عازفة القيثار
04-23-2016, 11:50 PM
وخطوت اول خطوه لي خارج السجن..
خطوةتمنيتها منذ زمن طويل..مشيت بضع خطوات ووقفت استجمع شتات نفسي.. ونظرت خلفي..وتأملتالسجن باسواره العاليه واسلاكه الشائكه ...وحراسته المشدده..
تنهدت بقوه...حسبتمعها ان قلبي سيقفز خارج صدري..
خلف تلك الاسوار قضيت اتعس سنوات عمري..اتجرعالمراره والقهر..تتقاذفني امواج الالم والعذاب..اعيش حياة كئيبه بلا لون ولاطعم...واحساسي بالعجز يقتلني..
عشر سنوات ولا بصيص نور يبددعتمتها..
وتراقصت صور بلا ملامح..لوجوه اعرفها..وتذكرت ذلك اليومالتعيس..الذي قتلت فيه العداله..وانتحرت الحقيقه على ايد الغدروالخيانه..
هاجتني الذكريات الاليمه بشراسه..ذكرياتي انا ماهي الا مأساة كتبتاسطرها بيد الغدر لتخط بحبر اسود فصول من العذاب والالم... كان حبرها سنين عمريوحريتي واحلامي..
- محمد....
انتشلني ذلك الصوت من احزاني....واعادني منتأملاتي...
ونظرت لصاحب الصوت وهو مقبلا علي....وابتسمت رغم عني ...وانا اتأملهبموده..
ارتمى في حظني...ودفن راسه في صدري ...وبصوت متقطع..
- اخيرا...طلعت!!
ابتسمت بسخريه..
- الحمد لله ربك سهل وطلعنا....
ربت علىكتفي بود...
- الحمد لله على سلامتك...
- الله يسلمك...اشلونك؟؟ وكيف ابوي؟؟ووقاطعني وهو يمسك بيدي...
-كلنا بخير...عمي وسلمى واريج...كلهم مشتاقينلك..
امسكت بيده واوقفته بعنف...
- قلت لهم عن موعد طلعتي؟
-لا تطمن مااحد يدري..لكن اتصل قبل ما تروح..اخاف احد يجيه سكته قلبيه..وينقلب الفرححزن..
عندما وصلنا لسياره فتح لي باب السائق...
- تفضل طالعمرك...
تجاوزته متجها لمقعد المجاور للسائق..
-سق انت..
- اوكيه.... دعالقياده لنا وتمتع بالراحه..
بعد ما ركبت رحت اتأمل يوسف ابن عمي واخوزوجتي..يصغرني بعامين..هو الوحيد الذي لم يتخلى عني وقت محنتي..رغم انه كاد ان يفقدعمله بسببي..
- نور الرياض والله..
جأني صوته..
رددت عليه بصوتساخر
-للي يسمعك يقول مسافر..ترى حتى انا كنت في الرياض..اتنفس هواها..وامشى علىارضها...تصدق..ما ادري ليش توقعت اول ما اطلع من السجن ارفع يدي اغطي عيني من نورالشمس كأني كنت مسجون تحت الارض..الظاهر متأثر بافلام ابيض واسود..
قاطعني يوسفبصوت مازح
- بخصوص يدك اللي بتحطها على عيونك...عاد انا توقعت تحطها على راسك منالمطر.
رفع بصره الى السماء وهو يتأمل السماء الملبده بالغيوم..
- لكن الظاهرالنشره الجويه ما عندهم سالفه....ما علينا...الله يا محمد لو تشوف اريج..
قاطعتهبلهفه لم احاول ان اخفيها
- كبرت؟رد ممازحا
- العرسان طوابير ...وانتتقول كبرت...وام اريج ما ودك تسأل عنها؟!!!
-اشلونها سلمى؟؟
-بخير...كانتدايم تتمنى تزورك لكن انت الله يهديك ترفض..
-كنت اكلمها تلفون...وصدقني ما كنتاحب اتعبها..
واشحت بناظري الي الجهة الاخرى..وتذكرت مكالماتي المتقطعهلها..والتي ما تخلو من طلبها الدائم رؤيتي..وهو ما كنت ارفض رفضا قاطعا..لا اعلمربما هو كبريائي الذي كان يجبرني على رفض زيارتها رغم شوقي حتى لا تراني في لحظاتضعفي وهواني...وقمة انكساري..او كنت احاول ان اجنبها المضايقات التي كانت ستواجهعند زيارتي....واللحظات الصعبه التي ستقضيها بعد انتهـاء الزياره..
- محمد...اكلمك...
انتبهت على صوت يوسف...
- كنت سرحان شوي...
- قلشويات....المهم...عندي دوام اللحين...اوصلكقاطعته
-لاء...رح للمطار...واناادل البيت..
-معقوله...ترى مر عشر سنين..
- انت رح المطار وماعليك...
اطاعني واتجه للمطار..
المطار!!!!
كلمة اثارت شجوني....اللتفتاليه وبنظرات كلها اسف..
