدل عليه وهي"فضلاً " ومعناها الزيادة أو البقية، وقد استعملت بمعنى الأولوية، وليس ذلك من معانيها.
وقلت في كتابي هذا :"وقد يكون الأنين قبيحاً لو صدر من أخن أو ذوي لثغة قبيحة" .
فقال أخي الهدلق :"إن الأنين مخرجه حلقي، واللثغة في اللسان. فكيف تؤثر اللثغة القبيحة على أنين الآنِّ وتجعله قبيحاً ؟!".
فما كان مني إلا المبادرة إلى تطهير كتابي من هذه الغفلة الصلعاء!.
وقال أخي الهدلق :"لقد درج جِلّة المحققين على الإحالة على المعجم بالمادة وليس برقم الصفحة ، لئلا يخفي على القارئ موضع الإحالة لتغيُّر صفحات الكتاب ما بين طبعة وأخرى".
قال أبو عبدالرحمن : وقد عصيته في هذه الملاحظة، لأن ذكر الصفحة والجزء ضروري لإثبات الرجوع إلى الطبعة التي يعيِّن المؤلف هُويتها في ثبت مراجعه، ولأن معرفة المادة بدهي يدل عليه السياق ونفس المادة التي هي محل البحث .
ومنهجي أن أذكر المادة اللغوية إضافة إلى الصفحة والجزء عندما تكون الإحالة إلى معلومة موجودة في مادة لغوية أخرى ذات علاقة بالمادة محل البحث .
وورد في كتابي التعبير بقيمتي الحق والخير، وفني التصوير والنحت، ومفهومي الإحساس والإدراك، وطعمي التفاحة الحمراء والخضراء، ومعنيي الإشعاع والإحراق .
وقلت أيضاً :"وهو مذهب المفكر المعاصر أو زبورن في كتابية نظرية الجمال، وعلم الجمال والنقد".
وقلت :"إنه تفريق مثلاً بين أساليب طه حسين والزيات وسيد قطب ودريني خشبة، وأساليب الهمذاني والحريري".
ولم يرتض لي أخي الهدلق هاته التعبيرات، وهداني إلى ول الدكتور بكر أبو زيد:"لم أقل مصنفي، ولا مسندي، لأن قاعدة العطف (أن العطف) يكون على المضاف لا على المضاف إليه، فكأن السياق : مصنف عبدالرازق ومصنف ابن أبي شيبة . أما لو قلت : "مصنفي عبدالرازق وابن أبي شيبة" فكأنما قيل : مصنفي عبدالرازق ومصنف ابن أبي شيبة . أما لو قلت :"مصطفي عبدالرازق وابن أبي شيبة" فكأنما قيل : مصنفي عبدالرزاق، ومصنفي ابن أبي شيبة ، فتنبه ، وانظر : "قطوف أدبية" لعبدالسلام هارون: (ص/462)"(13).
قال أبو عبدالرحمن : وكل ما ذكرته تعبير سليم صحيح على الأصل، وبيان ذلك أنك تقول : ذلك أنك تقول : لابد من التقيد بقيمتي الحق والخير. والمراد قيمةُ الحق معطوفةُ على قيمة الخير . وليس المراد أن للحق قيمتين وأن للخير قيمتين، فيكون التقدير : لابد من التقيد بقيمتي الحق وقيمتي الخير .فتكون القيم أربعاً .وإذا أردت هذا المعنى فلابد أن تظهر المعطوف، فتقول : بقيمتي الحق وقيمتي الخير .
وقولك "لابد من التقيد بقيمتي الحق والخير" لا ينصرف فيه الذهن إلى غير قيمتين فحسب واحدة للحق، وأخرى للخير. والبرهان على ذلك ثلاثة أمور :
أولها : أن التعبير اصطلاح فلسفي، وقد جرى الاصطلاح على أن الحق في ذاته قيمة .إلا أن الحق أخص، لأن القيم متعددة، فالإضافة لتمييز المضاف مثل حب بر . وليس في العرف الاصطلاحي أن الحق أكثر من قيمة إذا قوبل بالقيمتين الباقيتين وهما الخير والجمال، وإنما يقال : قيم الحق - إذا لم تذكر القيمتان الأخريان - والمراد البراهين والأحكام .
وثانيها : أن العطف في الأصل على أقرب مذكور، وأقرب مذكور الحق، فالعطف إذن عطف مضاف إليه على مضاف إليه، فتكون القيمتان مضافتين إلى المضاف والمعطوف عليه معاً. هذا هو الأصل حتى يقوم برهان على خلافة ، وقد أسلفت البرهان على أن خلاف هذا الأصل غير محتمل، فقام لنا برهانان في توجيه الكلام بعطف الخير على الحق : أحدهما برهان الأصل ، وثانيهما برهان امتناع غير الأصل .
وثالثهما : أن الأصل عدم التقدير ، فلا يرد احتمال : قيمتي الحق وقيمتي الخير.
وأما الاحتجاج بقوله تعالى "على لسان داود وعيسى" حيث أفرد المضاف إلى اثنين ولم يقل :"لساني" فغير وارد هاهنا، ولا يعني أن القاعدة إفراد المضاف بإطلاق، بل يعني خروج هذا المثال على الأصل بناء على أحد الاحتمالين في تفسير الآية الكريمة وفق قاعدة متحققة وهي التخفيف على اللسان مع أمن اللبس وتعيُّن المراد .
ويأتي شرح ذلك بعد أسطر إن شاء الله .
ولو قيل "لابد من التقيد بقيمة الحق والخير" لتعين أن المراد قيمة واحدة مشتركة .
وهكذا تُوجَّه بقية الأمثلة : فني التصوير والنحت ، وأساليب طه والزيات .إلخ .
وقولي عن أوزبورن "في كتابيه نظرية الجمال، وعلم الجمال والنقد" أصح من قول "في كتابه نظرية .إلخ" لأن الاحتمال يرد بأن العنوانين اسم كتاب واحد إلا بتقدير : في كتابه نظرية الجمال، وكتابه علم الجمال. وهذا تقدير لغير الظاهر وإلغاء للظاهر، والأولى حمل الكلام على ظاهره ما دام غير ممتنع .
والصواب ما أنكره شيخنا العلامة الدكتور بكر أبو زيد، وهو "مصنفي عبدالرازق وابن أبي شيبة" .
ولا يجوز مصنف - بالإفراد - إلا إذا كان المصنف من تأليفهما معاً .
وما نقله الدكتور إنما هو رأي أنستاس الكرملي الخاطئ، وليس رأي عبدالسلام هارون الصحيح .
ودعوى أن القاعدة "العطف على المضاف لا المضاف إليه" يدفعها قاعدة "أن العطف على أقرب مذكور" .
وإنما يكون العطف على المضاف عند إظهار المعطوف إذا قلت : قرأت مصنف عبدالرزاق ومصنف ابن أبي شيبة . فتجعل مصنفاً الثانية منصوبة لأنها معطوفة على مصنف الأولى، وأهملت قاعدة العطف على أقرب مذكر، لأن الخبر عن المضاف وليس عن المضاف إليه . أي أن تعلق فعل القراءة بالمضاف .
والخلاف هاهنا ليس في عطف مضاف موجود ظاهر ، وإنما الخلاف في تقدير ذلك المضاف مما يترتب عليه إلغاء الظاهر وهو عطف "ابن أبي شيبة" على أقرب مذكور وهو المضاف إليه "عبدالرزاق" . وليس كل الناس يعلم أن عبدالرزاق وابن أبي شيبة - أو غيرهما - لم يشتركا في مصنف واحد، وإنما يعلم ذلك جمهور الخاصة، فلا نلبس على غير العالم ونقول "مصنف عبدالرزاق وابن أبي شيبة" ونحن نريد مصنف كل واحد مهما .
قال أبو عبدالرحمن : إذن الأصل حمل الكلام على ظاهره، وهو أن كل مفرد أو مثنى أو جمع أحيل إلى مفرد أو مثنى أو جمع فظاهره أن المضاف للمضاف إليه إذا كان واحداً، وأنه مشترك إذا كان المضاف إليه أكثر من واحد.
ويرد في كلام العرب خلاف هذا الأصل من أجل سنة العرب في طلب السهولة على اللسان في النطق . وتحقيق هذا المطلب مشروطاً بأمن اللبس .
أي تعيُّن المراد بغير احتمال معتبر ومن هنا أسوق تحقيق العلماء لنماذج ممَّا خرج عن الظاهر، وكان أرجح من الظاهر للخفة وأمن اللبس مبيدأ بكلام أنستاس الكرملي الذي فنده الأستاذ عبدالسلام هارون .
قال أبو عبدالرحمن : كان أنستاس الكرملي يتعقب تعبيرات لعبدالسلام منها عبارته "معجمي استينجاس وريتشارد سن" فيقول "وهذا تعبير مولد لا تعرفه لغة القرآن، وقد أولع به المعاصرون، واستعمله صاحب تاج العروس والمصباح وغيرهما من اللغويين في إيراد شروحهم لبعض الكلم . ولو فكروا قليلاً لعدلوا عنه ، لأن معناه أن لاستينجاس معجمين ولريتشاردسن أيضاً . معجمين، إذ قد يكون للمؤلف الواحد تأليفان (14) . فالعطف يكون على المضاف لا على المضاف إليه (15) ، فكأنك تقول : معجمي استينجاس ومعجمي ريتشاردسن .
والصواب معجم استينجاس وريتشارسن" (16) .
ثم رد عبدالسلام على أنستناس بقوله : ليت شعري كيف نفرق بين وجهي هذه العبارة - التي جعلتها الصواب- إذا أريد بها مرة أن لكل واحد من الشخصين معجماً خاصاً، وأريد بها مرة أخرى أن الشخصين اشتركا في وضع معجم واحد ؟.
وقد أشرت إلى لغة القرآن ، ولعلك تعني ما جاء في قوله تعالى "على لسان داود وعيسى بن مريم" حيث أفرد (لسان) . وهذه مسألة خلافية بعيدة عن مسألتنا، وهي مسألة الإضافة إلى متضمنين مفرقين (17) باعتبار أن اللسان جزء من داود وعيسي عليهما السلام، وانظر تفصيلهما والخلاف فيها في همع الهوامع (1/51) في نهاية باب الجمع(18).
أما مسألتنا هذه فهي إضافة ما ليس جزءاً مما أضيف إليه، فكلمة (معجم) ليست جزءاً من أحد الشخصين . ومذهب البصريين فيها أن ما ورد على خلاف الأصل - وهو المطابقة - فمسموع، وقاسه الكوفيون . أما ابن مالك فقاسه إذا أُمن اللبس . واللبس في مسألتنا هذه غير مأمون كما أسلفت. فما ذهبتُ إليه في عبارتي هو الأرجح الأصوب عند النحاة"(19).
قال أبو عبدالرحمن : إذن إحالة المتع من عبارة "معجمي" إلى عبدالسلام من التقميش السريع . وقبل تحقيق هذه المسألة أحب إيراد شئ من كلام المعربين للآية من سورة المائدة، وشيء من نصوص همع الهوامع .
فأما الآية الكريمة فقد تكلم عن تأويلها السمين بقولة "وجاء قوله"على لسان" بالإفراد دون التثنية والجمع، فلم يقل : على لساني، ولا على ألسنة، لقاعدة كلية ، وهي : أن كل جزأين مفردين من صاحبيهما إذا أُضيفا إلى كليهما من غير تفريق جازَ فيهما ثلاثة أوجهٍ: لفظُ الجمع - وهو المختار - ويليه التثنية عند بعضهم ، وعند بعضهم الإفراد مقدم على التثنية ، فيقال : قطعت رؤوس الكبشين . ومنه "فقد صفت قلوبكما" . فقولي "جزأين" تحرز من شيئين ليسا بجزأين نحو درهميكما ، وقد جاء من بيوتكما وعمائمكما وأسيافكما لأمن اللبس.
وبقولي "مفردين" تحرز من نحو العينين واليدين . فأما قوله تعالى "فاقطعوا أيديهما" ففهم بالإجماع . وبقولي "من غير تفريق" تحرز من نحو قطعت رأس الكبشين : السمين والكبش الهزيل، ومنه هذه الآية فلا يجوز إلا الإفراد . وقال بعضهم : هو مختار . أي فيجوز غيره، وقد مضى تحقيق هذه القاعدة في سورة المائدة بكلام طوسل فعليك بالالتفات إليه" (20) .

جنــــون 07-02-2011 10:11 PM

وعن قول الله تعالى "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" (سورة المائدة/ 38) قال السمين"قوله :أيديهما" جمع واقع موقع التثنية لأمن اللبس، لأنه معلوم أنه يقطع من كل سارق يمينه، فهو من باب "صغت قلوبكما" ويدل على ذلك قراءة عبدالله "فاقطعوا أيمانهما" .
واشترط النحويون في وقوع الجمع موقع التثنية شروطاً من جملتها : أن يكون ذلك الجزء المضاف مفرداً من صاحبه (21) بخلاف العينين واليدين والرجلين لو قلت : فقأت أعينهما وأنت تعني عينيهما، وكتفت أيديهما وأنت تعني يديهما . لم يجز للبس (22) . فلولا أن الدليل دل على أن المراد اليدان اليمنيان لما ساغ ذلك، وهذا مستفيض في لسانهم - أعني وقوع الجمع موقع التثنية بشروطة - قال تعالى :"فقد صغت قلوبكما".
ولنذكر مفردين من صاحبيهما جاز فيهما ثلاثة أوجه : الأحسن الجمع، ويليه الإفراد عند بعضهم، ويليه التثنية.
وقال بعضهم : الأحسن الجمع ثم التثنية ثم الإفراد نحو : قطعت رؤوس الكبشين، ورأس الكبشين، ورأسي الكبشين . قال :
ومهمهمين قذفين مرتين * * * ظهراهما مثل ظهور الترسين
فقولي "جزآن" تحرز من الشيئين المنفصلين لو قلت : قبضت دراهمكما . تعني درهميكما لم يجز للبس(25) . فلو أمن جاز كقوله : اضرباه بأسيافكما، وإلى مضاجعكما (26) .
وقولنا "أضيفا" تحرز من تفرقهما كقوله "على لسان داود وعيسى بن مريم" (27) . وقولنا "لفظاً" مثاله ، فإن الإضافة فيه لفظية (28) .وقولنا "أو تقديراً" نحو قوله :
رأيت بني البكري في حومة الوغى * * * كفاغري الأفواه عند عرين
فإن تقديره كفاغري أفواههما .
وإنما اختير الجمع على التثنية وإن كانت الأصل، لاستثقال توالي تثنيتين . وكان الجمع أولى من المفرد لمشاركته التثنية في الضم (29) . وبعده المفرد لعدم الثقل (30) . هذا عند بعضهم . قال لأان التثنية لم ترد إلا ضرورة كقوله:
هما نفثا في فِيَّ من فمويهما * * * على النابح العوي أشد رجام
بخلاف الإفراد فإنه ورد في فصيح الكلام ، ومنه مسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما .
قال بعضهم : الأحسن الجمع ثم الإفراد كقوله (31) :
حمامة بطن الواديين ترنمي * * * سقاك من الغر الغوادي مطيرها
وقال الزمخشري : "أيديهما" يديهما ، ونحوه : "فقد صغت قلوبكما" اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنيته المضاف، وأريد باليدين اليمنيان بدليل قراءة عبدالله "والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم" . ورد عليه الشيخ (32) بأنهما ليسا بشيئين ، فإنه لا ينقاس(33) ، لأن المتبادر إلى الذهن من قولك : " قطعت آذان الزيدين" أربعة الآذان.. وهذا الرد ليس بشيء، لأن الدليل على أن المراد اليمنيان"(34).
وعن قول الله تعالى "إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما" (سورة التحريم /4) قال السمين "وقلوبكما" من إفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى استثقالاً لمجيئ تثنيتين لو قيل : قلباكما .
ومن مجئ التثنية قوله :
فتخالسا نفسيهما بنوافذ * * * كنوافذ العبط التي لا ترقع
والأحسن في هذا الباب الجمع ثم الإفراد ثم التثنية . وقال ابن عصفور : لا يجوز الإفراد إلا في ضرورة كقوله :
حمامة بطن الواديين ترنمي * * * سقاك من الغر الغوادي مطيرها
وتبعه الشيخ وغلَّظ ابن مالك في كونه جعله أحسن من التثنية، وليس بغلظ للعلة التي ذكرها(36) ، وهي كراهة توالي تثنيتين مع أمن اللبس" (37) .
قال أبو عبدالرحمن : تلخص من هذا التالي :
1.يضاف الجمع إلى المثنى والمراد المثنى لا الجمع كقوله تعالى "فقد صغت قلوبكما"، فإنما المراد به : قلب كل واحد منكما . فهما قلبان لا قلوب .
والمسوغ لذلك التخفيف على اللسان، لأنه لو قال "قلباكما" لثقل الكلام بتوالي تثنيتين .
وشرط الأخذ بهذا المسوغ أن يكون الجمع غير متحقق واقعاً . فأما الآية من سورة التحريم فاللبس مأمون بكون الاثنين ذوي قلبين فحسب . لكل واحد قلب واحد .
وأما الآية من سورة المائدة عن السارق فتحتمل قطع الأيدي الأربع، إذ لكل سارق يدان، ولكن لما وجد البيان الشرعي من خارج الآية بأن القطع لليمين فحسب علم أن الأيدي بمعني التثنية على نحو "صغت قلوبكما"، لأنه ليس للسارقين غير يمينين .
2.إذا كان المضاف جزءاً واحداً من المضاف إليه، وكان المضاف إليه مثنى جاز فيه أيضاً أن تجعل المضاف مفرداً فتقول: قطعت رأس الكبشين. والمعنى رأس كل واحد على منهما.
ووجه ذلك أن هذا المعنى متعين لا يُحتمل غيره، لأن الكبشين لا يشتركان في رأس واحد فتحمل الإفراد على الرأس المشترك، ولا يجوز حمل المفرد على رأس واحد منهما فحسب، فلم يحتمل العقل غير أن المراد رأس كل واحد منهما، فماَل المفرد حينئذ إلى معنى التثنية، وسوَّغ التعبير بالمفرد أن معنى التثنية متعين واقع، وأن المفرد على تقدير لا يحتمل معه غير معنى الاثنين، وذلك بتقدير "كل واحد من" أي قطعت رأس كل واحد من الكبشين.
3. ومن شواهد الجمع بمعنى التثنية قول الشماخ :
رأيت بني البكري في حومة الوغى* * * كفاغري الأفواه عند عرين
لم يقل الشاعر : فاغري الفوهين، وإنما قال : فاغري الأفواه، فعلم أن المراد التثنية لأنه ليس لهما غير فوهين.
والأفواه متعين إضافتين إلى المثنى وهو ضمير الفاغرين . ولو أريد أفواه غيرهما لبقي الجمع على حقيقته، لأنك ستطلب معنى الجمع من أكثر من فاغر .
4. ومن شواهد الإفراد ما ذكره الشنقيطي . قال :
"حمامة بطن الواديين ترنمي * * * سقاك من الغر الغوادي مطيرها
استشهد به على وضع المفرد موضع المثنى، والأصل : بطني الواديين .
قال أبو حيان : ومن العرب من يضع الجمع موضع الاثنين، ووجه ذلك : أنه لما أمن اللبس، وكره الجمع بين تثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة : صرف لفظ التثنية الأولى إلى لفظ المفرد، لأنه أخف من الجمع، وذلك قليل جداً لا ينبغي أن يقاس عليه، ومنه قوله : حمامة بطن الواديين . إلخ . أراد : بطني الواديين فأفرد .
وهذا البيت لتوبة بن الحمير" (38) .
"بما في فؤادينا من الهم والهوى * * * فيحبر منهاض الفؤاد المشعف
استشهد به معطوفاً على ما قبله، واستشهد به أبو حيان على وجه أصرح وأبين، ولفظه : ومن العرب من يخرج اللفظ على أصله من التثنية، فيقول : قطعت رأسي الكبشين، وذلك قليل ا هـ .
ومنهاض الفؤاد الذي أصاب فؤاده هيض . أي كسر بعد جبر . والمشعف : الذي أصاب الحب سعاف قلبه، وهو رأسه عند معلق النياط .
وقال :
"نذود بذكر الله عنا من السرى * * * إذا كان قلبانا بنا يجفان
الشاهد فيه كالذي قبله .
قال أبو حيان في شرح التسهيل : وقال الأستاذ أبو الحسن ابن عصفور : وقد ذكر للقياس من وضع الجمع كوضع التثنية، فقال قطعت رؤوس الكبشين . هذا هو المختار، ومن العرب من يخرج اللفظ على أصله من التثنية، فيقول: قطعت رأسي الكبشين، وذلك قليل. قال الفرزدق : بما في فؤادينا . إلخ.
وقال الآخر : نذود بذكر الله . إلخ ا هـ .
وهذا البيت أظنه لعروة بن حزام أو لكعب صاحب ميلاء" (40) .
هما نفثا في فِيَّ من فمويهما * * * على النابح العوي أشد رجام
الشاهد فيه كالذي قبله .
وفي شرح التسهيل لأبي حيان : وقد جمع الشاعر بين اللغتين، وأنشد البيت .
وضمير المثني في قوله "هما نفثا في فِيَّ" لإبليس وابنه الذكورين في بيت قبل الشاهد .
وفي البيت أيضاً الجمع بين البدل والمبدل منه، وهما الميم والواو .
قال سيبوبيه : وأما فم فقد ذهب من أصله حرفان، لأنه كان أصله فوه، فأبدلوا الميم مكان الواو، فهذه الميم بمنزلة العين نحو ميم دم تثبت في الاسم، فمن ترك دم على حاله إذا أضيف ترك فم على حاله، ومن رد إلى دم اللام رد إلى فم العين، فجعلها مكان اللام، كما جعلوا الميم مكان العين، وأنشد البيت .
ونفثا أي ألقيا على لساني يعني إبليس وابن إبليس، لأنه مما يقال :إن لكل شاعر شيطاناً، والنابح هنا أراد به من يتعرض للهجو والسب من الشعراء، وأصله في فِيَّ الكلب . ومثله : العاوي والرجام مصدر راجمه بالحجارة . أي راماه، وراجم فلان عن قومه إذا دافع عنهم . جعل الهجاء في مقابلة الهجاء كالمراجعة لجعله الهاجي كالكلب النابح .
والبيت آخر قصيدة للفرزدق قالها في آخر عمره تائباً إلى الله تعالى مما فرط منه في مهاجاته الناس، وذم فيها إبليس، لإغوائه إياه في شبابه" (41) .
وقال :
فتخالسا نفسيهما بنوافذ * * * كنوافذ العبط التي لا ترقع
الشاهد في قوله "فتخالسا نفسيهما" وتقدم ما في هذا النوع .
وقال ابن الأنباري : والأكثر فتخالسا أنفسهما، لأن كل شيئين من شيئين : (42) يثنيان بلفظ الجمع كقولك : ضربت صدورهما وظهورهما . قال الله تعالى : "فقد صغت قلوبكما" والضمير للشجاعين المذكورين قبل هذا البيت في عد أبيات من قصيدة أبي ذؤيب الهذلي المشهورة" (43) .
ومن الله أستمد العون، وأستلهم الرشد .
وكتبه لكم :
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
{وفي الحيِّ أحوى ينفضُ المَرْدَ شادنُ * * * مظاهرُ سمطيْ لؤلؤ وزبرجد
خذولُ تُراعي ربرباً بخميلة * * * تناولُ أطرافَ البريرِ وترتدي
وتبسم عن أَلْمى كأن منوَّراً * * * تخلَّل حُرَّ الرملِ دعصُ له ندي
سقته إياةُ الشمسِ إلا لثاتِه * * * أُسِفَّ ولم تَكْدِمْ عليه بإثمد
ووجهُ كأن الشمس حلت رداءها * * * عليه نقيُّ اللونِ لم يتخدد
"طرفة بن العبد"
أحوى في شفتيه سمرة . المرد الغض من ثمر الأراك . مظاهر لبس ثوباً فوق ثوب . شبه حبيبه بظبي .
خذول : خذلت أولادها . تراعي ربرباً ترعى مع قطيع من الظباء . الخميلة رملة منبتة . البرير شجر الآراك ، فهي ترتدي بأغصانه .
الألأمى يضرب لون شفتيه إلى السواد . منوراً أقحوان له نور بفتح النون . حر الرمل : خالصة . الدعص الكثيب من الرمل .
إياة الشمس شعاعها . لثاته مغارز أسنانه . والكدم العض . واللثات لا يستجيب بريقها، ونساء العرب يلعسنها بالإثمد . التخدد كثرة التجاعيد }
(1)في مثل هذا لا توضع النقطتان، لأن مقو القول لم يرد، وإنما حكي موجزه.
(2)دراسات في علم الجمال ص21.
(3)الأخطاء الشائعة ص195.. قال أبو عبدالرحمن: وعبارة القطب الشيرازي نقلها عنه الزبيدي من كتابه شرح المفتاح، وذلك بتاج العروس 15/582.
(4)مقاييس اللغة ص838.
(5)المفردات ص639.
(6)تاج العروس 15/578.
(7)تاج العروس 15/581.
(8)تقع في مجموع، ومقداره خمس عشرة صفحة، وهي كثيرة التصحيف والتحريف، وقد أوردها السيوطي بكتابه الأشباه والنظائر 6/130-169، ولم يعلق عليها بشيء، وكذلك محقق الكتاب الدكتور عبدالعال سالم مكرم لم يعلق بشيء على مسألة "فلان لا يملك درهماً فضلاً عن دينار".
(9)في الأصل: محذوف.
(10)في الأصل: لمستخير.
(11)في الأصل: تقريره.. والسياق يقتضي ما أثبته، وهو المثبت في أشباه النظائر.
(12)في الأصل الكثير.
(13)تحريف النصوص من مآخذ أهل الأهواء في الاستدلال ص83.
(14)قال أبو عبدالرحمن: ليس هذا بصحيح، بل لإدارة هذا المعنى تعبير آخر وهو الإظهار، فيقول: معجمي فلان، ومعجمي فلان.
(15)وذلك عندما يكون المضاف الآخر ظاهراً، أو قام البرهان بلا لبس أنه متعين التقدير.. ولا تعين هاهنا، لأنه ليس كل أحد يعلم لكل واحد من المذكورين معجماً مستقلاً، بل يحتمل الجاهل أنهما اشتركا في تأليفه.
(16)قطوف أدبية ص461-462.
(17)أي مفرقين بالعطف.
(18)قال أبو عبالرحمن: للآية احتمالان:
أحدهما: أن يكون المراد باللسان اللغة، وحينئذ يكون لسان داوود وعيسى عليهما السلام واحداً، فالكلام على ظاهره.
وثانيهما: أن يكون المراد باللسان الجارحة، فحينئذ يتعين أن المراد لسانان بتعين تقدير مضاف آخر هكذا: لسان داوود ولسان عيسى، لأنه متعين بالضرورة أن لكل واحد لساناً، وأنهما غير مشتركين في لسان واحد.. فلما أمن اللبس بهذا التعين اختير الإفراد لأنه أخف.
(19)قطوف أدبية ص485.
(20)الدر المصون 4/382.
(21)أي أن الواحد من المضاف كالقلب (مفرد القلوب المضافة إلى المثنى) جزء واحد من المضاف إليه وليس جزأين فأكثر كاليدين، فلا يقع الجمع حينئذ موقع التثنية، لأنه لو جعل بمعنى المثنى لكان في ذلك إلغاء لمقتضى الجمع بلا برهان.. والجمع هو الدلالة الصحيحة، لأن عند كل رجل يدين ثنتين، وللاثنان أربع، وذلك جمع.
وإنما حملت آية السرقة من سورة المائدة على التثنية لأنه قام البرهان على أن المراد جزء واحد لا يوجد في المفرد غيره وهو اليد اليمين، فليس للإنسان غير يمين واحدة.
(22)وجه البس أن قولك للاثنين:"عيونكما" ظاهر في الجمع، لأن للاثنين أربع أعين، فلو جعل للمثنى لا لتبس المثنى بالجمع، ولاقتضى الأمر التوقف في دلالة "عيونكما" حتى يأني مرجح من خارج يعين هل المراد المثنى أو الجمع.
وأجود من التعبير بأمن اللبس أن تقول: إن حمل الجمع على المثنى حينئذ إلغاء للظاهر وهو الجمع، وإعمال لغير الظاهر وهو التثنية بلا برهان.
(23)أي لم يجز حمل الجمع في قولك:"أعينهما" على معنى المثنى، لأن الظاهر الجمع، إذ لهما أرع أعين.
(24)كالقلب فإنه جزء واحد من الإنسان ليس له غير قلب واحد.. قال تعالى:{ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}[سورة الأحزاب/4].
فالقلب جزء، والرجل كل.
(25)لأنه لم يقم برهان على أنه ليس عندهما غير درهمين.
(26)الضرب بالأسياف يحتمل معنى الجمع فلا يحمل على التثنية، لأن الفرد ق يجالد بسيفين في المرة الواحدة، وقد يجالد طرفاص واحداً بأكثر من سيف في عدة مرات.. إلا أن هذا خلاف العادة. المضاجع إذا أريد بهما الزمان الواحد فلا لبس، وإذا لم ترد وحدة الزمان فقد يكون للإنسان أكثر من مضجع في عدة أماكن.
(27)فلم يقل:"على لسانيهما" فتكون الإضافة إلى مثنى.
(28)أي مثل"قلوبكما" و"رؤس الكبشين" فإن الرجلين والكبشين مثنيان لفظاً لا تقديراً.
(29)والتثنية ضم واحد إلى واحد، والجمع ضم أكثر من واحد.
(30)التعليل قاصر هاهنا، لأن عدم الثقل مشترك بين الجمع والتثنية: وإنما يقال: يعبر بالجمع والمفرد معاً في المسألة المذكورة:لأن توالي تثنيتين مستثقل، وقدم الجمع على المفرد على الرغم من اشتراكهما في الخفة! لأن الجمع يشارك المثنى في معنى الضم.
(31)وجه هذا التفضيل فيما يظهر لي أن التثنية هي الأصل فقدمت على المفرد لمجرد الخفة، وقدم الجمع للخفة ولأمر آخر غير مجرد الخفة وهو مشاركة المثنى في الضم.
(32)هو أبو حيان النحوي.
(33)وهو قلوبكما.
(34)وهو الأيدي، لأن للفرد أكثر من يد.
ورد السمين على شيخه أبي حيان وجيه جداً، وكلام الزمخشري صحيح.
(35)الدر المصون 4/262-264.
(36)بل يقال: التثنية أولى من الإفراد والإفراد جائز بما جاز به الجمع من الخفة حسب الشروط المذكورة.
(37)الدر المصون 10/366.
(38)الدرر اللوامع على همع الهوامع شرح جمع الجوامع في العلوم العربية 1/154-155.
(39)الدرر اللوامع 1/155.
(40)الدرر اللوامع 1/155-156.
(41)الدرر اللوامع 1/156-157.
(42)يتحتم في مثل هذا وضع نقطتين فوق بعض: ليعلم أن ما بعدهما خبر وليس وصفاً.
(43)الدرر اللوامع 1/158

جنــــون 07-02-2011 10:11 PM

القسم الثاني

الباب الأول : النظرية الجمالية :
الفصل الأول : معنى الجمال ، وعلمة وتاريخه .
الفصل الثاني : الحكم الجمالي .
الفصل الثالث : برجسون والحدس الفني .
الفصل الرابع : كروتشه وفلسفة الفن .
{ قال عمر بن علي المطوعي :
أمير كله كرم سعدنا * * * بأخذ المجد منه واقتباسه
يحاكي النيل حين يروم نَيلاً * * * ويحكي باسلاً في وقت باسه
قال ابن رشيق : أراد أن يناسب، فجاء القافيتان كما ترى في اللفظ ليس بينهما في الخط تناسب إلا مجاورة الحروف .
"وهذا أسهل معنى لمن حاوله، وأقرب شئ لمن تناوله، ولكنه من أبواب الفراغ وقلة الفائدة" .
وهو مما لا يشك في تكلفه، وقد كثَّر منه هؤلاء الساقة المتعقَّبون في نثرهم ونظمهم حتى برد، ورك، فأين هذا العمل من قول القاءل وهو أبو فراس :
سكرت من لحظه لا من مدامته * * * ومال بالنوم عن عيني تمايله
وما السلاف دهتني بل سوالفه * * * ولا الشمول ازدهتني بل شمائله
ألوى بصبريَ أصداغ لوين له * * * وعًلَّ صدري بما تحوي غلائله؟
فما كان من التجنيس هكذا فهو الجيد المستحسن، وما ظهرت فيه الكلفة فلا فائدة فيه .
"العمدة لابن رشيق" 1/559-560 "



الفصل الأول : معنى الجمال، وعلمه، وتاريخه :
إن تعريف الجمال يأتي - كغيره من التعريفات - لإفادة التصور، وذلك يأتي بالتعريف، والمثال الشارح، والتقسيم .
وأبلغ من ذلك أن تنثر بعض العناصر التي تدرك فيما هو جميل، وأن تشخص الآثار الوجدانية في الذات من جراء ما هو جميل . فقول أرسطو مثلاً في منشأ الميتافيزيقيا "إنه ذلك الشعور بالدهشة الذي يبلغ كماله في الحكمة" (1)
فهذا عنصر جمالي .
وقال ر . ف . جونسن "الفيلسوف القروسطي المسيحي العظيم توماس أكواينس عرَّف الجمال بأسلوب مقبول على أنه ذلك الذي لدى الرؤية يسر .
أي أنه يسر لمحض كونه موضوعاً للتأمل سواء عن طريق الحواس أو في داخل الذهن ذاته .
والروائي الفرنسي ستندال من القرن التاسع عشر وصف الجمال بعبارات أكثر شروداً على أنه الوعد بالسعادة . وأظهر بذلك رؤياً ربما كانت أعمق في المشاعر التي يثيرها الجميل" (2) .
قال أبو عبدعبدالرحمن : السرور وجدان في القلب، وكذلك السعادة التي جعل الجمال وعداً بها .
وفي هذا السياق تعبيرات مجازية، وعمومات، وتخصيصات لا تأخذ بمفهوم الحد الأرسطي العلمي، ولكنها مفيدة جداً في استجلاء العناصر التي تؤلف تعريفه، وهي تتناول القسم الأهم من الجمال (لأنه يتعلق بالإنسان وإبداعه)، وهو الجمال الفني، وقد أورد تلك العناصر الدكتور محمد ذكي العشماوي، فقال "ومع ذلك فقد يعجبنا أحياناً بعض المقولات التي تصدر عن الفنانين في تناولهم لماهية الفن، والتي قد تعترض دراساتهم، أو نجدها منثورة في بحوثهم، أو مبثوثة في كتبهم، أو مطروحة على ألسنة الناس ممن يهتمون بهذا الميدان أو ذلك من ميادين الفن كأن تسمع أحدهم يقول مثلاً : الفن هو إدراك عاطفي للحقيقة .
أو هو تلك الدنيا الفريدة والمبتدعة والحية والمحتفظة بحيويتها وطزاجتها على الدوام .
أو هو تلك الغرة من الصور التي يشنها الخيال على الواقع . أو هو أن تتناول الواقع بأنامل ورعة، وترفعة إلى مستوى المثال .
أو هو تلك المسافات المرتعشة التي تجدها بين الكلمات أو الارتفاعات والانخفاضات التي تكون بين الأصوات أو الحركات أو الألوان .
أو هو زجاجة الويسكي(3) التي يقدمها لك الفنان لتنقلك إلى عوالم من النشوة والانبهار .
أو هو تلك الدهشة التي تعتريك وتسيطر عليك عند رؤيتك لمنظر طبيعي أخاذ تراه لأول مرة .
أو هو الذي يقدم لك تذاكر الطائرة، ولا يحجز لك في الفنادق، أو يحدد لك الأماكن التي تزورها، بل يتركك تتأمل ما تشاء بطريقتك الخاصة .
أمثال هذه العبارات وغيرها قد تستهوينا أثناء قراءنها، وقد تنجح في إثارة العديد من المشاعر لشدة تركيزها وقوة إيحائها، وما تنطوي عليه أحياناً من الصدق في الدلالة على معنى الفن، أو في التعبير عن زاوية من زواياها. لذلك قد نفرح عند الوقوع عليها، أو إلى تحديد الإطار العام لماهية الفن . ذلك الإطار الذي يصلح أساساً أن تتوقف عليه صحة القضايا والأحكام .
إن هذه المقولات السابقة أشيه بصور الفن التي تنطلق من الفنان بطريقة تلقائية أو نصف واعية دون أن يكون له علم بطبيعتها، فهي تضيئ ولكنها قد تسيئ إلى أصحابها أو تضره"(4) .
قال أبو عبدالرحمن : بتحليل معاني هذه التعريفات نجد العناصر التالية :
1. ربط العاطفة بالمعرفة باعتبار الفن إدراكاً عاطفياً .
2. الندرة، والإبداع .
3. الحيوية (الحركة، والنبض، والتجدد) .
وعنصر التجدد هو المقابل للملل والرتابة .
4.خصوبة الخيال إذ يكاثر الواقع (الأعيان الطبيعية) بصور فنية خيالية .
5.القدسية بالنفوذ من الواقع إلى المثال .
6. إشارات في الموضوع تثير الجمال، ففي النص المسافات المرتعشة، وفي التطريب الارتفاعات والانخفاضات، وفي التمثيل الرقص والحركات، وفي التشكيل الألوان .
7. النشوة والانبهار، وذلك قريب من الدهشة التي مر ذكرها .
8. التحليق والانتقاء .
وكل ما نثر من تلك العناصر سيحوجنا إلى تعريفات لغوية به لنقع على أشياء محددة . وهذا ما ستجده إن شاء الله في الباب الرابع .
قال أبو عبدالرحمن : أصبح الفن عرفاً على الفن الجمالي، ولهذا فكل تعريف يصف الفن ويوضحه بالجمال فإنما يكون تعريفاً يميز الفنون الجمالية عن غيرها، ولا يكون تعريفاً يحد الفن الجمالي ذاته .
قال الدكتور العشماوي "من علماء الجمال من يرى أن الفن هو القدرة على توليد الجمال أو المهارة في استحداث متعة جمالية" (5) .
قال أبو عبدالرحمن : هذا تمييز للفن الجمالي عن عموم الفنون، وليس تحديداً له . إلا إن ما سيحكيه الدكتور من مذاهب ليس نموذجاً لدعوى تعريف الفن بالقدرة على توليد الجمال . قال : "من هؤلاء ساتنيانا الذي يفرق في الفن بين معنيين :
معنى عام يجعل فيه الفن مجموع العمليات الشعورية الفعالة التي تلعب دوراً هاماً في حياة العقل، والتي تعدِّل البيئة وتكيفها وتصوغها حتى تتمكن من تحقيق أغراضها (6) .
ومعنى خاص يجعل من الفن مجرد استجابة للحاجة إلى المتعة أو اللذة دون أن يكون للحقيقة أي مدخل فيها . اللهم إلا أن تكون على حد قول الدكتور زكريا إبراهيم : عاملاً مساعداً قد يؤدي إلى تحقيق هذه الغاية" (7).
ويواصل الدكتور زكريا شرحه للمعنى الأول فيقول "والفن بالمعنى الأول إنما هو عبارة عن غريزة تشكيلية شاعرة بغرضها، بحيث أنه لو قدر للطير وهو يبني عشه أن يشعر بفائدة ما يصنع : لصح أن نقول عنه : إنه يمارس نشاطاً فنياً .
وتبعاً لذلك فإن الفن بمعناه العام هو كل فعل تلقائي يؤازره النجاح، ويحالفه التوفيق بشرط أن يتجاوز البدن لكي يمد إلى العالم، فيجعل منه منبهاً أكثر توافقاً مع النفس(8)"(9) .
قال أبو عبدالرحمن : المعنى الأول يشمل كل فن صناعي وجمالي . ويتميز الفن الجمالي بأن القيمة الجمالية غايته .
أما الفن الصناعي فقد يُنظر فيه إلى عنصر جمالي، فيكون موضوعاً لإحساس جمالي .
إن القيمة الجمالية تكون أساساً لا بالتبع في كل الفنون الجميلة . والعمليات الشعورية المذكورة في المعنى الأول لا تميز الفن الجمالي من الفن الصناعي، بل هي إحدى وسائل الأداء للفنين، فهي مشتركة .
والمعنى الثاني تعريف للفن الجمالي المجاني . أما الفن الجمالي المعبر القابل للالتزام فيقتضي تحويراً في العبارة بأن يقال: إن الفن الجمالي لا يكون فناً بشرطه الجمالي إلا بأن يحقق متعة ولذة . وفرق بين أن يحقق الفن المتعة بضربة لازب، وأن يكون مجرد محقق للمتعة .
والدكتور العشماوي في سياقه لتعريفات الفن التبس عليه كون الجمال - ومن آثاره المتعة واللذة - شرطاً لما يسمى فناً جميلاً، وكون مجرد المتعة واللذة ليس هو كل الفن الجمالي . بل الجمال السامي ما أضاف إلى المتعة معرفة وتوجيه سلوك . قال "ومن الين عرفوا الفن بأنه متعة فنية أو لذة جمالية كثيرون منهم مولر فرينغلس في كتابه سيكلوجية الفن .
ذكر أن لفظ الفن هي من الألفاظ التي تطلق على شتى ضروب النشاط أو الإنتاج التي يجوز أو ينبغب أحياناً أن تتولد منها آثار جمالية .
وعلى الرغم من أن في الفن قدرة على توليد الجمال، وأن الإحساس بالجمال (وكذلك الإحساس باللذة والمتعة) هما (10) شيئان مصاحبان لعملية التذوق، وعملية الإبداع على السواء : (11) فإنهما ليسا شرطأ لوجوده أو تحققه، ومن ثم فلا نظن أن تعريفنا للفن بأنه لذة يمكن أن يحقق الهدف من التعريف الذي ننشده أو نسعى إليه، فقد يكون الأثر الفني باعثاً على اللذة، وقادراً على توليد أكبر قدر من الإحساس بالمتعة . ويكون في ذات الوقت رديئاً من الناحية الفنية .
وقد نقرأ قصيدة شعرية أو نستمتع بلوحة فنية في لحظة ما، ثم تتغير اللحظة ويتغير الموقف النفسي فإذا اللوحة يختلف تأثيرها وإذا القصيدة الشعرية تفقد مذاقها أو معناها، وهذا وحده يكفي دليلاً على أن اللذة ليست دائماً معياراً صادقاً أو سليماً لقياس الفن، أو دليلاً على وجوده" (12) .
قال أبو عبدالرحمن : القيم الجمالية بما فيها اللذة والمتعة شرط وجود الجمال، وليست كل شرطه، ولهذا يكون الجمال المجاني أحط درجات من الجمال الباعث المحرك إلا في حالات تكون المتعة الجمالية مقصودة لذاتها .قال أبو عبدالرحمن : ويتبع تصور معنى الجمال التعريف بعلم الجمال وتاريخه، وقد تحدث الأستاذ مجاهد عبدالمنعم مجاهد في صدر كتابه "دراسات في علم الجمال" عن اختلاف مذاهب الفلاسفة وعلماء الجمال في مأخذ تعريف علم الجمال، فعزا إلى أفلاطون وإلى الفيلسوف الأمريكي المعاصر جورج سانتايانا أن مأخذ التعريف يجعل علم الجمال دراسة للجمال ذاته .
وعزا إلى آخرين أن مأخذ تعريف الجمال يجعل الجمال مجرد دراسة للمفاهيم والمصطلحات الجمالية، وذلك بتحليل معني الشكل والمضمون والنمط والذوق .
ونقل عن المعجم الفلسفي لأندريه لالاند قصر علم الجمال على دراسة موضوع حكم التقدير والذوق (13) .
قال أبو عبدالرحمن : أهل المذهب الأول يميز مذهبهم عن غيره اتجاههم لدراسة الجمال ذاته . ولا ريب أن كل مذهب ينحو إلى دراسة الجمال ذاته، ولكنهم يختلفون فيما هو الجمال الذي تراد دراسته، فأهل المذهب الثاني اتجهوا إلى مفاهيم الناس للجمال ليعرفوا ما هو الجمال .
ومن أهل هذا المذهب الثاني من درس ملكة الحكم ليأخذ من مقتضاها معنى الجمال.
وأهل المذهب الأول نظراتهم أشمل تتجه إلى أخذ معنى الجمال من كل علاقة بالجمال الطبيعي والفني، والذاتي والموضوعي، وسبر الذاتي والمتغير من الحكم الجمالي(14) .
وذكر مجاهد اتجاهاً ثالثاً يجعل الجمال للصور الفنية، ونقل عن كتاب "علم الجمال الفرنسي المعاصر" قوله "إن غاية علم الجمال هي الوقوف على المقولات الأساسية أو المبادئ الصورية الجوهرية الثابتة التي تًنظم وفقاَ لها شتى المظاهر الجمالية لهذا الكون المنظم الذي نعيش في كنفه" (15) .
قال أبو عبدالرحمن : حقيقة هذا المذهب قصر علم الجمال على الجمال الفني بدراسة صوره دراسة تقيم الجمال الفني على ثوابت من مبادئ الجمال الطبيعي .
وذكر اتجاهاً رابعاً يفرق بين الفن الجميل ، والفن الصناعي، ويستبعد الجمال الطبيعي، ويجعل كل اتجاه للجمال مرتبطاً بالإنسان، فالفن إنتاج إنساني، والتذوق بعدُ إنساني، والحكم إنساني. وجعل هذا مذهب هيجل في كتابه "محاضرات حول فلسفة الفن الجميل" و "علم الجمال والنقد" .
وقد اعتبر علم الجمال فرعاً من الفلسفة النقدية .
قال أبو عبدالرحمن : حقيقة هذا المذهب جعل الجمال فنياً ذاتياً . ومال الأستاذ مجاهد إلى تعريف الجمال، واختار متابعة هيجل في تعريف علم الجمال أنه فلسفة الفن الجميل . أي فاسفة الوعي الجمالي، وفلسفة القدرة على الإبداع والتذوق(16).
ولخص مجاهد تاريخ علم الجمال بقوله :"وفي الحقيقة أن هناك تيارين رئيسين على مدى تاريخ علم الجمال . تيار يدرس المشكلات الجمالية معزولة عن الإنسان وتيار يدرسها في علاقتها بالإنسان . وتاريخ علم الجمال هو تاريخ الصراع بين هذين التيارين من أجل الوصول إلى أن يستحيل علم الجمال إلى علم الإنسان داخل نطاق ما هو جمالي وفني" (17) .
وقال :"يمكن القول بصفة عامة إن تعريف أي علم ليس إلا تاريخ صراع هذا العلم لمحاولة الوصول إلى تعريف حقيقي له. أي أن التعريف الصادق لا يأتي في البداية، بل يكون في خاتمة كل حقبة تاريخية" (18) .