- يوسف ....
قاطعني كعادته كلما ذكرتهبالماضي..
- ياربي بتبدى الموال....تكفى خلني ادوام وانا رايق...محمد انسى ياخويوابدا صفحه جديده..
زفرت بألم..
انسى...وكيف انسى؟!!
النسيان نعمهيبدواني حرمت منها....
كيف انسى!!
هل انسى امي اللي ماتت كمدا وحزنا علي وانافي السجن؟!!
انسى زهرة شبابي التي ذبلت!!
انسى احلامي اللياغتيلت!!
وامنياتي التي سحقت !!
والعار اللي الحق بي وبكل فرد فيعايلتي!!
صعب انسى ...
وان نسيت فسأجد من يذكرني!!!
- الظاهر ما انتمعي...
اعادني صوت يوسف للواقع..
كنا وصلنا للمطار..نزلت من السياره لاودعه.. وبعد ما اختفى عن نظري ودخل المطار ركبت السياره..كنت غير مستعد نفسيا للعودهللبيت..واتجهت لحينا القديم.. رغم التغير والتقدم الهائل الا انني لم اجد صعوبه فيالوصول للحي القديم..
جبت انحاء الحي...وانا اجتر الذكريات..
كنت مثل أيمسافر عاد لوطنه...لكن سفري كان قسري..
السفر!!!!
كانت بداية مأساتيالسفر....كنت سعيدا وانا اوضب حقيبة السفر...بعد امتناع سلمى عن مساعدتي..لازلتاتذكر ذلك اليوم السعيد ...كانت جالسه على طرف السرير عابسة الوجه تعض على شفتيهابغيض..
- مصمم على السفر...
ابتسمت عندما شعرت انها تحاول تكتم غضبها...وتضبطاعصابها...
- كلها عشره ايام وراجع...ليش هالزعل كله !!...وقاطعتنيبعنف...
- اصلا انت اناني...
وبرود قاتل رددت عليها
- انا !! حرام ليشتظلميني..
شدت نفسا عميقا...
- ما فكرت فيني...حامل .... ...وامك وابوك بعدمحتاجينك..كلنا محتاجينك يامحمد...
- حتى انا والله مااستغني عن وجودكم وغيابيمارح يطول..
لم اكمل عندما سمعت ارتطام الباب معلنا خروجها غاضبه منالحجره..
- لو سمحت...
اعادني ذلك الصوت الطفولي للواقع..كنت اقف عندالاشاره..وولد في العاشره من عمره...يمد يده باستجداء...منظره اثار استغرابي لانيرأيت طفل آخر خلف سيارتي يكلم سائق اخر..
منظر لم اتعوده قبل دخوليالسجن....مددت له يدي بورقه نقديه فئة عشرة ريالات..
وبسبب نظراته المستخفه سحبتالعشره من يده التي لازلت ممدوه ...
لا يستحقها بالتأكيد..
فتح الضوءالاخضر...ومشيت...لكن لم انسى نظرات الطفل المستخفه..
نظرات!!!!
اجلتذكرت نظرات ياسر الستخفه..ومحاولاته التقليل من كل من هو اقل منه..وهو مالم اقبلهعلى نفسي فكنت انا وهو في صدام دائم..
كان وقح مغرور...مستهتر بالاخرين..كلمااكره من صفات تجسدت في شخصه..
صدمت عندما علمت باامر سفره معنا...ولوعلمتمسبقا لما سافرت...
ولولا اصرار بدر ونواف لما سافرت...
قضيت ليال طويله واناماانفك افكر..فيمن كان خلف تلك التهمه التي الصقت بي...وبعد تفكير عميق وطويل لماجد غير ياسر...
اجل هو بالتأكيد خلف التهمه التي الصقت بي..
على صوتانحراف السياره التي امامي تنبهت..عندما سمعت شتائم السائق في تلك السياره علمت انيبسبب سرحاني وشرودي كدت اتسبب بحادث اليم ..
اوقفت السياره على جانب الطريق... ...الشمس انحرفت للمغيب..
واخذ المطر يتساقط..اخذت نفسا عميق...كم احب رائحةالمطر...دائما تذكرني رائحته بقريتنا الصغيره مرتع الصبا والطفوله.......
اخترتان اقف تحت المطر لاثبت لنفسي اني حر...ولي حق الاختيار...
مضى الوقتسريعا...وانا بين حنين للماضي..وخوف من المستقبل...ومشاعر شتىتجتاحني...غضبا...وحقد ...وخوف ...
وفي منتصف الليل وصلت لمنزلي ... ولماتصل كما وعدت يوسفلاخبرهم بموعد خروجي.. تأخرت عن قصد لعلم ان والدي يناممبكرا..وكنت اؤجل رؤيته..فتحت الباب بمفتاح اعطاني اياه يوسف...وتسللت لداخل المنزل ..