جنــــون 07-02-2011 10:11 PM

الفصل الثاني : الحكم الجمالي :
صفة الحكم الجمالي عند كانت أنه تذوق، وأنه حيادي غير متحيز .
ومعنى حياديته أنه لا يحصِّل أي شئ آخر غير الحكم بتأثير الشئ فينا بأن يكون لذيذاً (وذلك هو الجمال)، أو مؤلماً (وذلك هو القبح).
قال أبو عبدالرحمن : المحك للحكم الجمالي أن يثير فينا لذة وبهجة، والانسجام مع ذلك هو الذي يعبر عنه كانت بالرضى .
والرضى وجود ذاتي في القلب صادر عن مؤثرات في الموضوع الذي حكمنا بأنه جميل .
وبمجرد حصول الرضى تتحقق ملكة الذوق في فلسفة كانت . قال "الذوق هو ملكة الحكم بالرضى أو بعدم الرضى على شئ ما . أو على شكل تقديمه . والشئ الذي يرضي هو بالتالي الجميل" (19) .
قال أبو عبدالرحمن : تنتقل الفلسفة الأدبية والفنية من الفلسفة الأم إلى حقل النقد الأدبي الذي يلجه ذوو التفكير الشعبي، فتنتقل من لغة رياضية مباشرة محددة إلى أسلوب عائم، وفكر متمعلم .
ويزداد الطين بلة إذا كان الفيلسوف من المحدثين الذين مزقتهم اللغة المجازية وكثرة المصطلحات كما نجد في الفلسفة الفنية لدى برجسون وكروتشه .
عالج كروتشه مسألة الحدس الفني في كتابة "علم الجمال" واعتبر الحدس أدل على الإدراك الفطري، أو الإحساس الفطري للطبيعة، أو البديهة. إذن الفن معرفة .
والمعرفة المنطقية مصدرها العقل ، والمعرفة الفنية مصدرها الخيال . ومعنى الحدس لغة يشمل الحدس العقلي الذي معرفته منطقية، ولهذا تميزت معرفة الخيال بالحدث الفني .
وأضخم دعوى في الحدس الفني أن ما فيه من مضامين عملية أو نفعية أو منطقية أو أخلاقية ذاب وتغير عما كان عليه .
ولعل هذه الدعوى تفسر باتحاد الشكل والمضمون ، والذات والموضوع. وبهذا يتحول الموضوع الخارجي لأي غرض من أغراض الشعر إلى عمل فني متحد .
قال الدكتور محمد زكي العشماوي "لا يمكن أن يكون اختيار الخريف موضوعاً لقصيدة ما أبلغ أو أكثر شاعرية من اختيار موضوع آخر مثل منازل الفقراء المدقعين مثلاً .
ولو جاز أن يكون للموضوع قيمة في ذاته لكان همنا من القصيدة المعرفة العقلية عن مسألة أو موضوع ما .
ولو كان هذا هو هدفنا لكان الأولى بنا أن نستمع إلى مقال علمي عن الخريف ، أو لذهبنا لعالم من علماء الاقتصاد أو الاجتماع لنجد عنده الدراسة الجادة لمنازل الفقراء المدقعين،وما تحتوي عليه من ظواهر اجتماعية واقتصادية . ولاستطاعت هذه المقالات العلمية أن تصل بنا إلى معرفة أدق وأشمل مما يمكن أن تقدمه إلينا القصيدة الشعرية .
إن العبرة في النقد الجمالي ليست للموضوع باعتباره شيئا خارجياً ولا بالفكرة باعتبارها مجرد فكرة ، وإنما العبرة بما صار إليه الموضوع أو الفكرة بعد أن سيطر عليهما الشاعر أو الفنان، وبعد أن اصهرتا في ذاته، وبعد أن تحولتا إلى فن.
إن كل موضوع وكل فكرة ليسا إلا مجرد مادة من المواد الخام التي تتحول عند تناولها إلى شيء جديد"(20).
قال أبو عبقد الرحمن : قيمة الفن قيمة جمالية بلا ريب، ولكن هذا لا يعني أن الجمال محصور في ظواهر الفن الجمالية، بل هناك جمال عنصره العظمة والكمال، أو الفكر وجبروته، وهو جمال يسمق بقيمتي الحق والأخلاق . وقد يوجد موضوعان مختلفان تتساوى قيمتها الجمالية الفنية، ولكن موضوعاً منهما تزكِّيه قيمتا الحق والأخلاق من أجل جمال العظمة المذكور آنفاً لصلته (21) العملية بالجمهور، أو لسموقه الفكري، فيكون أجمل فنياً بعناصر جمالية خارج عناصر الجمال الفني .
إذن للموضوع قيمة جمالية في ذاته، ولكن هذا لا يعني أن المبتغى في كل موضوع قيمتُه الفنية الجمالية لا المعرفة المنطقية المباشرة .. وقلت المباشرة لأن الفن إيحاء بالحقيقة .
وعن الوحدة بين الشكل والمضمون يلخص الدارسون مذهب كروتشه بأنه : "لا ينبغي أن نفرق بين حدس الفنان وتعبيره، (22) فالفكرة الشعرية ليست شيئاً مبايناً لوزنها وإيقاعها وألفاظها، (23) والحدس والتعبير ليسا سوى شيء واحد .
صحيح أن الصنعة قد تدخلت في إنتاج الأداة الفنية . (24) في طريقة مزج الألوان، وفي تسجيل النغمات، وفي قطع الحجر دون تهشيمة . لكن ليس في الإمكان فصل التعبير عن الخيال .
فالقصيدة والسوناتا والرواية توجد مكتملة قبل أن يقوم الفنان بالعمل الآلي الذي تقتضيه كتابة العمل الفني بالفعل .
لكن علينا أن نفرق بين الخيال الفني ومجرد الوهم.(25) فالخيال الفني خيال مبدع يعبر عن شعور أو عاطفة ما (وإن لم يكن يجوز لنا أن نفرق بين الشعور الذي يعبر عنه الفنان باعتباره مضموناً من ناحية، والصورة الذهنية باعتبارها شكلاً من ناحية أخرى)، ذلك لأن الفن هو التركيب القبلي الذي يؤلف بين الشعور والصورة الذهنية.
الفن إذن ليس سوى عرض الشعور مجسماً في صورة ذهنية" (26) .
قال أبو عبدالرحمن : يظل كلام المفكرين والأدباء مجرد تلاعب بفهم المتلقي ما ظل تعبيرهم يلغي الفروق المؤثرة، أو يغاير بغير فروق مؤثرة .
ويظل مجانياً ما ظل دعوى بلا برهان . وإنني أجد هاتين الآفتين فيما حكي من مذهب كروتشه عن شرح دعوى الوحدة في الشكل والمضمون .
وبيان ذلك أن حدس الفنان رؤية مباشرة بلا وسائط، ومعنى ذلك أنه أدى المضمون بتعبيره الفني وشكله الذي جاء به دون تخطيط مسبق للفكرة التي يريدها، وبدون أناة زمنية لتحبير الشكل وتجميله .
وهذه التلقائية في ميدان الحدس فحسب، ولا ينسحب ذلك على كل إبداع لكل فنان!! .
والفنان نفسه قد لا يعي تفسير هذه التلقائية .
والوحدة التي حصلت هاهنا وحدة زمنية جمعت عناصر المضاهاة الفنية من مضمون وأشكال، فولدت العناصر دفعة واحدة دون أن يكون لعنصر أسبقية زمنية على العنصر الآخر . إلا أن هذه الوحدة الزمنية لا تعني وحدة الشكل والمضمون بإطلاق، بل هما غيران جمعهما ترتيب زمني واحد .
إذن الفكرة شيء مباين لوزنها وإيقاعها . إلخ .
وقد بينت في كتابي "الالتزام والشرط الجمالي" أن الفنون تقبل التعبير، وقد يدل الوزن والإيقاع على الفكرة إضافة إلى الدلالة اللغوية، فلا يكون الوزن والفكرة شيئاً واحداً، وإنما يكون الوزن شيئاً غير الفكرة، ولكنه دل عليها! .
والفن لا يكون تركيباً قبلياً بإطلاق، وإنما يكون كذلك عندما يكون تلقائياً (حدساً) .
والجامع بين الوهم والخيال أنهما في صورة تحاكي حقيقة، والفارق بينهما أن الفنان يعي بتخييله ويقصده، فليس متوهماً .
وقارن أصحاب الموسوعة الفلسفية بين مذهب كروتشه - وكانت على أساس هذه الوحدة المدعاة بين الشكل والمضمون - فقالوا : لقد كان أعمق البحوث الكلاسيكية لعلم الجمال أثراً هو المناقشة التي نجدها في كتاب "كانت" نقد الحكم.(27) وخاصة عندما يصر على أن الحكم الجمالي يرتد إلى أصول سابقة على تكوين التصورات الذهنية، وعلى أن معايير القيمة الجمالية لها طابع شكلي .
وتستمد مناقشته صورتها المحكمة من وجهة نظره التي مؤداها : أن الأحكام تختلف من حيث الكم والكيف والنسبة والجهة بحيث تنحصر مشكلة علم الجمال أساساً في أن نحدد كيف تختلف الأحكام الجمالية من هذه الجوانب الأربعة عن غيرها من الأحكام (28) .
أما في العصر الحاضر فإن أشهر نظرية جمالية هي نظرية كروتشه في كتابه الاستطيقا التي تشبهها بصورة جوهرية (29) نظرية كولنجوود في كتابه أصول الفن .
يرى كروتشه أن العمل الفني حدس حسي لعاطفة بعينها جاء ذلك العمل الفني أيضاً تعبيراً كاملاً عنها. فما اللوحة أو الكلمات المكتوبة أو الأصوات سوى مساعدات سببية تعين الآخرين على أن يحدسوا الحدس نفسه .
والرأي الذي بسطه كاسيرر في كتابه فلسفة الأشكال الرمزية كان أيضاً ذا تأثير كبير . وخاصة بالصورة التي أعيد عرضه بها في كتاب س . ك . لا نجر "الشعر والشكل" .
وتشترك هذه الآراء في أنها تعد الخبرة الجمالية في جوهرها تعبيراً عن شعور أو رمزاً له، وفي أنها تصلها من حيث هي كذلك بكل استعمال للغة وغيرها من طرائق الرمز . بل إن كروتشه يعد علم اللغويات العام وعلم الجمال شيئاً واحداً بذاته" (30) .
قال أبو عبدالرحمن : الجمال ارتياح قلب، وذوق عقل .
هو ارتياح قلب بالنظر إلى ذاتيته، لأنه لا تعريف له إلا سرور القلب ولذته . وذوق عقل بالنظر إلى موضوعه، فإن العقل يستنبط الملامح من أشكال ما هو جميل فتكون عنده ملكة ذوقية بها يصل السرور أو الانقباض إلى القلب من الشكل الذي يكون جميلاً أو قبيحاً .
والعقل والقلب يتساقيان الأفكار والعواطف، فالعقل محل كل الملكات الفكرية، ومجمع الأضغان (القلب) محل الانفعال بالأفكار حباً وكرهاً، وتحمساً وفتوراً، وتصديقاً وتكذيباً، ولذة وألماً . أي بمقدار تربيته العقلية علماً ومراناً يكون سموق ذوقه القلبي، وإحساسه بمجالي الجمال .
وإذن فلا معنى لدعوى الفيلسوف الألماني "كانت" بأن الحكم الجمالي يرتد إلى أصول تسبق تكوُّن التصورات الذهنية !!.
قال أبو عبدالرحمن : لا نعرف للحكم الجمالي أصولاً لاحقة أو سابقة تخرج عن التصورات الذهنية .
وإنما نعلم أن الحكم الجمالي وجد أن في الذوات المحسِّة بجمال ما هو جميل .
كما نعلم أن الحكم الجمالي تصورات ذهنية واستنباطات عقلية من موضوع الجمال . كما نعلم أن القلب لا يحس بالجمال من فراغ ، بل يحس وعنده عقائد فكرية .
ومن المنتقد إطلاق "كانت" القول بأن معايير القيمة الجمالية ذات طابع شكلي .
والواقع أن شكل الأداء للجمال - كأشكال الأداء في الفنون الجميلة من صوت وصورة وحركة - موضوع للقيمة الجمالية .
والقيمة فكرية بلا ريب، ولكنها مأخوذة من وجدان قلبي .
والجوانب الأربعة التي يختلف من جهتها الحكم الجمالي تعود إلى اختلاف مستويات التربية الثقافية والفكرية، فلن تكون أغنيات التخت الشرقي أجمل من صوت الربابة، ولن تكون ألحان السنباطي أجمل من ألحان التخت الشرقي إلا بعد تدرج في التربية الثقافية والفكرية، ولهذا قلت مراراً : الإحساس بالجمال فئوي، ولكن له مثل أعلى ! .
والدارسون والمترجمون يستقون فلسفة الجمال لدى كروتشه من آثاره التي لم تترجم إلى العربية بعد، وهي المجلد الأول من "فلسفة الروح" وكتابه"موجز في علم الجمال" ، ومقالته عن علم الجمال التي نشرها بـ "دائرة المعارف البريطانية".

جنــــون 07-02-2011 10:11 PM

الفصل الثالث : برجسون والحدس الفني :
للحدس معنى فلسفي مشتق من معناه اللغوي، وقد أسلمته الفلسفة الحديثة إلى النظرية الأدبية .
قال أبو عبدالرحمن : بيد أن الفلسفة الحديثة فلسفة التمزق بالمصطلحات دون فقر إلى المصطلح أو ضرورة . وسرت هذه العدوى إلى النقد الأدبي !.
والمصطلح لغير ضرورة يبعدك عن المأثور الدال، ويوهمك بحضور علم جديد لا يدل عليه إلا مواضعة مستأنفة، وهذا تمزق وتمعلم في آن واحد، لأنه يتعالى على المعارف الإنسانية السالفة وهو من معطياتها .
والمصطلح الجديد لغير ضرورة يكون عنوان مذهب جديد يتسع بالشروح، والاحترازات، والدعاوى، والاستدلالات، (31) وجعله في دور المعارضة للمصطلحات الأخرى . وبذلك اتسع جانب المغالطة في فلسفة المصطلحات ، وبرزت المغالطة في ناحيتين :
أولاهما : عملقة معنى المصطلح، وحصر الحقيقة فيه، وتقزيم ما سواه .
وأخراهما : الاعتداء على الأعراف والمفاهيم المصطلح عليها كجعل العقل ثانوياً، وجعل الخيال أساس المعرفة بإطلاق .
وينبغي أن نعلم المعنى اللغوي الذي اشتق منه المفهوم الفلسفي للحدس، ثم نفهم في آن واحد الفروق والعلاقات بين المشتق والمشتق منه .
فأما المعنى اللغوي فقد قال ابن فارس :"الحاء والدال والسين أصل واحد يشبه الرمي والسرعة وما أشبه ذلك".
وذكر الظن كأن الحدس رجم بالظن . كأنه رمى به . وذكر الحدس بمعنى سرعة السير(32) . وذكر اللغويون الحدس بمعنى النظر الخفي(33) .
ونقل الأزهري أن الحدس بمعنى التوهم في معنى الكلام، وجعل الحادس قائلاً بالظن والتوهم معاً .
قال أبو عبدالرحمن : تفسير الحدس بالظن فهم خاطئ من أحد علماء اللغة الأجلاء، وليس نقلاً عن العرب(34).
وقد يتيقن الإنسان الشيء، ويكون تيقنه وهماً .
أما الظن فليس توهماً، ولكنه مجرد احتمال مستوى الطرفين، أو ترجيحٍ لأحد الاحتمالات، ولا يكون المقتضي التسوية أو الترجيح وهماً . وإنما يغيب عنه علم مرجحات أخرى وموانع . وغياب العلم ليس وهماً .
ومن معنى الرمي اشتقت معانٍ لغوية منها القصد بأي شيء كان ظناً أو رأياً أو دهاء، والحدس بمعنى الوطء بالرجل، والغلبة في الصراع (ومنه إناخة الناقة لذبحها) ، والمضي على استقامة وطريقة مستقيمة - وخالف الأزهري، فقال : على غير استقامة - .
وَحَدس أخت عدس زجْر للبغال في استعمال العرب، ثم جاء ابن أرقم الكوفي بدعوى أن الحدُس قوم يعنفون على البغال على عهد سليمان بن داوود عليهما وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام فتنفر منهم . وهذه الدعوى تحتاج إلى نقل موثق لكثرة القرون بين ابن أرقم وسليمان عليه السلام .
وذكر ابن السكيت : بلغت به الحِداس . أي الغاية التي يجري إليها أو أبلغ .
والمحدس المطلب . يقال فلان بعيد المحدس . وتحدَّس الأخبار طلبها بخفية . والحدس الفراسة، وتعسُّفُ الكلام على عواهنه، والضرب في الأرض على غير هداية .
قال أبو عبدالرحمن : وجرى جُمَّاع اللغة على تعريف الحدس بالتخمين والظن، والرجم بالغيب .
وتعريفه بالظن صحيح لغة، ولكنه مجامجاز، والأصل ما أسلفته .
إذن الحدث التي نتيجته الإصابة أعرق استعمالاً، وأقدم، فكان ذلك دليلاً على أن الحدس في أصل وضعه إصابةُ جُهلت أو خفيت وسائط الوصول إليها .
قال أبو عبدالرحمن : المرجَّح عندي أن الحدس بمعنى إصابة الحقيقة بلا وسائط فكرية وحسية .
ولما كان الحادس لا يفسر إصابته الحقيقة ببراهين ووسائل فكرية اتبر حدسه ظناً بغض النظر عن إصابته، والظان يصيب ويخطئ .
إذن المعنى الحقيقي الأولي الوضعي الجامع للحدس هو الإصابة بلا مقدمات فكرية .
ثم استعمل الحدس مجازاً بمعنى الظن، لأن الحادس لا يفسر حدسه بمقدمات فكرية، فكانت صفته صفة من يظن ظناً . والبرهان على هذا التأصيل أن أكثر معاني هذه المادة ثبوتية لا سلبية، فالحدس رمي، وقلما يوصف أحد بالرمي إلا بصفة الإصابة . وهو سرعة سير، ولا يوصف بالسرعة إلا من وصل إلى غايته. أما من أخطأها فلا يوصف بأنه أسرع إلى المتاهة .
والحدس نظر خفي، فَوَصْفُه بأنه نظر وأنه خفي كناية عن إعجازه، ومن أخطأ لا يُمجَّد نظره بأنه خفي .
وإنما كان خفياً لأن الحادس نفسه قد لا يعرف كيف أصاب، ومن معاني الحدس الثبوتية القصد، ومن كان اتجاهه غير منتج لا يوصف بأنه قاصد .
ومن المعاني الثبوتية الوطء والغلبة، والحداس الغاية، والمحدس المطلب، والفراسة . ولا يوصف أحد بالفراسة إلا مع الإصابة .
وطلب الأخبار بخفية تحدس، وذلك أخذ من خفاء وسائل الإصابة في الحدس .
وحَدَس صوت تستجيب له البغال يخرج عن قصد الواضع، فهو حكاية صوت لا يطلب معناه من المعنى الحقيقي الأولي .
والتفسير ببغَّالي سليمان عليه السلام نقل مرسل يدخل في باب الميتافيزقيا اللغوية، فلا يقبل إلا ببرهان توثيقي .
فهذه جمهرة معاني الحدس اللغوية، وكلها ثبوتية،فهل يعد هذا يقال: إن الأصل في الحدس ظن ؟!.
والحدس لا يكون إلا صائباً، ومع هذا نضطر إلى ثنائية حدسٍ نصفه بأنه صائب، وحدس نصفه بأنه خطأ .
وأما المعني الفلسفي فقد ذكر ابن سينا في كتابه "النجاة" الحدس بمعنى سرعة الانتقال من معلوم إلى مجهول، ومثَّل بمن يرى تشكل استدارة القمر عند أحوال قربه وبعده عن الشمس، فيحدس أنه يستنير من الشمس .
ويصف الحدس في كتابه "التعليقات" بأنه يسنح للذهن دفعة واحدة .
ويقول الجرجاني "الحدس سرعة انتقال الذهن من المبادئ إلى المطالب . ويقابله الفكر .
وهي (أي الحدسيات، أو المطالب المكتشفة بالحدس) أدنى مراتب الكشف" (35) .
وتقيد بمثال ابن سينا فقال عن الحدسيات"هي ما لا يحتاج العقل في جزم الحكم فيه إلى واسطة بتكرر المشاهدة كقولنا : القمر مستفاد من الشمس لاختلاف تشكلاته النورية بحسب اختلاف أوضاعه من الشمس قرباً وبعداً" اهـ . وسياق أبي البقاء الكفوي يقضي بأن الحدس قوة لا تنتج ظناً، فإنه قال عن الإدراك "واعلم أن أول مراتب وصول العلم إلى النفس الشعور، ثم الإدراك، ثم الحفظ . وهو استحكام المعقول في العقل .
ثم التذكر وهو محاولة النفس استرجاع ما زال من المعلومات .
ثم الذكر وهو رجوع الصورة المطلوبة إلى الذهن .
ثم الفهم وهو التعلق غالباً بلفظ من مخاطبك .
ثم الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه .
ثم الدراية وهي المعرفة الحاصلة بعد تردد مقدمات .
ثم اليقين وهو أن تعلم الشيء ولا تتخيل خلافه .
ثم الذهن وهو قوة استعدادها لكسب العلوم غير الحاصلة .
ثم الفكر وهو الانتقال من المطالب إلى المبادئ، ورجوعها من المبادئ إلى المطالب .
ثم الحدس وهو الذي يتميز به عمل الفكر .
ثم الذكاء وهو قوة الحدس .
ثم الفطنة وهي التنبه للشيء الذي يقصد معرفته .
ثم الكيس وهو استنباط الأنفع .
ثم الرأي وهو استحضار المقدمات وإجالة الخاطر فيها .
ثم التبيُن وهو علم يحصل بعد الالتباس .
ثم الاستبصار وهو العلم بعد التأمل .
ثم الإحاطة وهي العلم بالشيء من جميع وجوهه .
ثم الظن وهو أخذ طرفي الشك بصفة الرجحان .
ثم العقل وهو جوهر تدرك به الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة .
والمدرك إن كان مجرداً عن المادة كإمكان زيد فإدراكه تعقل أيضاً، وحافظهُ ما ذكر أيضاً .
وإن كان مادياً : فإما أن يكون صورة وهي ما يدرك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة . فإن كان مشروطاً بحضور المادة فإدراكه تخيل وحافظها الخيال .
وإما أن يكون معنى وهو ما لا يدرك بإحدى الحواس الظاهرة، فإدراكه توهم، وحافظها الذاكرة(36) كإدراك صداقة زيد وعداوة عمرو، وإدراك الغنم عداوة الذئب.(37) ولابد من قوةٍ أخرى متصرفة تسمى مفكرة ومتخيلة" (38) .
فالحدس عنده عمل فكري قوته الذكاء. على أن تعريفه خارج عن المعاني اللغوية.
واستعمل ديكارت وغيره الحدس بمعنى رؤية القلب المباشرة .
قال أبو عبدالرحمن : كل هذه المعاني الفلسفية جاءت عن وعي لغوي بالمعنى الحقيقي الأولي، لأنها راعت الإصابة بسرعة .
وجاء الحدس بمعانٍ ألصق بالنظرية الأدبية لدى الفيلسوف اليهودي الفرنسي برجسون، والفيلسوف الإيطالي بندتوكروتشه.
وبرجسون فيلسوف يهودي مراوغ يعمل في برنامج الصهيونية السياسية التي تسعى إلى خلخلة حقائق العقل والعلم، المادي، ونشر الإلحاد، ومزج الغوغائية بالريح .
وجوهر مذهبه المادية المتهالكة تاريخياً التي تزعم أن الكون وجود واحد ينحل ويتركب (في صور أخرى تلقائياً . وغاية) هذه الفلسفة إلغاء الثنائية بين خالق ومخلوق، ونفي خالق لهذا الكون .
وهو يراوغ الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في تكريس الإلحاد بحيلتين :
أولاهما : أنه يستعمل لفظ الجلالة بمعنى احتمالي، كما يستعمل سبينوزا اليهودي لفظ الجلالة في كتابه "رسالة في السياسة واللاهوت" بعد أن أفرغه من مضمونه الذي جاءت به الأديان السماوية. فالأخلاق الوضعية، والدين الوضعي - اللذان يصفهما بأنهما مفتوحان - لهما دافع عند برحسون يسميه المحبة ولا يدري أهي (أي المحبة) الله ذاته، أو صادرة منه ؟!.
وهما على نقيض الأخلاق العقلية السماوية، والدين السماوي اللذين وصفهما بالانغلاق .
وأخراهما : أن فلسفة الحدس والديمومة مغلفة بالميتافيزيقيا والمجازات بحيث تأتي فلسفة المادة الإلحادية دساً وتسويلاً!!.
إن برجسون يصطنع مضغه الفلسفي من ثنائية الحركة والسكون في المحسوس من هذا الكون .
فالسكون ظرفه المكان، والحركة ظرفها الزمان .
قال أبو عبدالرحمن : وهذا الفصل بهلواني، بل المكان والزمان ظرفان متلازمان، فالمكان الحيز، والزمان هو المقياس الآني للحركة أو السكون في الحيز .
ويزعم برجسون أن معرفة العقل دونية، لأنها تفكير في الأشياء السكونية المتجاورة في المكان. ولا يدرك العقل المتغيرات المتعاقبة التي تحدس في الزمان. إذن معرفة العقل تحليل وتصنيف، وهو يجعل للأشياء حيزاً مكانياً، ولهذا فالصورة المثلى للتفكير العقلي إنما هي الهندسة .
والمعرفة العليا عنده معرفة الحدس الذي هو خبرة فعلية بالتغير (أي الحركة) .
وهذا التغير الذي لا يدركه العقل ويدركه الحس تغير في الزمان لا ينقطع، ولهذا وصفه بالديمومة.
وخبرة الحدس به إدراك للطابع الكيفي للوعي الداخلي وتياره . فإدراك هذا الطابع هو الحدس .
ولا تجد في تعريفه لما يدركه الحدس برهاناً، بل تجد الدعوى تلو الدعوى . ولا تجد في تعريفه مفهوماً لغوياً واضحاً، بل تجد المجاز تلو المجاز .
والفلسفة لا تقوم على المجازات، بل لابد من لغة عرفية عامة مفهومة، أو اصطلاح خاص محدد بلغة مفهومة .
وإنما الواضح بعد كل المراوغات سوق القارئ إلى الفلسفة المادية .
والمحصلَّة أن الطابع الذي يدركه الحدس تغيُّر غير قارٍّ (ديمومة) نشهدها في النفس ـ الوجدان - الوعي- الذاكرة) لتشهد لنا أن الطبيعة قوة تتبدد في صور من التركيب (أي المتجلية للعقل في المكان) . وهذه الصورة تختزن الطاقة، وتحتفظ بقوة نموها (39) وأمدية تكيُّفها. (40) ثم تعود إلى صورة أخرى في تركيب مشابه .
فقوانين المادة هي التي تحوِّل الكون إلى صور وأشكال، ويضاد قانون المادة دفعة الحياة التي يحافظ بها الجزئي من الكون على ما هو عليه بمقدار أمد اختزانه للطاقة ومحافظته على نموها .
ومن خبث هذا اليهودي أنه أعفى نفسه من مهمة التعبير بالعرف السائد، أو الاصطلاح المحدد، لأنه لا يريد حقيقة ، وإنما يريد التعويم .
وقد تُرجم قليل من كتب هذا الفيلسوف مثل "منبعا الأخلاق والدين"، و "الفكر والمتحرك".
وامتلأت المكتبة الفلسفية العربية بعرض أفكاره في كتب الدراسات الفلسفية، ومعاجم الفلسفة والفلاسفة، وكتب المصطلحات .
والعرض إما من عربي غير متدين، أو من متدين غبي لا يربط الفلسفة بجذرها الديني أو الإلحادي ، ويفصل الفلسفة عن تاريخ الفيلسوف، ويحمل الأمر على التفلسف الصادق فلا يتنبه للمغالطات، والمراوغات، وإفراغ الألفاظ من مضامينها.
وبعض العرض فهم سطحي يكتنفه الغموض والاختصار المخل . خاصة إذا كان الكتاب عالة على غيره ككتاب "موسوعة أعلام الفلسفة" للرئيس شارل حلو، فهو (إضافة إلى كل تلك العيوب) (41) سطو على "الموسوعة الفلسفية الميسرة"، وعلى "موسوعة الفلسفة" للدكتور عبدالرحمن بدوي .
وقد داهن برجسون النصاري إذ أعلن في فقرة من وصيته التي كتبها في 8 فبراير سنة 1937 م : أنه كان ستحول إلى الكاثوليكية لولا أنه شعر بمقدم موجة عارمة من معاداة السامية، فأداه ذلك إلى أن يقف إلى جانب يني دينه اليهود . وحتى لا يساء فهم فعله إن تحول إلى الكاثوليكية .
قال أبو عبدالرحمن : إن النخبة الممتازة من مفكري العالم - لا مفكري العروبة فحسب - لعبة بين المضغ الدارويني والدركايمي والماركسي والفرويدي والبينوزي والبرجسوني والسارتري والكافكي .
وهذا المضغ في شد وجذب، وإبرام ونقض، لأن أقطاب الصهيونية السياسية يعون ما يفعلون لتضليل الجوييم . يشهد بذلك شذرات التلمود، ومسار التاريه للأمة الغضبية، والبروتوكولات .
ومن اعتبر كل ذلك خرافة فعلى الله العوض .
ثم يأتي هذا الطرح المتسلح بمغالطات العلم - اكتشافاً ةاختراعاً - فيتلقاه الفلاسفة من غير دائرة الصهيونية السياسية ببناء فلسفي صادق لا يقدِّر حقيقة التضليل . ويتلقاه الحاوون على أنه تفلسف صادق .
والإلحاد لم يكن قط نتيجة علم مادي، ولا نتيجة تفكير عقلي صادق التحري،وإنما الإلحاد وليد حريتين إراديتين، وليس وليد إيجابية فكرية :
الأولى : حرية شبهات الفكر، وشحذه على صنع المغالطة، وهذا دور الأمة الغضبية في ميدان الفلسفة .
والثانية : حرية شهوات النفس التي هي شهوات الفكر في التفلسف، وهذا دور الأمة الغضبية في الفلسفة والفنون الجمالية والقانون والإعلام والأخلاق وتفسير الأديان .
ويأتي الحاوون وصادقوا التفلسف، فربما بدت لهم الشهوات والشبهات حقائق، وربما عجزوا عن النهوض من بؤرة الشهوة، وربما عجزوا أيضاً عن التحرر من نير الشيهة لقوة الإعلام في عملقة قزم وتقزيم عملاق، ولسياط الإرهاب الإعلامي بألفاظ مثل الرجعية والتخلف، وما أشبه ذلك مما يئد الجسارة على قول الحق واعتقاده.

جنــــون 07-02-2011 10:12 PM

والتدين نفسه مما تصون عنه الفلسفة الحديثة مفكريها .
ومن بركات المضغ البرجسوني هذه الفكرة الإلحادية الرائعة من كتاب "التطور الخالق" : "الذكاء تكوَّن بتقدم متواصل على طوال خط يتصاعد خلال الحيوانات الفقرية إلى الإنسان . وإن ملكة الفهم وهي ملحقة بملكة العقل هي تكيفُ تزايد في الدقة والتركيب والمرونة لشعور الكائنات الحية مع ظروف الوجود المهيأة لها .
ومن هنا فإن الذكاء (العقل) وظيفته هي غمس الجسم في الوسط الذي يعيش فيه، وامتثال العلاقات الخارجية بين الأشياء بعضها وبعض، والتفكير في المادة" .
قال أبو عبدالرحمن : فهو يستعير من أخيه دارون فكرة تطور الإنسان من قرد . وهي الفكرة المكذبة لخالق الإنسان والقرد الذي أخبر أنه خلق آدم عليه السلام من تراب، وأنه أبو البشر.(42) لا بشر قبله، وأنه نبي كريم أهبط إلى الأرض في كمال الخلق بفتح الخاء، والخلق بضمها، والدين، والمعرفة، والتربية.
ويلزم من هذا أن الفرد في الجاهلية أذكى وأعقل وأعرف من صناع الأهرام لأن الجاهلي جاء في سلسلة التطور .
وأن الهمجي من قوم عاد أذكى وأعقل وأعرف من صناع الأهرام، لأن الجاهلي جاء في سلسلة التطور .
وأن الهجمي من قوم عاد أذكى وأعقل وأعرف من نوح عليه السلام ومن آمن معه، لأن العادي أيضاً جاء في سلسلة التطور !!.
والدين عند برجسون استاتيكي، وديناميكي.
فالأديان السماوية استاتيكية ناشئة من الأسطورة، والخرافات ، والامتثالات الخيالية. والبقاء بعد الموت ترياق يضعه الاعتقاد الديني .
أما الدين الوضعي (الديناميكي) - وهو الدين الحق عند برجسون- فهو التصوف النصراني . لا التصوف اليوناني، لأنه عقلي !.
وليس هو حب الإنسان لله، بل هو حب الله للناس .
فجعل الرب عابداً، والمربوب معبوداً !!.
ويلي ذلك إلحاد وسفسطة بأسلوب مجازي، فمذهبه أن عقلنا غير قادر على إدراك الطبيعة الحقيقية للحياة، والمعنى العميق لحركة التطور .
وأنِّي له أن يدرك الحياة، وما هو إلا جزء منبثق عن الحياة، وخلقته الحياه في ظروف معينة ليعمل في ظروف معينة؟.
لو كان ذلك في مقدوره لكان معناه أن الجزء يساوي الكل، والمعلول يمكن أن يمتص علته، ولجاز أن يقال : إن المحارة ترسم شكل الموجة التي حملتها إلى الشاطئ .
والواقع أننا نشعر بأن كل مقولاتنا العقلية لا تنطبق على الحياة : من وحدة وكثرة، وعليِّة آلية، وغائبة ذكية . وعبثاً نحاول أن نولج ما هو حي في هذا الإطار أو ذاك، فإن كل الإطارات تنكسر، لأنها ضيقة جداً، قاسية جداً .
خصوصاً بالنسبة إلى ما نريد إدخاله فيها .
قال أبو عبدالرحمن : لست والله أعلم في أي عقل وجد برجسون أن العارف يساوي المعروف حتى يلزم من معرفة الجزئي للكلي أن تالجزء يساوي الكل ؟!.
ولست أعلم في أي عقل وجد أن الموجود المعلول يمتص علته إذا علم علة وجوده؟!.
ولا أحد يدعي أن العقل يعلم كل حقائق الوجود، وإنما يعلم ما غاب عنه من خلال ما حضر عنده من مدركات الحس، فيكون علمه علمَ أحكامٍ كلية من خلال أفكاره الفطرية التي لا يخطو العلم دونها، ومعرفةَ وجودٍ لبعض الأشياء، وعلمَ وصف (لا تكييف) من خلال أحكامه الفطرية الخالصة . ومن خلال آثاره الموجود المشاهدة . وهو علم كيفية وكمية لما يخضع لإعادة إحضار المعرفة بالحس المكرر (التجربة) .
وليس في سياق برجسون ما يقتضي تمثيله الفضولي بالمحارة وشكل الموجة، ولا دلالة ألبتة في هذا المثال على نفي معرفة العقل لما هو جزء منه، وهو الطبيعة .
وبرجسون يتحدث باسم العلم افتراء، وذلك عند نفيه السكون، والتجزؤ في المكان، ورد البدهيات التي تميز الموجودات من وحدة وكثرة، ورد البدهيات في وصف المعلوم من الكون وتفسيره بالعلية والغائية .
وحجته المادية الإلحادية أن الكون في حركة دائبة، وتغير، وصيرورة .
ولازم فلسفة برجسون حينئذ - وهذا ما صرح ببعضه كثيراً - أن العقل لا يحدد مفهوماً، وأن المكان لا يمسك جزءاً ولا سكوناً، لأن ما نحسبه سكوناً وجزءاً وتحيزاً في توالي المتغيرات مدفوع إلى صيرورة جديدة . وهو يدفع نفسه بنفسه .
قال أبو عبدالرحمن : ومع أننا لم نحصل على برهان من برجسون، وإنما حصلنا على الدعوى والمجاز:(43) فليكن البرهان من جانبي تطوعاً، وهو أن دعوى المؤمنين بالله هي الدعوى الموافقة للعلم، وموجزها أن الإنسان العارف غير محيطة معرفته بالكون، وأن ما أذن الله له بمعرفته على كثرته بعقولهم ووسائلهم الحسية معرفة كمية وكيفية مشاهدة، أو معرفة متعاقبة الكيفية في المشاهدة لا يحصيها العد كماً، ولا الوصف كيفاً . وهذه المعرفة لا تخلو من أحد أمرين :
أحدهما : مفعول مشاهد يحصره المكان، ويتجزأ فيه .
وتلك معرفة حقيقية . وعلى فرض وجود أي ميتافيزيقيا علمية تدعي أن المتجزئ المتحيز في المكان في حركة وتغير وترقب لصيرورة : فلا ريب أن معرفته على ما هو عليه من سكون مشهود، وتغير غير ملحوظ معرفةُ حقيقية مقيدة بحالتها ووصفها .
وثانيهما : فعل في المفعول كالتخلق والنبات، وتلف خلية وبناء خلية . إلخ .
فدعوى هذا العقل تقبل ببرهان علمي، وهي لا تنفي المعرفة بالمفعول على ما هو عليه .
واستعاض برجسون بالمجاز عن البرهان في بهرجة دعواه، ولهذا قال الدكتور عبدالرحمن بدوي بعد السياق المذكور آنفاً "ويستمر برجسون في بيان تطور الحياة مستخدماً صوراً وتشبيهات شعرية، مما باعد بينه وبين اللغة العلمية والوثيقة التي استعملها البيولوجيون، وهو أمر جعله هدفاً سهلاً لسهام خصومه" .
قال أبو عبدالرحمن : لا يهم برجسون سهام خصومه، لأنه في مجال مكابرة الحقائق، ولأن أهل الخصوصية العقلية قلة في المجتمعات .
وإنما يهمه كثرة من يصطاده من أنصاف العقلاء .
والأجهزة الصهيونية السياسية التي تملك التلميع بالمال والإعلام قادرة على جعل الفكر العفن للملمَّع - بصيغة المفعول - مظهر كمال فكري يتربى عليه أنصاف العقلاء، فيتنازلون عن النصف الآخر تهيباً من معارضة فكر حضاري !.
ويشفع برجسون سياقه بأضخم دعوى طفولية، وهي أن الإنسان يخلق بعضه، وهو متكون من مخلوقات الطبيعة على مدى سنة التطور !.
يقول الدكتور عبدالرحمن بدوي في سياقه لمذهب التطور لدى برجسون :
والغريزة التامة ملكة استخدام وبناء آلات عضوية، والعقل التام هو ملكة صنع واستعمال آلات غير عضوية .
ويقصد بكلمة "عضوية" هنا أنها تصلح نفسها بنفسها، بينما غير العضوية لابد أن يصلحها فاعل آخر غيرها .
ويقول برجسون في التطور الخالق : بالنسبة إلى الوجود الواعي أن يوجد هو أن يتغير، وأن يتغير هو أن ينضج، وأن ينضج هو أن يخلق نفسه باستمرار .
إن الكون يعاني المدة، المدة معناها الاختراع وخلق الأشكال، والصنع المستمر لما هو جديد على وجه الإطلاق .
والمدة تقدم مستمر من الماضي الذي يعرض المستقبل وينتفخ وهو يتقدم .
وأينما حي شيء : فثم يوجد . في مكان ما سُجِّل : يُسجَّل فيه الزمان .
إن استمرار التغير، والاحتفاظ بالماضي في الحاضر، والمدة الحقة .. هذه الصفات مشتركة بين الشعور وبين الكائن الحي .
إن الحياة تلوح كتيار يمضي من جرثومة إلى أخرى عن طريق كائن عضوي متطور .
قال أبو عبدالرحمن : أسلفت نوع المعرفتين، وهما معرفتنا لسكون الشيء حينما لا نلاحظ بأي وسيلة علمية حركته وتغيره، فهي علم حقيقي بما هو عليه في صيرورته، وهي علم بمفعول . ومعرفتنا للشيء حال تغيرة وسيره إلى صيرورة أخرى، وهي معرفة بالفعل خلال المفعول، ومعرفة بالفعل حال حركته .
وكل معرفة لا تنفي حقيقة المعرفة الأخرى .
والعلم بالتغير والحركة لا يثبت في كل شئ، ولا يُنفي عن كل شئ، بل الإثبات والنفي رهن البرهان العلمي . ولكن برجسون ينفي قدرة وإرادة وعناية المقدِّر للحركة والسكون سبحانه، فيجعل الكون في عملية خلق دائبة من قبل نفسه . قال الدكتور عبدالرحمن بدوي : ومن الأفكار الأكثر أصالة في فلسفة الحياة عند برجسون فكرة السورة الحيوية، ومفادها أن الحياة منذ نشأتها هي استمرار لسورة واحدة توزعت بين خطوط مختلفة للتطور .
لقد نما شيء، وتطور بسلسلة من الإضافات التي كانت ألواناً من الخلق .
وهذا النمو نفسه هو الذي أدى إلى انفصال الميول التي لم تكن تقدر على النمو بعد نقطة معلومة دون أن تصير غير متوافقة فيما بينها. لا شيء يمنع من تخيل فرد وحيد فيه.(44) بسلسلة من التحولات المتوزعة على آلاف القرون يتم تطور الحياة .
أو إذا انعدم وجود فرد وحيد : يمكن أن نفترض كثرة من الأفراد يتوالون في سلسلة على خط واحد . في كلتا الحالتين لن يكون للتطور غير بعُد واحد .
لكن التطور تم في الواقع بواسطة ملايين من الأفراد على خطوط مختلفة كل منها أفضى إلى تقاطع.(45) منه تفرعت طرق جديدة، وهكذا باستمرار إلى غير نهاية . وعبثاً حدثت تقاطعات، فإن حركة الأجزاء استمرت بفضل السَّرة الأولى للكل .
فشيء من الكل يجب إذن أن يبقى في الأجزاء .
وهذا العنصر المشترك يمكن أن يكون محسوساً للعيون على نحو معين . ربما بحضور أعضاء واحدة في أجهزة مختلفة كل الاختلاف .
قال أبو عبدالرحمن : صدق الله وكذي برجسون، فهناك حقيقتان :
أولاهما : أن الخلق منذ آدم ما زال ينقص . بهذا جاءت الأديان السماوية خلافاً لدارون وبرجسون .
وأما التطور سلوكياً وعقلياً وعلمياً فالتاريخ في صعود ونزول، ونزول وصعود . حيث يكون الاتِّباعُ للأنبياء عليهم السلام، والمصلحين، وحقائق العلم والعقل . أو عدمه .
وثانيهما : أن التطور في مراحل عمر الفرد، ولم يأت تطور الفرد في مراحل أعمار الأجيال .
وقال الدكتور عبدالرحمن بدوي عن نظرية المعرفة عند برجسون التي هي إما منطقية وإما حدسية : لكن هذا الوجدان ليس وليد الغريزة، بل هو وليد التفكير العقلي المتواصل، والتأمل الفكري المستمر، وحشد الوقائع العلمية السليمة، ومقارنتها بعضها ببعض .
والعقل هو الذي يحقق الوجدان ويجعله محدداً، وينميه في قول منطقي .
قال أبو عبدالرحمن : إذن المعرفة الفطرية ذات مصدرين : معرفة غريزة صفتها عنده أنها تصنع نفسها بنفسها، ومعرفتها معرفة بالمادة، وهي معرفة شيء .
ومعرفة عقل، وهي معرفة علاقة بين شيئين أو أشياء، فمعرفة العقل معرفة بشكل المعرفة ؟!.
وبرجسون هاهنا ادعى على الغريزة ما ليس فيها، واعى أن سلوكها معرفة . والسلوك غير المعرفة .
وإنما الغريزة طبيعية مخلوقة في الشيء صفتها الميول والنزوع والاستجابة .
ولا يوصف نزوعها بأنه معرفة، وإنما هي من علم الخالق وقدرته .
ومن الغرائز ما هو ذو نفع للشيء، وقد جعل الله استجابته ونزوعه حتمياً مدة بقاء ذلك الشيء، للاحتفاظ ببقائه.
ومنها ما هو ذو نفع وضر، فتتضارب وتتعارض، كنوازع الأنانية والإيثار، والغضب والرضى . إلخ .
والسلوك الحر ينتج عن الاستجابة لإحدى هذه النوازع، ولم يجعل الله كل نازع حتمياً، بل جعله الله لحرية الفرد تطويع النازع بالتعويض والتربية والاحتكام للعقل.
وثنائية المعرفة بين الغريزة والعقل من كيس برجسون، وإنما الثنائية بين الوجود والمعرفة . وتحقق وجود الشيء لا يُشترط بتحقق معرفته. إلا أن المعرفة لا تكون معرفة إلا بحكم العقل، فما يحصل بالحس الباطن وجدان، وما يحصل بالحس الظاهر وجدان، وما روى بالخبر وجدان سمعي، ولا يكون معرفة إلا إذا أثبت العقل صورته أو حكمه .
إذن المعرفة عقلية فحسب، وتكون عقلية بالحس، وعقلية بالشرع، وعقلية بالإلهام والحدس، لأن العقل صححها بعد وجدانها .
وإسناد الصناعة إلى العقل لا معنى له إلا على سبيل المجاز، بمعنى أن الصناعة تتم بعقل سابق، وعقل مصاحب، وعقل متابع . والمجاز لا تبني عليه الفلسفة . وليس بصحيح أن معرفة العقل معرفة علاقات فحسب، بل هي معرفة أشياء بتصوراتها ومنافعها وأضرارها وبقية أحكامها، ومعرفة العلاقات والفوارق بين الأشياء كالقبل والبعد والطول والقصر والشبهية والضدية . إلخ .
والمعرفتان اللتان مضتا دونيتان عند برجسون، وإنما المعرفة العليا ما صدر عن ملكة الوجدان (العيان الميتافيزيقي).
قال أبو عبدالرحمن : ليسمِّ برجسون الوجدان بما شاء من خلق وديمومة، وليسم معرفته بالحدس أو العيان، فالمحقق أنه وجدان حتى تصدر صورته أو حكمه عن العقل . ومع عزوب العقل لا معرفة .
وقال برجسون في كتابه عن "الفكر والمتحرك" ومهما تكن بساطة العيان . هذا الوجدان : فإن فيه من الخصوبة والثراء ما يجعله حافلاً بالمعاني والنتائج بحيث لا يستكشفها إلا بعد جهد طويل يبذله في المشاهدات والتجارب، وإجراء العمليات المنطقية ، وبهذا الجهد يُخضع هذه الفكرة للامتحان الدقيق الذي بدونه لن تحظى فلسفته بأي اعتبار .
والعيان هو وحده القادر على فهم الحياة، وإدراك ما هو حي ومتغير ومتحرك في المدة" .
قال أبو عبدالرحمن : هذا تلاعب باللغة الموصلة، وإفراغ للفظ من مضمونه اللغوي، والعرفي العام، والاصطلاحي الخاص، وشحن له بدعاوى جديدة ولا يسلك هذا إلا متلاعب بالعقول .
والوجدان شيء، وعيانه شيء آخر. والوجدان هو مصدر المعرفة، وليس هو هي.
وما ذكره عن الوجدان هاهنا إنما هو كلام عن مصدر المعرفة، وهو كلام عن نوع من الوجدان خصيب . وقد يكون الوجدان أمنيات وأوهاماً وإرثاً حسياً خاطئاً.
والزمان عند برجسون آنية (أي آنُ غير قادر- متحرك لا ساكن . لا مدة) . يقول في مذكراته التي كتبها من أجل وليم جيمس عام 1908 م : فلشدة دهشتي أدركت أن الزمان العلمي لا يتصف بالمدة، وأنه ما كان ليتعين شيء في معرفتنا العلمية بالأشياء لو أن مجموع الواقع قد نشر في لحظة، وأن العلم الوضعي يقوم جوهرياً في استبعاد المدة .
ولهذا فمفتاح فلسفته عيان المدة حركة وتغيراً وصيرورة .وحقائق هذا المفتاح :
1. أن الحركة غير قابلة للقسمة بخلاف مكانها ومسارها، وأنها كيفية لا كمية .
وإنما ضل زينون بتوحيده هوية المكان والحركة .
2. التغير لا يجري على موضوع ثابت، بل التغير هو المتغير. فلا توجد متحركات تتحرك .
بل يوجد حركات تتحرك !!.
قال أبو عبدالرحمن : سلف الحديث عن نوعي المعرفة للمفعول غير ملحوظة حركته، وللفعل حال ملاحظة الحركة والتغير . بيد أن برجسون يختفي وراء الحسبانية والسفسطة . وهي سفسطة شرسة حيلتها إسقاط هوية الأشياء ولا هوية إلا باستقرار ينظِّم الأشياء حسب الماضي والحاضر والمستقبل .
ولكن التوالي (المعية) بين هذه الأزمان يجعل الأشياء في حركة وتغير وصيرورة تذوب معها الأزمان كذوبان نغمات الجملة الموسيقية في بعضها .
ولهذا وصف المدة غير القارة بأنها خلاقة .
وتتجلى هذه السفسطة في إنكار مبدأ العلية، لأن شرط اعتقاد هذا المبدأ وجود العلة والمعلول في هويتين منفصلتين .
بيد أن الزمن خلق واختراع دائب لا تنفصل معه هوية .
ومن السفسطة رفض البدهيات دون تحديد بديل مفهوم، فحينما ضخَّم الدعوى بأن الأحوال العقلية والنفسية لا يتلو بعضها بعضاً كالتتابع بين العلة والمعلول، وأنه لا يعيِّن بعضها بعضاً : رفض تميز الأنابهويات متعينة من وقائع الشعور . من إحساسات، وعواطف، وأفكار .
وها هنا لا يحدد بديلاً .
وليس العجب من مثل المستوعب الرائع الدكتور عبدالرحمن بدوي الذي يستعرض مثل هذه الأفكار من مصادرها الأصلية بلغة مؤلفيها، ويجريها كلها على صدق التفلسف !!.
ومن السفسطة الشرسة جعل النوازع المريضة التي تخل بالسلوك صيرورة لا مفر منها . فالإنسان ليس بين عاطفتين متضادتين يختار إحداهما برياضة وتربية . وإنما هو في حركة دائبة وصيرورة، فالإنسان يحيا بالعاطفة الأولى ثم يتغير حين تطرأ العاطفة الثانية .
ومن سفسطاته دعوى أن الامتداد أسيق من المكان .
وكذلك بقاء الروح بعد الجسد، فهو عنده احتمال في احتمال !!.
ورد الثوابت - لا مجرد الشك - ضرورة فكرية في الفلسفة البرجسونية .. يقول "أمام الأفكار المقر بها دائماً، والمقالات التي تبدو بينة، والتوكيدات التي كانت تدعى حتى ذلك الحين علمية : فإن هذا العيان الجديد يهمس في أذن الفيلسوف بكلمة : مستحيل" .
قال ابو عبدالرحمن : ولو كان الأمر شكاً توسلياً بنَّاء لكان الشك مرة في العمر في كل توكيد جديد حتى يقوم البرهان على أنه من الثوابت .
وعن تقسيم برجسون للذاكرة يقول الدكتور عبدالرحمن بدوي في موسوعت: "تناول برجسون مسألة الذاكرة في كتابه المادة والذاكرة سنة 1869 م، فميز بين نوعين من الذاكرة : الذاكرة العادة، والذاكرة المحضة .
الأولى يمكن أن تقيم في الجسم، وهي مجرد\ تركيب لحركات . أما الذاكرة المحضة فهي وظيفة للروح (أو العقل)، وهي التي تمنحنا رؤية ارتدادية لماضينا.
ويضرب مثلاً على الأولى حفظ قصيدة ، وعلى الثانية استحضار الذهن لدرس سمعه .
فنحن في الحالة الأولى بإزاء عادة، لأن الحفظ يقوم في تكرار مجهود واحد هو ترديد القصيدة مرة تلو مرة .
أما في حالة استحضار درس سمعناه فإن ذاكرة قد سجلت مرة واحدة، وكأنه حادث وقع لي .
إنه مثل حادث في حياتي، وماهيته تقوم في أنه يحمل تاريخاً، وبالتالي لا يمكن أن يتكرر .
والشعور يكشف لنا عن اختلاف في الطبيعة بين هذين النوعين من الذاكرة .
ذلك أن ذكرى درس سمعته هو امتثال (وامتثال فحسب) أستطيع أن أطيله، أو أن أقصره، وأستطيع أن أدركه بنظرة واحدة وكأنه لوحة .
أما القصيدة المحفوظة فإن تذكرها يقتضي زمناً محدداً هو زمن إنشادها بيتاً بيتاً، إنه ليس امتثالاً، بل هو فعل.
والقصيدة بمجرد حفظها لا تحمل أية علامة تدل على منشئها وموضعها من الماضي . إنما صارت جزءاً من حاضري، وعادة من عاداتي مثل المشي.
وبالجملة فإن الذاكرة الأولى تسجل على هيئة صور ذكريات كل أحداث حياتنا اليومية كلما جرت، ولا تغفل أيه تفاصيل، وتترك لكل واقعة مكانتها وتاريخها دون أيه نية للمنفعة أو التطبيق العملي، فإنها تختزن الماضي بتأثير ضرورة طبيعية .
وبفضلها يشير التعرف الذكي (أو بالأحرى العقلي) على إدراك قمنا به من قبل، وإليها نلجأ في مرة نصعِّد منحدر حياتنا الماضية بحثاً عن صورة من الصور .
لكن لكل إدراك يستطيل إلى فعل ناشئ، وبقدر ما تثبت الصور بعد إدراكها، وتصنف في هذه الذاكرة : فإن الحركات التي تواصلها تعدل الجهاز العضوي، وتخلق في الجسم استعدادات جديدة للعقل .
وعلى هذا النحو تتكون تجربة من نوع خاص جديد يستقر في الجسم، وشلشلة من الميكانسمات المركبة، وردود فعل متزايدة العدد والأنواع ضد المهيجات الخارجية، مع(46) أجوبة حاضرة عن عدد متزايد باستمرار من استجوابات ممكنة. ونحن نشعر بهذه الميكانسمات حين نأخذ في العمل، وهذا الشعور بماض من المجهودات المختزن في الحاضر هو أيضاً ذاكرة . لكنها ذاكرة مختلفة عن الأولى كل الاختلاف، متوجهة دائماً إلى الفعل، وقاعدة في الحاضر، ولا تنظر إلى المستقبل .
وهي (أي الذاكرة الثانية . أي المحضة) التي تمثل منها المجهود المكدس . وهي لا تلغي هذه المجهودات الماضية في الصور (الذكريات) التي تستعيدها، بل (47) النظام الدقيق والطابع المنظم اللذين بهما تتم الحركات الحالية .

جنــــون 07-02-2011 10:12 PM

والحق أنها لا تمثل لنا ماضياً، بل تلعب دوره (48) . وإذا كانت لا تزال تستحق اسم ذاكرة فلبس ذلك لأنها تحتفظ بصور قديمة، بل لأنها تطيل أثرها المفيد حتى اللحظة الحاضرة" .
قال أبو عبدالرحمن : دعوى ذاكرتين ذات مكانين من ابن آدم دعوى ليست في خبرة جيل مأثورة، ولا من نتائج علم راهن .
ولكنك تقول مجازاً، أو تخيلاً، أو مبالغة : فلان يعيش بذاكرتين، أو ثلاث، أو عشر .
وما عدَّده برجسون ليس في حقيقته تقسيماً للذاكرة، وإنما هو ذكر لبعض أنواع عمل الذاكرة، وأنواع ما يحصل تذكُّره .
وما ذكره عن حفظ القصيدة وصف لعملية الحفظ وليس تمييزاً لذاكرة أخرى . والقصيدة كالدرس تحمل مضامين حياتية لأنها ترتبط بمكان وزمان وفعل، وربما ارتبطت بمشاركة زملاء .
والحفظ مع الفهم والوعي يُحدث أيضاً ما يحدثه وعينا وفهمنا لدرس سمعناه، فنمتثلها منفعة وسلوكاً .
وإذا فصدت استرجاع معانيها كان حكمها حكم الدرس فحسب . وهكذا قل عن قصدك من استرجاع الدرس.
وكل فرق زعمه بين الذاكرتين المزعومتين فهو لغو كلامي لا يحقق وجوداً عيانياً.
والحدس عند برجسون معرفة عليا مقدسة تدرك المطلق، وتفوق المعرفة المنطقية العقلية !.
قال أبو عبدعبد الرحمن : لا مجال لهذه الثنائية بين متفوق - بصيغة اسم الفاعل - ومتفوق عليه .
بل الثنائية بين معرفة مباشرة بلا وسائط تكون وعياً روحياً، أو بدهية عقلية . وبين معرفة عقلية بوسائط .
وكون معرفة أسهلَ من معرفة : لا يعني أن الأسهل أصح وأصوب ، وقد بينت مراراً أن 2+2= 4 في درجة 479×395= 189205 من ناحية الصحة (49) وإن كانت النتيجة الأولى أسهل عملية ضربية !.
والحدس في معناه اللغوي وصول إلى الحقيقة مباشرة إما بوعي، وإما ببداهة .
والوصول مرفوض إلى الحقيقة مصادفة بلا وسائط صورته الحدس وليس حدساً، لأنه محض المصادفة، وليس فيه رؤية قلبية أو عقلية .
ووصول الحادس إلى الحقيقة قد لا يستطيع الحادس تفسيره، ويكون دور المتلقى وتحليله النفسي تحقيق مصدر هذا الحدس : أهو وعي (رؤية قلبية، أو روحية) ، أم بداهة (رؤية عقلية) ، أم مذخور ذاكرة، أم مصادفة !!.
ويظل عمل الحادس حدساً أو في صورة الحدس .
ولا مجال البتة لزعم برجسون أن الحدس أعلى من المعرفة العقلية، لأن المعرفة الحدسية لا قيمة لها حتى يشهد العقل أو الواقع الحسي بوقوعها، فيحكم العقل حينئذ بأنها معرفة صحيحة جاءت عن طريق الحدس .
وإدراك الحدس للمطلق يقتضي وقفة عند المطلق ما هو ؟
فهناك في عرف الفلاسفة المطلق المحض أو البسيط ويعرفونه بأنه "ما هو بذاته" وهو المستقبل بذاته، والمراد فاطر السماوات والأرض ربنا سبحانه وتعالى .
والله لا يسمى إلا بما سمى به نفسه، ومعنى كل تسمية غير شرعية يؤخذ به أو برد بمقتضى الشرع والعقل .
ومعرفة المطلق بهذا المعنى تكون حدساً، والحدس حينئذ بمعنى الوعي . وهو وعيه بفقره، ووعيه بكمال خالقه، والفزع إليه بداهة وضرورة .
ولا يبدرك الحدس معرفة تفصيلية للمطلق بهذا المعنى أن يكون غير مشروط . أي بشرط الإطلاق . وهذا لا يحقق وجوداً، بل هو عدم محض .
وهذا يبينه متكلمو أهل السنة والجماعة في نفي وجود ذات بلا صفات .
ومن المطلق ما هو مطلق بذاته، أو مطلق بالنسبة إلى غيره، أو مطلق في جنسه.
وأصحاب المذهب الحدسي لا يريدون هذه المعاني . وقد يريدون أعلى درجات المطلق لدى هيجل، وهو العقل الذي يتطور وينضج على مدى تاريخ الإنسان .
قال أبو عبدالرحمن : والواقع أن الذي حصل بالتطور اتساع نشاط العقل باتساع معارفه، وكثرة الحقائق أمامه .
وأما مسألة الخلق الفني فقد عبرت عنها بمصطلح جديد هو المضاهاة الفنية المبدعة .
واخترت مواضعتي الجديدة انطلاقاً من حس ديني، (50) وغيره على الحقائق اللغوية .
فأما الحس الديني فقد مر علىَّ تحليل أظنه لأبي حامد الغزالي يجيز إطلاق الخلق شرعاً على إبداع البشر، وعلى افترائهم . وهذا على سبيل المجاز .
ولنا مندوحة عن استعمال الخلق لغير الله بما هو أدل حقيقة لا مجازاً .
وأما الغيرة على حقائق اللغة، فلأن حقيقة الخلق إيجاد من عدم، والمخلوق لا يوجد غيره من عدم، وإنما يصنع ويعمل ويخترع من مادة مخلوقة . وفي ميدان الفن فجميع عناصره الإبداعية من الطبيعة المخلوقة . بالمواهب والملكات المخلوقة .
وهي مضاهاة تتصف بالإبداع . وليس من شرط الإبداع الإيجاد من عدم بل إيجاد المعدوم البديع من عناصر مخلوقة .
لقد وصف برجسون الحدس الفني بأنه فورة خلاقة . ومن حقه أن يفخر بهذه الصفة، لأن الإنسان عنده صانع قبل أن يكون عارفاً، والحدس هو المعرفة بعد الصنع؟!.
وبيان ذلك أن العقل عند برجسون أداة فعل في ذاته، وهو يصنع أدوات تمكن من الفعل .
والغريزة عنده قوة فطرية لاستخدام أدوات الطبيعة سواء أكانت أعضاءه هو ، أم كانت مواداً أولية في بيئته .
والغريزة تكون حدساً إذا وعت ذاتها، وتنزهت عن الأغراض .
وفوق العقل ملكة الوجدان القادرة وحدها على فهم الحياة، وإدراك ما هو حي ومتغير ومتحرك في المدة .
ومع هذا التفريق والتمييز يجعل الوجدان محصلاً من العقل، لأنه وليد التفكير العقلي المتواصل، والتأمل الفكري المستمر، وحشد الوقائع العلمية السليمة . إلخ .
والوعي يحتوي خبرة الشخص الماضية بأكملها .
قال أبو عبدالرحمن : من ها هنا تتضح علاقة الحدس بالذاكرة .
وعندما يجعل برجسون العقل في مرتبة دون الحدس معرفة وإبداعاً يفتات على المعرفة العقلية بجعله معيار الحقيقة فيها المنفعة، ويجعله العقل أداة للإنسان للتحكم في البيئة فحسب .
ويحجٍّم العقل بأن معرفته نسبية، وأن اعتماده على الوصف والتصورات العامة لتساعد الإنسان في السلوك العملي . ويعملق الحدس بأنه يصل إلى المطلق، وأنه الوحيد الذي يدرك حقائق الشعور الباطني . ولهذا تشرح أميرة حلمي مطر فلسفة برجسون الحدسية بقولها "وحين يتصف الحدس بأنه نوع من التعاطف العقلي الذي نعرف به الشيء حتى نكشف ما هو فريد فيه، ولا يمكن وصفه أو التعبير عنه : تكون المعرفة التحليلية عكس ذلك، لأنها ترد الأشياء إلى عناصر مشتركة بينها وبين غيرها . وبذلك تكون أقرب إلى ترجمة الشيء برموز .
أما المعرفة الحدسية فليست كذلك، لأنها فعل مباشر بسيط يحفظ للأشياء وحدتها وفرديتها الأصلية" (51).
قال أبو عبدالرحمن : التفريق بين ما يعرف بالحدس وبين ما يعرف بالتحليل تفريق بين متماثلين، لأن ما يعرف عقلياً بالتحليل والوسائط قد يعرف حدسياً. أي برؤية مباشرة .
وإنما خَيَّل لبرجسون زمن تابعه أن معرفة المطلق حدسية : (52) أن المطلق ذاته لا يحتاج إلى تحليل، لأنه أعم العمومات عند الفلاسفة، ولهذا عبروا عن الوجود بأنه مطلق . والواقع أنه لا وجود إلا بهوية .
وحينما يَعرف العارفُ مطلقاً فإن كان المطلق (53) بمعنى رب الكائنات سبحانه فللحدس مجال في ذلك كما مر بيانه .
وإن كان المطلق معنى أعم فلا يكون العلم بذلك حدساً، بل هو تجريد ذهني .؟ أي أن الحادث لم يعرف شيئاً كان يجهله ، وإنما جرد معنى أعم من معارفه .
والمعرفة التحليلية التي تعيِّن شروطَ ما هو غير مطلق أعلى وأجل، لأنها زيادة علم .
ويتجلى الحدس معرفة ومضاهاة (خلقاً فنياً) في خصوص نظرة الفنان إلى الأشياء حيث يدرك ما هو فريد، وبحيث يلفت نظر الآخرين بما يبدعه من فن .
وقد أثنى عربرت ريد على برجسون بأنه نبه الإنسان المعاصر إلى الرؤية الفنية التي تخاطب حس الإنسان بلغة اللون والشكل والصوت ما دامت حياتنا الحسية حياة لا نتزود بها من العلم، أو العقل النظري !! .
وهذا نص فيه بحبحة لبرجسون عن الحدس الفني أنقله من كتاب "الشعر والتأمل" لهاملتون ترجمة محمد مصطفى بدوي عن كتاب برجسون"مصدر الأخلاق ومصدر الدين" . وقال "إن في استطاعة من يمارس فن الإنشاء الأدبي أن يتبين الفرق بين العمل حينما يُترك وشأنه، وبينه حين يتوقد بنار الانفعال الأصيل الفريد الذي يولد من توافق بين المؤلف وموضوعه . أي من الحدس .
ففي الحالة الأولى يكد الروح ويعمل ببرود ويجمع بين معان تجري في ألفاظ منذ زمن طويل . معان يقدمها إليه المجتمع في حالة جمود وصلابة .
أما في الحالة الثانية فيبدو أن المواد التي يقدمها العقل قد دخلت مقدماً في عملية صهر وامتزاج ، ثم تصلبت بعد ذلك وتجمدت من جديد، ثم أخذت شكل معان يأتي بها الروح ذاته .
وحينما تجد هذه المعاني ألفاظاً موجودة فعلاً تكفي للتعبير عنها فإن ذلك يعني صدفة (54) سعيدة لم يكن يحلم بها أحد .
فالواقع هو أنه لابد لنا من أن نعين الصدفة غالباً، وأن نلزم مدلول اللفظ أن يلائم الفكر أو المعنى .
وفي هذه الحالة يكون الجهد شاقاً، والنتيجة غير مؤكدة . إلا أن مثل هذه الحالات هي وحدها التي يحس فيها للروح أو يعتقد بأنه أخلاق .
ولا يبدأ الروح ينتقل في خطوة واحدة إلى شيء يبدو في نفس الوقت واحداً وفريداً.
شيء يسعى بعدئذ إلى الظهور بقدر المستطاع في حدود التصورات الكثيرة المشتركة التي تُقدَّم لنا سلفاً في شكل الألفاظ" (55) .
قال أبو عبدالرحمن : هذا ما استطعت إيجازه من فلسفة برجسون، وأكثر من هذا الإيجاز مخل، وفيه ميتافيزيفيات كثيرة، وهو ظلال فلسفة أعمق من الحدس الفني تتبنى حسبانية ذكية في الصد عن العقل والعلم للترويج للإلحاد.

جنــــون 07-02-2011 10:12 PM

الفصل الرابع : كروتشه وفلسفة الفن :
عند فلاسفة أهل الإسلام أن القول الفني يكون شعراً بعنصرين معاً :
أولاهما : الاستعمال الخاص للغة (المحاكاة) .
وثانيهما : الوزن .
والعنصر الأول هو السمة الخاصة، والعنصر الثاني سمة مكملة يتحقق بها التعريف للشعر لتميزه عن أنواع النثر الفني .
والعنصر الأول يميز القول الشعري عن الأقوال غير الفنية .
وتميز الشعر عن أنواع النثر الفني بالوزن مشروط بتميزه مسبقاً بما يميزه من خصائص في العنصر الأول (الاستعمال الخاص للغة) .
فقد يوجد الوزن ولا يكون المنظوم شعراً . هذا ما أكده الفارابي في كتاب الشعر، وجوامع الشعر، وابن سينا في الخطابة .
قال أبو عبدالرحمن : واستعمل قوم التعبير عن النثر الفني بتجوز، بالوزن . يقول ابن سينا عن الشعر "كلام مخيل مؤلف من أقوال ذوات إيقاعات متفقة متساوية متكررة على وزنها" .
وجعل الإيقاعات المتفقة فرقاً يميز الشعر عن النثر . وهو بلا ريب يعني النثر الفني .
قال أبو عبدالرحمن : فهل العنصران المذكوران هما الظاهرة الجمالية في الشعر؟!.
كلا . وإنما هما مميزان لجميل من جميل . مميزان للشعر - الذي هو موضوع للجمال - عن فنون أخرى، وهي مواضيع للجمال .
ويهم المنظر الأدبي من الجمال :
1. الإحساس بالجمال الطبيعي، واستنباط عناصر الحكم الجمالي من الذات والموضوع .
2. الجمال الفني إبداعاً، وإحساساً، وحكماً .
والأمر الأخير أجد تلخيصه من فلسفة كروتشه من فبل الدكتور عبدالرحمن بدوي الذي وضع بعض المعالم والصوى لفلسفة كروتشه الفنية، وأول معلم تقريره أن الفن "لا يقوم في مضمون معين، ولا في شكل محدد بالذات، فما يكوِّن الجمال في الأثر ليس معناه الأخلاقي أو الديني أو المتعة التي يجلبها للمشاهد .
كذلك لا يوجد شكل جميل - أو تماثل أو انسجام - بدون مضمون .
وإذن لا يقوم الجمال الفني في هذا المضمون أو ذاك، ولا في هذا الشكل أو ذاك، وإنما يقوم في الرابطة بين المضمون والشكل معاً .
قال أبو عبدالرحمن : ليكن موضوع هذا التنظير الفن الشعري، لأن حقل من الفن، ولأنه ألصق بالضمون والشكل . ومن ثم يحق لنا التساؤل : هل يعقل وجود فن شعري لا يقوم في مضمون معين وشكل محدد ؟!.
إذن الجمال الفني إحساس يوجد موضوعاً في المضمون والشكل، ولكل من العنصرين قيمة الجمالية .
والعلاقة بين العنصرين أيضاً موضوع ثالث للجمال الفني يؤخذ منه المثال الأرقى للجمال .
وكون الفن تعبيراً يقبل الالتزام لا يعني خلوه من جمال مجاني كأن يكون النظرُ إلى جمال شكلي بغض النظر عن علاقته بالمضمون الكلي الذي يريده الفنان .
وثاني معلم ذكره الدكتور عبدالرحمن بدوي وصفه للرابطة بين الشكل والمضمون بأنها "تقوم في العاطفة والخيال معاً . إنها تركيب قبلي للعيان الجمالي الحسي .
ولا يوجد موضوع فني خارج الوحدة العضوية بين الخيال والعاطفة .
والصورة الخيالية من العاطفة هي شكل خاوٍ، وكذلك العاطفة بدون صورة هي مادة عمياء" .
قال أبو عبدالرحمن : العلاقة بين الشكل والمضمون في العمل الفني الشعري أن يكون المضمون صادراً عن إرادة فكرية، أو جيشان عاطفي. وأن يكون في الشكل الأدائي منسبة للمضمون الفكري أو العاطفي غير مجرد الدلالة اللغوية . والخيال جزء من النشاط العقلي الذي أطلق التعبير عنه بالمضمون الفكري .
ثم تبقى القيم الجمالية في المضمون كقيمة الجدة، والابتكار، واللماحية، والقوة . وفي الشكل كالإيحاء، والترقيص.
والخيال والعاطفة مصدران للمضمون، وليس من الشرط اتفاقهما معاً في أنه لا توجد صورة جميلة بدون ألوان ولا خطوط، كما لا توجد صورة موسيقية بدون نغمات وتوافقات .
قال أبو عبدالرحمن : الأداة التعبيرية هي الشكل الذي يحمل قيماً جمالية . وقد بينت في مقدمة هذا الكتاب معنى وحدة الشكل والمضمون .
قال أبو عبدالرحمن : وبقيت نتف أحكام مرسلة من كتاب "علم الجمال بوصفه علم التعبير" لكروتشه .
قال الدكتور بدوي مستعرضاً مذهب كروتشه "الفن لا يستغني عن صناعة فنية (تكنيك) . أي أن ثمة صعوبات فيزيائية لابد للفنان أن يتغلب عليها وهو بسبيل التعبير عن العاطفة في عمله الفني .
والفن لا يتوقف على المنفعة أو اللذة أو الأخلاق أو الدين أو السياسة أو الفلسفة . وإنما هو مستقبل بذاته وإلا لم يكن فناً .
والشعر هو الدرجة الأولى في الفن . إنه اللغة الأم لكل الجنس البشري .
ولهذا يمكن أن يوجد الشعر دون أن يوجد النثر، لكن لا يمكن أن يوجد النثر دون أن يكون الشعر موجوداً".
قال أبو عبدالرحمن : التعبير الأدق أن الشعر لا يقوم بغير شكل فني . والشكل قد يكون صناعة، وقد يكون حساً تلقائياً .
وعندما يكون مضمون الفن منفعة أو لذة أو أخلاقاً أو ديناً أو سياسة أو فلسفة : فلا يتصور انفصال الفن عن هذه المصادر المضمونية، وإنما يكون الأداء تعبيراً فنياً إذا كان هو التعبير الأجمل عن المضمون بإيحاء أو تخييل .
والشعر هو الدرجة الأرقى في أجناس النص الفني لقيامه على عناصر جمالية خارجية، ولكن هذا لا يعني أسبقية وجود الشعر . بل إذا أردنا الدخول في الميتافيزيقيات فإن اللغة المباشرة هي الأسبق، والتعبير الفني يكون في الشعر والنثر، وهو في النثر أبسط، فالأبسط أقدم .
والحدس والرؤيا عند كروتشه تعبيران عن العمل الفني، وهو الصورة الذهنية التي يؤلفها الفنان .
ومن صفة المضاهاة دعوى التمازج بين الذات والموضوع، وبين الشكل والمضمون .
والتصور الذي يسبق تحقق المضاهاة يسمى رؤيا، ويسبق الرؤيا الاستغراق في التأمل، ويصفونه بأنه استغراق الذات في الموضوع .
ومن السموق الفني في المضاهاة ما ذكره الدكتور محمد ذكي العشماوي بقوله "فالموقف الذي يقفه أديب هذا العصر من الأحداث السياسية أو الاجتماعية هو موقف الفنان أولاً وقبل كل شيء . موقف الفنان الذي يرى وراء كل حدث وكل قضية سياسية أو اجتماعية دلالة إنسانية ما . بحيث تتحول الحادثة أو القضية المرتبطة بزمن ما أو مجتمع ما إلى قضية إنسانية تكتسب الخلود واللازمنية عن طريق تأمل الفنان ورؤيته الخاصة .
ولن يتأتى للفنان مهما التزم أن يحقق الإنسانيات، وأن يتجاوز بفنه حدود الزمان والمكان إلا إذا استطاع أن يحول كل ما حولها (مهما بلغت أهمية الأحداث التي تحيط به أو الموضوعات التي يعالجها) إلى فن رفيع .
فجميع هذه الموضوعات ليست إلا مجرد مناسبات لا ينقلها الفنان نقلاً مباشراً أو عملياً .
بل لابد أن تتحول إلى رموز تمثل غبطة الإنسان أو شقاءه . خيرة أو شره" .
قال أبو عبدالرحمن: لنعرف طبيعة الحدس الذي ينتج مضاهاة فنية (الخلق الفني): نحلل المعاني المنفية عن دائرتها، ونحلل خصائص الفن المنتج وعناصر المضاهاة نفسها .
فالمنفي أن تكون المضاهاة مجرد وصف، أو مجرد تعبير عن حالات شعورية .
ومن مقومات الفنان أن يكون ذا ذاكرة فنية تعي الأعمال الفنية السالفة وأن يكون ذا ذوق وإحساس بمجالي الجمال في الأعمال السالفة والمعاصرة .
والذات (الأنا) لا تعرف إلا بالحدس، ولهذا فالحدس حالة عقلية خاصة ندرك فيها الطابع الكيفي للوعي الداخلي وتياره .
وأحياناً يجعل الحالة العقلية بمرادف التعاطف مع أعمق جوانب الواقع .
وفي حديث مجاهد عبدالمنعم مجاهد عن التعبيرية في فلسفة كروتشه الفنية لوَّح إلى الروح الاستعمارية في مذهبه فقال " بل إن هربرت ريد ليكشف عن نظرة استعمارية أثناء بيانه لأسس هذه المدرسة في كتابه معنى الفن، فهو يرى أن الفن التعبيري يرتد إلى الأجناس الشمالية لأنها أكثر استيطاناً لنفسها . ولما كان يرى أن خير المدارس الفنية هي المدرسة التعبيرية المدافع عنها : فهو يمجد على هذا الأساس تلك الأجناس الشمالية البيضاء .
وإذا كان كروتشه قد رفض الدين وأصيب بأزمة روحية : فهو قد أحل محل هذا الرفض نظرة شديدة العداء للبشرية في كلامه عن الفن . وكانت نظريته هو وأتباعه أعلى مراحل المثالية المأزومة المنهارة في القرن العشرين في مجال الجمال" .
قال أبو عبدالرحمن : هذا أمر يتعلق بمواهب الشعوب، وخصائص الوراثة، والتحليل السيكلوجي للفنان، وهو خارج نطاق النظرية الفنية .
قال أبو عبدالرحمن : فلسفة الفن ، وأصول النقد الأدبي من صميم الفلسفة . والفلسفة علم خاص وليست علماً شعبياً، فهي تقتضي لغة مباشرة، ودقة فكر . بيد أنها في متناول ذوي التفكير الشعبي من الأدباء وهواة الفن . بحكم أنها فلسفة مضافة إلى الأدب والفن ، ففقدت التخصص الفلسفي، واستعير الأسلوب الإنشائي العائم بدل اللغة الفلسفية الموصلة كهذا التفريق غير الفارق بين النفاذ والمعرفة . يقول الأستاذ مجاهد عبدالمنعم عن فلسفة الحدس لدى كروتشه "المعرفة الحدسية هند كروتشه ليست معرفة عن شيء، وليست انطباعات بشيء . إنما هي نفاذ . هي نفاذ الروح بالروح . فلا شيء عنده خارج النشاط الروحي . الروح هي الواقع كله . ومن ثم يوحد كروتشه بين الفن والحدس والتأمل والتخيل والخيال . وهذا التأمل أو الخيال هو خيال الفرد عن مشاعره وتأملها" (57) .
قال أبو عبدالرحمن : المعرفة نفاذ وإلا كانت جهلاً . فقد تكون معرفتي بالتفاحة معرفة تامة . أعرف شكلها، وحجمها، زطعمها، ومكوناتها، ورائحتها، وقيمتها الغذائية، فتكون معرفتي التامة نفاذاً في جوانبها .
وقد تكون معرفتي بها جانبية عن طعمها ورائحتها، فتكون معرفتي نفاذاً فيما عرفته منها .
والزعم عن الروح - بالاصطلاح الكروتشي - ينطوي على مغالطة شرسة، وهي تعميم التوحيد بين "أنا" و "لا أنا" .
فحينما ننظر إلى أن ما في ذات المعرفة صورة لما في الواقع نوجد بين المعرفة التي هي المعروف وصورته . وذلك التوحيد تجوزي .
وحينما ننظر إلى الواقع كما هو نجد الأصل والصورة، والعارف والمعروف، والذات والموضوع، والأنا واللاأنا.
وتوحيد كروتشه بين الفن والحدس . إلخ - إن صح أن ذلك مذهبه ببناء فلسفي دون تجوز أدبي - تفريق لا واقع له إلا في الدعوى المسطرة على الورق، ولكل مفردة واقعها المتميز .
فالفن حصيلة معرفة، ونشاط ذهن . يوحي إيحاءً جمالياً بالحقيقة أو يشبهها بحقيقة أخرى، أو يشبهها بالمضاهاة لواقع فني يضاهي الواقع الطبيعي . وهذا النشاط ينفصل عن الفنان ليكون مسموعاً أو مرئياً . والفن الشعري بالذات تعبير إيحائي، أو رمزي أو تشبيهي أو تأليفي (مضاهاة)، فهو التعبير الأرقى للإيحاء بالواقع، أو المضاهاة للواقع ببراعة .
إذن الفن هو الصورة على اللوحة، أو الصوت الغنائي في الأذن ، أو الصورة التي ترسمها اللغة في الذهن . إلى آخر الحقول الجميلة . هو كل هذه الأشياء وما فيها من دلالة بسببها قَبٍل الفنُ والأدب الالتزامَ .
والحدس نوع من النشاط في ذات الفنان يصل إلى بنائه الفني مباشرة . فالحدس إذن ليس هو الفن، وإنما هو النشاط الذي أنتج الفن .
وقل مثل ذلك عن بقية النشاط الذهني من التأمل والتخيل والخيال .
ويبني الأستاذ مجاهد - فيما يحكيه من مذهب كروتشه - على التوحيد بين هذه المفردات، وعلى التوحيد بين الأنا والذات أحكاماً يحللها بقوله "ومن هنا لا يعترف كروتشه إلا بالفن الغنائي، لأن الغنائية هي من شأن الفردية والذاتية .
فماذا من شأن تعريف الفن بالحدس من الناحية الإيجابية ؟ .
الحدس عند كروتشه هو التعبير . والتعبير كما أوضح أوزبورن عندهم بمعانٍ ثلاثة : التعبير عن الذات ، والتعبير عن العاطفة، والرمز على حالة من حالات النفس . ليس التعبير عندهم هو ذلك التجسيد الخارجي، بل هو تلك الحالة الاستنباطية التي يوجد فيها المرء . حتى ولو لم يبدع ؟ . تلك الحالة التي يستحلب فيها المرء مشاعره .
ومن المؤكد أن كروتشه - ويتبعه في هذا كل التلاميذ - يرى أن ما يحدسه الفنان قبل الخلق هو أكثر جمالاً مما تم بعد الخلق، وأن ما يتذوقه المتذوق إبداع جديد ليس فيه من حدس الفنان أي شيء . وكل الفارق أن الفنان يشتغل على حدسه، بينما القاريء يشتغل حدسه على حدس الفنان . ومن هنا تَمَّحى صفة التوصيل عن الفن . وكاريت يرى أن الفن لا شأن له بالتوصيل إلى الآخرين" (58) .
قال أبو عبدالرحمن : الغنائية نوع من الفن، وليست هي كل الفن، والقاسم المشترك كل القيم الجمالية .
والحدس نشاط ذهني ووجداني ليس موقوفاً على الفن، بل يكون الحدس في المنطقيات والخلقيات .
والحدس ليس هو التعبير . وإنما التعبير قد يصدر عن وعي أو نشاط ذهني يسميان الحدس !!.
قال أبو عبدالرحمن : وأستبعد أن يكون مذهب كروتشه أن الفن هو التعبير الاستبطاني وإن لم يبدع !!.
وعلى فرض أن هذا هو مذهبه، فهو مذهب لا يحقق قيمة نقدية، بل الفن ما حقق القيم الجمالية - وأشرفها الإبداع - سواء عبر عن الذات، أم عبر عن خارجها .
والفنان - بعبقريته - قد يثير تفاعل الآخرين وإن لم يتعاطف مع موضوعه قلبياً . بل يكفي تفاعله الذهني، وأنه جعل الذوات الأخرى تنفعل .
ومن الوهم المحض الثنائية بين الحدس الفني هو المضاهاة الفنية (الوجود بالفعل) الصادرة عن الحدس الذهني أو الوعي (الوجود بالقوة) .
قال أبو عبدالرحمن : إذن أي جمالٍ لحدس الفنان قبل المضاهاة الفنية وهو لم يوجد بالفعل ؟!
فإن أراد كروتشه أن الحدس بعد المضاهاة (ما يسمونه الخلق الفني) هو الاستلماح ظاهرة جمالية أو دلالة - وقام الدليل وقام الدليل أنها لم تخطر ببال صاحب المضاهاة - فذلك قدرة في الأداة حققت مقصد الفنان وزيادة .
إلا أن هذا الاستلماح من المتلقى الذي سماه حدساً لا يوصف بأنه حدس الفنان قبل المضاهاة، أو بعدها . وإنما هو فعل المتلقي .
ولكن هذا ليس هو، لأنه قال "مايتذوقه المتذوق إبداع جديد ليس فيه من حدس الفنان أي شيء".
وهذا تفريق آخر يذكره مجاهد عن كروتشه، فيقول "ويطلب منا أن نميز بين الفن بمعنى الخلق الفني، وبين الحرفة أو التكنيك . فالفهم هو الخلق الباطني .

جنــــون 07-02-2011 10:13 PM

إلا أن هذا الاستلماح من المتلقى الذي سماه حدساً لا يوصف بأنه حدس الفنان قبل المضاهاة، أو بعدها . وإنما هو فعل المتلقي .
ولكن هذا ليس هو، لأنه قال "مايتذوقه المتذوق إبداع جديد ليس فيه من حدس الفنان أي شيء".
وهذا تفريق آخر يذكره مجاهد عن كروتشه، فيقول "ويطلب منا أن نميز بين الفن بمعنى الخلق الفني، وبين الحرفة أو التكنيك . فالفهم هو الخلق الباطني . اما التوصيل فهو أمر ثانوي يرجع إلى حرفية الفنان . خاصة وأن ما سيصل إلى القارئ سيصبح موضوعاً للحدس من جديد .
الحدس عندهم هو التعبير عن العاطفة . والتعبير عندهم كما عرفه هربرت ريد هو ردود أفعال عاطفية . ومن هنا جاء التوحيد لديهم بين الحدس والتعبير . بين الانطباعات والتعبير . كأن ليست هناك عند الفنان مرحلة تلقٍّ ومرحلة إبداع ! . لأنهم يرون أن العارف بالمعرفة الحدسية يخلق بطريقة ما ما يعرفه .
ولقد غالوا . فالفن عندهم ليس حتى المضمون . ليس هو هذه الانطباعات أو الحدوس أو التعبير . بل الفن هو وحدة الشكل تلك الوحدة التي تحددها العاطفة . فكشفوا حتى هنا عن نظرتهم المثالية . فالشكل والمضمون في الحقيقة هما وحدة متآزرة عن طريق الزمان الفني للعمل مع أسبقية المضمون . أما كروتشه وأتباعه فيرون أن وسائل الفنان الإبداعية في حرفته إنما ترجع إلى الحدوس حيث أن الإيقاع والتوازن والوزن والتناغم هي جميعا أشياء حدسية، وليست إنتاجات عقلية . فكأن كل هذه الأشياء عندهم ليست إلا نتاجات غرائزية لحدوس الفنان . وهنا يكشفون حتى عن إماتتهم لحرية الفنان في خلقه ما دام ينتج غرزياً تلك الحرية التي كانوا يريدون الإعلاء من شأنها .
إنهم صرحاء في إعلانهم عن موقفهم وتعبيرهم عن أزمة الحضارة في الغرب وانهيارها . فيعلنون عن وجهة نظرهم الجمالية المتمشية مع هذا الانهيار . وما المدرسة التعبيرية في الفن إلا أعلى مراحل الفلسفة المثالية المتأزمة في نطاق علم الجمال . هي مدرسة لا تريد أن تعبر عن الوقائع الموضوعية، ولا تريد أن تسلم الناس حتى يتغيروا فيغيِّروا. بل هي الذاتية التي وصلت بها أزمتها حتى الخناق"(59) .
قال أبو عبدالرحمن : التلاعب باللغة ضلال فكري، واعتداء على منهج التفلسف، وليس في اللغة ولا في الواقع أن الفهم هو المضاهاة الفنية، وإنما الفهم نشاط ذهني ينتج عنه الأداء الفني .
والتوصيل هو الأداء الفني نفسه (الخلق بلغتهم) ، وهو موضوع الحدس .
وجعلُ الفن تعبيراً عن العاطفة قَصْرُ للفن على بعض مهمته، وهو تحجيم لا يليق باللغة الشعبية فضلاً عن اللغة الفلسفية .
ولا مانع بلغة التشبيه أن نقول عن الفنان المرسل الحادس : إنه يُشْبه مَن يُوجِد ما يعرفه ! .
ولكن المتلقي إذا فهم شيئاً يدل عليه النص - وقام البرهان على أن الفنان لم يقصده -فقد تكون معرفة المتلقي حدساً، وقد تكون بوسائط معقولة .
والروح المتردد في فلسفة كروتشه بددته فلسفة التمزق الاصطلاحي، فأفرغت الروح من معناها العرفي العام لدى أجيال الإنسانية، وادعت له معنى آخر هو العالم . أي ما هو خارج ضروباً أربعة من الخبرة :
فهناك أولاً : الخبرة الإدراكية التي تدرك بها ما هو جزئي حيث تعبِّر الروح عن نفسها في أمثلة جزئية تتجسم فيها، وهذا هو ميدان علم الجمال .
وهناك ثانياً : الخبرة الإدراكية التي تدرك بها ما هو كل، وهذا هو ميدان الاهتمامات الاقتصادية .
ثم هناك رابعاً : الخبرة العلمية التي تُعنى بما هو كلي، وهذا هو ميدان علم الأخلاق .
قال أبو عبدالرحمن : هذا تقسيم لا يحقق جهة قسمة واحدة، ولا يحقق أقساماً متميزة في الواقع .
ومعرفة المنطق جزئية وكلية . ولكن من أعمالِ تجريدات لا تكون حكمية إلا إذا كانت كلية .
(التطريز نوع من التلاعب بالقوافي في نظم الشعر، ويدعى المحبوك الطرفين . يبدأ البيت فيه بحرف، وينتهي بالحرف نفسه .
وتطور المحبوك الطرفين عندهم إلى فن آخر أكثر تعقيداً دعى بالتطريز، وهو أن يؤلف الشاعر من الحروف الأولى للقطعة اسم علم لصديق أو محبوب أو ممدوح، وأغلب معاني هذه القطع المطرزة في الغزل أو في معنى طريف، ويتألف عدد أبيات القطعة عادة على قدر عدد حروف الاسم . قال نظام الدين الحسني قطعة مطرزة باسم خديجة:
خلت خال الخد في وجنته * * * نقطة العنبر في جمر الغضى
دامت الأفراح لي مذ أبصرت * * * مقلتي صبح محيا قد أضا
يتمنى القلب منه لفتة * * * وبهذا الحظ للعين رضا
جاهل رام سلوا عنه إذ * * * حظر الوصل وأولاني النضى
هامت العين لما رأت * * * حسن وجه حين كنا بالأضا
المعجم المفضل في الأدب 1/262

الهوامش :
(1)النظريات الجمالية ص32-33.
(2)الجمالية ترجمة الدكتور عبدالواحد لؤلؤة ضمن المجلد الأول من موسوعة المصطلح النقدي ص272.
(3)قال أبو عبدالرحمن: ما اقبح هذا التعبير والتشبيه معاً!
(4)فلسفة الجمال ص8-9.
(5)فلسفة الجمال ص14.
(6) الإحساس بالجمال ص61 وما بعدها [العشماوي]
(7)مشكلة الفن ص12 [العشماوي].
(8)المرجع السابق ص12 [العشماوي].
(9)فلسفة الجمال ص10.
(10)هما: أي الإحساسان.
(11)جملة "فإنهما" جواب"على الرغم"، ولهذا وضعت النقطتين فوق بعض وهما علامة مقول القول.
(12)فلسفة الجمال ص11.
(13)دراسات في علم الجمال ص19.
(14)انظر المصدر السابق ص20.
(15)المصدر السابق ص20-21.
(16)دراسات في علم الجمال ص20.
(17)دراسات في علم الجمال ص20.
(18)دراسات في علم الجمال ص15.
(19)النظريات الجمالية ص47.
(20)فلسفة الجمال ص55.
(21)أنوي إن شاء اله تحرير دراسة مفصلة عن علامات الترقيم، فهي ضرورية لتفهيم الكلام وإيضاحه، وهي جمال في الخط.. وبعض الكتاب يهملونها، وبعضهم يستعملها في غير موضعها.. ولأثري دراستي بالشواهد أحببت أن أحشي مؤلفاتي ببعض اللفتات عن علامات الترقيم.
فالأصل كتابتها عند وجود اللبس بدونها، فإذا أمن اللبس فلا حاجة لها إلا علامات التأثر-مثل ؟!-، وعلامة مقول القول وهي النقطتان فوق بعض.
قال أبو عبدالرحمن: وهاهنا لم أكتب علامة الفصل بين أجزاء الكلام -وهي الواو المقلوبة هكذا،- بعد "منهما" وقبل "تزكيه"، لأن جملة تزكيه هي الخبر ولم يفصل بينه وبين المخبر عنه بفاصل فلا لبس.
ولم أكتبها بين "الحق" و"الأخلاق" لأن التثنية في "قيمتا"، وواو العطف، وعدم الفاصل مشعران بتقسيم القيمتين، فلا لبس ولا ضرورة للشولة.
وعبارة "من أجل" تحتاج للشولة المنقوطة من أسفلها "؛" مشعرة بالتعليل، ولم أكتبها للتنصيص على التعليل بعبارة "من أجل"، وعدم الفاصل واللبس.
ولم أكتبها قبل "لصلته" لأن الضمير المذكور دال على أن التعليل للجمال.. ولو كان التعليل لـ "قيمتا" لوضعت قبل التعليل علامة الانقطاع في الكلام، وهما النقطتان جنب بعض هكذا"..".
(22)وضعت هذه الشولة المنقوطة لأنها مشعرة بالتعليل.
(23)لم أنقط الشولة وهي للتعليل، لأن التعليل مفهوم من عطفها على تعليل.
(24)من مدلولات النقطتين جنب بعض إشعارهما بقطع الكلام باستئناف، أو فصل دون وصل، فغذا كان في الكلام حذف زدت نقطة ثالثة هكذا... وكلما زادت النقط دلت على كثرة الحذف.
(25)استأنفت الكلام عن الخيال استئنافاً يفسر الفرق بين الخيال والوهم فوضعت النقطتين دليلاً على فصل الكلام باستئناف جملة جديدة، وعلى العلاقة بين الجملتين.. وعند تمام الانفصال تضع نقطة واحدة.. ومن المعاصرين من يضع نقطة واحدة ويبدأ من سطر جديد.. وكثرة الابتداء بسطر جديد يمزق الكلام، فيكون معظم الصفحة بياضاً، ولكن لا مندوحة عن ذلك ما دام الكلام بعد النقطة استئنافاً منفصلاً عما قبله.
(26)الموسوعة الفلسفية المختصرة ص343.
(27)لو كان الكلام:"ويكون ذلك خاصة" لوضعت الشولة علامة الاتصال والتقسيم والعطف.. فلما أشعر الكلام بحذفٍ غطته واو العطف، وأشعرت الجملة بالانقطاع وضعت علامة النقطتين.
(28)هذه الأسطر لم تشتمل على غير علامة مقول القول ":" لأمن اللبس وانتفاء الضرورة.. وما بعد النقطتين حكاية للمذهب، فهو في حكم مقول القول.
(29)عبارة "بصورة جوهرية" لم أضعها بين علامتي الجمل المعترضة لأمن اللبس.
(30)الموسوعة الفلسفية المختصرة ص281-282.
(31)أثبت الشولة فيما سبق لأجل الجملة التي بعدها حتى لا يظن أنها مستأنفة، وليعلم أنها معطوفة.
(32)مقاييس اللغة ص251.
(33)انظر تاج العروس 8/238.
(34)قال الزبيدي في تاج العروس 8/237-238:"قال ابن كناسة: تقول العرب: إذا أمسى النجم قمّ الرأس، ففي الدار فاخنس، وفي بيتك فاجلس، وعظماهم فاحدس، وإن سئلت فاعبس، وأنهس بنيك وانهس.
قال الزبيدي: قوله: عظماهن فاحدس معناه: انحر أعظم الإبل.. وقيل: قولهم: فاحدس من حدست الأمور.. توهمتها.. كأنه يريد: تخير بوهمك عظماهن".
قال أبو عبدالرحمن: ليس في كلام العرب هاهنا إلا احدس الكبرى.. أي تخير الكبرى بحدسك (والأصل في الحدس الإصابة).. وليس فيه أن احدس بمعنى تخير بوهمك.
(35)التعريفات ص83.
(36)لم أضع الشولة هاهنا لأن الجار والمجرور من تمام الجملة.
(37)وضعت النقطتين ولم أضع الشولة لأن ما بعدها استئناف كلام جديد، وليس في سياق الأمثلة.
(38)الكليات ص66-67.
(39)لم أضع الشولة قبل "وأمدية" حتى لا تشعر بالعطف على تحتفظ.
(40)لم أضع الشولة لأن العطف على "تحتفظ" ود فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمعطوف عليه ومعطوف جديدين، فلزم الفصل بالنقطتين.
(41)وضعت القوسين الكبيرين بدل الشرطتين (-،-) لأن الجمل المستدركة قد تكثر فتلبس الشرطتان.. فقد يكون في سطرين ست شرطات فلا يعرف من أي الشرطات هو يبدأ الاستدراك.
فللكاتب أن يضع مكانهما القوسين الكبيرين، وله أن يراوح بينهما إذا كثرتا، فإذا وضع الشرطتين وجاءت جملة أخرى مستدركة وضع القوسين.
(42)تحلو هاتان النقطتان في مواضع الفصل مثل الجمل البدلية.
(43)جملة "فليكن" جواب "مع أننا" فهي في حكم مقول القول وقد طال الفاصل بينهما، فناسب لذلك علامة المقول النقطتان.
(44)ما بعد النقطتين جملة خبرية، وبدون النقطتين يظن أن الجار والمجرور من تمام الجملة قبلهما.
(45)وضعت علامة الفصل، لأن الجملة بعد النقطتين مستأنفة، وبدونها يوهم الكلام أن الجار والمجرور متعلق بما قبلهما.
(46)مدلول (مع) هاهنا كمدلول واو العطف في إضافة شيء إلى شيء، لهذا وضعت الشولة قبلها.
(47)الأسلوب هاهنا أعجمي، والمراد: بل لا تلغي النظام.
(48)قال أبو عبدالرحمن: لا فرق بين الجملتين إلا إن أراد بالدور أنه يمثل الماضي بشكل آخر.
(49)لم أضع الشولة -علامة الوصل والتقسيم- هاهنا؛ لأن جملة "وإن كانت" من تمام السياق لا من أقسامه.
(50)وضعت علامة التعليل لأن الجملة معطوفة على معلل، ولم يسبق ذكر للعلامة.
(51)فلسفة الجمال ص174/دار الثقافة للنشر والتوزيع بالقاهرة سنة 1983م ط م الفنية بالقاهرة.
(52)ما بعد النقطتين فاعل "خيَّل" وقد طال الفاصل بينهما، فوضعت النقطتين لأن الفاعل في حكم مقول القول.
(53)لا يسمى الله إلا بما سمى به نفسه.. والمراد بالمطلق (إذا عبروا عن رب الكائنات) الذي له العلم الكامل لإطلاق، والقدرة الكاملة بإطلاق..الخ.
قال أبو عبدالرحمن: وجب وضع علامة الجمل المعترضة في قولي هاهنا: (إذا عبروا...)؛ ليعلم أن ما قبلها خبر ما بعدها.
ويجوز الاستغناء عنها بعلامة مقول القول (:) قبل "الذي".
(54)الصواب: مصادفة.
(55)الشعر والتأمل ص182-183/طبع بالقاهرة سنة 1963م.
(56)لم أضع علامة مقول القول لأنه لا يوجد فاصل فضلاً عن أن يكون طويلاً، ولأنه لا أقسام وتفريعات لمقول القول تقتضي شولة.
(57)علم الجمال ص156-157.
(58)علم الجمال ص157.

جنــــون 07-02-2011 10:13 PM

القسم الثالث

الباب الثاني : الفن والمعرفة
الفصل الأول : الجمال والمنطق .
الفصل الثاني : معنى أن الفن معرفة .
الفصل الثالث : الصدق الفني معرفة فنية .
الفصل الرابع : الفن معبر، لأنه معرفة .
(كتب جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي إلى عمرو بن مسعدة: إذا كانالإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيراً، وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عياً . وأنشد المبرد في صفة خطيب :
طبيب بداء فنون الكلام * * * (م) لم يُعْي يوكاً ولم يهزرِ
فإن هو أطنب في خطبة * * * قضى للمطيل على المنزر
وإن هو أوجز في خطبة * * * قضى للمقل على المكثر
العمدة لابن المكثر 1/419

الفصل الأول : الجمال والمنطق
يرتبط علم الجمال بالفيلسوف الألماني جوتليب بومجارتن (1714-1762 م) من أتباع الفلسفة الديكارتية، وقد جعل علم الجمال منطقاً ثانياً لدراسة الأفكار الغامضة(1) والمشاعر والوجدان .
وله كتاب اسمه "تأملات فلسفية حول المسائل المتعلقة بالشعر"، فسمى هذا المنطق الثاني علم الحساسية أو علم الجمال، وقال"علم الجمال هو نظرية الفنون الحرة . إنه علم المعرفة الحسية" (2) .
قال أبو عبدالرحمن : الجمال منطق من جهة أنه معرفة، ومن جهة أنه قيمة .
وهو تصوراً ظاهرة شعورية، وهو حكماً جزء من المنطق، لأنه موضوع لأحكام العقل .
كما أن الأفكار التي هي عناصر المنطق تتحول إلى قيمة جمالية ما دام النظر التي هي عناصر المنطق تتحول إلى قيمة جمالية ما دام النظر إلى قيمتها في الشعور والوجدان .
والمدرسة الديكارتية قبل بومجارتن جعلت الأفكار الغامضة من نوع الأفكار الواضحة، وإنما الاختلاف في الدرجة، فجاء بومجارتن وجعل الاختلاف في النوع مما يحتم منطقاً ثانياً هو علم الجمال .
وشرح الأستاذ مجاهد تفريق بومجارتن بين المنطقين بقوله "موضوعات الإحساس لا تتطابق مع الأشياء المدرجة بالعقل لأن الأشياء التي لا تكون ماثلة بالفعل تسمى بالمتخيلات .
إن موضوعات الفكر باعتبارها ما يمكن معرفته بملكة المعرفة الأسمى هي موضوع المنطق أما موضوعات الإحساس أو الجمال فهي تمت إلى العلم الجمالي أو علم الجمال .
وقد لاحظ بومجارتن أن المشاعر التي يدرسها علم الجمال لا يمكن وصفها على غرار الأفكار بالصدق أو الكذب لأنها مشاعر تتصف بأنها محتملة وبهذا أدرك بومجارتن أن عنصر القيمة داخل في دراسته لكن لكن أراد أن يجعل هذه الدراسة وصفية لا معيارية" (2)
قال أبو عبدالرحمن : المتخيلات تثير شعوراً بالجمال، فتدخل في الحكم الجمالي .
والشعور الجمالي يراد أثره في السلوك فيكون قيمة منطقية .

الفصل الثاني : معنى أن الفن معرفة :
من صفات الفن أنه إنتاج بشري . إذن الفن إيجاد مستمر، ووجوده ذو قيمة معيارية، فإيجاده من الفنان عن معرفة، وتلقيه معرفة .
والصورة الفنية ذات عناصر مبددة في الطبيعة، ولكن التأليف (مجموع عناصر الصورة) عمل جديد غير معهود في الطبيعة، ولهذا كان الإبداع الفني الجمالي يستهدف استعادة تناغم مفقود في الواقع (4) . وقال أرسطو "إن الفن هو إيجادُ بعد تفكير لشيء ملائم" (5) .
قال أبو عبدالرحمن : ليس معنى هذا أن كون ربنا (ما شهدنا منه، ما لم نشهده) يفتقد التناغم . وإنما معنى ذلك أن الفنان يوجد تناغماً ليس موجوداً في الواقع .. وحصيلة مدلول "ليس موجوداً" أن جمهور الفنان المنفعلين بفنه لا يعهدون هذا التناغم في الطبيعة المشهودة في الحس البشري .
وأما عبارة أرسطو "لشيء ملائم" فقاصرة، لأن الملائمة لا تعبِّر عن سموق القدرة الفنية .
قال أبو عبدالرحمن : الفن حسبما مر معرفة تصورية، وهو أيضاً معرفة تصديقية، وبهذا الملحظ كان الشعر عند فلاسفة أهل الإسلام أحد الأقاويل المنطقية، وهي البرهان، والجدل، والسفسطة، والخطابة، والشعر.
إلا أنهم اعتبروه برهاناً كاذباً، لأن الفن محاكاة .
قال أرسطو في كتابه الطبيعة "لما كان الشاعر محاكياً (شأنه شأن طرق المحاكاة الثلاث : فهو يصور الأشياء إما كما كانت (أو كما هي في الواقع)، أو كما يصفها الناس وتبدو عليه، أو كما يجب أن تكون" (6) .
قال أبو عبدالرحمن : الطريق الأول ليس هو الوصف الحرفي، والصورة الفوتوغرافية المطابقة .
وإنما المعنى أن وسائل الشاعر الشكلية وصفاً وتشبيهاً ومجازاً واستعارة وتعبيراً إيحائياً غير مباشر : تعبر عن الواقع كما هو دون إغراق في الخيال أو تضخيم للتفاعل والانفعال .
والطريق الثاني بنفس التعبير الإيحائي عن نفس الواقع بلا تزيد - كما في الطريق الأول - إلا أنه في الأول رأي الواقع، وفي الثاني تمثله بالوصف .
والطريق الثالث أعلى الطرق وأنفسها، وهو غاية المضاهاة الفنية التي يسمونها الخلق الفني حيث تتناغم عبقريتا الإبداع في التعبير(الشكل) والمادة (المضمون)، ويتناغم الفكر والخيال وعناصر الثقافة في إبداع المضمون .
إلا أن عبارة أرسطو "كما يجب أن يكون" جعلت المضمون خلقياً أو منطقياً، وباليقين أرسطو لا يقصد ذلك .
والتعبير الأوفق أن يقول "كما يبدو للشاعر رؤياً وخيالاً" .
وهذا الذي يبدو للفنان قد يصبح متوقعاً ومظنوناً لدى المتلقي، ولهذا قال ابن سيناء "يُظن أنها ستوجد وتظهر" .
وقال ابن سيناء "واعلم أن المحاكاة التي تكون بالأمثال والقصص ليس هو من الشعر بشيء ، بل الشعر إنما يتعرض لما يكون ممكناً في الأمور وجوده، أو لما وجد ودخل في الضرورة . وإنما كان يكون ذلك لو كان الفرق بين الخرافات والمحاكيات الوزن فقط .
وليس كذلك ، بل يحتاج إلى أن يكون الكلام مسدداً نحو أمر وجد، أو لم يوجد .
وليس الفرق بين كتابين موزونين : أحدهما فيه شعر، والآخر فيه مثل ما في كليلة ودمنة (وليس بشعر بسبب الوزن فقط) حتى لو لم يكن يشاكل كليلة ودمنة وزناً صار ناقصاً لا يفعل فعله، بل هو يفعل فعله من إفادة الآراء التي هي نتائج وتجارب أحوال تنسب إلى أمور ليس لها وجود وإن لم يوزن .
وذلك لأن الشعر إنما المراد فيه التخييل ، لا إفادة الآراء ، فإن فات الوزن نقص التخييل .
وأما الآخر فالغرض فيه إفادة نتيجة التجربة، وذلك قليل الحاجة إلى الوزن .
فأحد هذين يتكلم فيما وجد ويوجد، والآخر يتكلم فيما وجوده في القول فقط .
ولهذا صار الشعر أكثر مشابهة للفلسفة من الكلام الآخر، لأنه أشد تناولاً للموجود وأحكم بالحكم الكلي .
وأما ذلك النوع من الكلام فإنما يقول في واحد على أنه عارض له وحده، على نحو التخييل" (7) .
قال أبو عبدالرحمن : يتعرض الشعر لما يكون ممكناً وجوده بمعنى أن يتألف من عناصر معروفة، ثم يؤلف الشاعر من هذه العناصر ما يتوقع أنه وجد، أو يحتمل وقوعه، أو لا يحيل الفكر تخيله.
وما وجد ودخل في الضرورة لا يدخل في الشعر إلا بإيجاد وتعبير جميل .
والفن النصي أعم من الشعر، وعلى هذا تكون الأمثال والقصص فناً بمقدار ما فيها من الجمال .
وللمثل مقوماته الفنية، وللقصص مقوماته الفنية .
ومجرد وضع كلمة هارون الرشيد الواقعية مثلاً على لسان الأسد لا يجعل هذا التغيير قصصاً فنياً .
ويميز الشعر عن بقية النصوص الفنية عناصر اصطلاحية، فيتميز شعر العرب المأثور بالوزن والقافية وتساوي الأشطر .
ويتميز بعض الشعر باصطلاح أعم بأي عناصر موسيقية ذات وحدات قياسية دون اشتراط تساوي الأشطر أو مأثور الأوزان، وإنما الشرط وحدة أو وحدات لحنية، لأن الشعر وليد الغناء .
والتخييل عنصر مشترك بين النصوص الفنية .
وثنائية ابن سيناء بين ما وجد ويوجد وما وجوده في القول فقط ثنائية وهمية، بل كل هذه الأمور موضوع للشعر والنثر، وإنما يميز النص الفني عن النثر المباشر أمور جمالية ، ويميز بين نص فني كالقصة، ونص فني كالشعر أمور جمالية أيضاً. وكل هذه الأمور الجمالية المميزة ليس من بينها اشتراط أن يكون المضمون يوجد في الواقع أو يوجد في القول .
وقال أرسطو "وظاهر مما قيل أيضاً أن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه، وما هو ممكن على مقتضى الاحتمال أو الضرورة، فإن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أو منثور (فقد تصاغ أقوال هيرودوتس في أوزان فتظل ناريخاً سواء وزنت أو لم توزن)، بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع علي حين أن الآخر يروي ما يجوز وقوعه.
ومن هنا كان الشعر أقرب إلى القلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ، لأن الشعر أميل إلى قول الكليات، على حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات. وأعني بالكلي ما يتفق لصنف من الناس أن يقوله أو يفعله على مقتضى الاحتمال أو الضرورة"(8) .
قال أبو عبدالرحمن : أحب أن يفرق المتأدبون بين ما هو شرط في الشيء، وبين ما هو كل شرط فيه، ليعلموا أن أي وزن يحقق وحدة لحنية أو وحدات لحنية شرط في تمييز الشعر عن بقية النصوص الفنية، ولكن الوزن ليس هو الشرط الفني الوحيد، بل لابد من عناصر جمالية مشتركة، وعناصر جمالية يتميز بها الشعر اصطلاحاً .
والمقارنة بين فنون النثر عموماً، وفنون النثر الفني ستصطفي عناصر يتميز بها الشعر، ولعله أن تأتي لهذا مناسبة.
ولهذا لا يكون التاريخ شعراً بمجرد الوزن، ولا يكون الموزون شعراً بمجرد أن مضمونه مما يجوز وقوعه، وأنه لا يروي ما وقع فحسب .
بل المميز وجود التعبير الجمالي إضافة إلى الوزن وإن كان الموضوع رواية لما وقع .
وتفضيل أرسطو للشعر بأنه مرتبة من التاريخ وأميل إلى الفلسفة مفاضلة لا معنى لها لسببين :
أولهما : أنه لم يذكر وجه المفاضلة، وما لم يذكر وجه المفاضلة فلكل حقل مهمته، ولهذا لا تفضل السكر على الملح وإن كان السكر أحلى، لأن لكل واحد منهما وظيفته في الحياة، وإنما تكون المفاضلة عند ذكر وجه المقارنة .
وثانيهما : أن وجه المقارنة مختلف، فمقياس التاريخ شكلاً المباشرة والوضوح، ومقياسه مضموناً خلقي ومنطقي .
والشعر مقياسه شكلاً الجمال والإيحاء والتخييل، ومقياسة مضموناً المضاهاة والإبداع .
كما أن التفريق بين الشعر والتاريخ بأن التاريخ أميل إلى الجزئيات هو نفسه التفريق بين ما يُروى وقوعه، وما يحتمل وقوعه . والشاعر يدخل في تجربته هذا وهذا .
وميزة الشعر العظمى على النصوص التقريرية والعلمية أنه التعبير الأسمي إبداعاً وجمالاً، ولهذا لا يملك لغته العاديون .
وإذا كملت الأداة الفنية الجمالية للشعر شكلاً، وسمق مستواه المضموني في القيم الثلاث جمالاً ومنطقاً وخلقاً: لم يضاهه أي تعبير فني إلا حينما يقتضي المنطق (لخصوصية الموضوع) أن يكون التعبير بغير العناصر الجمالية الشعرية .
قال أبو عبدالرحمن : ولقد وصف الفارابي الشعر بأنه برهان كاذب (9) ووجه الكذب أن الأقاويل الشعرية توقع في ذهن السامعين الشيء المعبر عنه بدل القول، أو توقع فيه المحاكي للشيء (10) .
وكون الفن معرفة تصديقية لا يعني بالضرورة أن يكون التصديق تصديقاً منطقياً، وإنما يلزم البحث عما يكون به التصديق، وذلك بالنظر إلى الفن تخيلاً ومحاكاة، وصلته بالواقع .
فأما التخييل فقد لوحظ أن التخييل الشعري انفعال عن تعجب أو تعظيم أو غم أو نشاط من غبر أن يكون الغرض بالمقول اعتقاداً ألبتة (11) .
وذلك الانفعال نفساني غي فكري تنبسط فيه النفس أو تنقبض من غير روية وفكر واختيار (12) .
والتخييل يحدث للمتلقي سلوكاً شرحه الفارابي بقوله"الإنسان إذا نظر إلى شيء يشبه بعضه ما يُعاف فإنه يخيل إليه من ساعته في ذلك الشيء أنه مما يعاف، فتتقزز نفسه منه وتتجنبه وإن اتفق أنه ليس في الحقيقة كما خيل له .
كذلك يعرض للإنسان عندما يسمع الأقاويل التي تحاكي، فتخيل في الشيء أمراً ما، وذلك أن الذي يراه ببصره فيخيل إليه أمراً ما في ذلك الشيء لو وصف له ذلك بعينه بقول فإن ذلك القول كان يخيل له في ذلك الشيء الأمر بعينه الذي خيل فيه ما رآه ببصره، وذلك مثل الأقاويل التي تخيل الحسن في الشيء أو القبح أو الجور أو الخسة أو الجلالة .
فإن الإنسان كثيراً ما تتبع أفعاله تخيلاته، وكثيراً ما تتبع ظنه أو علمه، وكثيراً ما يكون ظنه أو علمه مضاداً لتخيله، فيكون فعله بحسب تخيله لا بحسب ظنه أو علمه" (13) .
قال أبو عبدالرحمن : إذن الصدق الفني في هذا المجال أن يحقق غرضين :
أولهما : أن يحسن التصوير (إن كان واصفاً، أو المضاهاة إن كان مشيهاً أو متخيلا أو مبدعاً) وجوداً فنياً.
وثانيهما : أن يحقق غرضه في سلوك المتلقي على النحو الذي ذكره الفارابي .

الفصل الثالث : الصدق الفني معرفة فنية :
إن الشاعر يحاكي كما قال فلاسفة التراث في تاريخنا الإسلامي . قالوا ذلك امتداداً للنقد الأدبي الأرسطي، ومن آثار المحاكاة أن يوجه الشاعر سلوك المتلقي بانفعال أو طمأنينة لا يكونان اعتقاداً بالواقع، وإنما هما تجاوبُ مع الشاعر واستجابة لتجربته الذاتية .
قال أبو سينا عن مقدمات الشعر "لا تكون مطابقة للواقع، فلا تكون انعكاساً مباشراً للشيء المخيل أو المحاكَى، فهو يحدث تأثيراً يتوقف على أساسه سلوك المتلقي إزاء هذا الشيء المخيل بسطاً أو قبضاً، إقبالاً أو نفوراً ، حتى لو بدا له الأمر مخالفاً للواقع الذي يعلمه .
ومثل هذا التأثير لا يحدثه العلم أو البرهان" .
فالمقدمات الشعرية كما يقول ابن سيناء "تبسط الطبع نحو أمر وتقبضه عنه (مع العلم بكونها كاذبة) كمن يقول لا تأكل هذا العسل، فإنه مُرَّة مقيئة . والمرة المقيئة لا تؤكل، فيوهم الطبع أنه حق مع معرفة الذهن بأنه كاذب، فيتقزز عنه . وكذلك ما يقال : (14) بأن هذا أسد ، وهذا بدر !!. فيحسُّن به شيء في العين مع العلم بكذب القول" (15) .
قال أبو عبدالرحمن : الجانب المعرفي في هذا البث الشعري أن المتلقي أحس بالجمال الفني وحركة، فكاد يصدق بأن تخييل الشاعر حقيقة، والواقع أن الذي حصل شعورُ نفسي وليس تصديق فكر أو عقيدة قلب .
وذهب ابن سيناء في كتابه "الشفاء" (فن الشعر)، وابن رشد في كتابه "تلخيص الشعر لأرسطو" إلى أن الشعر يكون مخيلاً بالصورة والوزن واللحن .
وشرح ريتشاردز المعرفة الفنية بقوله "إن المصدر الحقيقي في اعتقادنا بحقيقة أو بشيء ما عقب قراءتنا لقصيدة من القصائد هو هذا الإحساس الذي يعقب عملية التكيف، وتنسيق الدوافع، وتحررها، وما تشعر به من شعور بالراحة والهدوء والنشاط الحر المطلق والإحساس بالقبول .
وهذا الإحساس هو الذي يدفع الناس إلى تسمية هذه الحالة حالة اعتقاد أو تصديق
فيقول بعضهم مثلاً : إن هذه القصيدة أو تلك تجعلنا نعتقد في وحدة الوجود أو خلود الروح .
وهكذا فإحساسنا بأن معنى الأشياء ينكشف لنا في الشعر لا يعني أننا نصل بالفعل إلى معرفة عن طريق الشعر، ولكنه مجرد شعور لا أكثر يصاحب توفيقنا في التكيف مع الحياة" (16) .
قال أبو عبدالرحمن : وهناك وجه من الصدق الفني ذكره هكسلي، وهو أن يحس المتلقي أن تجربة الشاعر أو رؤيته هي شعوره ومعرفته، ولكن الفارق أن المتلقي لا يملك قدرة الشاعر في التعبير. قال ألدوس هكسلي "إن أحد ردود الفعل الطبيعية التي تعترينا عقب قراءتنا لمقطوعة جيدة من الأدب يمكن أن يعبر عنه بالمسلمة الآتية: هذا هو ما كنت أشعر به وأفكر فيه دائماً !!" (17) .
وقال الدكتور محمد ذكي العشماوي "الشاعر والفنان قادران عند رؤيتهما لموضوع تأملهما أن يجدا دائماً في هذا الموضوع مثيراً وجديداً .
وذلك لأنهما قادران بطبيعتهما على تحطيم كل ما ألقته العادة والتقاليد على الموضوع من حجب، فينظران إلى أي موضوع كما لو كانا ينظران إليه للمرة الأولى، فتتولد لديهما الدهشة والعجب، وتثار لديهما من الأحاسيس مثل ما يثار لدى الطفل الذي يتعرف على الشيء لأول مرة . من أجل ذلك لا يوجد أمام الفنان أو الشاعر شيء مألوف أو معاد أو مكرر .
إن كل شيء يبدو أمام أعينهما جديداً، ويصبح عند تناوله ذا دلاله مختلفة عما كانت له .
هذه الدلالة الجديدة آتية من هدم كل الارتباطات القديمة التي تتصل بالموضوع، والتي سادت أذهان الناس عنه، ومن إضفاء روح جديدة أو جو جديد .
ولا يكون إلا بعد أن يخلع عليه الشاعر من ذاته ما يكسبه معنى جديداً . م أجل ذلك استشهد كولردج بهذا المثال من شعر بيرنز فقال : من منا لم يشاهد الثلج يتساقط على صفحة المياه آلاف المرات، ولم يختبر إحساساً جديداً وهو ينظر إليه بعد أن قرأ هذين البيتين للشاعر بيرنز اللذين يشبه فيهما اللذة الحسية :
(بالثلج الذي يسقط على النهر .
فيبدو أبيض اللون لحظة ثم يذوب ويختفي إلى الأبد ؟!!)" (18) .
قال أبو عبدالرحمن : هذان البيتان الخواجيان لا لذة فيهما ولا إثارة، ولاشك أن النشوة التي هيجت كولردج موجودة في النص بلغته الخواجية، وأن الترجمة عجزت عن نقل الصورة المجازية .
وما ذكره الدكتور العشماوي إنما هو لماحية تميز بها الشاعر والمفكر والأمي الذكي، وإنما قدرة الشاعر (إضافة إلى اللماحية) تكون في التعبير الفني، وتحويل ما أنتجته اللماحية من فروق أو متشابهات إلى صورة فنية .
وقد شرح الفارابي المحاكاة في الفن فقال "فإن محاكاة الأمور قد تكون بفعل وقد تكون بقول ، فالذي بفعل ضربان :
أحدهما : أن يحاكي الإنسان بيده شيئاً ما مثل أن يعمل تمثالاً يحاكي به إنساناً بعينه أو شيئاً غير ذلك، أو يفعل فعلاً يحاكي به إنساناً ما أو غير ذلك، والمحاكاة بقول هو أن يؤلف الذي يصنعه أو يخاطب به من أمور تحاكي الشئ الذي فيه القول، وهو أن يجعل القول دالاً على أمور تحاكي ذلك الشيء"(19) .
قال أبو عبدالرحمن : يكون هذا في المفردة الموحية، وقد تفطن لهذا الإيحاء للمفردة سيد قطب في تفسيره "التصوير الفني في القرآن" ، "ومشاهد القيامة في القرآن".
ويكون في الجملة المركبة المحاكية لصورة تشبيهية، أو مجازية، أو ذات رسم كاريكاتيري.
وفرَّق الفارابي بين الإقناع والتخييل بقوله "جودة التخييل هي غير جودة الإقناع . والفرق بينهما أن جودة الإقناع يقصد بها أن يفعل السامع الشيء بعد التصديق، وجودة التخييل بقصد بها أن تنهض نفس السامع إلى طلب الشيء المخيل والهرب عنه أو النزاع إليه والكراهة له ، وإن لم يقع له به تصديق، كما يعاف الإنسان الشيء الذي إذا رآه : رآه يشبه ما سبيله أن يُعاف على الحقيقة، وإن تيقن الذي يراه أنه ليس هو ذلك الشيء الذي يعاف"(20) .
قال أبو عبدالرحمن إذن الشعر ذو إقناع جمالي، ولكنه ليس إقناعاً فكرياً بمقدمات المنطق ونتائجه، وإنما هو إقناع شعوري.
وكل محاكاة يقصد بها التحسين أو التقبيح (21) .
قال أبو سينا:"والمطابقة فصل ثالث يمكن أن يمال بها إلى قبح، وأن يمال بها إلى حسن، فكأنها محاكاة معدة مثل من شبه شوق النفس الغضبية بوثب الأسد، فإن هذه مطابقة يمكن أن تمال بها إلى الجانبين، فيقال : توثب الأسد الظالم، أو توثب الأسد المقدام.
فالأول يكون مهيئاً نحو الذم، والثاني يكون مهيئاً نحو المدح .
فالمطابقة تستحيل إلى تحسين وتقبيح بتضمن شيء زائد. فأما إذا تركت على حالها ومثالها كانت مطابقة فقط"(22).
ونتيجة لكون الفن معرفة الفن تعبيرياً قابلاً للإلزام، وقد لاحظ ذلك ابن سينا فقال عن الفن الغنائي "ومنها الصنف المستعمل في النغم مثل تثقيلها، وتحديدها، وتوسيطها، وإجهارها، والمخافتة بها أو توسيطها.
فإن للنغم مناسبة مع الانفعالات والأخلاق. فإن الغضب تنبعث منه نغمة بحال، والخوف تنبعث منه نغمة بحال أخرى، وانفعال ثالث تنبعث منه نغمة بحال ثالثة .
فيشبه أن يكون النقل والجهر يتبع الفخامة، والحاد المخافت فئة تتبع ضعف النفس.
وجميع هذا يستعمل عند المخاطب : إما لأن يتصور الإنسان بخلق تلك النغمة أو بانفعالها عندما يتكلم، وإما لأن يتشبه نفس السامع بما يناسب تلك النغمة قساوة وغضباً، أو رقة وحلماً" (23) .
قال أبو عبدالرحمن : وجه أن الفن تعبيري كونه يدل على شتى الانفعالات .
ووجه كونه قابلاً للالتزام أنه يعبر عن مفهوم، ويحرك استجابة، فيوجهان إلى ما تقتضيه رسالة الالتزام .

جنــــون 07-02-2011 10:13 PM

الفصل الرابع : الفن معبر، لأنه معرفة :
سوَّغ سارتر عدم قابلية الفنون للالتزام بأن الالتزام يعني وسيلة ذات مدلول وليست كذلك وسائل الفن، لأن الأنغام والألوان والأشكال ليست بعلامات ذات مدلول ، فيحال بها إلى شيء آخر خارج عنها.
ومثَّل سارتر بفكرة الصوت خالصاً بأنها تجريد محض، ونقل عن الفيلسوف الفرنسي الوجودي (مرلبونتي) في دراسات له عن ظاهرات الإدراك: أنه لا وجود لصفة أو إحساس مجردين تجريداً يخليهما من أي معنى . إلا أن ما يفهم منهما إنما هو معنى ضئيل غامض كطرب خفيف أو حزن غير عميق يظل يلازمهما ويحوم حولهما كضباب القيظ .
ثم علق سارتر بقوله : وهذا المعنى الضئيل هو اللون أو الصوت .
ودلل على ذلك بأن كلمة (تفاح أحمر) تدل على معنى حلاوة التفاح . كما أن كلمة تفاح أخضر تدل على طعم المز - أي الحلو الحامض - .
وهذه الدلالة معنى ضئيل يفهم من مجرد تذكرنا لطعم تفاحة حمراء .
قال أبو عبدالرحمن : وقد ناقشت هذه الدعوى في كتابي "الالتزام والشرط الجمالي" بأن المفردة اللغوية هي وحدة الجملة المفيدة في النثر.
فكلمة مفردة ككلمة (طويل) ليست علامة ذات مدلول إلا إذا كانت في سياق كقولنا: (سارتر طويل) .
ولا مفهوم للطول إلا بتصور من هو أقصر من سارتر .
إذن لا فرق بين الثر وضروب الفن إذا جعلنا المعيار الوحدة والبنية .
وإذن فالنغمة من فن اللحن كالمفردة من النثر الفني وغير الفني من ناحية الدلالة سلباً وإيجاباً .
كما أن سارتر عائم بين الإحساس الذي هو سبب للإدراك وبين الإحساس الذي نتيجته الإثارة .
إن الإدراك الي وسيلته البصر يعني إحاطة البصر بالمرئي من جميع أطرافه .
وهو في المعرفة يعني حصول صورة المدرك في الذهن سواء أكانت تصورية أم حكمية، فهو عند فلاسفة العرب يشمل تمثل حقيقة الشيء وحده، وهو المسمى تصوراً .
ويشمل تمثل حقيقة الشيء مع الحكم عليه بالنفي أو الإثبات، وهو المسمى تصديقاً.
والإدراك ليس هو الإحساس، وإنما الإحساس مصدر للإدراك .
وكل صورة في ملكة العقل فهي إدراك . إلا أن محاكمة الإدراك إلى معايير الحقيقة يقسم لنا الإدراك إلى إدراك عقلي، وإدراك خيالي، وإدراك وهمي .
ومن ذكر إدراكاً رابعاً، وهو الإدراك الحسي فقد غلظ، لأن الحس مصدر جميع أنواع الإدراك وليس قسيمها .
وهذه المعاني عند فلاسفة العرب هي المعقولة لانسجامها مع معاني اللغة ومع طبيعة أعمال ملكة العقل .
إن قضية الالتزام الأدبي لا تتوقف على تمذهب في الإحساس والإدراك .
وإن إقحام التمذهب في الإحساس والإدراك لا يحقق فارقاً بين النثر وضروب الفن.
كما أن رأي (مرلوبونتي) عن الإدراك ليس قرار مختبر علمي أيده رجال العلم وأصبح حقيقة علمية، وإنما هو رأي نظري، ومع أنه نظري فلا يعني الإجماع ولا الأغلبية فهو مردود إلى النظر والتحقيق .
فما هو إحساسُ نوعُ من الإحساس الاستاطيقي، وهو الإحساس الجمالي .
وهذا الإحساس ليس سوى شعور القلب بالبهجة والنتعة من رؤية منظر أو سماع صوت، وهذا شعور بسيط لا يجوز تسميته إدراكاً، وإنما هو شعور قلبي بحت لا علاقة له بتصور العقل ولا بحكمه.
ثم تتمكن في مشاعر الفرد أحاسيس متنوعة متمايزة من عدة مسموعات ومرئيات. إلخ، كلها مثير للبهجة أو الانقباض، وهي متفاوتة في الإثارة بين الأشد والأضعف.
وعلاقة القل بتوالي المشاعر وتمايزها علاقة تصور تختزنه الذاكرة .
فممايزة العقل - بواسطة الذاكرة - بين الأحاسيس هو الإدراك العقلي التصوري .
فالعقل يدرك أنواع الإحساس الجمالي إستنباطاً من مشاعر القلب .
وبعد تصور العقل للتمايز في توالي الإحساسات يصنفها ويصنف حالاتها ومناخاتها، ويصنف أفضل وأسوأ حالات ابتهاج القلب أو كآبته بين الأشد والأضعف، فتكون عملية إدراك العقل حكمية . أي أحكام الجمال المعقولة .
قال أبو عبدالرحمن : ولننظر جانب المعرفة والتعبير من هذا السياق لابن رشد. قال:"وأما النغم فإنها تستعمل في القول الخطبي لوجوه:
أحدها : عندما يريد المتكلم أن يخيل أنه بذلك الانفعال أو الخلق عند السامعين مثل أنه إذا أراد أن يخيل فيه الرحمة رقق صوته، وإذا أراد أن يخيل فيه الغضب عظم صوته . وكذلك في الأخلاق .
وإنما كان ذلك كذلك لأن هذه الأصوات توجد بالطبع صادرة عن الذين ينفعلون أمثال هذه الانفعالات .
والوجه الثاني : أن يكون قصده تحريك السامعين نحو انفعال ما، أو خلق ما. إما لأن يصدر عنهم التصديق الحاصل عن ذلك الانفعال أو الخلق، أو الفعل الصادر عنه .
والوجه الثالث : عندما يقتص عن مخبرٍ عنهم بأن يصفهم بذلك الانفعال أو الخلق.
ومنها أيضاً أنها تستعمل لضرب من الوزن في الكلام الخطبي" (24) .
قال أبو عبدالرحمن : التعبير هاهنا أنه عبر عن مشاعر . وقبوله للالتزام أنه حرك مشاعر .
وقال الفرابي "فطراغوذيا مثلاً نوع من الشعر له وزن معلوم يلتز به كل من سمعه من الناس أو تلاه . يذكر فيه الخير والأمور المحمودة . وأما ديثرمبي فهو نوع من الشعر له وزن ضعف وزن طراغوذيا . وأما قوموذيا فهو نوع من الشعر له وزن معلوم تذكر فيه الشرور، وأهاجي الناس، وأخلاقهم المذمومة" (25).
وقال الكندي :"فإن الإيقاعات الثقيلة الممتدة الأزمان مشاكلة للشجن والحزن ، والخفيفة المتقاربة للطرب وشدة الحركة والتبسط ، والمعتدلة مشاكلة للمعتدل .
وكذلك أوزان الأقوال العددية المشابهة للنسب، فينبغي أن توضع لنحو من هذه الثلاثة أنحاء .
فإن يكمل ذلك يكون تكميل حركة النفس في النوع الذي قد يكون تحريكها فيه من الأنحاء الثلاثة وأقسامها"(26) .
وقال بن سينا "والشعر من جملة ما يخيل ويحاكي بأشياء ثلاثة : باللحن الذي يتنغم به، فإن اللحن يؤثر في النفس تأثيراُ لا يرتاب به، ولكل غرض لحن يليق به بحسب جزالته أو لينه أو توسطه، وبذلك التأثير تصبر النفس محاكية في نفسها لحزن أو غضب أو غير ذلك .
وبالكلام نفسه، إذا كان مخيلاً محاكياً .
وبالوزن، فإن من الأوزان ما يطيش، ومنها ما يوقر، وربما اجتمعت هذه كلها"(27).
وقال ابن سينا "والمحاكاة هي إيراد مثل الشيء وليس هو هو، فذلك كما يحاكي الحيوان الطبيعي بصورة هي في الظاهر كالطبيعي .
ولذلك يتشبه بعض الناس في أحوله ببعض، ويحاكي بعضهم بعضاً، ويحاكون غيرهم" (28) .
وعرف الفارابي الأقاويل الشعرية بأنها "التي تركب من أشياء شأنها أن تخيل في الأمر الذي فيه المخاطبة حالاً ما، أو شيئاً أفضل أو أخس .
وذلك إما جمالاً أو قبحاً أو جلالة أو هواناً أو غير ذلك مما يشاكل كل هذه" (29) .
وقد قسموا الفنون إلى تشكيلية كالتصوير، والنحت، والعمارة. وتعبيرية كالموسيقى والشعر .
والواقع أن التشكيلية ذات دلالة فتكون تعبيرية من هذا الملحظ .
وقال الفارابي :"والألحان بالجملة صنفان على مثال ما عليه كثير من سائر المحسوسات الأخرى المركبة مثل المبصرات والتماثيل والتزاويق، فإن منها ما ألف ليلحق الحواس منه لذة فقط من غير أن يوقع في النفس شيئاً آخر، ومنها ما ألف ليفيد مع اللذة شيئاً آخر من تخيلات أو انفعالات، ويكون بها محاكيات أمور أخر" (30) .
وقال :"ولما كان كثير من الهيئات والأخلاق والأفعال تابعة لانفعالات النفس وللخيالات الواقعة فيها على ما تبين في الصناعة المدنية: صارت الألحان الكاملة نافعة في إفادة الهيئات والأخلاق، ونافعة في أن تبعث السامعين على الأفعال المطلوبة منهم، وليس إنما هي نافعة في هذه وحدها، لكن وفي البعثة على اقتناء سائر الخيرات النفسانية مثل الحكمة والعلوم" (31) .
وقال :"الأشعار كلها إنما استخرجت ليجود بها تخييل الشيء وهي ستة أصناف. ثلاثة منها محمودة، وثلاثة مذمومة .
فالثلاثة المحمودة أحدها الذي يقصد به صلاح القوة الناطقة، وأن تسدد أفعالها وفكرها نحو السعادة، وتقبيح الشرور والنقائص وتخسيسها .
والثاني الذي يقصد به إلى أن تصلح وتعتدل العوارض المنسوبة إلى القوة من عوارض النفس ، ويكسر منها إلى أن تصير إلى الاعتدال، وتنحط عن الإفراط، وهذه العوارض هي مثل الغضب، وعزة النفس والقسوة، والقحة، ومحبة الكرامة، والغلبة، والشره، وأشباه ذلك . ويسدد أصحابها نحو استعمالها في الخيرات دون الشرور .
والثالث الذي يقصد به إلى أن تصلح وتعتدل العوارض المنسوبة إلى الضعف واللين من عوارض النفس، وهو الشهوات واللذات الخسيسة وزور النفس ورخاوتها، والرحمة، والخوف، والجزع، والحياء، والترفة، واللين وأشباه ذلك لتكسر وتنحط من إفراطها إلى أن تصير إلى الاعتدال، ويسدد نحوها استعمالها في الخيرات دون الشرور .
والثلاثة المذمومة هي المضادة للثلاثة المحمودة، فإن هذه تفسد كل ما تصلحه تلك وتخرجه عن الاعتدال إلى الإفراط" (32) .
قال أبو عبدالرحمن : النقد الجمالي علم وفكر، وليس ذلك أن الجمال ليس معرفة في ذاته، وأنه بني عليه تنظير ونقد فأصبح ذلك التنظير والنقد هو العلم لا الجمال ذاته .
بل الجمال معرفة في ذاته، لأن الجمال تذوقاً وإحساساً معرفة لها أصولها . كما أنه إبداعاً مسبوق برؤية الفنان الشاملة ليجسد في عمله الفني خبرته هو وتجربته، والتجربة الإنسانية اجتماعياً ونفسياً وخلقياً ودينياً . ولكن يجسد ذلك بتشكيل ( أو توصيل) جمالي . فكل هذا معرفة . واستجلاء قدرة الفنان، وتفسيرها، وتحليلها معرفة. وهذه المعرفة من عناصر سوسيولوجية، وسيكلوجية، وأخلاقية، وميتافيزيقية (33) .
ولهذا لما عرف الكسندر بورماتن الجمال في كتابه "تأملات في الشعر" جعل علم الجمال هو المرادف لعلم الإدراك الحسي، أو نظرية في أدنى أنواع المعرفة، أو فن التفكير الجميل، أو التفكير بالتشابه (34).
قال أبو عبدالرحمن : فكل هذه المترادفات تعني أن الجمال وعلومه معرفة .
وقد جعل مارتن علم الجمال أيضاً موازياً لنظرية الفنون الجميلة ، لأنه يريد أخذ عناصر الجمال من فنون عرف السواد الأعظم أنها جميلة .
كما أن وولف ولايبنتز اعتبرا الجمال كمالاً مدركاً بالحس، أو تخيلاً محسوساً(35) .
قال أبو عبدالرحمن : وتتميز الأحكام الجمالية عن الأحكام المنطقية بأن مصادر العقل في حكمه الجمالي محصورة حصراً محكماً في ثلاث جهات هي :
1. صفات وخصائص المرئي أو المسموع الذي أثار جمالاً أو قبحاً .
2. ما اختزنته الذاكرة من مشاعر أثارت ابتهاج القلب أو اشمئزازه .
3.علاقة الحالات المختلفة للمرئي والمسموع . إلخ بمشاعر القلب المختلفة .
والعقل في كل أحكامة بالجمال أو القبح مجرد ناقل أمين لمشاعر القلب في حالات مختلفة وأزمنة متوالية .
وعمله الجوهري هو استذكار الأشد والأضعف لكل حالة تجريبية خلت .
وبهذا يتضح أن الحكم الجمالي - ابتداء بالخارجي المؤثر وانتهاء بالحكم العقلي - يمر عبر الأطوار التالية :

جنــــون 07-02-2011 10:13 PM

1- الخارجي المؤثر كاللحن واللوحة .
2- الإحساس المصاحب من سماع أو رؤية . والعقل لا يُغفل أثر الإحساس السليم في درجة الحكم، فالإحساس المصحوب بانتباه ذهني مشوش ينتج شعوراً مشوهاً .
3- الشعور، وهو استجابة القلب الذي هو مصدر الابتهاج أو الاشمئزاز من المؤثر الخارجي .
4- مخذون الذاكرة من الحالات، وأحكام العقل من المميزات .
قال أبو عبدالرحمن : ولا ينبغي الخلط بين مشاعر القلب وانفعالاته، فاللحن الحزين المبكي لذلك . ولو كان مجرد الحزن جمالاً لكان أين الوالد تحت وطأة المرض الأليم صوتاً جمالياً لدى الابن .
ولو كان مجرد الحزن قبحاً لكان صوت شبَّابة الراعي المتيم أو قيثارة المغترب لحناً قبيحاً.
بل بعض المؤثرات الخارجية يصاحبها دلالات تعبيرية أو رمزية تثير الفرح أو الحزن، وهي زائدة على الشعور الجمالي، وهذا حكم بأنه يوجد في الفن كالموسيقى تعبير كما يوجد في الأدب موسيقى .
إن الجمال يُدرَك تصوراً وحكماً، ومعنى هذا أنه يُفهم ويُعبِّر عنه ولكن من زاوية واحدة هي خصائص وصفات المؤثر الخارجي الذي أحدث إحساساً جمالياً .
أما الجمال نفسه المرادف لبهجة القلب ومتعته فلا تستطيع اللغة التعبير عنه، وإنما يحال عن حقيقته إلة شعور القلب، وتجريدات الذهن .
وهذه الظاهرة حصيصة من خصائص الحكم الجمالي .
وعجز اللغة عن التعبير عن الحقيقة الوجودية للجمال لا يعني فتح باب الدعوى لمدعي الجمال أو القبح بحيث يزعم أن ما كان قبيحاً جميل عنده، وأنه لا فارق بين القبح والجمال .
ذلك أن خصائص المؤثر الخارجي ومواصفاته التي صنفها أصحاب النظرية الموضوعية في الجمال مصنفه تصنيفاً فئوياً لأحاسيس مختلف الطبقات، فهي القانون للإثارة الجمالية عند الشرقي تارة وعند الغربي تارة . وهي تصنف في درج المثل الأعلى والأدنى .
وتصنيف الأحاسيس الفئوية بين الأعلى والأدنى يكون بالنسبة لمستوى الفئة فكرياً وثقافياً مع خصائص نفسية ومواهب فكرية .
وبهذا فدعوى الجمال الفردي مردودة، وإنما تُردُّ إلى إحساس فئوي، فإن لم تقبلها أي نظرية موضوعية فهي مجرد تحكم .
وحقيقة الجمال الوجودية غير ما يصاحبها من إثارة انفعالية معبرة عن معنى أو رامزة إليه .
إن الجمال مجرداً هو متعة القلب وابتهاجه من مؤثر خارجي فحسب بغض النظر عن دلالته التعبيرية أو الرمزية .
وهكذا القبح مجرداً إنما هو اشمئزاز القلب من مؤثر خارجي .
فبهجة القلب غير معللة بشيء آخر غير استقبال الحس للمؤثر الخارجي ذاته .
والأنين يئن به المريض مقعداً لا يثير شعوراً بالقبح، فقد يكون الأنين في ذاته جميلاً لو صدر من غير مريض، وإنما نفرت منه النفس لكونه عن مرض .
وإنما يوصف أنين المريض بالحزن لا بالقبح لما يثيره من انفعالات الخوف والجزع . وهذا الأنين في ذاته لم يوصف بالحزن إلا لأنه صادر عن مريض وكان دالاً على قوة الألم .
فالأنين ليس حقيقة وجودية للقبح، ولكنه دلالة رمزية على ألم مروع صالح لاتخاذه دلالة تعبيرية في مجاز اللغة .
وبعكس ذلك لحون الشرقيين الحزينة الجمالية، أحياناً تكون لحناً بكائياً حزيناً .
والحزن ليس هو الحقيقة الوجودية الجمالية، لأنه يستمتع بهذا اللحن من لا يحزن ولا يبكي . إن الحزن دلالة تعبيرية مصاحبة خارجية عن الحقيقة الجمالية زائدة عليها .
وجاءت هذه الدلالة من واقعين :
أحدهما : مدلول كلمات الأغنية الحزينة في سياقها العام .
وثانيهما : محاكاة اللحن الموسيقي لأصوات النفس الطبيعية التي يتنفس بها المحزون كالتأوه .
إذن الجمال - كاللحن الجميل - قابل للالتزام، لأنه قابل لمصحابة دلالة تعبيرية أو رمزية .
والإدراك ليس مرادفاً للإحساس، لأن ذلك بخلاف اللغة، فلا ارتباط بين مفهومي الإحساس والإدراك لغة . وهو خلاف الواقع ، ل، الإحساس مصدر للإدراك وليس في معناه . وهو مصدر لنوعين من الإدراك لا ثالث لهما:
أحدهما : يصور الحقيقة الوجودية ويحكم فيها .
وثانيهما : يستنبط منها مفهوماً . أي يتخذها دلالة أو رمز .
فالإدراك الأول : تصور طعم التفاحة الحمراء، والحكم بين طعمي التفاحة الحمراء والخضراء .
وهذا الإدراك اضطراري لا اختياري .
ومعنى اضطراريته أنه تصوير للواقع وليس توظيفاً له .
والإدراك الثاني : أن تأخذ من العلاقات الحسية التي نثير شعوراً مفهوماً دالاً على معنى كاستعارة معنيي الإشعاع والإحراق لكلمة واحدة هي الحب فنسميه بالشمس الحمراء، لأن علاقات بعض الموجودات بالإشعاع والإحراق مماثلة أو مشابهة لعلاقات العاشق بالمعشوق . وهذا الإدراك اختياري حر، لأننا تواضعنا على المدلول والرمز بإرادة حرة، إلا أن التواضع لم يكن اعتباطاً ولا تحكماً وإنما هو مستنبط من أحاسيس نفسية ولهذا سميناه إدراكاً.
ونحن لم نوظف المحسوسات لتعطينا دلالة رمزية، وإنما العلاقة وجود بين الأحاسيس الناتجة عن محسوسات كثيرة، وذلك الوجود مَنَحَا دلالة رمزية، وتجوزنا بها فصارت دلالة تعبير، كما تجوَّز أدونيس بالرماد دلالة على موروث الشرق، وبالريح دلالة على التضليل . وقليل من الشباب من يعي الرموز العلمانية أو المعادية في بعض الشعر الحديث ، ولا يميزها عن الرموز الحضارية العارية من الكيد والتضليل .
وقد حصل تسامح من بعض المصطلحين الأسلاف فالجرجاني مثلاً يعرف الإحساس بإدراك الحواس(36) . وسوغ ذلك عنده أن البصر من الحواس، وقد وصف الله جل حلاله نفسه بأن الأبصار لا تدركه .
وسوغ ذلك أيضاً أن "درك" مادة تدل على اللحوق والوصول في أصل اللغة كما قرر ذلك ابن فارس وغيره(37).
ومن الطبيعي أن ارتباط الحس بالمحسوس لا يكون إحساساً إلا إذا حصل من المحسوس شعور في القلب أو صورة في الذهن .
والمدرِك بصيغة اسم الفاعل حقيقةً الموصوفُ بالإدراك حقيقة هو القلب والعقل، والحس في ذاته أداة محصلة للشعور الذي حصل منه إدراك، فالتعبير عن الإحساس بالإدراك تعبير مجازي، لأن الإحساس مصدر للإدراك.
والمواصفات والاصطلاحات يجب أن تركن إلى حقائق اللغة لا مجازات التعبير حتى لا تضطرب المعاني .
والإدراك الذي نفاه ربنا هو الإحاطة بالبصر، فلو حصلت إحاطة البصر لأدرك الذهن صورة المحاط والمنطق إلى إدراك القلب والعقل أولى من ردها إلى مباشرة الحواس، لأن الغرض في قضايا الجمال والمنطق معرفة المفهومات التي أدركها القلب والعقل، وليس الغرض معرفة عمل الحواس في مباشرتها للمحسوس، فربما أحاط نظر الإنسان بمرأى جميل مع غياب ذهنه فلا تكون إحاطة النظر إحساساً، لأنه مع غياب الذهن لم يحصل شعور في القلب ولا صورة في الذهن .
إن الإحساس هو عمل الحس، ومصدر الوجدان والإدراك العقلي ، لأن الإحساس ينتج شعوراً قلبياً وإدراكاً عقلياً .
ونعود إلى قول مرلبونتي :"لا وجود لصفة أو إحساس مجرد تجريداً يخليهما من أي معنى، وأن المعنى قد يكون غامضاً ضئيلاً كطرب خفيف أو حزن غير عميق.
قال أبو عبدالرحمن : إن أراد مرلوبونتي عموم الإحساس فلا ريب أن سماعي لصوت رجل لا تربطني به علاقات لا يكوِّن -بتشديد الواو- عندي أي معنى ولو ضئيل لفرح أو حزن .
وإن أراد الإحساس - الجمالي حيث وردت كلمته في سياق سارتر عن الإحساس الجمالي - فلا ريب أيضاً أن الإحساس في ذاته معنى، وهو لن يكون إحساساً جمالياً إلا إذا كان ممتعاً مفرحاً، وإن دل على حزن كما مر من ضرب المثال بالأنين .
أما المعنى الآخر الذي اشترطه مرلوبونتي (وهو وجود معنى غامض ضئيل كحزن غير عميق) فغير صحيح، لأن هذا المعنى يوجد كثيراً، ولكنه ليس من الشرط أن يوجد دائماً، وإنما يوجد مصدره المصاحب لمصدر الإحساس بالجمال .
ومن حجج سارتر على إبعاد الشعر عن قبول الالتزام ما بينه بقوله: "إذا فهمت عرفاً من الورود الأبيض أنها رمز الوفاء فذلك لأني لم أعد أحسبها وروداً، بل يخترقها نظري رامياً من ورائها إلى ذلك المعنى التجريدي . يعني الوفاء.
إني أنساها، ولا أحفل بغزارتها المتوثبة كالزبد، ولا بعَرفها- بفتح العين- المستوفز . إنني لم أُعرفها انتباهاً .
ومعنى هذا أني لم أسلك حيالها مسلك فنان . ذلك أن الفنان يعد اللون وطاقة الزهر ورنين المعلقة في الصحون أشياء في ذاتها وفي أعلى درجات وجودها، ويتأمل في صفات اللون أو الشكل، ويطيل فيها التأمل مبهوراً بجمالها، وينقل على لوحته ذلك اللون الموضوعي نفسه . وكل ما يعتريه من تغير هو أنه جعل منه موضوعاً خيالياً.
فالفنان إذن أبعد ما يكون عن عد الألوان والأصوات لغة من اللغات".
قال أبو عبدالرحمن : شرح سارتر الكيفية التي لها أصبح الورد الأبيض ذا مدلول عرفي . وليس هذا محل خلاف. إنما محل النزاع ما ادهاه من أن الفن لا مدلول له غير المتعة الجمالية، ولهذا أصبح غير قابل للالتزام .
فتفسير سارتر لكيفية الدلالة لا يعني البرهنة على انتقاء الدلالة .
واللون مادة الفنان التشكيلي، وكل لون له إيحاء موضوعي يرمز به الفنان شاعراً أو ناثراً ورساماً، فيصبح هذا الرمز مدلولاً عرفياً، وهذه الدلالة زائدة على المعنى الجمالي الخالص، وبهذا أصبح الفن بريئاً من دعوى الخلص المطلق، وأصبح ذا دلالة .
والدلالة الأدبية والفنية أثرى وأمتع من الدلالة القاموسية، فعلى سبيل المثال رواية بلزاك عنوانها زنبقة الوادي، وهو مدلول فني رمزي موفق لا يليق به أي دلالة قاموسية كالعفيفة، أو الشريفة، أو الطاهرة، أو النقية .
والدلالة الفنية والأدبية الرمزية العرفية الزائدة على معنى الجمال ليست تجريداً لأعمى كما سيدل عليه سياق سارتر ، وكما سيدل عليه زعمه بأنه الرامز بالوردة لم يسلك معها مسلك فنان، لأن الرامز بالوردة دلف إليها بإغراء جمالي لجمال شكلها ولونها وعبيرها، وخبرها خبرة جمالية، فرأى صدق معانيها الجمالية لأنه لا يقبح شكلها ولونها مطلقاً، ولأنها بالعبير دائماً، ولأنها تمتع بذاكرها في المغيب كما هو محضرها في المشاهدة .
فهذه خبرة فنان بلا ريب، فأخذ من صدقها الجمالي رمزاً عرفياً كالوفاء والطهر لأن الوفاء صدق مستديم فناسبه الصدق الجمالي المستديم للوردة .
فالرسام وذو التعبير الفني لم يورد لفظه أو لونه استعارة لجمال الوردة في ملء الفراغ حتى يكون جمالياً خالصاً، وإنما اشتق منه مدلولاً عرفياً يرشحه للالتزام، وهذا معنى أن الفن معرفة .
ومن قول سارتر :"للون مدلول لغوي قاموسي ككلمة أحمر فهي لفظة دالة على اللون المحسوس الذي سمي أحمر .
وكلمة غاق كلمة قاموسية تدل على صوت الغراب .
كما أن كلاً من اللون والصوت يكون مدلولاً فنياً رمزياً كدلالة غاق على الخراب، ودلالة الأحمر على الإرهاب.
ولا فرق بين الشاعر والناثر، فقد يوظفان اللغة القاموسية للتعبير المباشر عن مرادهما .
وقد يوظفان الرمز والمجاز الفنيين للتعبير الموحي بمرادهما .
إذن الالتزام سلباً وإيجاباً في حرية الشاعر والناثر ، وليس هو إيجاباً حتمية في لغة الناثر فقط بحيث يكون سلباً حتمية في لغة الشاعر .
ومن يدعي قبول الفن للالتزام لا يدعي أن دلالته الزائدة على المعنى الجمالي دلالة قاموسية مباشرة، وإنما ينكر ما ادعاه سارتر من خلو الفن من أي مدلول يرشحه للالتزام غير مجرد المعنى الجمالي .. وقبول الفن فرع كونه معرفة.
ويرى سارتر أن الرسام في مزجه بين الألوان لا يقصد إلى وضع علامات على لوحته، ولا يدل مجموع الألوان على معنى محدد.. واستثنى معنى خفياً كتفضيل الرسام للون الأصفر على البنفسجي، لأنه قد يدل على ميوله الخفية، ولكنه لا يعبر عن غضبه أو ضيق صدره أو عن سروره كما تعبر الكلمات أو ملامح الوجه، لأن مشاعر الفنان تختلط على الأفهام ويغمض معناها حين تصب في قوالب من الأصباغ التي كان لها من قبل ما يشبه المعنى.
قال أبو عبدالرحمن : غبي على سارتر أن اللوحة التي لا تدل على شئ، وليس وراءها إلا المتعة الجمالية فحسب: هي الشكل الأدنى في الفنون التشكيلية .
وهذا يعني أن الدلالة في الفن التشكيلي مطلب فني مجمع عليه من مبدعي الفن وجمهوره.
وغبي على سارتر أن دلالة الرسم الغامضة على ميول الفنان الخفية (كاختياره للون الأصفر) قضية أخرى غير قضية موضوع اللوحة.
ومن باب القياس نحن نفهم معنى إحدى قصائد المتنبي، وهذا هو دلالة الموضوع، وفي نفس الوقت نستشرف إلى معنى إحدى قصائدالمتنبي، وهذا هو دلالة الموضوع، وفي نفس الوقت نستشرف إلى معنى ميوله الخفية على اختيار التعقيد والغموض بدراسة سيكلوجية وتاريخية.
إذن دلالة اللوحة على ميول الرسام الخفية قضية أخرى، ولا تعني خلو اللوحة من الدلالة الموضوعية.
وغبي على سارتر أن اختلاط مشاعر الفنان لا يعني اختلاط مراداته (الدلالة الموضوعية) الناتجة عن اختلاط مشاعره .
وعلى فرض أن اختلاط مشاعره يعني اختلاط مراداته: فهذا بيقين لا يعني انعدام الدلالة، لأن غموض الدلالة لا يعني الخلو منها.
وعلى فرض أن اختلاط مشاعر الفنان يعني اختلاط مراداته، وأن اختلاط المراد يعني الخلو من الدلالة: فهذا لا يعني بيقين أن هذا خكم مطلق في كل لوحة، وإنما يعني ذلك أن بعض اللوحات لم تحقق مدلولاً.
ومن يقول :"أن للفن دلالة" لا يزعم أن كل فن يحمل مدلولاً، بل يزعم أن الفن قابل لدللالة لمن أراد الانعتاق من المحضية الجمالية، ومن ثم فهو قابل للالتزام.
ولهذا ضرب سارتر المثال بلوحة (الجلجلة) وهو الجبل الذي تزعم النصارى أن عيسى عليه الصلاة والسلام صلب عليه.
وهي لوحة رسمها الفنان الإيطالي تنتورتو فرسم مِزْقة صفراء في السماء فوق الجبل.
وقد حاول سارتر أن ينفي عن هذه المزقة أي مدلول أراده الرسام، لأنه يشتبك بها علاقات تمنع من معنى محدد.
قال أبو عبدالرحمن : لم أطلع على لوحة (الجلجلة) ولا يحق لي الحكم على غائب، ولكن على فرض خلو لوحة الجلجلة من مدلول فلا ينسحب هذا الحكم على كل لوخة في الوجود.
وإشتباك العلاقات في لوحة الجلجلة لا يعني خلوها من المعنى، وإنما يعني تعدد المعاني المحتملة.
فهل غبى على سارتر أن اللغة القاموسية التي يؤمن بها تكون خفية الدلالة ومحتملتها؟!.
وهل غبى عليه أن الجملة تدل على أكثر من معنى كما تدل اللوحة على أكثر من معنى؟!.
وهل غبي عليه أن بين المعاني المحتملة معنى محدداً هو مراد المتكلم أو الرسام بمرجحات أخرى؟!.
وثمة ملاحظة نفيسة وهي أن غموض المشاعر نفسها يكون مدلولاً، لأن الرسام أراد أن يعبر عن المشاعر الغمضة بمدلولات غائمة.
لقد تجاوز فن الجمال الانطباعات والتذوقات البسيطة والأحكام المرتجلة إلى تقنية علمية حضارية، وأصبح منه تربية تعليمية ودعائية واقعية طوع الفنان الملتزم الموهوب، وبهذا تحول الجمال من إحساس إلى علم.
إن نظرية الالتزام المشلول في مذهب سارتر هي الوجه الكئيب في النظرية الأدبية، وإن النظرية الفنية الأدبية لا تحتمل هذه اليبوسة السارترية.
يقول سارتر: وكذلك دلالة الألحان- إذا جاز لنا أن نسميها دلالة- ليست شيئاً خارجاًَ عن الألحان نفسها!.
فهي في هذا مغايرة للأفكار التي يستطاع الإعراب عنها بطرق كثيرة على سواء.
ثم قال: ولكن لحن الألم هو الألم نفسه، وشيئ آخر غير الألم.
وعرج على الرسام، وقال عن مقارنته بالكاتب: أن يقودك إلى ما يريد، وإذا وصف لك كوخاً فحسب، ولك حرية تأويله بما تشاء .. ولن يكون هذا الكوخ رمزاً للبؤس، لأنه لكي يكون رمزاً يجب أن يكون علامة لها مدلولها في حين هو في الواقع شيئ من الأشياء. وقد قصد أحياناً بعضُ الخيرين من الرسامين إلى إثارة شعورنا فرسموا صفوفاً من العمال يتقاضون أجورهم فوق الثلج، أو أبرزوا الوجوه الهزيلة للمتعطلين، أو صوروا ميادين الحروب .. ولن يتجاوز أحدهم في التأثير ما وصل إليه الفنان جزور في لوحته (الولد المضياع).
قال أبو عبدالرحمن: لم أطلع على لوحة (الولد المضياع) ولكن علمت أنها تعبيرصامت عن حكمة تقرؤها النصارى في كتب العهد الجديد من إنجيل لوقا، وهو أحد الكتب المبدلة المفتراة .. ورد فيه عن فرحة الله بتوبة التائب هذان المثلان :"أي إنسان منكم له مئة خروف أضاع واحداً منها: أن لا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده!!.
وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحاً، ويأتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران قائلاً لهم : إن هذا يكون فرح السماء بخاطئ واحد أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة!.
أو أية امرأة لها عشرة دراهم إن أضاعت درهماً واحداً أن لا توقد سراجاً وتكنس البيت وتفتش باجتهاد حتى تجده!.
وإذا وجدته تدعو الصديقات والجارات قائلة: افرحن معي لأني وجدت الدرهم الذي أضعته" (38).
ثم أجمل الحكم في فنون الرسامين بقوله: وبالرغم من هذا ففي كل هذا الإنتاج الفني يمكن فهمه كل الفهم ولابد من كلمات لا حصر لها للدلالة عليه.
وقال: فالمعاني لا ترسم، ولا توضع في ألحان .. فمن ذا الذي يجرؤ - والحالة هذه- أن يطلب من الرسم والموسيقى أن يكونا التزاميين ؟!.
وعلى النقيض من ذلك الكاتب، فعمله إنما هو في الإعراب عن المعاني.
وعلينا أن نسجل هنا تفرقة أخرى هي أن ميدان النعاني إنما هو النثر، فالشعر يعد من باب الرسم والنحت والموسيقى.
قال أبو عبدالرحمن : الفن الموسيقي غير قابل للالتزام عند سارتر، لأن دلالة اللحن هي اللحن نفسه، وهذه دعوى غير متحصلة، لأن منع سارتر للفنون الجميلة من قبولها للالتزام مبني على دعواه بأنها فنون غير تعبيرية.
فكون الفن هو نفس دلالته لا معنى له، بل إذا وجدت الدلالة أصبحت قابلة للالتزام.
ولا يتصور عقلاً ولا واقعاً أن يكون الشيء له دلالة ، ثم تكون الدلالة هي ذات الشيء.. والأريح لسارتر أن يثبت على أحد أمرين:
فإما أن يجزم بأن للحن دلالة، وحيمئذ لا يجد المسوغ الكافي بأن اللحن غير قابل للالتزام.
وكثير من اللحون ذو مدلول، واللحن ليس هو الدلالة (ويريد سارتر بالدلالة المدلول عليه) بل في اللحن صورة المدلول عليه.
والمدلول عليه حقيقة هو إحساس الملحن أو المتلقي.
أما قول سارتر "ولكن لحن الألم هو الألم نفسه": كلام لا ينفعه، لأن هذا لا يعني أن اللحن لا دلالة له، ولا يعني أن اللحن هو نفسه المدلول عليه.. بل يعني هذا أن للحن حقيقة في ذاته، وأن له مدلولاً غيره هو التعبير عن الألم أو استثارته.
أما قوله :"وشيء آخر غير الألم": فيعني به محضية الفن.
وقال سارتر: فهي- أي الألحان- مغايرة للأفكار التي يُستطاع ال'راب عنها بطرق كثيرة على سواء.
قال أبو عبدالرحمن: نعم هذا صحيح فكان ماذا؟!.
لو لم يكن اللحن غير الأفكار والعواطف والمعاني لما كان اللحن ذا دلالة.
كذلك الكلمات التي تقبل الالتزام عند سارتر هي غير الأفكار والعواطف والمعاني بل هي رمز لها.
قال أبو عبدالرحمن: ولا يغيبن عن البال ظاهرتان:
أولاهما: أن وجود بعض الألحان التي لها مدلول غير محضية الفن: كاف للإيمان بأن اللحن قابل للالتزام.
وثانيهما: أن غموض دلالة الفن أحياناً لا يعني عدم قبول الفن للالتزام، وإنما يكون الالتزام الفني ذا غموض أحياناً.
فغموض الدلالة غير انتفائها، وعدم قبول الالتزام غير غموض الالتزام.
وكون الرسام أبكم، وكون الكاتب ناطقاً: لا يعني أن دلالة الناطق أوضح، ولا أن الكاتب أحظى بالالتزام.
بل يعني ذلك أن كلاً من الرسم والكتابة يحملان مدلولات من أفكار وعواطف ومعانٍ.
غاية ما في الأمر أن مُشاهد اللوحة يتلقى مدلولها بملكة الفهم، وملكة الحفظ باستذكار الصور العينية لمدلولها.
أما قارئ الكتابة فيتلقى مدلولها بملكة الحفظ باستذكار معاني اللفظ المعجمية، وبملكة الفهم في استخلاص المفهوم العام من السياق.
وهذا الفارق لا أثر له في قبول الالتزام وعدمه.. أي أنه فارق غير مؤثر.
فإذا أصبح في المعنى العرفي اللغوي- بمجاز أدبي - أن الكوخ رمز للظلم الاجتماعي أصبح الكوخ أداة في ريشة الفنان.. بل ربما استعير المجاز الأدبي من ريشة الفنان نفسه.
ومعظم أعمال الرسامين العمالقة لم يكن وجودها الاعتباري لمحضية الشكل الجمالي، من ريشة الفنان نفسه.
ومعظم أعمال الرسامين العملاقة لم يكن وجودها الاعتباري لمحضية الشكل الجمالي، بل لعظم أثر دلالتها في النفوس.

جنــــون 07-02-2011 10:14 PM

وبهذا يصبح من اللغو قول سارتر :"ولن يكون هذا الكوخ رمزاً للبؤس، لأنه لكي يكون رمزاً يجب أن يكون علامة لها مدلولها في حين هو في الواقع شيء من الأشياء".
قال أبو عبدالرحمن: هو ذو مفهوم وكفى ، وهو شيء من الأشياء بالنسبة للأصباغ واللوحة وكونه صورة على مثال.
وهو ذو مفهوم لكونه رمزاً لمجتمع ما، فهو صورة محلٍّ لصورة حالٍّ.
وإذا كان سارتر يعلل عدم قابلية الفن للالتزام بضعف تأثره- بناء على مقارنته فنون الرسامين بلوحة الولد المضياع-: فلا يغيبن عن البال أن الفنون أعظم تأثيراً من النثر القابل للالتزام عند سارتر المشروط بخفاء الحلية الفنية.
وليلاحظ أيضاً أن مقارنته إنما كانت بين فنون جميلة وليست مقارنة بين ما يقبل الالتزام وما لا يقبله.
والفنون بدأت أول ما بدأت لتكون تعبيراً، وإنما جاءت محضية الفن في لحظات فراغ وترف، فبطل بذلك قوله: فالمعاني لا تُرسم، ولا توضع في ألحان؟‌‍‍‍‌‍‍‍‍‍‍‍.
وجمهور العقلاء وذوي الاختصاص هم الذين يجرؤون على تطويع الفن للالتزام، لأن القيمة التعبيرية أم القيم الجمالية.
ولو فرض أن الإعراب عن المعاني هو ميزة الكاتب التي لا يشاركه فيها غيره لما كان ذلك مخصصاً له بقابلية الالتزام، لأن الالتزام ارتباط بقضية وليس هو صفة من صفات التعبير، بل أي صفة من صفات التعبير تقبل الارتباط بقضية.
ونجد المَطالب التعبيرية في فن السينما، ففي الثلث الأول من القرن العشرين نودي بأن تكون السينما الفن السابع.. وهذا النداء جاء رغم علمهم المسبق بأن السينما ألصق بالفنون التشكيلية، لأن أكثر عناصرها الشكل واللون والصورة، وحققت التجربات السينمائية قبولها للتمذهب الأدبي والفني، فعلى سبيل المثال تعتبر التجريدية من مذاهب الأدب والفن، ولكن السينما غير خالصة للتجريد، وإلا لكانت مجرد أفلام كرتونية أو مصور متحركة.
بل النص الأدبي عنصر أساس في السينما، ولكن الصورة واللون والشكل كل ذلك يأتي بالتبع، وهو من إبداع المخرج، ليظهر مدلول النص بتعبير سينمائي.. أي بتركيب صور لو استطاعت الكلمة التعبير عنها لكان التعبير بالصورة المثل الأعلى للمتعة والبراعة.
إن في أجهزة التصوير السينمائي ما يسمى السكوب والتكنيسكوب اللذين يكثفان عرض صور الأشياء ثم يعيدانها إلى حجمها الواقعي.
وهناك جهاز الزوم الذي يقرب مسافات الرؤية للصور المتباعدة.
وبهذا يصح أن السينما تحقق قيماً تعبيرية لا تتوفر في الفنون الجميلة الأخرى.
وهذه الأجهزة السينمائية مع أجهزة غيرها تيسِّر (39) للمخرج عملاً إبداعياً متميزاً حينما يستطيع رسم ما لا يستطاع تصويره من الأخيلة والأفكار التي يجيش بها خاطر الفنان كاتب النص أو خاطر السينمائي المخرج.
ولهذا كان مصور السينما شريك المخرج وكاتب النص في بلورة الفن السينمائي، ومن ثم يكون الفيلم حضوراً حسياً وتكثيفاً تعبيرياً بمختلف وسائل التعبير.
ويتفاعل المشاهد مع الفيلم بتناغم حواسه وملكات فهمه ومقومات وعيه فيخرج بوعي أعمق من الانطباع الحسي والفهم الفكري.
ويسمو هذا الوعي ويتكثف حينما يكون الجمهور نموذجاً فريداً في ثقافته وفنه، وذلك حينما يدرك مدى قبول التعبير السينمائي للتمذهب لبفني على نجو التمذهب في الأدب والفنون الأخرى.
وقبول التعبير السينمائي للتمذهب من الأبجديات في تجربة المختصين.. بيد أن المشاهد الشرقي- وبالأخص العربي- غير مستعد ثقافياً للاستمتاع بمشاهد تنطوي على غيبيات الرموز التي يتمذهب لها الفن التشكيلي مثلاً.
إن المخرج قد يصور طائراً على غصن يقابله صوره فم ليجرد معنى الغناء.
ولكن الشرقي لا ينسجم كثيراً مع هذه الدلالة، لأنه يرهن متعته بفهم المدلول الرمزي الذي قد يتأخر بحكم تعاقب المشاهد ديناميكياً.
وكذلك قصية الشكل والمضمون والمدلول حسب مطالب الجمال والفكر فإنها تنقسم إلى مذاهب حسب الاكتفاء بأحد تلك العناصر في الاعتبار أو تغليبها.
إن الشكل هو المنبَثق لمتعة المشاهد الشرقي، وكذلك المضمون إذا كان سريع الإفهام في أجزاء المشْهّدِ المتعاقبة، لأن المشاهد يتشوق إلى حل العقدة.
لهذا أقول: إن السينما التي تلح على تمذهب فني في تعبير الصورة واللون والشكل: لا أتوقع لها نجاحاً سريعاً في شرقنا العربي، لأنها تعلق المشاهد في تحفز يتأزم لتفكير لم تتهيأ له ظروفه الثقافية.
فحينما يرى المشاهد العربي ممثلاً يسير بصمت في شارع طويل غير مطروق ربما لا يهتدي تفكيره إلى المدلول بسرعة تناسب تعاقب المشهد، وربما اضطر إلى قطع تفكيره منذ مفاجأته بمشهد آخر، وربما واصل تفكيره ففاته مدلول المشهد الثاني.
وكل هذا لا يناسب الشرقي، (40) لأنه يريد أن يستمتع بفهم سريع يمكنه من المتابعة، ولا يستطيع رهن متعته بإحساس جمالي متوقف على تكفير متأزم.. وقد يفلس من الفهم فيكون إحساسه بالجمال سطحياً.
والعربي أمام لوحة تشكيلية ثابته يستطيع أن يهتدي بعد عشرات أو مئات التأملات إلى مدلول اللوحة، لأنه ليس هناك مشاهد متعاقبة تستفذه.
ولا يهديه إلى فهم سريع أن يكَّون ثقافة تشكيلية كأن يعرف بأن اللون الأحمر يدل على الوحشية أو النشاط، وأن اللون الأزرق يدل على الهدوء والعاطفة، وأن اللون البني يدل على الحزر والتوقع.
وذلك أن دلالة الألوان غير ثابتة وهي في جدلية العلاقات التي يبتكرها الفنان.
ويميز الفن السينمائي عن فني التصوير والنحت أنه يحرك الأشكال والألوان.. وفي هذا إثراء للوعي وتعميق لإحساس حاسة البصر.
ويتوسل الفن السينمائي بخداع البصر فيضيف قيماً تعبيرية جديدة.
ودرج الذوق الشرقي على أن يطلب في الفيلم حبكة وعقدة مثيرة يستمتع أو يعتبر بحلها.
ولكن فن القصة وأخواتها حنك الذوق العربي، فلم يسلبه العقدة تارة، وتارة جعلها نتيجة يحسها المشاهد في وعيه كأن يشاهد أحداث بطل يتحدى الصعاب وحده، ويناضل كل مظهر متصلب يتحدى طموحه، أو مظهر منوم يسلب طموحه.. ثم تنتهي حياة البطل بالعمدية أو الفشل دون عون من المجتمع الذي ناضل البطل من أجله، أو إحساس منه بفادحة الخطب.. فليس هاهنا عقدة، ولكن المشاهد يستنبطها من وعيه، وهي أن البطولة الفردية لا تجدي.
وهذا نوع من الفهم السريع لا ينغص على الشرقي متعته.
وإذا اعتبرنا السينما لغة التعبير- وهو اعتبار صحيح- فإننا نجد ضروب التعبير الأخرى لا تستحضر كل منافذ الحس.
فأنت تسمع كلام محدثك فلا تحتاج إلا إلى إصغاء السمع لتستوعب الحروف.
وقد تعتصر ذاكرتك في النادر إذا غاب عنك المعنى المعجمي، وبمجرد علمك بمعناه تحضر صورة المراد في ذهنك، لأن اللغة رمز لما هو في ذهنك.. إلا أن هذا الوعي نتيجة إحساس واحد حاصل من حاسة السمع.
وقل مثل ذلك فيما تراه فتقرؤه كالحروف، أو تراه فتفهمه كاللوحات التشكيلية، أو ما تراه وتسمعه معاً كحركات الرقص.
أما السينما فهي الشكل الأكمل لضروب العبير، لأنها تجمع بين وسائل الحس وملكات الفهم، وتجمع بين ضروب التعبير، وبهذا تكون السينما وعياً إنسانياً أكمل.
إن الكاميرا في السينما التي اعتبرها الكسندر استروك قلماً تنقل القضية زماناً ومكاناً.. إنها زمكانية التعبير.. فهذا أحفل من نوعية التعبير التي لا تستجمع الحس والوعي.
والكاميرا لا تنقل أي زمان ومكان، بل تنقل وفق علاقات جدلية يفقهها المشاهد بفكره ووعيه.
وفي السينما حوار وغناء ولون وشكل.. أي تكثيف يصطفي القيم التعبيرية للصوت والصورة والرمز الذي هو علاقة بين صوت وصورة، وبين صورة وصوت، وبين صوت وصورة.. والمشاهد حينئذ يجمع معاني، ويستنبط أفكاراً بأكثر من ضرب تعبيري بتناغم مشترك، وبهذا يكون نص الفيلم المكتوب والسيناريو المكتوب مادة خاماً بدائية للعمل السينمائي وإن كان قمة العمل الأدبي.. وكان قمة لما كان المجال مجال التعبير اللغويس والأدبي فحسب.
ولكنه أصبح ثانوياً في السينما، لأن التعبير اللغوي والأدبي أحد عناصر السينما وليس جميعها.
وإذ صحت هذه الحقيقة أصبح من البهي أنه ليس من أخص خصائص المخرج أن يطوع إمكانات التكنولوجيا لنقل المشهد الذي اقترحه كاتب النص بقياس زمني وكمي محدد حينما يقبع في غرفة المراقبة والإنذار.. ليس عمل المخرج عملاً حِرَفياً - بكسر الحاء وفتح الراء- يتدرب عليه ويطبقه كما أتاحت له الممارسة.
إن من صميم عمله ابتكار ضروب التعبير السينمائية التي تُطوَّع لها إمكانات الممارسة والحرفة.
من واجب المخرج أن يكون فناناً بطبعه، ويكون تطويع إمكانات التكنولوجيا من وسائله.. يكون ذا خبرة بالنظريات الأدبية والفنية والجمالية.
ولعله من المبالغة الآخذة بأبعد الطرفين ما دعا إليه أصحاب نظرية (الفيلم النقي)، وهو أن يكون الفيلم نصاً أدبياً مكتوباً، بل مادة مسجلة مباشرة.
أي أن يقوم المخرج مقام كاتب النص، فيسجل العمل بآلته.
وهذا المذهب يحدُّ من تقنية العمل الفني، ويدعو إلى ارتجال البداية.
ولهذا أرى هذا المذهب غلواً يُطامِن من عظمة الفن ويشوه محياه.
والطرف الذميم الآخر أن يكون المخرج في حضانة كاتب النص يقتصر على تصوير الأماكن والديكورات، أو يتعسف في استعمال سلطة المهنة فيشاغب كاتب النص بما يعاكس هدفه وتقنيته الفنية بتضخيم الصور أو صخب الأصوات أو التصرف في اللهجة أو عكس ذلك من وسائل التزييف البصري والسمعي.. مما يجعل العمل الفني مبالغاً فيه دون مسوغ فكري مقبول.
إن كتابة النص بلغة أدبية- بغض النظر عن نوع اللغة من عربية أو محلية- شرط أساسي فيما أرى.
وإذا لم يكن المخرج هو كاتب النص فلابد أن يكون على مستوى يؤهله لمشاركة كاتب النص في فهم عمله الإبداعي برؤيا فنية ورؤية نظرية.
وإنما يشارك الكاتب مشاركة فعالة عند تحويل النص من القراءة إلى المشاهدة.. على أن لا يحيف على أهدافه وتقنيته إذا كان النص قائماً بشرطه الأدبي والفني، بل يوفق بين ضروب التعبير في المشاهد، فيأخذ من دلالة الصورة أو الرمز ما يحد من دلالة اللغة والإسهاب في عمل الأديب.
إن المخرج مشارك فعال في لغة الفيلم الأدبية، وإن المخرج مطلوب منه إبداع مستقل في المادة المصورة، وبهذا يكون مخرجاً حقيقة لا مجرد منفذ.
وإننا إذا نظرنا إلى مادة الفيلم نظرة أدبية مستقلة قبل أن تكون فيلماًفإنما ننظر بمقاييس الأدب.
فإذا أصبح فيلماً صرنا ننظر إليه بخصائص العمل الفني السينمائي، وهي أعم من خصائص العمل الأدبي.
ويزعم كثيرون من المعاصرين أن مفهوم الحداثة في الإبداع الفني لا يعني مجرد التسلية أو الدرس الأخلاقي، وإنما مفهوم الحداثة أن يكون العمل الفني كتلة موحدة تثير.. إلا أنه من اللازم معرفة حقيقة التأثير لذلك التوتر الداخلي الذي يحدث تأثيراً حسياً وفكرياً.
إن هذا التأثير لا يخلو من أن يكون مجرد متعة أو طقساً أو درساً أو هُنَّ مجتمعات.
إذن تلك العبارة تكييف يميز فنية العمل، ولا تطلُّعَ لفنية العمل من غير طَرْق باب النظرية الجمالية.
وكيف يكون العمل الفني إن لم يكن إثارة بقيم دينية أو فكرية أو خلقية أو جمالية.. إن لم يكن أرقى وسيلة للتوجية أو التثقيف أو المتعة بالطرافة والجمال والإبداع.
إن اصطياد العنقاء أسهل من ابتغاء عمل فني لا تكون إثارته بغير هذه الحقول.
إن الجمالية مطلب أساس في السينما، بل هي شرطها، لأن السينما تعبير ووعي بتوسلات جمالية.
وإنما المحذور أن تكون تسلية فحسب، أو أن يكون الهدف فيها ضئيلاً غامضاً.
إن الجمالية شرط أساس لهوية السينما، وشرطها الالتزامي أن تكون ذات أهمية دينية أو اجتماعية أو سياسية أو فكرية أو تثقيفية.
أما السينما الخالصة للمتعة والتسلية فإنها توسِّع دائرة الفراغ في حياة الجمهور، وتبعد المتحصص عن مجالة أكثر من خطوة.
والسينما أبلغ من خطابة المذيع وتزويق الصحفي، لأنها تحشد البعد الزمني للمتغيرات في تعاقب مكاني أمام المشاهد.
وفي السينما ميزتان: ميزة الرؤية الفنية، وميزة التعبير.
فميزة الرؤية بوسائل فكرية وفلسفية، وميزة التعبير بإحساس جمالي.
وميزة التعبير خالصة لقيمة الجمال، وميزة الرؤية مشروطة بعنصر جمالي.
ولا ريب أن السينما وسيلة فنية لتكوين جمهور يقبل الالتزام بسحر الفن وتحت تأثيره إذا كان الفيلم ملتزماً.. والوجه في ذلك أنها تربي ذوق المتفرج فلا تقبل التوافه في حياته، كما تمهد للإبداع الذكي فتتيح للموهبة ممارسة إبداع رائع.
ولهذا كان شعار جورج سادل: أن ترتبط السينما بواقع الأمة وفعالية الشعب.
وإنما جاءت العقيدة بأن السينما وسيلة تسلية من ظرف نشأتها، فقد كانت عوضاً عن وسائل ترفيهية كالمقاهي والملاهي وألعاب الشطرنج والضومنة والورقة، إلا أن هذا لا يعني أن السينما مشروطة بظرف نشأتها، لاسيما أن هذا الظرف وجد عند العرب فحسب.
أما السينما في حقيقة نشأتها فقد كانت مرتبطة بقيم الفن والأدب، فهي مسرحية مسجلة، وهي لغة تشكيلية لبعض مدلولات النص المسرحي، وهي تتمذهب بالمذاهب الأدبية والفنية، فلها ما للأدب والفن، وعليها ما عليها.
وقد يرسم الفنان قلباً تندلع منه النيران وبجانبه رسم ليراع، فتأخذ من ذلك تجريداً لمدلول رومانسي.
ومثل ذلك ما فقهه المتحاكون من تمثال ملك الفراعنة (خفرع) لأنهم رأوا عينية مفتوحتين ممتدتين، ففهموا من ذلك أن نظراتهما تمتدان وراء كل ما هو فان كما لو كانتا موجهتين نحو الخلود.
قال أبو عبدالرحمن: قد يكون ناحت التمثال قاصداً لذلك، وقد يكون حاكياً للواقع دون تجريد، لأن روح الميت تشخيص في المشاهدة البشرية الدائمة.
إنني لا أنكر التجريد في الفن، وإنما أقول: إن المستبعد واقعاً المستكره تصوراً أن تكون الزخارف والرسوم في تاريخ العرب والمسلمين تحمل مدلولاً رمزياً تجريدياً.. من أن كتَّاب مجلة المعرفة السورية حاولوا أن يصبغوها بصبغة المذهب التجريدي (41).
فمحيي الدين صبحي في افتتاحيته يرى أن الفن العربي نزوع إلى المطلق، لأن الأشكال الهندسية المجردة أو الأغصان المتكررة ليست شيئاً سوى تعبير الإنسان العربي عن إحساسه بالأبدية المجردة، وبالعودة الأبدية التي تميز حياة الطبيعة، وبالإيقاع المتكرر والمتجدد أباً للحياة السرمدية بلا ابتداء ولا انتهاء.
وتأتي كاتبة اسمها (انجي أفلاطون) فتشرح لنا الفن العربي من خلال شرحها لعقيدتنا، فتقول :"وجاء الإسلام ديناً قوياً عملاقاً بلغتْ بفلسفة الوحدانية فيه كمالها وتمامها، ووضعت الخالق والمخلوق في مكان فريد لم يسبقها إليه أي فلسفة أخرى، وتجسدت فكرة التجريد في نمط عبقري، فالخالق سبحانه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
هي إذن فلسفة التصوف والفناء في المطلق.. فلسفة النظام والتنظيم المحكم.
وبديهي أن يكون لهذه الفلسفة وهذا الفكر فن ذو خصائص مميزة، وكانت هذه الخصائص بالفعل هي التجريد بناء على الصقل والتنظيم".
وتابع أفكارها بأسلوب إنشائي الدكتور رضا بمقالة عنوانها (التجريدية في الفن الإسلامي)، وزعم أن عقيدة الإسلام في ذاتها فكر موجود.
وقال طارق شريف :"فالزخرفة العربية تسعى للتأكيد على ما هو مطلق عن طريق تكرار شكل نسبي حسي، وهي علاقات خطية محيرة بتداخلها تدلنا على السرمدي اللامتناهي".
قال أبو عبدالرحمن: الدافع لهؤلاء في كل ما كتبوه- على افتراض حسن النية- هو تأكيد الذات العربية التاريخية في مجال الفن التشكيلي.
وباستثناء الشعور بدلالة الألوان فإن الزخرف العربي والرسم العربي لا يعني شيئاً ألبتة سوى جمال المنظر.. وقد أدركت في قريتي مزخرفي البناء بوضع الشرفات والأصباغ والخطوط لا يملكون أي دلالة سوى التجميل جرياً على ألسنة الأسلاف، ولو كان لهم هدف تجريدي لكانت لهم نظرية مكتوبة.
والظاهر- والله اعلم- أن الهدف لهذه المباحث جعل النظير الفني وسيلة للتبشير أو التشكيك، لأنهم أقحموا ذلك في جوهر العقيدة.. إنها علمانية يطفح بها الإناء.
والعقيدة الإسلامية أبعد ما تكون عن التجريد، لأنها لم تكتف بأدوات النفي في سورة الإخلاص، بل نصوص الإثبات أكثر.. بل أثبتت سورة الإخلاص أنه أحد صمد.
إن العقيدة تشجب التعطيل لأنه تجريد كافر، وتنفي التشبيه والتمثيل لأنه إثبات لغبر المراد.
وإنما التجريد عند من يجعل الأب والابن وروح القدس إلاهاً واحداً!!.
ويجعل هذه الخرافة أمانة لا يحل تفسيرها.. ولست أدري من أين فهمت انجي أفلاطون دعوى التصوف والفناء في المطلق، وأنالخالق والمخلوق كل في مكان فريد؟!.
من أين فهمت واجدية الوجود من سورة الإخلاص ؟.
إن السورة الكريمة بينت أن الخالق أحد، وليس المخلوق كذلك.. وأن الخالق لم يلد ولم يولد لأن المخلوق يلد ويولد، وأن الخالق ليس له كفؤ، لأن المخلوق له أكفاء.
وبإيجاز شديد فإن خمول موهبتنا في فرع فني أو رغبتنا عنه لن يصيبها بمكروه أعظم وأفدح من التلاعب بعقيدتها.
ولقد اقتطع سارتر الشعر من فن الكلام وألحقه بالفنون الجميلة التي لا تقبل الالتزام أو أن تكون فن مواقف، وقد أطال سارتر النفس في هذا بتحليل رائع وممتع، ولكنه غير مؤثر في الحكم.
لقد أوضح الفروق بين الفنون الجميلة كالأصوات والألوان وبين الكلام، ثم أوضح الفروق بين النثر والشعر.
ولكن هذه الفروق- على روعتها- غير مؤثرة في نظرية الالتزام.. أي أنها فروق غير معتبرة في الحكم.
ومن الفروق التي ذكرها سارتر بين الشعر والنثر: أن الناثر يستخدم الكلمة، أما الشاعر فيخدمها.. أي أن لغة الشاعر غاية، ولغة الناثر وسيلة إلى غاية.. أو أن الكلمة عند الشاعر شيء بينما هي عند الناثر دلالة على شيء.
ويشرح سارتر هذه الظاهرة الفارقة بقوله: النثر لحظة خاصة من لحظات العمل.
وهو يرى أن التأمل في الكلمات من عمل الشاعر وحده.. أما الناثر فليس من غايته التأمل البحت.
إن التأمل والنظر العقلي ميدانها الصمت، وغاية اللغة الاتصال بالآخرين والإفضاء إليهم.. إذن ليس من المعتبر في الكلمة أن تكون تروق في ذاتها أو لا تروق، وإنما المعتبر أن تكون تدل على دلالة صحيحة أو واضحة على بعض الأشياء أو بعض المبادئ.
ونتيجة لذلك نكون على ذكر من فكرة من الأفكار التي عَّلمنا إياها بعض الناس عن طريق الكلمات دون أن نستطيع ذكر كلمة واحدة من الكلمات التي تعلمنا الفكرة بواسطتها.
إذن اللغة مجرد وظيفة (وسيلة)، ولهذا يصف هدف الناثر بقوة التعبير.. أي الدلالة على قصده.
قال أبو عبدالرحمن : هذا موجز كلام سارتر بتصرف واختصار وتقديم وتأخير لم يُخلَّ بشيء من مراده، وإنما أردت التبسيط وتذليل الفكر للقارئ .
إن ما ذكره سارتر من فرق ليس دائماً من الناحية الوجودية، وليس معتبراً من الناحية الحكمية.. فخدمة الكلمة ليست من خصيصة الشاعر لأن الناثر الفني يخدم كلمته قبل أن يستخدمها.
وكون الشاعر أو الناثر الفني يخدم الكلمة: لا يعني أنه لا يستخدمها، ولا يعني أن الكلمة التي جعلها غاية ليست وسيلة لغاية أخرى.. فالثالث غير مرفوع هاهنا.. أعني أن القسمة غير محصورة في ثنائية الوسيلة والغاية، بل هناك قسم ثالث، وهو أن يكون الشيء غاية في ذاته وسيلة لغيره.
من المقطوع به أن الشعر- والنثر الفني أيضاًَ- تكون اللغة فيه غاية في ذاتها وليست وسيلة لغاية أخرى كما نجد عند الأسلوبيين وأصحاب محضية الفن، ولكن ليس معنى ذلك أن الشعر والنثر الفني لا يكونان إلا كذلك حتى ندعي أنهما غير قابلين للالتزام، بل يكون للشاعر والناثر الفني موقف يلتزم به، ولكنه لا يتوسل إلى التعبير عن موقفه بلغة عادية مباشرة، وإنما يتخذ فنية التعبير غاية له، وتكون هذه الغاية في النهاية وسيلة للتعبير عن موقفه!.
إن الشاعر الملتزم، والناثر الفني الملتزم يخدمان كلمتيهما ليستخدماها!.
وقول سارتر :"الكلمة عند الشاعر شيء بينما هي عند الناثر دلالة على شيء": حكم يصدق فقط على الأسلوبين وأصحاب محضية الفن.. أما الشاعر فالكلمة عنده شيء ودلالة على شيء في آن واحد!.
هي عنده شيء لأن فنية الكلمة غاية إحساسه الجمالي، وهي عنده دلالة على شيء لأنها تعبر عن موقف أو توحي به!.
إن الكلمة العادية في الغالب تكون أوضح بالمقصود وأسرع إليه، أما الكلمة الفنية فقد تكون أوضح وأسرع من الكلمة العادية ولكنها في الغالب لا تدل على المقصود إلا بغموض وبُعد يجليه ويسرع به كشف المتلقي الموهوب.
ولهذا فالكلمة الفنية أرقى وسائل التعبير عن المواقف، لأنها اتخذت غاية لتكون وسيلة للمضمون الأيدلوجي.
والتأمل في الكلمة لتكون تعبيراً فنياً لا يعني أن الكلمة ليست لحظة عمل .
وذلك أن الشاعر الملتزم تدفعه لحظة العمل إلى التأمل في الكلمة ليعبر عن مراده بإيحاء فني، والشاعر الملتزم مبيِّت موقفه ليكشف عنه بفنية تقتضي التأمل في الكلمة.
ولا ريب أن التأمل والنظر العقلي ميدانهما الصمت المطلق، ولكن بعد لحظة الصمت يكون التعبير إما تلقائياً بلغة عادية، وإما فنياً بلغة احتاجت إلى لحظات أخرى من الصمت للتأمل والنظر العقلي.
وقد تكون اللغة الفنية تلقائية أيضاً .
وغاية اللغة عند الناثر والشاعر الاتصال بالآخرين والإفضاء إليهم ما ظل للمتكلم موقف يعبر عنه، وما ظل قُلبَّا لا موقف له، وما ظلَّ مثرثراً.
فالاتصال والإفضاء معنيان لا أثر لهما في نظرية الالتزام، وإنما يتجدد الالتزام بنوعية الاتصال والإفضاء مضموناً لا وسيلة.. أما الوسيلة فقد تكون عادية، وقد تكون فنية.
ونظرية الالتزام لا تتحدد بكون الكلمة تروق في ذاتها، أو بكونها ذات مدلول واضح.
إنما تتحدد نظرية الالتزام بصحة دلالة الكلمة على الموقف سواء أكانت إيحائية أم مباشرة.
وإنما يكون الالتزام فنياً حينما تكون الكلمة تروق في ذاتها.
إن الشاعر الملتزم يخلص في اتخاذ الكلمة غاية يخدمهما بمطلب الإحساس الجمالي، ولكنه مصمم على أن يكون ذلك الإحساس مثيراً أو غارساً لموقف في العقل والعاطفة.
وليست الكلمة الفنية أقدر على البرهنة على الموقف، ولكنها تقنع به بسحر الفن، فإن قدرت على البرهنة عليه فهي أبلغ أثراً من اللغة العلمية المجردة.
فكوننا نذكر أو نتمثل الفكرة وننسى الكلمات التي عبرت عنها لا يعني أن الشعر غير قابل للالتزام، وإنما يعني أن الموقف قد يُحفظ وتَنسى الذاكرةُ اللغة الفنية التي عبرت عنه.. ونسيان فنية التعبير قضية قابلية الفن للالتزام.
ولا ضير على سارتر إذا جعل "قوة التعبير" تعريفاً لما حقق "قصد المتكلم" فلا مشاحة في الاصطلاح في الاصطلاح.
وإنما قوة التعبير التي عناها سارتر قد تكون عادية، وقد تكون ممتعة لأنها فنية، وهذا يعني قابلية الفن للالتزام.
والجمال الغاية لا دلالة تعبيرية كما أن للكلمة معنى غير فكر الكلمة.
يقول هيجل :"يبدو الاسم غير جوهري بالقياس إلى مدلوله الذي هو جوهري".
وهذا المعنى جعله سارتر تكأة له ليبرهن على أن الشعر غير قابل للالتزام، وأن الالتزام للكاتب، لأن عمل الكاتب الإعراب عن المعاني، وميدان المعاني إنما هو النثر، أما الشعراء فيترفعون باللغة عن أن تكون نفعية.. ويريد سارتر بالنفعية الدلالة العرفية المباشرة.
يقول سارتر :"وحيث إن البحث عن الحقيقة لا يتم إلا بواسطة اللغة واستخدامها أداة فليس لنا إذن أن نتصور أن هدف الشعراء هو استطلاع الحقائق أو عرضها.
وهم لا يفكرون كذلك في الدلالة على العالم وما فيه، وبالتالي لا يرمون إلى تسمية المعاني بالألفاظ، لأن التسمية تتطلب تضحية تامة بالاسم في سبيل المسمى".
قال أبو عبدالرحمن: هذا معنى كرره سارتر كثيراً، وعادته أن يعيد نفس المعنى بألفاظ مختلفة.
ولقد أخطأ سارتر في قصره الإعراب عن المعاني على الكاتب وحده، وأخطأ في جعله النثر ميدان المعاني وحده.. بل كل من تكلم عن مراده، وكل من يعني شيئاً ويتخذ الكلام وسيلته: فلابد أن يكون كلامه إعراباً عن المعنى .. إلا أن الإعراب عن المعاني يكون بكلمة قاموسية مباشرة، ويكون بإيحاءات لفظية أو جمالية تنطبع في الشعور فيفهمها العقل، أو يستنبطها الفكر من وسائل مادية موضوعية.
والإيحاء - وهو إعراب عن معنى- طريقة الشاعر والناثر معاً.
قال سارتر :"فليس الشعراء بمتكلمين ولا صامتين، بل لهم شأن آخر، وقد قيل عنهم: أنهم يريدون القضاء على سلامة القول بمزاوجات وحشية بين الألفاظ.
وهذا خطأ، لأنه يلزم لذلك أن يزجوا بأنفسهم في ميدان الأغراض النفعية للغة ليبحثوا فيها عن كلمات توضع في تراكيب غريبة.
وعلى أن مثل هذا العمل يتطلب وقتاً لا حد له لا يتصور التوفيق بينه وبين الغاية النفعية للغة: فإن الكلمات تعتبر آلات تستخدم، وفي الوقت نفسه يجتهد في انتزاع هذه الدلالة منها".
قال أبو عبدالرحمن :"لا صامت ولا متكلم" ثالث مرفوع لا يقبله التصور.
والمعنى الذي كرر سارتر الحديث عنه ذو ثنائية لم ينتبه لها، فهناك المعنى اللغوي.. والمفردة في القاموس ذات أكثر من معنى، وهي أعم من مراد المتكلم.
وهناك المعنى الذي في ذهن المتكلم ويريد أن يعبر عنه.. أي مراد المتكلم، وهو أخص من دلالة القاموس.
والالتزام انتماء لموقف عن حرية فكرية يعرف بالسلوك وبالقول، وعرفانه بالقول أن لا يكون ثم تناقض في الأقوال التي تعبر عن المواقف، وأن يكون الموقف مفهوماً من القول.. إذن كل قول مفهوم فهو قابل للالتزام.
فالتزام الكاتب- غير فني التعبير- يتم بكلام يعبر فيه عن مراده بسياق يفهم باللغة والنحو والفكر والقرائن بحيث يحدد معاني الكلمات القاموسية العامة.
وغرض الكاتب الملتزم أن يعِّرف يمجهول يجهله المخاطب أو يقل تصوره له، فوسيلته الكلمة القاموسية المباشرة أو السياق النحوي المباشر.
وقد يكون غرضه أن يبرهن على معروف ويقنع به فيضيف إلى وسيلة اللغة والنحو أداة الفكر والحس والأقيسة.. وهو يحرص على المباشرة وسرعة الإيصال إلى المتلقي.
أما الشاعر والناثر الفني الملتزمان فغرضهما التعبير عن المراد الذي يريدان الالتزام له، ولكنه لا يقصد التعبير المباشر وإنما لديه التزامات فنية تحقق جمالاً لتعبيره عن موقفه، ولولاها لاستراح للتعبير المباشر.
وأهم عنصر فني الإيحاءُ إيحاءً يحرك المشاعر ويهب القلب طمأنينة وإيماناً بالموقف.
وهو بعد ذلك حريص على توسيع جانب الدلالة بالتماسه إيحاءات فوق طاقة المضامين اللغوية المباشرة أو الإيحائية المستهلكة.

جنــــون 07-02-2011 10:14 PM

إن الشاعر الملتزم ذو رسالتين: أولاهما الأمانة مع موقفه، وأخراهما إرهاق الفكر والموهبة في خدمة الأداء الفني الذي يخدم التزامه.
ويشير سارتتر في كلامه إلى مقارنة بين الشاعر والناثر ملخصها كالتالي "الكلمات عن الشاعر أشياء في ذاتها، وعند الناثر علامات لمعان، فالناثر دائماً وراء كلماته متجاوز لها ليقرب دائماً من غايته في حديثة، ولكن الشاعر دون الكلمات لأنها غايته.. والكلمات للمتحدث خادمة طيِّعة، وللشاعر أبية عصية المراد".
قال أبو عبدالرحمن: لم يدِّع أحد أن الكلمة أطوع للشاعر حتى تحتاج إلى هذه المقارنة، بل الإجماع منعقد على خلاف هذا، وهو أن الكلمة أطوع للناثر.
والنثاء بلا ريب يتجاوز معنى الكلمة اللغوية لينفذ إلى فكرة الكلمة بزيارة عبارات وشروح وتأملات فكرية.
ولكن هذه الميزة ليست خكراً على الناثر، بل إن الشاعر يستطيع ذلك لو أراد، إلا أن رسالة الشاعر الفنية أن يأخذ من فكر الكلمة بالتخوم فحسب، ثم يطبعه قناعة في القلوب والمشاعر.. الشاعر يقنع بالمبرهن عليه ليكون المحصول العقلي إيماناً قلبياً، وليس من مهمته أن ينظم جدلاً وفلسفة وشروحاً.
إن جماهير الشاهر سئمت من مسلمات الحقائق والقناعات بالتعبير المباشر، وأرادتها إيحاءات غير مباشرة تحقق القناعة والجمال.
وأما زعم سارتر أن "الشاعر دون الكلمات لأنها غايته" فزعم لا يتحقق إلا في شعر غير معتبر المضمون، أما الخلو من المضمون مطلقاً فلا أتصوره.
وهذا الزعم حجة لسارتر على أهل محضية الفن الذين أرادوا أن يجردوا الشعر من الالتزام.
وهذا الزعم حجة لو قيل :"إن الشعر لا يكون إلا ملتزماً"، فتكون محضية الفن ناقضة لهذا القول، ولكن الواقع المشهود يبرهن على أن الشعر يقبل أن يكون أدب مواقف ملتزماً، ويقبل أن يكون سلبياً فيكون غير ملتزم.
فإذا صحت هاتان القضيتان بطل أن يكون الشعر غير قابل للالتزام.
إن الشاعر من منطلق واجبه الفني يجعل الكلمة ذاتها غاية له ليكون الأداء جميلاً، فإذا كان شاعراً ملتزماً جعل الأداء الجميل تعبيراً عن موقف فجمع بين جعل الكلمة شيئاً وعلامة في آن واحد.
ومن آلاف الشواهد أذكر هذا المقطع من قصيدة أنشودة المطر.. يقول السياب:
[كالبحر سرج اليدين فوقه سماء.
دفء الشتاء فيه، وارتعاشة الخريف والموت
ومن آلاف الشواهد أذكر هذا المقطع من قصيدة أنشودة المطر.. يقول السياب:
[كالبحر سرج اليدين فوقه سماء.
دفء الشتاء فيه، وارتعاشة الخريف
والموت والميلاد والظلام والضياء].
سواء أكان موقف السياب مصيباً أم خاطئاً فهو شاعر ملتزم لقضيته الوطنية بالمنظار الذي يرى أنه الأصلح.
لم يقل لنا هذا الشاعر الملتزم مباشرة :"إنني مبتهج للمناخ المنذر بتبدل الحال، ولكنني خائف من عنف وتجاوز يصاحب تبدل الحال.. ومهما كان الخوف فقد طال أمد الجفاف والظمأ والجوع فاشتقت إلى المطر الذي هو رمز تبدل الحال"… هذا موقف ملتزم لم يقله السياب مباشرة، وإنما قاله بأبلغ وأجمل إيحاء فني.
إنه يصور رؤية ضبابية ويشبهها بغيوب البحر دفئاً وارتعاشاً، وموتاً وميلاداً، وظلاماً وضياء.. وقد جمع لنا السياب بين فرحتين:
فرحة برؤيته التي يمكن التعبير عنها مباشرة بلا جمال.
وفرحة الإيحاء الجمالي.
أسلمني قومي ولم يغضبوا * * * لسوءة حلَّت بهم فادحة
كل خليلٍ كنت خاللته * * * لا ترك الله له واضحة
كلهمُ أروغ من ثعلب * * * ما أشبه الليلة بالبارحة (42)
طرفة بن العبد
"قالها في السجن"]

هوامش الباب الثاني :
(1)بمقابل المنطق الذي يدرس الأفكار الواضحة.
(2)انظر الدراسات في علم الجمال ص16.
(3)دراسات في علم الجمال ص16.
(4)نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين للدكتورة ألفت محمد كمال عبدالعزيز ص31.
(5)المصدر السابق ص61.
(6)دراسات في علم الجمال ص61.. وقال ابن سينا في فن الشعر ص95 عن كون الشاعر المصور يحاكيان:"أن يحاكي الشيء الواحد بأحد أمور ثلاثة: إما بأمور موجودة في الحقيقة، وإما بأمور يقال إنها موجودة وكانت، وما بأمور يظن أنها ستوجد وتظهر".
(7)فن الشعر ص183.
(8)كتاب أرسطو ص64 ترجمة د.شكري عياد.
(9)رسالة فيما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة ضمن رسائل فلسفية للفارابي وابن سينا ص7.
(10)مقالة في قوانين صناعة الشعراء ضمن كتاب فن الشعر ص150-151 تحقيق الدكتور عبدالرحمن بدوي مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة 1953.
(11)الحكمة العروضية في كتاب معاني الشعر ص15 (أو المجموع) لابن سينا تحقيق سليم سالم /مركز تحقيق التراث ونشره بالقاهرة سنة 1966م.
(12)فن الشعر لأرسطو تحقيق الدكتور عبدالرحمن بدموي مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة سنة 1953م.
(13)جوامع الشعر ص174 ضمن كتاب تلخيص كتاب أرسطو في الشعر لابن رشد تحقيق محمد سليم سالم /لجنة إحياء التراث الإسلامي بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية القاهرة سنة 1391هـ، وكتاب الشعر بمجلة الشعر 12/93-94 تحقيق محسن مهدي.
(14)لما جاء وقول القول حكاية لم أضع علامته وهي النقطتان.
(15)عيون الحكمة ص13-14 تحقيق الدكتور عبدالرحمن بدوي نشر المعهد العلمي الفرنسي بالقاهرة سنة1954م.. وقال في البرهان ص16-17:"إن مبادئ القياسات كلها إما أن تكون أموراص مصدقاً بها بوجه، أو غير مصدق بها، والتي لم يصدق بها إن لم تجر مجرى المصدق بها بسبب تأثير منها يكون في النفس -يقوم ذلك التأثير من جهة ما مقام ما يقع به التصديق- لم ينتفع بها في القياسات أصلاً.
والذي يفعل هذا الفعل هو المخيلات، فإنها تقبض النفس عن أمور، وتبسطها نحو أمور مثل ما يفعله الشيء المصدق به، فيقوم مع التكذيب بها مقام ما قد يصدق به، كما قد يقول قائل للعسل: إنه "مرة مقيئة".. قتتقزز عنه النفس مع التكذيب بما قيل، كما يتقزز عنه مع التصديق به أو قريباً منه.
وكما يقال: إن هذا المطبوخ المسهل هو في حكم الشراب.. فيجب أن تتخيله شراباً حتى يسهل عليك شربه، فيتخيل ذلك فيسهل عليه، وذلك مع التكذيب به ".
(16)مبادئ النقد الأدبي ص27.
(17)فلسفة الجمال في الفكر المعاصر ص31.
(18)فلسفة الجمال ص92.
(19)مجلة شعر 12/93.
(20)فصول المدني ص134-135 تحقيق د م دنلوب ط جامعة كمبردج1961م.
(21)الشفاء (فن الشعر) لابن سينا ص169-170.
(22)الشفاء (فن الشعر) ص170.
(23)الخطابة من كتاب الشفاء ص197-198 تحقيق محمد سليم سالم/ الإدارة العامة للثقافة/ وزارة المعارف العمومية بالقاهرة سنة 1373هـ
(24)تلخيص الخطابة ص562 تحقيق محمد سليم سالم /لجنة إحياء التراث الإسلامي /المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة 1387هـ.
(25)فن الشعر ص152.
(26)مؤلفات الكندي الموسيقية ص65.
(27)فن الشعر ص168.
(28)فن الشعر ص168.
(29)إحصاء العلوم ص67.
(30)الموسيقى الكبير ص1180.
(31)الموسيقى الكبير ص1181.
(32)فصول المدني ص135-136.
(33)قال أبو عبدالرحمن: قد يطلب مني بعض ذوي الغيرة على اللغة أن أعبر بعلم الاجتماع مثلاً بدل تلك الكلمات الخواجية.. إلا أن مذهبي التأصيلي أن المصطلح العلمي يقترض ولا يعرب بكلمة قد تكون قاصرة.
(34)انظر النظريات الجمالية للدكتور نوكس ص32.
(35)المصدر السابق.
(36)التعريفات ص12.
(37)مقاييس اللغة ص352.
(38)إنجيل لوقا/15.
(39)يراعى في التشكيل القدر الكافي، فضبط السين هاهنا بالشدة والكسرة يغني عن ضبط التاء بلاضمة، لأن الالتباس في القراءة بالتاء المفتوحة، ولو فتحت لكانت السين بشدة وفتحة.
(40)يجوز إهمال علامة التعليل "؛" هاهنا، لأنه مفهوم من صيغة "لأنه" .. ووضعها جائز للفت النظر إلى التعليل.. وإنما تستقبح علامة الترقيم مع عدم الحاجة إليها إذا أكثر الكاتب العلامات في الأسطر لغير ضرورة.. وهاهنا لم تكثر علامات الترقيم.
(41)عدد 134ز
(42)جرى جمهور الكتاب على إهمال التاء المربوطة إذا كانت قافية، وعللوا ذلك بأن الوقف عليها يكون بالهاء، لهذا تكتب هاء.
قال أبوعبدالرحمن: لا أعلم لهذا التعليل وجهاً، فكل تاء مربوطة يكون الوقف عليها بالهاء، فالإعجام ضروري لتمييزها عن الهاء.. أما جعل التاء المربوطة هاء في الوقف، وأن القافية يوقف عليها فمهمة أحكام الوقف نحواً، ومهمة العلم بأصول الشعر، ولا يلغي ذلك إعجام التاء المربوطة ليعلم أنها غير هاء أصلية

جنــــون 07-02-2011 10:14 PM

القسم الرابع
الباب الثالث: الشعر والغناء:
الفصل الأول: ارتباط نشأة الشعر بالغناء.
الفصل الثاني: العروض علم غنائي سمعي.
تغن بالشعر إما كنت قائله * * * إن الغناء لهذا الشعر مضمار
ويقولون : فلان يتغنى بفلان أو بفلانة، إذا صنع فيه شعراً.. قال ذو الرمة:
أحب المكان القفر من أجل أنني * * * به أتغنى باسمها غير معجم
وكذلك يقولون: حدا به.. إذا عمل فيه شعراً.. قال المرار الأسدي:
ولو أني حدوت به أرفأنت * * * نعامته وأبصر ما يقول
العمدة لابن رشيق 2/1087-1088 ]

الفصل الأول : ارتباط نشأة الشعر بالغناء:
قال طه باقر :"إن كلمة شعر الموجودة في كل اللغات السامية تعني في أصل ما وضعت له الغناء مثل شيرو البابلية، وشير العبرية، وشور الآرامية.
ومن ذلك المصطلح العبراني "شيرها شيريم": أي نشيد الإنشاد المنسوب إلى سليمان عليه السلام" (1).
قال أبو عبدالرحمن: وشعر عند اللغويين لا تعني معاني أخواتها في اللغات السامية، لأنهم أخذوا معنى الشعر من الشعرة.
قال بن فارس :"الشعار الذي يتنادى به القوم في الحرب ليعرف بعضهم بعضاً.. والأصل قولهم : شعرت بالشيء .. إذا علمته وفطنت له.
وليت شعري .. أي ليتني علمت.. قال قوم: أصله من الشعرة كالدِّربة والفطنة، يقال شعرت شعرة.
قالوا : وسمي الشاعر لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره.
قالوا: والدليل على ذلك قول عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم * * * أم هل عرفت الدار بعد التوهم
يقول: إن الشعراء لم يغادروا شيئاً إلا فطنوا له" (2).
وقال الراغب الأصفهاني :"وشعرت أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا.. أي علمت علماً في الدقة كإصابة الشعر.
وسمي الشاعر شاعراً لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم: ليت شعري.. وصار في التعارف اسماً للموزون المقفي من الكلام، والشاعر للمختص بصناعته.
والمشاعر الحواس، وقوله :"وأنتم لا تشعرون": لا يعقلون لم يكن يجوز، إذ كان كثير مما لا يكون محسوساً قد يكون معقولاً" (2).
قال أبو عبدالرحمن: الشعور ليس لعموم مدركات الحواس، وإنما هو للمدركات الخفية، ولهذا تقول: شعرت بقملة أو نملة.. ولا تقول: شعرت بجمل أو فيل .
وإذا صح أن الشعر يعني الغناء في اللغات السامية فينبغي أن يكون هذا المعنى هو الأصل لمادة شعر، وتكون المعاني الخفية اشتقت من ذلك على دعوى أن الشعراء يفطنون لما لا يفطن إليه غيرهم.
وعلى أي تقدير كان الأصل فقد أصبح الشعر في العرف يعني الغناء كما سيأتي من أمثال قول عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي رضي الله عنهما:
أنشدنا من غنائك .. يعني شعرك.
وممن دلل على التصاق الشعر بالغناء الشاعر الحداثي الأستاذ أحمد عبدالمعطي حجازي.. قال :"من المعروف أن القصيدة الغنائية منحدرة من أصل قديم مركب يجمع بين الشعر والموسيقى والرقص التي تشترك كلها في إيقاعات واحدة، ولا تزال هذه الفنون شيئاً واحداً عند القبائل البدائية.
وتمدنا أعياد ديونيزوس بأمثلة قديمة.. كما تمدنا الحضرة الصوفية (4) بأمثلة محلية .. ونحن نعلم العلاقة الوثيقة بين الحداء ونشأة الشعر العربي.
ولدينا أمثلة من الأشعار القصيرة التي كانت تغنيها الأمهات يرقصن بها أطفالهن في الجاهلية .. من ذلك ما غنته هند بنت عتبة لابنها معاوية، وما قالته ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة بن قشير وهي ترقص ابنها المغيرة بن سلمة، وما قالته أم الفضل بن الحارث الهلالية وهي ترقص ابنها عبدالله بن عباس.
وإذا كانت القصيدة العربية قد تحولت فيما بعد إلى فن أدبي خالص، واستقلت عن الغناء والموسيقى: فقد ظلت محتفظة بالإيقاع .. يذكرنا بذلك الفن المركب الذي انفصلت عنه، والبيئة الدينية السحرية التي نبعت منها تقاليدها كما نبعت منها تقاليد القصيدة الغنائية في كل اللغات" (5).
قال أبو عبدالرحمن: الموسيقى والنص الفني مشتركان في مقوم واحد، وهو ـن معيار تصنيفها واعتباره معيار واحد هو حكم الحاسة الجمالية.
كما يشتركان في خصائص متناوبة، فالسجع والازدواج في النثر خصيصية موسيقية يتجمل بها الأدب، والقافية والوزن والإيقاع والنبر خصائص موسيقية يتجمل بها الشعر.
قال أبو عبدالرحمن : إلا أن العلامة الدكتور إبراهيم أنيس جزم برأي يتخطى ما صح من ارتباط الشعر بالغناء وهو يتحدث عن الإنشاد، فقال :"لقد أجمعت الروايات على أن الشعر العربي كان ينشد في أسواق الجاهليين فيهز قلوب السامعين هزاً، ويطرب القوم لموسيقى الإنشاد، وكان ينشد أمام النبي صلى الله عليه وسلم وفي حضرة الخلفاء فيطربون له.. أما كيف كان ينشد فلا ندري؟!.
ولاشك أن أصحاب الروايات القديمة قد عَنوا بالإنشاد شيئاً غي الغناء.
وليس بين أيدينا ما يدل على أن الشعراء في الجاهلية كانوا يتغنون بالشعر، وإنما تحدثنا الروايات دائماً على الإنشاد وما فيه من قوة وحماس، وأن الشاعر كان ينظم القصيدة ويفد بها فينشدها في الأسواق مُفاخراً أو مادحاً.
ولم يكن الغناء من عمل الشاعر ولا مما ينتظر منه .. وشعراء الجاهلية كانوا من خاصة العرب الذين أتيحت لهم فرص الثقافة اللغوية في تلك المؤتمرات الثقافية التي كانت تسمى بالأسواق، فكان الشاعر من الجاهلين يأنف أن يجلس مجلس المغني، وإنما كان يترك هذا للجواري والقيان، لأن الغناء أجدر بهن وأليق برخامة أصواتهن.
وأما ما أشتهر عن الأعشى من صناجة العرب فقد فسره كثير هنا غلبة العنصر الموسيقي في ألفاظ شعره إذا قيس بغيره، أو لأن شعره كان مما يصلح أن يتغنى به.
وقد جاءتنا الروايات القديمة بما يدل على أن الشاعر إذا لم ينشد شعره، وأراد أن يتغنى به: دفع به إلى جارية من الجواري ذوات الأصوات الجميلة ممن يحسن التلحين والعزف على الألآت الموسيقية تتغنى بالشعر في مجلس من مجالس اللهو والطرب " (6).
قال ابو عبدالرحمن : الغناء والإنشاد يتعاقبان وليس أحدهما بديل الآخر، بل لكل واحد وظيفته.
فالغناء تعبير موسيقي يسبق ولادة البيت ويصاحبها، لأنه وزن موحد للقصيدة .. فإذا تمت القصيدة مستقيمة الوزن أصبح الغناء غير ضروري للشاعر إلا أن تدعو إليه حالة جديدة.
أما الإنشاد فيكون بعد ميلاد القصيدة، وليس الغرض منه إيجاد الوزن لأنه قد وجد، وليس الغرض منه اكتشاف صحة الوزن لأن الشاعر قد اكتشف صحته بسبيل يقيني هو الغناء.
وإنما الإنشاد لإظهار المتعة بالموسيقى الخارجية المتمثلة في الوزن والقافية، ولتحريك السامع وإيقافه صوتياً على مدلول القصيدة التأثري من تعجب واستفهام وإنكار وتقريع.. إلخ.
ومن مهمة المنشد إقامة الحروف إقامة توافق الوزن فلا ينكسر إلا في حالة استثنائية وهي تسكين الإنشاد.
ويلاحظ في كلام الدكتور إبراهيم أنيس أنه استدل بدعوى ظاهرة أَنَفَةِ الساعر الجاهلي من الجلوس مجلس المغني على دعوى أنه ليس بين أيدينا ما يدل على أن الشعراء في الجاهلية كانوا يتغنون بالشعر.
قال أبو عبدالرحمن: ستأتي نصوص شعرية ونقول تاريخية تدل على أن الشعراء في الجاهلية كانوا يتغنون بالشعر.
كما أن غناء الشاعر الجاهلي ليس مشروطاً بأن يكون حلو الصوت بحيث يكون مطرباً محترفاً يغني للجماهير وتصحبه الآلات .
وإنما يعني وحده بلحن مأثور يزن عليه قصيدته، ويغني وحده ليكتشف لحناً جديداً يزن به قصيدة سيقولها.
ويغني وحده بقصيدته إذا قالها وبقصيدة غيره ليروح بها عن نفسه إن كان وحيداً.
ويغني مجاوباً لغيره من السَّفْرِ في حدائهم مثلاً للترويح عن أنفسهم وإطراب إبلهم.
وبعد هذا فلا نجد ما يدل على أن الشاعر الجاهلي يترك احتراف الغناء ترفعاً، وإنما يُستلذ الغناء من القيان ومن ذوي الأصوات المليحة، وليس كل شاعر مليح الصوت.
وليس الأعشى الشاعر الوحيد الذي كان يغني بشعره فنحفل بتحقيق معنى صناجة العرب ومدى دلالتها على كونه مغنياً.
وأنجح دراسته تأصيلية لظاهرة بناء الشعر على الغناء الدراسةُ التخصصية الرائدة الماتعة باسم :"في سبيل البحث عن الإيقاعات الجاهلية " للدكتور عبدالحميد حمام(7).
وأوجزت المجلة هذا البحث النفيس في صفحة واحد، فقالت :"أكدت هذه الدراسة العلاقة الوشيجة التي ربطت الجاهلي بالغناء، كما كشفت عن اختلاف هذه العلاقة في العصر الجاهلي عنها في العصور الإسلامية، ففي العصر الجاهلي كانت المقاطع اللفظية مساوقة للوزن الموسيقي بالمد والقصر، بينما أهملت الألحان الإسلامية شيئاً فشيئاً هذه القاعدة إلى أن تحلت عنها في أواخر العصر العباسي.
وكانت المصادر التي أسهمت في التوصل إلى حلِّ المشكلة الأوزان الجاهلية تتضمن:
1. الشعر العربي القديم الذي خافظ على الإيقاعات الجاهلية.
2.الغناء البدوي الذي يحمل بعض صفات الغناء الجاهلي، إذ أنه أقل أنواع الغناء العربي تأثراً بالموجات الثقافية الأجنبية التي اجتاحت الوطن العربي على مر العصور، ذلك لأنه معزول جغرافياً عن المراكز المدنية الثقافية.
وقد طرح البحث مميزاته المختلفة:
3.المصادر الأدبية العربية والإسلامية القديمة منها والحديثة، ونخص منها تلك التي بحثت في الأوزان الشعرية والموسيقية .
ولقد تبين لنا أن صفات الوزن الشعري (الموسيقي) تتلخص فيما يلي:
أ-اعتماده النبر الموسيقي وليس اللفظي .
ب- تكوُّن اللحن من جزئين متساويين ومتناظرين كشطري البيت من الشعر.
ج- تدل القوافي على القفلات الموسيقية.
د- يقوم الوزن الموسيقي بتعديل الخلاف بين عدد المقاطع اللفظية في الأشطر.
هـ- للمقصور في الوزن الشعري (الموسيقى) قيمة زمنية واحدة، بينما للممدود ثلاث قيم مختلفة باختلاف موقعه.
و- أبت الشاعرية العربية الجاهلية توالي أكثر من متحركين أثنين "(8).
قال أبو عبدالرحمن: هذه الدراسة التخصصية الرائدة أكدت ما وصل إليه إيماني إلى حد يقين من كون الغناء هو الأساس في نشأة الشعر العربي، وأن الوزن الشعري قالب للحن الغنائي، وأن الغناء البدوي والقروي الذي عايشته منذ الصغر في أنقاء القرية، وعلى ظهور السيارات النقلية منذ أربعين عاماً وأكثر، وفي مناسبات القرية من عرضة وحصاد وسانية ورحى وزغب .. كل هذه الأغاني ذات الألحان الساذجة المجردة عن الآلة هي أساس تأليف الشعر العامي بلهجة أهل نجد، وهي القاعدة في استنباط أوزانه.
والشعر العربي صنو الشعر العربي الفصيح الجاهلي من ناحية الأمية ووزن الشعر بلا كتاب، وشذاجة اللحن والعزلة عن مراكز المدنية الثقافية .
هذا اليقين الذي أدركته وسائلي الثقافية ووسائل بعض الباحثين ممن لا تخصص لهم بالعلم الموسيقي البحت: هو اليقين الذي انتهى إليه بحث الموسيقى المتخصص.
ومفهوم الشعر ذاته بالمدلول اللغوي مرتبط بمعنى الغناء .. والقول بأن الجاهليين يعرفون بحور الشعر قول غير دقيق، ذلك أن الجاهلية لا تعرف للشعر بحوراً، كما أن البحر بهيكله ليس شرطاً لمعرفة الوزن واللحن.
وإنما أصبح البحر- أو أي عوض عنه كالإيقاع أو الغناء- شرطاً لمعرفة الوزن دون اللحن بالنسبة لمن تبلدت أذنه.
وبعد أن تحول العرب من الأمية إلى الكتابة أصبح من الضروري أن يكون المعروف للعرب بالسماع والموهبة معروفاً لخلفهم بالقراءة .. أي برؤية البصر.
وكون الممارسة بسماع أو حفظ الشعر تنتج ملكة إقامة الوزن لا يعني أن الوزن يكون بدون اللحن الغنائي، فالواقع أنه لا وجود لوزن الشعر إلا بالغناء .. ذلك أن الشعر (الذي تدربت على سماعه الأذن واكتسبت ملكة إدراك وزنه) لم يتحدد وزنه في الأصل إلا عن لحن غنائي .. وهذه يجب أن تكون مسلمة تاريخية، فلقد ذكر الدكتور طه حسين زعم من زعم أن (9) العرب توهمت أعاريض وضروباً فنظمت عليها الشعر، فكان ذلك تفسيراً لنشأة الشعر عند العرب.. وذكر زعم من زعم أن أوزان الشعر العربي اشتقت من حركات الإبل، وقرر العميد مذهبه فقال: "والشيء الذي يظهر أن لا سبيل إلى الشك فيه هو أن وزن الشعر العربي- كوزن غيره من الشعر- إنما هو أثر من آثار الموسيقى والغناء، فالشعر في أول أمره غناء، ومن ذكر الغناء فقد ذكر اللحن والنغم والتقطيع .. فالشعر في أول أمره غناء، ومن ذكر الغناء فقد ذكر اللحن والنغم والتقطيع.. أو قل بعبارة موجزة : فقد ذكر الوزن .
والواقع أنا لا نعرف في تاريخ الأمم القديمة أن الشعر والموسيقى قد نشأ مستقلين، وإنما نشأ معاً ونَمَوَا معاً أيضاً، ثم استقل الشعر عن الموسيقى فأخذ يُنشد ويُقرأ .
وظلت الموسيقى محتاجة إلى الشعر في الغناء مستقلة عنه في الإيقاع الخالص، أو قل ظل الغناء نقطة الاتصال بين هذين الفنين.
وفي هذا العصر الحديث وحده أخذت الموسيقى تستغني عن الشعر استغناء تاماً، وتتخذ النثر أحياناً موضوعاً لألحانها.
وأخذنا نشهد في الملاعب الموسيقية الفرنسية قصصاً تمثيلية موسيقية منثورة غير منظومة.
وأخذنا نجد أيضاً قطعاً موسيقية منفصلة منثورة غير منظومة، ولم نشهد في لغتنا العربية إلى الآن فيما يظهر غناء يعتمد على النثر دون الشعر.
وإنما الغناء العربي كله يعتمد على الشعر مهما يكن نوع النظم الذي يُلجأ إليه.
وإنما المسألة التي تستحق أن تدرس وأن يزال عنها الحجاب هي تاريخ الأوزان العروضية التي أحصاها العلماء: كيف نشأت، ومتى نشأت؟ .. وهل عرف العرب الجاهليون هذه الأوزان التي أحصاها الخليل والأخفش؟.. أو هل عرفوا بعضها واستحدث الإسلاميون بعضها الآخر؟.. وما الأوزان التي عرفها الجاهليون؟.. وما الأوزان التي استحدثها المسلمون؟.. وأي أوزان الجاهليين أسبق إلى الظهور؟.. وأيها تطور عن الآخر؟.. وما الأسباب الفنية الاضطرارية أو الاختيارية التي حملت المسلمين أن يستحدثوا من الأوزان؟.

جنــــون 07-02-2011 10:14 PM

كل هذه مسائل خليقة أن تدرس، وأن يزال عنها الحجاب.
ولكن ذلك ليس بالشيء اليسير الآن على أقل تقدير، فلنكتف بعرضها ولننتظر"(10).
قال أبو عبدالرحمن: ما ذكره العميد هو عين الصواب من ناحية أن وزن الشعر في الأصل قائم على الغناء.
وهو عين الصواب في رد دعوى أن العرب توهموا بحوراً ينظمون عليها، لأن البحور لا قيمة لها وزنية إلا لكونها تستنبط قياس شعر مغني ملحن.
وليس بصحيح غض الدكتور النظر عن حركات الإبل، لأن ذلك ممكن فإذا صح نقله تاريخياً أصبح متعيناً.
ودعوى حركات الإبل في تفسير نشأة الشعر ليست كدعوى تخيل الأعاريض.. ذلك أن التفاعيل وزن ميت لا ينشأ شعراً، أما حركات الإبل ليست تفسيراً لنشأة الشعر، بل تفسير لنشأة نوع من الغناء هو الحداء.
وإذا وجد الغناء وُزن به الشعر، وإذا وزن الشعر بالغناء استنبط النظر من الشعر الموزون بالغناء أسباباً وأوتاداً وفواصل وتفاعيل وبحوراً.
قال أبو عبدالرحمن: والأوزان العروضية التي أحصاها العلماء نشأت عن شعر مروي عن عرب الجاهلية الأولى.. بعضه عرف وزنه من لحن غنائي لا يزال محفوظاً وقت التدوين، إذ من المحال أن ينسى وقت التدوين كلُّ غناءٍ يغني في الجاهلية.
ومنه ما نسي لحنه الغنائي فعرف وزنه إما بتلحينه بلحن غنائي جديد وإما بتقطيعه عروضياً.
وكل إشكال عروضي إنما ينشأ عن التلحين الجديد أو التقطيع النظري.
فأما التقطيع النظري فلا عبرة به إلا أن يكون قياسياً مباشراً للحن غنائي حاضر موجود.
وأما التلحين الجديد فيضبط الشعر وفقاً للحن الجديد وزناً ولفظاً، وليس من الضروري أن يضبطه وفقاً للحن القديم لفظاً ولإن ضبطه وزناً.
وشاهدنا من شعرناالعامي الراهن الذي يمارس العوام نظمه إلى هذه اللحظة بداهة بالغناء والترنم.
فقد يكون للقصيدة ذات الوزن الواحد عدة ألحان غنائية، ولكن ليس كل لفظ يستقيم به اللحن، بل يصلح للحن من ذلك الوزن ما لا يصلح للحن الآخر من نفس ذلك الوزن.
وقد يتسائل متسائل ويقول: ما حاجتنا للغناء ما دام العروض الخليلي يزن الشعر كما ينطق وفق تفعيلاته؟!.
قال أبو عبدالرحمن: والجواب على هذا من جهتين:
أولاهما: أن الغرض بيان واقع الحال كما هو عندما كان العرب ينظمون شعرهم قبل وجود بحور الخليل.
وثانيهما: أن الأذن المدربة قد تغفل عن خلل الوزن فيبقى الغناء المحك النهائي، لأنه المحك أولاً عند ولادة القصيدة.
ولهذا ندفع التساؤل بتساؤل آخر، فنقول: هل كان الشاعر قبل أن يقول شعره يستحضر أوزاناً يقطع عليها كلماته ويعايرها بها حروفاً وكلماتٍ حتى تستقيم التفعيلة تلو التفعيلة، ثم يستقيم بعد ذلك البيت؟.
لو صح هذا التساؤل لما كان اكتشاف الخليل بن أحمد لعلم العروض إبداعاً علمياً محيراً مثيراً للعجب، لأنه حينئذ كان يتعاطى شيئاً يتعاطاه الشاعر من قبله.
وإنني ارى بقاء هذا التساؤل كما هو قائماً مفتوحاً لمحاولة التقصي لكل الاحتمالات التي يظن أن الشاعر يعاير عليها شعره.
ونقدم كل احتمال أكثر رجحاناً على ما هو دونه، ثم نمحص هل ذلك الاحتمال هو الوحيد في كل حالة أم هناك مرجحاته أن الشاعر قبل أن يقول شعره يتخذُ له ميزاناً مسبقاً من لحن يتغنى به ثم يزن ألفاظ الشعر بأصوات اللحن.
وهذا أمر بينه ومثل أبو علي الحسن ابن رشيق، فقال وهو بصدد الحديث عن طريقة جماعة من الشعراء في النظم :"وقيل مقود الشعر الغناء به، وذكر عن أبي الطيب أن متشرفاً تشرف عليه وهو يصنع قصيدته التي أولها:
جللاً كما بي فيك التبريح * * * أَغذاءُ ذا الرشاٍ الأغنِّ الشيحُ؟
وهو يتغنى ويصنع، فإذا توقف بعض التوقف رجع بالإنشاد من أول القصيدة إلى حيث انتهى منها" (11).
قال أبو عبدالرحمن : وهذه الطريقة وصى بها الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه في قوله:
تغن بالشعر إما كنت قائله * * * إن الغناء لهذا الشعر مضمار (12).
قال الأستاذ محمود كامل :"وكان الشعر هو مادة الغناء في جميع العصور، فالشعر والغناء صنوان ينبعان من نبع واحد، إذ أن الغناء تعبير موسيقي، والشعر تعبير لفظي" (13).
قال أبو عبدالرحمن: قد يكون التعبير الموسيقي بغير كلمات مفهومة، والشعر لا يكون إلا بكلام مفهوم، ولا يكون إلا وفق تعبير موسيقي يستقيم به وزنه .. إذن الغناء ميزان الشعر ابتداء.
وربما أشكلت كليمتان: أولاهما لأبي علي الحسن ابن رشيق عندما قال :"وزعم صاحب الموسيقى أن ألذ الملاذ كلها اللحن.. ونحن نعلم أن الأوزان قواعد الألحان، والأشعار معايير الأوتار لا محالة" (14).
وأخراهما لعبد الرحمن ابن خلدون عندما قال عن صناعة الغناء :"هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة" (15).
قال أبو عبدالرحمن : فيفهم من الكليمتين أن الوزن المجرد من الغناء يوجد أولاً ثم يؤخذ منه اللحن الذي هو الغناء.
والصواب أن الغناء هو الأصل ومنه يؤخذ الوزن .. إلا أن الوزن الواحد يقبل أكثر من لحن، فإذا أريد إحداث لحن جديد لوزن ذي لحن قديم فإن الوزن حينئذ يكون أساساً للحن الجديد، وليس أساساً للحن بإطلاق، بل ما وجد الوزن إلا عن لحن.
ولا تكون القصيدة الموزونة قاعدة للحن بكامل المعنى الذي أراده ابن رشيق، ولا تقبل القصيدة تقطيع الأصوات بإطلاق كما قال ابن خلدون، بل قد يقتضي الجديد تغييراً في الكلمات مع بقاء الوزن.
إن الشعر مادة الغناء في جميع العصور كما مر من كلام الأستاذ محمود كامل، وتلك الملاحظة ظاهرة تتبَّعها الأستاذ الدكتور شوقي ضيف فقال :"لا نأتي بجديد حين نزعم أن شعرنا العربي نشأ نشأة غنائية كغيره من أنواع الشعر الأخرى، فمن المعروف أن الموسيقى كانت ترتبط بالشعر منذ نشاته ..
نرى ذلك عند اليونان القدماء، فهو ميروس كان يغني شعره على أداة موسيقية خاصة، ونرى ذلك عند الغربيين المحدثين، فقد كانت توجد في العصور الوسطى جماعات تؤلف الشعر وتغنيه وهي المعروفة باسم تروبادور، وكان عندنا في مصر إلى عهد قريب جماعات (الأدباتية) وهي جماعات تؤلف الشعر وتنشده على بعض الآلات الموسيقية، ولا يزال الشاعر معروفاً في الريف وهو يلقي أشعار أبي زيد الهلالي وعنترة وغيرهما مضيفاً إلى إنشاده الضرب على أداته الموسيقية المعروفة باسم الربابة" (16).
قال أبو عبدالرحمن: وحسبنا من الشعر العالمي شعرنا العربي نجد الشواهد على أنه نشأ غنائياً لنقيم الدليل على أن الشاعر ينظم شعره بالغناء وعايره به.
فمن الشواهد نقول ونصوص دلت على أن شعراء كانوا يغنون شعرهم .. من أولئك امرؤ القيس قال عن إعجاب بعض النسوة بصوته:
يُرِعْن إلى صوتي إذا ما سمعنه * * * كما ترعوي عيط إلى صوت أعيسا
ويشهد أبو النجم بأن امرأ القيس وعمرو بن قميئة كانا يغنيان بشعرهما،
فيقول يخاطب قينة:
تَغَنَّي فإن اليوم يوم من الصبي * * * ببعض الذي غنى امرؤ القيس أو عمرو
بل جُعل الشعر ذاته مرادفاً للغناء .. قال عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي رضي الله عنهما: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من غنائك .. يريد من شعرك. وسمى بنو كليب شعر غسان السليطي في هجائهم غناء، وقال جرير في ذلك:
غضبتم علينا أم تغنيتم بنا * * * أن اخضر من بطن التلاع غميرها
ويذكر بعض الشعراء أن الشعر للغناء .. قال مزرد بن ضرار:
زعيم لمن قاذفته بأوابد * * * يغني بها الساري وتُحدى الرواحل
وقال عنترة: هل غادر الشعراء من مترنم- وذلك في بعض الروايات-.
وقال ذو الرمة:
أحب المكان القفر من أجل أنني * * * به أتغنى باسمها غير معجم
ونص المترجمون على شعراء غنوا بشعرهم فذكروا علقمة الفحل بن عبدة يغني ملوك الغساسنة أشعاره.
وذكر أبو الفرج الأصفهاني أن السليك بن سلكة غنى بقوله:
يا صاحبي ألا لاحي بالوادي * * * سوى عبيد وأم بين أذواد
وكان المهلهل يغني شعره كقوله:
طفلة ما ابنة المحلل بيضاء * * * (م) لعوب لذيذة في العناق
ولقب الأعشى بصناجة العرب لاحتمال أنه كان يوقع غناءه على الآلة الموسيقية المعروفة باسم الصنج (17).
وتلذذ الشاعر الجاهلي بالأصوات الجميلة وذكر القيان ومجالس الطرب وآلاته كما تجد في استعراض الأستاذ محمود كامل في كتابه "تذوق الموسيقى العربية"، والدكتور الأستاذ شوقي ضيف بأول كتابه "الفن ومذاهبه في الشعر العربي" .. قال الأستاذ محمود كامل :"كان الغناء في العصر الجاهلي منتشراً بسبب كثرة القيان في هذا العصر بدرجة ملحوظة، ولو أنه لم يكن مزدهراً، إذ كان محصوراً في مجموعة من الأراجيز تؤدي على وتيرة واحدة في مساحة صوتية محدودة لا تتعدى ست درجات" (18).
وقال في موضع آخر :"وكان للعرب مجالس للطرب تغني فيها الجواري والقيان، ويصف طرفه بن العبد في معلقته قينة وهي تشدو، وذلك بقوله:
نداماي بيض كالنجوم وقينة * * * تروح علينا بين برد ومجسد (19)
إذا نحن قلنا أسمعينا ابرت لنا * * * على رسلها مطروفة لم تشدد (20)
إذا رجَّعت في صوتها خلت صوتها * * * تجاوب أظآر على ربع ردي (21)
ثم استعرض مسيرة الغناء بعد العصر الجاهلي إلى عام 1925م (22)، وذكر هناك وجود الملحن والمطرب إضافة إلى الشاعر كهذه الأبيات لقيس بن الخطيم:
أجدَّ بعمرة غنيانها * * * فتهجر أم شأننا شانها
وعمرة من سروات النساء * * * تنفح بالمسك أرادنها
فقد كان التلحين لطويس والغناء لعزة الميلاء (23).
وقال عن غناء العرب :"وكان المغنون العرب يغنون بغير آلة موسيقية تصاحب أصواتهم، بل كانوا يستخدمون قضيباً يضربون به الأرض لوزن الغناء، ولما رأى سائب خثر نشيطاً يستخدم العود استعمله هو أيضاً، فكان أول من غنى بالمدينة بالعربية مستخدماً العود" (24).
قال أبو عبدالرحمن: إذن فقد صح أن شعراء يتغنون قبل ميلاد البيت وحال ولادته كأبي الطيب المتنبي، وصح أن شعراء أوصوا بذلك كحسان بن ثابت، وصح أن الشعر مادة الغناء لأن العرب إنما تغني بالشعر، فإذا غنت بتعبير موسيقي بكلام غير مفهوم أو غير مقصود المعنى فإنما غرضها الوصول إلى الغناء بكلام مفهوم مقصود المعنى وذلك هو الكلام الموزون (الشعر).
وقد يوجد كلام ذو معنى ولكن السامع لا يفهم منه شيئاً، وإنما يحس به جمالياً كما ورد في الشعر العربي من استعذاب اللحن لكلام لم يفهم معناه.
قال النويري :"حكي أن بعض المحدثين سمع غناء بخراسان بالفارسية، فلم يدر ما هو غير أنه شوَّقه لشجاه وحسنه، فقال في ذلك (وقيل إنه لأبي تمام):
حمدتك ليلة شرفت وطابت * * * أقام سهادها ومضى كراها
سمعت بها غناء كان أولى * * * بأن يقتاد نفسي من عناها
ومسمعة يحار السمع فيها * * * ولم تصممه لا يُصمم صداها
مرت أوتارها فشفت وشاقت * * * فلو يستطيع حاسدها فداها
ولم أفهم معانيها ولكن * * * ورت كبدي فلم أجهل شجاها
فكنت كأنني أعمى معنى * * * بحب الغانيات وما رآها" (25)
وقال محمد بن بشير:
"وما أفهم ما يعني * * * مغنيه إذا غنى
ولكن من حبي * * * له أستحسن المعنى" (26)
قال أبو عبدالرحمن: وصح أن شعراء يغنون شعرهم بعد قولهم له، فهم يسترجعون الألحان الغنائية التي هدتهم إلى شعر موزون.
فإن وجد شاعر يبدع لحناً آخر لقصيدة قد قالها فلا يعني ذلك أن الشعر ولد قبل اللحن، لأن اللحن أبو المعايير، وكل معيار لوزن الكلام فمآله إذا اضطربت الأسماع إلى الغناء.
وصح أن الشعر يطلق مرادفاً للغناء، لأن الشعر يقال من أجل الغناء به.
وصح أن وجود الغناء بمجالسه وآلاته وقوانينه من البدهيات التاريخية في حياة الجاهلين.
قال ابن عبدربه :"قال أبو المنذر هشام ابن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب، والسناد، والهزج.
فأما النصب فغناء الركبان والقينات، وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات، وأما الهزج فالخفيف كله، وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم.
وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهراً فاشياً وهي: المدينة، والطائف، وخيبر، ووادي القرى، ودومة الجندل، واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب" (27).
وزاد ابن رشيق تفصيلاً فقال :"وغناء العرب قديماً على ثلاثة أوجه: النصب، والسناد، والهزج.
فأما النصب فغناء الركبان والفتيان .. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: وهو الذي يقال له المرائي، وهو الغناء الجنابي استقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبدالله بن هبل، فنسب إليه، ومنه كان أصل الحداء كله، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض.
وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع، الكثير النغمات والنبرات، وهو على ست طرائق: الثقيل الأول وخفيفه، والثقيل الثاني وخفيفه، والرمل وخفيفه.
وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه، ويُمشي بالدف والمزمار فيطرِب، ويستخف الحليم.
قال إسحاق: هذا كان غناء العرب حتى جاء الله بالإسلام، وفتحت العراق، وجلب للغناء الرقيقُ من فارس والروم، فغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية، وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازب والمزامير.
قال الجاحظ: العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن، فتضع موزوناً على غير موزون.
ويقال: إن أول من أخذ في ترجيعه الحداء مضر بن نزار، فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده فحملوه وهو يقول: وايداه وايداه .. وكان أحسن خلق الله جرماً وصوتاً، فأصغت الإبل وجدَّت في السير، فجعلت العرب مثالاً لقوله هايدا يحدون به الإبل .. حكى ذلك عبدالكريم في كتابه" (28).
وتحدث ابن خلدون عن الشعر العامي لبني هلال وغيره (29) وقال خلال ذلك عن الشعراء العوام ورواة الشعر العامي :"وربما يلحنون فيه ألحاناً بسيطة، ويسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران من أطراف العراق والشام، وهي من منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد" (30).
قال أبو عبدالرحمن: هذا هو واقع التعامل مع الشعر العامي في نجد، ولا يكاد يصحبه من الآلة غير الربابة أو الطبل في بعض الأحيان.
وهكذا كان العرب الفصحاء الأقحاح في جاهليتهم.. قال السيد محمود شكري الآلوسي موجزاً تدرجهم من الغناء الساذج إلى الصنعة الموسيقية:
"وصبيانهم يلعبون أنواعاً من الملاعب قد استوفاها صاحب القاموس، ويزمرون بالدفوف والمزاهر ونحو ذلك مع التغني بأراجيز وأبيات من الشعر أنشدوها في أيامهم كيوم بعاث.
وكان لهم أولاً فن الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدة حروفها المتحركة والساكنة، ويفصلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلاً (يكون كل جزء منها مستقلاً بالإفادة لا ينعطف على الآخر، ويسمونه البيت) فتلائم الطبع بالتجزية أولاً، ثم يتناسب الأجزاء في المقاطع والمبادئ، ثم بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها. فلهجوا به فامتاز من بين الكلام بحظ من الشرف ليس غيره، لأجل اختصاصه بهذا التناسب، وجعلوه ديواناً لأخبارهم وحكمهم وشرفهم ومحكاً لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب واستمروا على ذلك.
وهذا التناسب الذي من أجل الأجزاء والمتحرك والساكن من الحروف قطرة من بحر من تناسب الأصوات كما هو معروف في كتب الموسيقى.. إلا أنهم لم يشعروا بما سواه لأنهم حينئذ لم ينتحلوا علماً ولا عرفوا صناعة وكانت البداوة أغلب نحلهم.
ثم تغنى الحداة منهم في حداء إبلهم، والفتيان في فضاء خلواتهم، فرجَّعوا الأصوات وترنموا .. ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم، فلما جاء الإسلام، واستولوا على ممالك الدنيا، وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه (وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم .. مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ وما ليس بنافع في دين ولا معاش): فهجروا ذلك شيئاً ما، ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي هو دينهم ومذهبهم(31).
فلما جاءهم الترف، وغلب عليهم الرفه، بما حصل لهم من غنائم الأمم: صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ، وافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز، وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات، خاثر مولى عبيدالله بن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر، ثم أحذ عنهم معبد وطبقته وابن سريج وأنظاره.

جنــــون 07-02-2011 10:15 PM

وما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم ابن المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وابنه حماد.
وكان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث بعده به وبمجالسه إلى زمن بعيد وأمعنوا في اللهو واللعب" (32).
قال ابو عبدالرحمن: لقد أسلفت البراهين الدالة على أن الغناء هو الأصل في وزن الشعر، وليس فيما أسلفته شيء من هذه الشروط التي ذكرها أب الرُّب في قوله :"وإذا كان الغناء بالفصحى هو الشعر دون جدال فإننا قد نتساءل: هل نشأت أوزان الشعر إذن من خلال هذا الغناء الشعبي الشعري المبكر؟.
ولكي نجيب بنعم علينا أولاً أن نثيت أن الشعب العربي في الصدر الأول من العصر الجاهلي كان يتكلم الفصحى حتى نستطيع أن نقول : إنه كان يتغنى بها.
ثم علينا أن نثبت بعد ذلك أن غناءه الشعري المبكر هذا كان يعتمد أوزاناً عروضية هي ذات الأوزان الشعرية المعروفة التي اكتشفها لنا الخليل بن أحمد.
ثم علينا فوق هذا أن نثبت شيئاً ثالثاً سهل الإثبات، ولكن (33) المنهج العلمي يقتضيه .. علينا أن نثيت أن الغناء الشعبي الشعري هو أسبق إلى الوجود من هذا الشعر الإلقائي الكلامي الذي رأيناه يسود في أواخر العصر الجاهلي.
إذا استطعنا أن نثبت هذه القضايا الثلاث السابقة فإننا نكون قد وصلنا إلى نتيجة علمية منطقية، وهي أن أوزان الشعر العربي كانت في الأصل طرقاً غنائية شائعة ابتدعها الشعب العربي من خلال مسيرة غنائه المبكر" (34).
قال أبو عبدالرحمن: ويهمني من هذه القضية استدلاله على أن الشعر الفصيح مادة الغناء .. قال :"ولدينا على ذلك دليلان واضحان:
الأول: أن كتبنا القديمة حين كانت تذكر بعض النصوص الشعرية التي كانت تغنى في الجاهلية كانت تعرض لنا دائماً شعراً يقوم على أحد هذه الألوانالشعرية المعروفة، ولا تعرض شعراً يقوم على أحد هذه الأوزان الشعرية المعروفة، ولا تعرض شعراً يقوم على أوزان أخرى.
فهي تخبرنا مثلاً بأن القيام في المدينة كن يغنين قصيدة مشهورة لنابغة الذبياني من بحر الكامل،
بل إن بعض الكتب تخبرنا أن عائشة (رضي الله عنها) عندما زُفت الفارعة بنت أسعد سأل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: كيف تقول المغنية في العرس؟.
فقال: تهزج، فتقول:
أتيناكم أتيناكم * * * فحيونا نحييكم
ولولا الذهب الأحمر * * * ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمراء * * * ما سمنت عذاريكم (35)
بل إن الشاعر العربي القديم حتى في المرحلة الإلقائية المتطورة كان يدرك أن طبيعة عمله هي نظم نصوص غنائية لا أكثر، لذا رأيناه يقول:
تغن بالشعر إذ ما كنت قائله * * * إن الغناء لهذا الفن مضمار
كذلك الأدباء فإنهم حين كانوا يجمعون في كتبهم الأشعار القديمة كانوا يشعرون في ذات الوقت أنهم يجمعون أيضاً نصوصاً غنائية، لذا رأينا أبا الفرج الأصفهاني حين ألف مجلده الضخم الذي جمع فيه أكثر أشعار العرب السابقين رأيناه يطلق عليه اسماً موحياً (الأغاني).
كل هذا إذن دليل ساطع على أن الغناء الجاهلي كان شعراً فصيحاً يعتمد الأوزان العروضية المشهورة.
أما الدليل الثاني على القضية فيرتكز على ملاحظة بسيطة هي أن الشعر الغنائي أجدر بأن تتناقله الأجيال وتتوارثه من الشعر الإلقائي العادي، ذلك لأنه أعلق بالنفس لرقته من جهة، كما أنه يظل يغني ويردد في كل مناسبة من مناسبات الأجيال المتكررة من جهة أخرى.
فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا نستطيع التمييز إذن بين النصوص الغنائية الشعرية وبين النصوص الشعرية الإلقائية التي جمعها لنا الرواة في مرحلة متأخرة؟.
أم تراهم جمعوا لنا فقط الشعر الإلقائي وأعرضوا عن الشعر الغنائي؟.
ومن المحقق أن الرواة قد جمعوا لنا فيما جمعوا شعراً كثيراً من النصوص الغنائية الجاهلية القديمة، ولكننا لا نستطيع أن نميزها الآن عن النصوص الإلقائية، لأننا لا نجد ثمة فرقاً بين اللونين من الشعر من حيث الوزن أو اللغة أو نظام القافية.. ونحسب أننا بهذا نكون قد فرغنا من إثبات القضية الثانية .. ختى إذا انتقلنا إلى القضية الثالثة وجدناها واضحة لا تحتاج إلى أدلة وبراهين كثيرة، فالغناء الشعري قطعاً أسبق إلى الوجود من الشعر الإلقائي، ذلك لأن الشعر الإلقائي هو فن ناضج، ولابد أن يكون قد مر بمراحل تطورية سابقة، فهو يدل على رقي في العقلية الإنسانية بينما الغناء نشاط سيكولوجي ضروري الوجود، ولا يحتاج إلى شيء من ذلك حتى يظهر، لذا فهو عند أي شعب من الشعوب يسبق دائماً ظهور أي فن من الفنون الجميلة.
إذن فالغناء الشعري الجاهلي أسبق إلى الوجود من الشعر الإلقائي(36)، لكن فن الشعر بشكل عام قد ولد غداة ولادة الغناء بالفصحى، لأن العرب الفصحاء الأقدمين حين بدأوا يغنون بدأوا أيضاً يقولون الشعر في ذات الوقت"(37).
ثم قال أبو الرُّب :"لكن الذي لاشك فيه أن الغناء الشعري المبكر قد تمخض في مرحلة متطورة تالية عن لون آخر من الشعر لا نقول : إنه يختلف من حيث الوزن أو اللغة أو نظام القافية، ولكنه يختلف من حيث كونه لم ينظم خصيصاً للغناء، بل نظم لأغراض اجتماعية أخرى، وليُلقى على أسماع الناس إلقاء خطابياً.
ونقصد به هذا اللون الكلامي من الشعر الذي كان يجتمع إليه الناس في محافلهم العامة فيلقيه أصخابه عليهم في سوق عكاز وغيره من الأماكن.
على أن هذا الشعر الإلقائي في هذه المرحلة الشعرية الجاهلية المتطورة قد ظل يغني أغلب الأحيان، كما ظل هو أيضاً يعتمد على الغناء في التزام الأوزان، وفي اكتشاف العيوب الشعرية الأخرى".
قال أبو عبدالرحمن: بيد أن أبو الرُّب لاحظ فساد تقسيم الشعر إلى غنائي وإلقائي بقوله :"من المحقق أن الذي كان يساعد الشاعر الجاهلي في المرحلة الإلقائية المتأخرة على الالتزام العروضي في نظم الشعر هو الغناء والموسيقى تماماً كما يساعد الغناء الآن الشعب الأردني على انتهاج طرق عروضية معينة أثناء النظم.
فقد قيل: إن امرأ القيس بن ربيعة قد سمى المهلهل، لأنه هلهل الشعر، أو لجمال صوته .. كما أن الخنساء كانت مراثيها بمصاحبة الإيقاع، وقيل: إن علقمة بن عبدة كان مشهوراً بغناء المعلقات"(38).
قال أبو عبدالرحمن: وثمة ملاحظة أخيرة عن ارتباط الشعر بالغناء، وهي العزف بالشعر، لأن قرع الطبول ونقر الدفوف عزف جاهلي لشعرهم العربي، وهم لا يعزفون إلا بشعر.
إذن الشعر يولد ليغنى به، والقافية تلبي مطالب هذا العزف .. قال الأستاذ الدكتور شوقي ضيف :"نبع الشعر العربي من منابع غنائية موسيقية، وقد بقيت فيه مظاهر الغناء والموسيقى واضحة، ولعل القافية أهم تلك المظاهر، فإنها واضحة الصلة بضربات المغنين وإيقاعات الراقصين.. إنها بقية العزف القديم، وإنها لتعيد للأذن تصفيق الأيدي، وقرع الطبول، ونقر الدفوف .. كما تعيد ذلك شارات أخرى للغناء نجدها في الشعر القديم .. منها هذا التصريع الذي نجده في مطالع القصائد، كقول امرئ القيس في مفتتح مطولته:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * * * بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وعاد إلى التصريع مرة أخرى فقال:
أفاطم مهلاً بعضِ هذا التدلل * * * وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملى
ثم صرع ثالثة فقال:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل * * * يصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل
وكأني بهذا التصريع كان يأتي به الشاعر حين ينتهي من غناء قطعة من قصيدته أو إنشادها، وينتقل إلى أخرى، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي جعلتهم يفزعون إليه حين ينتقلون من موضوع إلى موضوع في النموذج الفني" (39) .
وتكلم عن التقطيع الصوتي وقيمة الغنائية فقال :"كثر هذا التقطيع الصوتي في الشعر القديم، فمن ذلك قول امرئ القيس يصف فرسه في معلقته:
مكر مفر مقبل مدبر معا * * * كجلمود صخر حطه السيل من علِ
ويقول طرفة في مطولته:
بطيئ عن الجلى سريع إلى الخنا * * * ذليل بإجماع الرجال ملهد(40).
وروى قدامة في نقد الشعر كثيراً من مثل هذه الأبيات التي تنثر في الشعر القديم نثراً، والتي لاشك في أن الغناء هو الذي دفع إلى صنعها حتى يوفوا للشعر قيماً صوتية تساعد على تلحينه والترنم به" (41).
وقال :"ومهما يكن فإن الشعر الجاهلي نشا في ظروف غنائية، وتركت هذه الظروف آثاراً مختلفة فيه .. بعضها نراه في قوافيه وتقطيعاته، وتركت هذه الظروف آثاراً مختلفة فيه .. بعضها نراه في قوافيه وتقطيعاته، وبعضها نراه في تلك الأوزان القصار التي أثرت عن العصر الجاهلي، والتي ليس من شك في أنها ظهرت تحت تأثير الغناء" (42).
قال أبو عبدالرحمن: إذن ما قبل العروض مرحلة يوزن فيها الشعر بالغناء والترنم، لأن العرب الأميين لا يعرفون بحوراً للشعر ودوائر تقطع عليها كلمات الشعر بصرياً.
وبناء على هذا فالغناء معياره الوزن سواء كان غناء صنعة أم كان غناء ساذجاً.
وفي عصر ما قبل العروض معايير أخرى ترادف الغناء كالترنم، أو تحاكيه، أو تكون مفتاحاً له.
فأما الغناء والترنم فقد فصلت القول فيهما.
وأما ما كان مفتاحاً للحن الغنائي فالموال، وعرف من موال الشعر الجاهلي هايدا هايدا رمزاً للحداء كما ذكر ذلك عبدالكريم النهشلي (43).
ويشبه ذلك في عصور العامية دان داني، ومالي مالي- والأخيرة عند المغاربة- والهينمة، والملالاة.
وأما محاكاة اللحن فيكون إما بترديد كلام على غنائه، وإما بترديد كلام يزنه بوحدات ترتسم في الذاكرة فيكون إدراكها بالتطبع ملكة للسمع .. وهذه الوحدات أخذت من تقسيم ألحان شعر غنائي.
فأما محاكاة اللحن بترديد كلام على غنائه فمثل التنغيم بالمعجمة:
نعم لا- نعم لالا- نعم لا- نعم للا.
وأما محاكاة اللحن بترديد كلام يزنه فبأسلوب التنعيم بالمهملة، والمتر كأن ينظم قصيدة على وزن معلقة قفا نبك.
وقد يكون المتر بتنغيم أيضاً، فيصنع لقفا نبك أي لحن ساذج وإن لم يكن اللحنَ الذي تُغنَّى به تلك المعلقة في الجاهلية، فينظم على منواله، فيخرج له بحر "قفا نبك".
قال الدكتور عبدالحميد حمام :"والاعتقاد السائد يقضي بأن الشعراء اعتمدوا الألحان (أي الأشعار) السابقة لهم في وزن الأشعار الجديدة، فالباقلاني يذكر أن ثعلب قال: إن العرب كانت تعلم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
قال الدكتور عبدالحميد همام :"والاعتقاد السائد يقضي بأن الشعراء اعتمدوا الألحان (أي الأشعار) السابقة لهم في وزن الأشعار الجديدة، فالباقلاني يذكر أن ثعلب قال: إن العرب كانت تعلم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
ويسمون ذلك المتير واشتقاقه من المتر، وهو الجذب والقطع (44).
ويعلق شوقي ضيف على ذلك بقوله: فأساس الشعر عندهم كان تعلم الغناء وألحانه (45).
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الأسلوب لا يزال متبعاً في الغناءالعربي من بدوي وقروي ومدني حتى الآن.
والزجالون يرتجلون أشعارهم بسهولة ويسر، لهضمهم اللحن، ولاستيعابهم الوزن الذي به يغنون، فلا يحتاجون إلا إلى التركيز على وضع المعنى في ذلك القالب، وهذا ما يحدث في الشعر البدوي حيث يترنم الشعراء بالألحان البدوية من سامري وهجيني وحداء، ثم ينظمون أشعاراً جديدة على منوالها، فتأتي مساوية لها بالوزن"(46).
قال أبو عبدالرحمن : أشد الناس ملاحظة لانبثاق الشعر من الغناء هو أشدهم دعوة إلى أن يكون الشعر غنائياً بعد عُقَدِ الحداثة، ولهذا تحدث توفيق أبو الرُّب عن التجديد الحداثي في الشعر العربي المعاصر حديث المتبرم من تجديد يلغي القافية ذات الإيقاع النغمي المتكرر، ويمزق الموسيقى بتمزيق التوازن العروضي بين الأبيات والشطرات (47).
وقارَن بين تجديد المجددين في القرن الرابع عشر الهجري وبين تجديد من تلاهم من الحداثيين فقال :"التغيرات الجديدة التي طرأت على الشعر العربي في هذا القرن قد جعلته يخلص ثانية للغناء، لكن المجددين المحدثين قد هبطوا به إلى درجة النثر الغامض الذي لا يسر.
ووسائل الترفيه الحديثة اقتضت منه أن يكون مؤثراً ظريفاً واضحاً، لكن المجددين المتأخرين قد جعلوه ثقيلاً مملاً كالألغاز أو أشد غموضاً من الألغاز .. تقرؤه فلا تفهم عنه شيئاً.
وكيف تستطيع أن تفهمه إذا كان أصحابه أنفسهم أغلب الظن لا يفهمون عنه شيئاً؟.
وبعد فلا ريب أن الشعر العربي المعاصر يعاني هذه الأيام حشرجة مؤلمة تحاول أن تقتله لكنه يتشبث بأسباب الحياة.
ولكن هل الشعر العربي وحده هو الذي يعاني أزمة حادة في هذا العصر؟.
كلا فالشعر في جميع أنحاء العالم يعيش الآن أزمة .. حتى أن الشعراء الأمريكيين مؤخراً قد عقدوا مؤتمراً تدارسوا فيه أسباب عدم إقبال القراء على الشعر في السنوات القليلة الماضية.
فالشعر العالمي جميعه قد تعرض أيضاً في ظل الحضارة الحديثة إلى كثير مما تعرض له الشعر العربي من ظروف التغيير والمنافسة.
والشعر الغربي على وجه الخصوص يعاني الآن أزمة حادة، لذا نراه يحاول الخروج منها بالاتجاه نحو الغناء كما يقول رواده الكبار ت.س.إليوت (48).
وإذا كان الشعر الغربي الآن يتلمس الحل لأزمته في الاتجاه إلى الغناء تاركاً التمثيل والقصة، لأن النثر قد غلبه عليهما: فما بالك إذن بالشعر العربي الذي كان ولا يزال كما يقول طه حسين في حق: ليس من القصص ولا من التمثيل في شيء، وإنما هو غناء ليس غير (49).
علاج أزمة الشعر العربي المعاصر إذن في أيدي الشعراء أنفسهم، فهم مطالبون الآن بأن يعيدوا له غنائيته القديمة، وأن يعيدوا له موسيقاه الممزقة المنفية، وأن يعيدوا له صدقه ووضوحه وبساطته السابقة .. هم مطالبون بإيقاف هذا الهزر النثري الغامض الذي يصر على تسمية نفسه بالشعر الحديث.. فما هو بالشعر وما ينبغي له، إن هو إلا كلام مبهم ممجوج.
هم مطالبون الآن باستثمار مواهبهم الإبداعية في ابتكار الأوزان اللحنية الجديدة، وبأن ييمموا وجوههم شطر الغناء الشعبي الشائع في بيئتهم، لاستلهام ألحانه الثرة العذبة في قصائد شعرية فصيحة، فهذا من شأنه أن ينعش فن الشعر، وأن يساعده في الخروج من أزمته الراهنة.
وأخيراً هم مطالبون بأن ينظموا أشعارهم مرنمين أفراحهم وأتراحهم وأحاسيسهم الوطنية والاجتماعية ترنيماً موقعاً متخذين شعارهم في ذلك قول سلفهم القديم:
تغن بالشعر إذ ما كنت قائله * * * إن الغناء لهذا الفن مضمار" (50)
قال أبو عبدالرحمن: الاستخفاف بشعر الحداثة إلى هذا الحد، ووصفه بأنه ممجوج غير مفهوم- ونحن نعرف روائعه في شعر السياب والبيتاني وعبد الصبور، وغيرهم- سببه الجهل بقيمة الفنية والفكرية.
وأما المطالبة بالعنصر الغنائي- بل الجمالي بعامة- فمطلب ضروري قصرت له كتبي الثلاثة :"الالتزام والشرط الجمالي"،"والقصيدة الحديثة وأعباء التجاوز"،"والعقل الأدبي".
ولكن ليس من الشرط أن يكون العنصر الغنائي عنصراً تاريخياً مأثوراً كوحدة القافية وتساوي الأشطر، وإنما المهم أن يكون غنائياً فحسب.
ومن الغناء موسيقى الشعر الداخلية، وقد أفاض الدكتور شوقي ضيف عن تأثير الملحنين في الشعر بإيقاظ الإحساس بالموسيقى الداخلية (51)، وتكلم عن غنائية البحتري، وعن وصف الموسيقى الداخلية بأنها قيم صوتية خفية، وامتحن مقاييس اكتشاف الموسيقى الداخلية لدى الآمدي وعبد القاهر وغيرهما، واكتشف فشل تلك المقاييس، واختار ما لاحظه لامبورن في كتابه أسس النقد من أن هذه الموسيقى يشخصها جانبان مهمان: هما اختيار الكلمات وترتيبها من جهة، ثم المشاكلة بين أصوات هذه الكلمات والمعاني التي تدل عليها من جهة أخرى، حتى تحدث هذه الصناعة الغربية (52).
وعمق هذين الجانبين من كلام الجاهظ، واختار من شعر البحتري مادة تطبيقية لاستجلاء جمال الموسيقى الداخلية.
وقال الدكتور النعمان القاضي بعد مباركة للحداثين الذين لم يهدموا غذائية الشعر :"فلعل الموسيقى شعر (إذلم تنتظم نسَبُها وتتكامل كما انتظمت وتكاملت في شعرنا العربي.. وإذ تتساوى تماماً أو يجب أن تتساوى تماماً الحركات والسكنات في كل بيت من أبيات القصيدة حيث تلتقي دائماً عند قافية موحدة): توثق وحدة النغم، وتتيح الفرصة للسكوت عند آخر كل بيت وترشيده على الأسماع، وما ذلك إلا لما كان من تعانق تلحين الغناء وحركات الرقص وضرباته مع الإيقاع الشعري العربي في نشأته الأولى .. ويتضح هذا من استيفائه الأنغام الطوال والقصار ومواقع النبرات والنقرات، وتمسكه بقرار القافية الثابت، ليتم للنغم وحدته، وتتضح رناته في كل بيت، ولهذا قال حسان بن ثابت معبراً عن هذا الارتباط الذي كان ملحوظاً لدى شعراء الجاهلية والشعراء المخضرمين:
تغن بالشعر إما كنت قائله * * * إن الغناء لهذا الشعر مضمار
ومعروف لدى دارسي الأدب العربي أن الغناء الجاهلي كان وثيق الصلة بالشعر، وأنه كان على ثلاثة أوجه هي:
النصب الذي كان يخرج من أصل الطويل في العروض.
والسناد الذي كان يستند إلى كثرة النغمات والذبذات والنبرات.
والهزج الذي كان يُرقص عليه ويصحب بآلات المزمار.
ولا يغيب عن بالنا أن هذه العلاقة أخذت في التوثيق مع الأيام حتى ليقاس كل لون من ألوان الغناء تلك بمقياس العروض، وحتى ليذكر صاحب الأغاني في مقمته أنه سيذكر اللحن وعروضه، لأن معرفة أعاريض الشعر تُوصِّل إلى معرفة تجزئته وَقِسَمِهِ الحادثة.
وقد ذكر المسعودي ما ذهب إليه ابن خرداذبة من قياس ألحان الغناء وإيقاعات الرقص في العصر العباسي بمقياس العروض.
وفي الفصول والغايات يضبط أبو العلاء المعري طائفة من ألحان الغناء بتفاعيل العروض من مثل قوله: إن الثقيل الأول ثلاث نقرات متساويات الأوزان وقياسه على مثال فعولن، وقياس الثقيل الثاني مفعولان .. أما خفيفة ففعولان بالسكون، وقياس الرمل على مثال لان مفعو أو كما يقول العروضيون فاعلاتن.
وقياس الهزج قال لي أو كما يقول العروضيون فاعلن.
ومن هذا يتضح لنا ارتباط الشعر العربي بالغناء وكذلك بالرقص، فإن الهزج والرمل وهما من أوزان الشعر اقترنا بالرقص كما اقترنا بالغناء.
ولعل ارتباط الشعر بالرقص وما يصحبه من دق الأرض بالقدم هو السبب الوحيد لوجود القافية في نهاية البيت حيث يتكامل عندها الرنين ويحسن التوقف، ويتجزأ النغم المتساوي في إيقاع منتظم متكرر عند روي متحد.
ومن أجل هذا تواضع الجاهليون على إتمام المعنى في البيت الواحد ليمكن الوقوف في آخره.
ولا يمكن أن يُعَدَّ التصريع بين شطري البيت وخاصة في المطالع إلا أثراً من آثار ارتباط الشعر بالغناء، لأن التصريع يتيح لصوت الشاعر مركزين يتوقف عندهما وبخاصة في مطلع الإنشاد، وكأنه يعد الآذان لقرار النغم في القصيدة، وقد يلجأ الشاعر إلى تكرار التصريع أكثر من مرة في تضاعيف القصيدة، وكأنه يعمد بذلك إلى تجزئة الإنشاد إلى مقاطع يتوقف عند نهاية كل منها ثم يستأنف الإنشاد من جديد، وقد يعمد إلى تقطيع البيت الواحد إلى إيقاعات متساوية ذات رنات صوتية متماثلة، وقد يشي بالقافية رويها في الكلمة السابقة على القافية، وكأنه يجعل للبيت قافيتين ليعطي فسحة واسعة لامتداد الصوت وغير ذلك من مقومات لإيقاع الصوت الموائم لرنات الغناء الرشيقة ولحركات الرقص الموسقة" (53).

جنــــون 07-02-2011 10:15 PM

قال أبو عبدالرحمن: الموسيقى الداخلية في الشعر، والرنين الموسيقي الخارجي المتمثل في القافية والتصريع، والمدلول اللغوي الاصطلاحي لكلمة شعر الدالة على فن يرتبط بالغناء .. كل هذا يجعل الغنائية كياناً في الشعر، وركناً من أهم أركانه.



الفصل الثاني: العروض علم غنائي سمعي:
عروض الخليل بن أحمد في المعتقد العام من العلوم التي نضجت ثم احترقت، لأنه علم محصور تعاقبت عليع مواهب ثلاثة عشر قرناً.
وإنما المحترق الكتب التعليمية- مختصرات ومطولات- التي تهدف إلى تفهيم الناس فن الوزن والتقطيع، وتلقنهم حفظ مصطلحاته.
وكاد يحترق بعض تلك الفلسفات النظرية لمناسبة بعض البحور، ولاستحسان زحاف دون زحاف كما نجد في منهاج البلغاء وسراج الأدباء للمفكر أبي الحسن حازم القرطاجني، وموسيقى الشعر لإبراهيم أنيس.
وهو لن يحترق أبداً تجريبياً، لأن ألحان الغناء العربي التي وزنها الخليل ضاعت ولم تدون موسيقياً، فلا خوف من الاحتراق، وإنما الطموح إلى دراسة موسيقيين خالصة ما زال اللحن حاضراً موجوداً.
وكيف يكون علم الخليل محترقاً ومراد الخليل نفسه لم يتجلَّ فيما كتب من مؤلفات في العروض؟! .. قال الدكتور عبدالحميد همام :"ما ينبغي ذكره في هذا المقام هو أن علم العروض لم يصل إلينا كما أراده الخليل، وذلك لضياع كتابه الأصلي.
وإنما نستقي معلوماتنا من خلَفه الذين يشك في فهمهم لقصده، وذلك لبعدهم عن الموسيقى والغناء اللذين كان الخليل عارفاً بهما فانغمسوا في تفسيرات بعيدة عن واقع الوزن الشعري، وتاهوا في غياهب الزحافات والعلل.
ولكن مع ذلك، يمكن الوصول لبعض المعلومات إذا أحسن التقصي" (54).
قال أبو عبدالرحمن: التقصي الصادر عن خبرة موسيقية يستخرج كل ما يمكن ابتكاره من الألحان.
أما تفسير وتعليل زحافات وعلل الشعر العربي وإحقاق الحق في أوزان اختلف الدارسون هل نظم العرب عليها أم لا: فلا يتم إلا باكتشاف الألحان الغنائية التي يغنيها عرب الجاهلية، وينظمون من أجلها الشعر، ويزنون عليها شعرهم، وهذا مالا سبيل إليه اليوم، لأن الألحان الغنائية لم تدون.
وأحكام العروضيين في الزحافات والعلل أحكام غير معللة .. قال خليل أداة :"لست أعزك الله ممن ينكر فضل الأقدمين لاسيما الخليل إمام العروصيين وواضح أصول فن النظم.
وأعرف أنهم عددوا أوزان الشعر، وذكروا ما يطرأ عليها من التغيير، ووسموها بأسماء اصطلحوا عليها يُربي عددها على المئة والعشريبن، ومع كل ذلك لا أراني جائزاً في حقهم إن قلت: إنهم أطالوا ولم يستوفوا، وبسطوا القول في علم العروض، وعددوا البحور، وبينوا الأعاريض والضروب، وأسهبوا في ما يستحسن أو يستهجن من الزخافات والعلل.
أجل!.. ولكن لم يوقفوا الطالب على أساس ذلك النظم وكنهه، ولم يكشفوا القناع عن سبب استقباحهم بعض التغييرات واستحسانهم غيرها.
فيبقى الدارس أشبه بضرير يُهدي بيده إلى حيث قصد ولم يعرف كيف بلغ المقصد ولم يتبين الطريق، أو كدارس الرياضيات ينجز العمليات كما لقنها دون أن يدرك أسبابها.
وإن اعترض علينا أحد بقوله :"إن هذه المسائل لا تهم معرفتها عموم الطلبة": أجبنا: أن الطلبة ربما اكتفوا من العلم الظاهر" (55).
قال أبو عبدالرحمن: ولا سبيل إلى معرفة فلسفة الزخارف والعلل إلا بسماع اللحن لمعرفة النطق الغنائي الذي ربما اقتضى تحويراً للنطق الإلقائي كما هو المعتاد الآن في الشعر العامي حينما يكوت لتلاوته نطق غير نطق غنائه.
والألحان التي يغنيها أهل الجاهلية لا سبيل إلى معرفتها اليوم.
قال أبو عبدالرحمن: ما ورد في الشعر العربي من زخارف وعلل حكم العروضيون والسمع المدرَّب بقبحها فنجزم أنها ضرورات لحنية.
فمثلاً الشعر الذي على بحر البسيط ويرد فيه كلمة على وزن مستعلن (/5///5) نجزم بأن الشاعر يغنيها هكذا مساتعلن (أي مستفعلن) /5/5/5 فيتصرف في النطق العربي الفصيح غناء ليكون على مستفعلن، ويتصرف في النطق الغنائي تلاوة ليوافق الوزن العربي مستعلن، فهو إذا غنى ذو ضرورة لغوية لأجل اللحن، وهو إذا نطق ذو ضرورة غنائية لأجل اللغة.
قال أبو عبدالرحمن: ونشأة العروض الخليلية ذاتها ترتبط بالغناء مما يدل على أن الغناء أساس الوزن.
قال الشيخ جلال الحنفي :"وقيل إن الخليل مر بسوق الصفارين فتنبه إلى أساليب من طرق القوم على الطشوت، فرأى ذلك شيئاً يشبه الأوزان المتناسقة، فأخذ من ذلك قواعده في التفاعيل والأبحر (56).
وهذا ما نستبعده فإن الخليل كان ذا دراية بالنغم والإيقاع، وهما من الفنون التي تعتمد على الموازين المنسقة التي يحس بها كل ذي ذوق سليم، وكل ذي سمع غير معتل.
وإذا صح من هذه المقولة شيء فهو أن الخليل أعجب بأسلوب القارع على الطشت، فلعله كا يدق على طشته بطريقة متوازنة لطيفة الوقع على السمع، وهذا من الأمور التي قد تقع دائماً .. غير أن جعل هذه المقولة أساساً لتدوين قواعد العروض هو الذي نرده ولا نقره، فإن الصلة مفقودة بين ابتداع التفاعيل وبين طريقة قرع الطشوت، فإن هذه لا تحدث إن كانت متناسقة سوى أصوات ذات مذاق إيقاعي محدود في حين أن المقاطع القولية في الكلام من شعر ونثر متميزة في الأسماع، فليس هناك سر غامض كشفته الطشوت" (57).
قال أبو عبدالرحمن: لا بعد واقعاً، ولا نظراً في لفت نظر الخليل إلى الوزن من سوق الصفارين أو من صوت أي جرم ذي إيقاع منظم، وإنما ثبوت ذلك وتعيينه في الواقع يحتاج إلى نقل صحيح.
وقول الشيخ جلال "وهذا ما نيتبعده" مجرد دعوى مرسله، لأنه لم يدعم دعواه ببرهان يبطل النقل، أو تعليل يحيله.
وقوله في تعليل دعواه :"فإن الخليل كان ذا دراية بالنغم والإيقاع" تأييد للدعوى التي ينفيها وليس نفياً لها، لأن من كان ذا علم بالنغم والإيقاع سيكون ذا حس مرهف في التقاط وزن إيقاع جرم ذي وزن منظم.
وفي ثنايا كلام الشيخ جلال قوله عن النغم والإيقاع :"وهما من الفنون التي تعتمد على الموازين المتسقة التي يحس بها كل ذي ذوق سليم، وكل ذي سمع غير معتل".
قال أبو عبدالرحمن: النغم والإيقاع بُنِّي في اللحن والوزن معاً، وإنما يوجد اللحن بأنغامه وإيقاعاته فيولد الوزن.
وعندمال يولد اللحن وتؤخذ منه الأوزان يظل الوزن المنظم مقياساً للذوق السليم والسمع غير المعتل، فإذا حصل حصل اللبس فالمرجع إلى اللحن لأنه الأصل.
ويكون لسقوط جرم على جرم في بعض الأحيان إيقاع ونغم منظم ، فيولد من ملاحظة ذلك ملاحظة الوزن .. وإذن فقد عاد احتجاج الشيخ جلال احتجاجاً عليه.
ومع هذا الإستبعاد من قبل الشيخ جلال نجده بعد أسطر يجعل المستبعد محتملاً فيقول : "فلعله كان يدق على طشته بطريقة متوازية لطيفة .. إلخ".
ومع إقراره هذا الاحتمال قال: غير أن جعل هذه المقولة أساساً لتدوين قواعد العروض هو الذي نرده .. إلخ.
ولم يبين برهان هذا الرد، ولم يبين المانع من اعتباره المعنى المحتمل أساساً، وإنما استدل على الدعوى بدعوى فقال : "فإن الصلة مفقودة بين ابتداع التفاعيل وبين طريقة قرع الطشوت".
قال أبو عبدالرحمن: بل الصلة أن لحن القرع أحدث وزناً أساسه الساكن والمتحرك.
فالجرم الذي صوته: تك تك، أو طق طق، أو دق دق سيكون وزنه: فع فع.
وإذن فقد وجدت نواة الوزن من نواة اللحن وهو الإيقاع، وإذاً فلا صحة لقول السيخ جلال :"من المستحيل أن يعرف من القرع على الطشوت ما هو ساكن .. إلخ".
قال أبو عبدالرحمن: ومعنى وجود نواة الوزن أن الخليل تنبه إلى أن الون يُشتق من اللحن.
وأما قول الشيخ جلال: فإن هذه [يعني طريقة قرع الطشت] لا تحدث سوى أصوات .. إلخ" : فلا مجال إلا عند دعوى أن الوزن الشعري مطابق للوزن اللحني، والصواب أن الوزن الشعري قد يعجز عن تحقيق كل خصائص الوزن اللحني.
وقال الشيخ جلال عن ارتباط آخر بين الغناء ونشأة العروض :"وجاء في التوشيح الوافي والترشيح الشافي في شرح التأليف الكافي في علمي العروض والقوافي لابن حجر العسقلاني- بعد إسقاط السند-: عن الحسين ابن زيد أنه قال: سألت الحليل عن علم العروض، فقلت: هل عرفت له أصلاً؟.
قال: نعم.. مررت بالمدينة حاجاً فبينا أنا في بعض مسالكها إذ نظرت لشيخ على باب دار وهو يعلم غلاماً وهو يقول له:
نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم للا * * * نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم للا
فدنوت منه وسلمت عليه، وقلت له: أيها الشيخ: (58) ما الذي تقوله لهذا الصبي؟.
فقال: هذا علم يتوارثه هؤلاء عن سلفهم، وهو عندهم يسمى التنعيم.
قلت لم سموه بذلك؟.
قال لقولهم: نعم نعم.
قال الخليل: فقضيت الحج ثم رجعت فأحكمته.
وفي "بغية المستفيد من العروض تاجديد" للأستاذ إبراهيم على أبو الخشب ما نصه: فيما يروى عن الخليل نفسه أنه كان بالصحراء فرأى رجلاً قد أجلس ابنه بين يديه وأخذ يردد على سمعه "نعم لا نعن لا لا نعم لا نعم لا لا" مرتين، فسألته عن هذا، فقال: إنه التنغيم- بالغين المعجمة- نعلمه لصبياننا.
وقد تكون لهذا النص قيمة تاريخية مقبولة، ولكن مما يجب أن يعلم أن الرواية لا تشير إلى أن ذلك كان معروفاً لدى الشعراء في الجاهلية، أو كان ذلك من بعض دأبهم، وما نسب إلى امرئ القيس من مثل قوله:
ألا لا - ألا لا لا - ألالا- ألا إلى.
فعولن- مفاعلين- فعولن- مفاعلن.
لا يمكن أن يكون إلا شيئاً وضع لوزن الشعر بعد عصر الجاهلية، فألحق بأبيات امرئ القيس، أو ادعى له، أو أنه مما صنعه المؤدبون في العصر الأموي لتحفيظ الشعر وضبط ألفاظه ونصوصه وأوزانه.
وقد يكون علم الخليل بالأوزان الصرفية هو الذي نبهه إلى اتخاذ أوزان تماثلها في قياس ملفوظات الشعر ومقابلة مقاطيعه.
وكان الخليل قد تجمعت لديه مجموعة كبيرة من الشعر الجاهلي رواية وحفظاً، فطفق يدرس ذلك بدقة وإنعام نظر، ويجري المقارنات المتعاقبة بين الأوزان، ويغربل النصوص، ويطرح منها ما لم يرتضيه.. بهذا أمكن للخليل وضع قواعد علمه الجديد" (59) .
قال أبو عبدالرحمن: نعم لا نعم لا لا ترسم مقياساً رياضياً معدوداً للمتحركين والساكن، والمتحرك والساكن، والمتحركين والساكن.. إلخ ، فتدركه الذاكرة بداهة دون عناء، ويصدق على هذا مصطلح التنعيم بالمهملة.
وقد يرددون نعم لا نعم لا لا بلحن أو ألحان يزنون بها الشعر، ويصدق على هذا مصطلح التنغيم بالغين المعجمة.
قال أبو عبدالرحمن: لست أدري على أي أساس بني نفيه دلالة رواية التنعيم أو التنغيم على أن ذلك كان معروفاً لدى شعراء الجاهلية في حين أن الخليل من أهل صدر الإسلام، والرواية تقوق: نعلمه لصبياننا.
وفي الرواية الأخرى: هذا علم يتوارثه هؤلاء عن سلفهم.
وما بين الخليل والجاهلية عدد قليل من الأجيال؟.
قال أبو عبدالرحمن: وأوزان الخليل حسب النطق وليست أوزاناً صرفية، وإذن فلا داعي لفرار الشيخ جلال من علم الخليل بالنغم إلى علمه بالصرف، وإذن فلا داعي لفرار الشيخ جلال بالنغم إلى علمه بالصرف الذي أحتمل أن يكون الأساس في علمه بأوزان الشعر.
بل العلمان معا تضَافرا وتظاهرا، فمن النغم عرف الوزن، ومن الصرف أخذ صيغة الوزن.
والمهم معرفة اللحن لصياغ في قالب يناسبه سواء كان هذا القالب مثل فعولن التي يستعملها الصرفي، أو مثل: هايدا، أو نعم لا مما لا يستعمله أهل الصرف.
وفي خلال كلام الشيخ جلال تكلم عن قصائد مختلة الوزن في الجاهلية فقال :"وجد في الشعر الجاهلي ما هو مختل مضطرب المقاييس كالذي وقع لعدي بن زيد والأسود بن يعفر والمرقش الأكبر وأمية بن أبي الصلت وعلقمة بن عبدة وغيرهم.
أما عبيد بن الأبرص فإن قصيدته البائية ظلت سيئة الصيت حتى يوم الناس هذا، وقد قال فيها السكاكي في مفتاح العلوم ما نصه: وهذه عندي من عجائب الدنيا في اختلافها في الوزن، والأولى أن تلحق بالخطب كما هو رأي كثير من الفضلاء.
وجاء في كتاب البناء الفني للقصيدة العربية ص357 من طبعة دتار الطباعة المحمدية بالقاهرة: وقد كان الخليل يرى المحدثين من حوله يجددون في أوزان الشعر وموسيقيته، ويرى أختلاط الألسنة وفساد الأذواق وضعف الموهبة مما نشأ منه عدم التمييز بين صحيح الشعر وما هو مكسور منه، فوضع هذه القواعد لتعين دراسة أحكامها على التمييز بين ما يصح من الشعر وما لا يصح منه"(60).
قال أبو عبدالرخمن: إذن المروي من الشعر الجاهلي (ما كان منه سليم الوزن أو مختله) هو المادة المستقرأة التي استنبط منها الخليل موازينه.
فكيف يؤحذ الوزن من شعر مختل وشعر مستقيم دون مقياس يبين المختل الذي لا يتحقق منه وزن منظم، وبين المستقيم الذي يؤحذ منه وزن منظم؟.
إذن لابد من مقياس، وذلك المقياس هو اللحن.
قال أبو عبدالرحمن: وكل مكابرة للبدهيات توقع في محال أو مكابرة، وهذا ما نتج للشيخ جلال عندما فر عن المقياس الصحيح الذي هو الغناء .. قال:"بعض العروضيين زعم أن العرب كانت تعرف نغم الأبحر في الجاهلية من طريق القياس على البيت يكرر فينظم على مثاله، أو أنهم كانوا يكررون كلمات تؤلف وزناً ما فينظمون عليه.. فإنا نستبعد أن يكون ذلك من دأب شعراء العرب، ولكن قد يقع مثله من صغار الشعراء ومبتدئيهم في النظم إبان نشأتهم الشعرية الأولى، وذاك في فترة ما بعد العهد الجاهلي حتماً، وإن ذلك لطريقة شاقة لا سهولة فيها، لأن الناظم وفقها مضطر أن يتقيد بتفاعيل على ذات هيئتها في البيت المتابع، وليس هذا هو الشعر" (61).
قال أبو عبدالرحمن: لقد عكس القضية فجعل عمل كبار الشعراء (وهو الغناء) طريقة الصغار، وجعل محاكاة أوزان الشعر التي عرفت بالغناء أولاً طريقة كبار الشعراء مع أنها فرع عمل الكبار، لأن الكبار أوجدوا الوزن بالغناء، ثم حاكى الصغار الوزن الذي ولده الكبار، وذلك حينما انفصل الوزن الشعري عن الوزن اللحني.
وقال الشيخ جلال أيضاً :"وكان العروض بتقاسيمه وتفاصيل أجزائه وقواعده ودوائره فناً جديد الطروق على الناس، فإن العرب وإن كانت قد عرفت الشعر فإنها لم تكن قد عرفت العروض، وإنما كانت تنظم الشعر على السليقة وتتعلمه بالتسامح، ولم يكن شعراؤها يعرفون من مصطلحات الشعر سوى بعض الألقاب الشعرية اليسيرة كالرجز والقصيد والرمل والهزج، كما أنهم كانوا يلتزمون بنظام القوافي إلى حد ما، ولعدم وجود عروض مرسوم آنذاك ظهر في الشعر الجاهلي ما هو غريب ومؤاخذ عليه، على ما أسلفنا الإشارة إليه" (62).
قال أبو عبدالرحمن: عاد الشيخ جلال من حيث لا يشعر إلى جعل الغناء أساساً.
ولو لم يكن إلا دلالة الشعر العامي الراهن بين الأميين على أن اللحن يسبق الوزن لكفتْ دلالةً حسية لا تزال معاينة.
وقال الدكتور محمد توفيق أبو علي يذكر إحدى الثغرات في عروض الخليل:"هذه الثغرة تتجلى في النظرة الشكلية إلى نغم الحرف العربي.
فالخليل ومن تبعه فيما بعد تكلموا عن التفعيلة بشكل مطلق، وعلى المتحرك والساكن دون الانتباه إلى نوعية كل ساكن ومتحرك.
وقد شذ عن هذا التعميم الدكتور مندور في كتابه الميزان الجديد، وذلك إبان نقده لعمل الخليل من حيث عدم تطرقة لكتابة الحركات التي يسميها الدكتور مندور بالحروف الصائتة القصيرة ، لكنه للأسف لم يكمل الشوط الذي بدأه لأنه محكوم بالنظرة السلفية للتفعيلة (63).
ونعود للكلام على الثغرة العروضية وبشكل مبسط لنقول: لم يحقق العروضيون جميعاً لعبة التوازن الإيقاعية العروضية.. أي أنهم زرعوا شرخاً كبيراً بين الواقع الإيقاعي والافتراض العروضي.
ولتوضيح هذا الأمر نبدأ بالخليل الذي أعطى معادلاً عروضياً (/) للحركة و(5) للسكون، ومن هنا تبدأ المغالطة الكبرى، فنحن حينما نقول (با) و (بأ) نلاحظ أن المدلول الصوتي للمقطع (با) لا يساوي المدلول الصوتي عينه للمقطع (بأ) مع أن كلا من المقطعين يُرمز إليهما عروضياً ب (/5) وقس على ذلك في الأمثلة: بي- به- بؤ- بو- بر- شش.. إلخ.
مما لاشك فيه سنلاحظ أن كلاً من هذه المقاطع يمتاز بمدلول صوتي يختلف عن سواه من مدلولات المقاطع الأخرى مع أن المعادلة العروضية تبقى واحدة لدى جميع هذه المقاطع.
هذا من جهة.. ومن جهة أخرى فإن الكتابة العروضية لا تميز الحركات بعضها عن بعض، فالنغم الحاصل من الكسرة لا يعقل أن يكون هو نفسه الحاصل من الضمة أو الفتحة، بل لابد من أن تكون هناك فروقات صغيرة فيما بين هذه الأنغام.
بعد هذا العرض السريع نستطيع القول: إنه ليس كل سبب خفيف (متحرك وساكن) يساوي إيقاعياً السبب الخفيف الآخر، وبالتالي ليس كل تفعيلة تساوي إيقاعياً السبب الخفيف الآخر، وبالتالي ليس كل تفعيلة تساوي إيقاعياً شبيهتها في الأسم.. أي ليس بالضرورة أن يكون كل فاعلاتن مساوية لفاعلاتن الأخرى، وقس ذلك على كل التفاعيل، ونصل في نهاية المطاف إلى أنه ليس هناك من شيء قائم بالفعل اسمه تفعيلة بشكل مطلق" (64).
قال أبو عبدالرحمن: المتحرك والساكن الذي لا يفرق بين قم وقر له غرض وليس عبثاً، والغرض منه تحديد وزن يقبل عدداً من الألحان .
وأما التفريق بين الحركة القصيرة والطويلة فقد يكون الغرض منه التمييز بين لحن ولحن، أو بين نغمة خلال اللحن ونغمة.
وهذا عمل الملحن يبحث عن شعر موزوناً عروضياً أولاً، ثم يغير بمقتضى الطلب اللحني.
وبإيجاز أقول: لابد للقصيدة من وزن لا يفرق فيه بين منصوب ومضموم، ولا بين حركة قصيرة أو طويلة.. وأي لحن يحقق هذا الوزن ولا يفرق هذا التفريق فهو وزن نظمي، فإذا أريد لحن يفرق ذلك التفريق فلابد من خصوص وزن.
قال أبو عبدالرحمن: وها هنا ثغرة أخرى في عروض الخليل ذكرها الدكتور محمد توفيق أبو علي بقوله :"فإن الخليل بن أحمد رغم عبقريته الفذة قد ساوى بين كل الحروف في معادلتها العروضية مع أن فقهاء اللغة القدامى- وهو أولهم- قسموا الحروف بحسب مخارج أصواتها للدلالة على الفرق في الشحنة الصوتية بين حرف وآخر.. مع ما يترتب على ذلك من فرق في الشحنة الوجدانية المعنوية.
وسأحاول أن أبسط الأمر بطريقة أخرى: إن الأرقام هي في الحقيقة تجريد للواقع، فالرقم (×) مثلاً رقم يندرج تحت لوائه كل زوج متجانس، ولا يعقل أن أقول (2=2)، وأوضح في الخانة الأولى تفاحتين، وفي الخانة الثانية وردتين مع أن العدد (2) هو نفسه.
وهكذا نرى أن الساكن والمتحرك هما في الحقيقة تجريد رياضي لواقع الحروف.
وربما أن الحروف تختلف فيما بينها نغماً وإيقاعاً وشحنة صوتية فمن الخطأ الكبير أن أساوي بينها على المذهب الخليلي.
وهذه المساواة الشكلية تقودنا إلى مراجعة حساباتنا.. البعض منا يحس لدى قراءته بعض الأبيات الشعرية أن هناك تفاوتاً في الإيقاع بين بيت وآخر مع وجود مناخ إيقاعي عام يجمع فيما بين أبيات القصيدة الواحدة.
ويتراءى لي أن أبيات قصيدة ما (تندرج تحت مظلة بحر خليليٍّ ما) تشبه تلاميذ صف معين، فالجميع يندرجون تحت مظلة هذا الصف، لكن هل الجميع متساوون كلياً في القدرات والمهارات؟.
من هنا أرى أن تقسيم الخليل العروضي ليس دقيقاً بما فيه الكفاية، ومن هنا يحُق لنا أن نسأل أنفسنا: ما دام البحر هو نفسه البحر لماذا نشعر أحياناً أن بعض الأبيات ترفل بحلة موسيقية رائعة والأخرى من الوزن الخليلي نفسه لا تنعم بالدهشة الإيقاعية ذاتها؟.
لماذا نشعر أحياناً أن بعض الأبيات متناسقة ظاهرياً غير أن موسيقيتها الداخلية متخلخلة، وكأن روح الحروف لا تناسب أجسادنا؟.
وفي المقابل هناك سؤال يطرح نفسه، وهو: بعد هذه الملاحظات: كيف لبعض المدربين عروضياً أن يعرفوا أوزان الأبيات وبواسطة الآذان؟.
الجواب: كما أن المدرس المدرب تربوياً يستطيع تقسيم الطلاب بعد إجراء الاتبار لهم، فيقول هذا من الصف (أ) وذلك من الصف (ج) .. وهكذا دواليك: كذلك مثله المدرب عروضياً في تعامله مع أبيات الشعر وبحوره.. ناهيك عن عاملي البعد البصري والحسابي في التصور العروضي.
وأعني بالبعد البصري أن المدرب عروضياً يتخيل أنه أمام شاشة كتب عليها بيت الشعر مع حركاته وسواكنه.
وأما عن البعد الحسابي فمن المفيد أن نذكر أن المدرب عروضياً قد يسمع بعض الأصوات التي لها دلالة عامة واحدة مع فروق إيقاعية فيحسبها بالنسبة نفسها: مثال ذلك:
بم بم تك لها المعادل العروضي نفسه عند المستمع إليها مع العلم بأن (بم) الأولى قد تكون أسرع من (بم) الثانية أو أبطاً، وقس ذلك على (تك) (تك)، وسواهما من الأصوات.
بعد هذا كله وخارج اللعبة العروضية هناك سؤال يُطرح: ما وظيفة الشعر؟.
أليس التعبير عن الأحاسيس؟.
فهب أن المرء يحس بانكسار داخلي، فكيف يعبر عن هذا الانكسار عبر استقامة الأوزان؟.
أليس من المفروض أن يكون الإيقاع الشعري تعبيراً عن الإيقاع النفسي؟.
من هنا يجب ارتسام انكسار الإيقاع النفسي في مرآة الشعر، ولا يصح هذا الأمر في الإيقاع العروضي لأننا ملزمون بترويض التجربة النفسية حتى تصبح ملائمة لقياس الشكل العروضي، والإبداع هنا يكون بمدى ترويض أحاسيس الشاعر عبر حقل الأنغام العروضية" (65).
قال أبو عبدالرحمن: هذه الملاحظات الدقيقة تؤكد ما قلته من أن الغناء هو المقياس ثم يولد منه الوزن، واللحن الغنائي منه ماله صفة الثبات كحركة طويلة خلال تفعيلة لابد أن تتكرر إذا جاء موضعها من التفعيلة، وفي هذه الحالة قد يمد الحرف غير الممدود لأجل اللحن.
ومن اللحن ما هو حلى نغمية يتميز بها كلمة من البيت دون بقية القصيدة مثل هذا البيت لأحمد شوقي من مقام راست:
تسرَّب في الدموع فقلت ولي * * * وصفق في الضلوع فقلت ثابا
من أصغى إلى اللحن وجد كلمة الدموع كُسيت حلة نغمية تصويرية تصف تدفق الدموع، وهي حلية لا تتكرر في القصيدة .. إذن أوزان الخليل تحقق القالب اللحن، ثم لابد من خصوص وزن لخصوص لحن.
وملاظات الدكتور أبو علي تميز بين وزن النظم ووزن الشعر، ووزن الشعر أخص.. وما تميز البحتري ومهيار والمهندس بموسيقى الشعر عبثاً.





السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
ما سبق اخوتى الكرام هو جزء بسيط من الدراسة
******* والأن أهدى لكم أخوتى الكرام الدراسة الماتعة .... وهى معدة كنسخة لبرنامج المكتبة الشاملة لأول مرة بالشبكة وملف وورد ******
حمل من الرابط التالى ....
http://www.9q9q.net/up3/index.php?f=gJfWtSHLh


الساعة الآن 02:35 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
جميع حقوق النشر لشعارنا و كتابنا ومسميات الموقع خاصة و محفوظة لدى منتديات قصايد ليل الأدبية