كنت اعلم ان دخولي في منتصف الليل لبيتي غير مأمون النتائج لكن لم اقاومالرغبه التي تلح في داخلي... في منتصف الصاله كنت اتلمس الحائط بحثا عن زرالكهرباء.. وفوجئت بنور يملأ الصاله..وسمعت صوت بكاء خافت..التفت للخلف ..لأراها..
كانت واقفه ..بوجه غطته الدموع...عندما رأيتها على تلك الحاله علمتان يوسف اخبرها بخروجي..
نظرت اليها بحب..عشر سنوات مرت...حرمت رؤيتها...في اقلمن ثوان تفحصتها وانا لم ازل واقفا في مكاني...جعلتها السنوات اكثر انوثةوجمالا...كما هي دائما رأيتها هالة من نور تسطع في ظلمة حياتي..
جاءت الي...ورمتنفسها على صدري وغرقت في بحر من الدموع..
-2-
كان الدقائق تمر عليبطيئه وانا في انتظاره....من بعد اتصال يوسف ...وانا اقوم بواجباتي اليوميهبعجل...وجلست على الكنبه اخيرا بعد ما خلدت اريج للنوم...ودخل عميغرفته....
اطفأت التلفزيون وانوار الصاله....كنت انتظر زائـــر عزيز علىقلبي...في مثل هذا الوقت من كل يوم ...كنت اقضيه في ملل وارق...واحيانا خوف من أيصوت اسمعه من خارج المنزل....
وهاانا انظر اليه واتأمل ملامح وجهه وهونائم...واخير خرج زوجي من السجن...مااصعبها من كلمه....
السجن !!!
كان هو مسجون خلف القضبان ...وانا مسجونه بلا قضبان...مااصعبها حياةالتي عشتها بعيدة عنه...تحملت مسؤلية البيت من بعده...وتهت في غيابه في دوامة منالاحزان والالام...قبل دخوله لسجن كنت اتباهى بان كل قصص الحب غير كامله الاقصة حبيانا....
قصة حب تقليديه لابن عمي....كتمت حبه داخل صدري....وما بحت لاحدبسري...
تفتح قلبي الصغير على حبه...وما ان اسمع صوته او يذكرون اسمه...الاواسمع دقات قلبي تدق كطبول...حتى يخيل الي ان كل من في البيت يسمعدقاته...
قاسيا هو الحب من طرف واحد....و لم اعلم انه لم يكن حب من طرفواحد.....
فمحمد يبادلني حبي الصامت كما علمت منه فيما بعد....
كنت زوجهلمحمد وانا لم اكمل الثامنه عشر من عمري...وهو يدرس في سنته الجامعيه الاخيره...تلكالسنه كانت الاجمل والاحلى ...
كنا صغار...وزواجنا بين مد وجزر...
حتىخلافاتنا الصغيره كانت تافهه...انا بعنادي وهو بتعنته واستفزازه الدائم لي ... لكنمااعذب تصالحنا بعد حروبنا الطفوليه.......
وبعد ثلاث سنوات كانت الفاجعه بدخولهالسجن.....
عدت للواقع عندما سمعت صرير الباب....
اطلت اريج بوجههاونظراتها منصبه على النائم في السرير...مشيت بخفه وامسكت بيدها وخرجت واغلقت الباببهدوء.....
رفعت اريج وجهها بنظرات كلها تساؤل وحيره....
تنهدت بعمق....الآنبدأت مهمتي في اخبارها واخبار عمي بوصول الحبيبالغائب...
-
احسست باانفاس حاره على وجهي....وفتحت عيني ببطئ...انتفضت بحركه لااراديه وفي نفس الوقت رأيتها تلوذ بالفرار.....تظاهرت بالنوم عندما رأيتها تطل مره اخرى...وبعينين شبه مغمضتين رأيتها تعود مرة اخرى كانت تمشى بخفه...والابتسامه تعلو وجهها البريء ....
واقتربت من السرير من جديد...وقربت وجهها من وجهي ...وهي تتأمل شئ ما في رأسي بتركيز اثار استغرابي....ماهو الشئ الغريب الذي يجعها تتفحصني بهذه الطريقه المريبه !!!
سحبت يدي من تحت الغطاء ووامسكت يدها بأحكام....وحملتها بخفه ووضعتها في حظني بعد ما عدلت جلستي....
كانت مستسلمه لي وابتسامه خجلى تعلو محياها......
أي مشاعر غريبه اجتاحت كل خلية في جسمي...
قبلتها ...قبله حملتها شوق وحنين سنين الحرمان التي مضت....
سألتها:
- عرفتي من انا؟؟
بصوت عذب ردت:
- انت بابا....
مااعذبها من كلمه.....
بابا...
كلمة تغلغلت الى اعماق روحي وحنايا وجداني....
وبصوت طفولي...
-انا اريج عرفتني...
- اكيد عرفتك...
وقفت ورجعت تتأملني ...وهذه المره كانت تتأمل شعري بنظرات متفحصه...
ابتسمت بخجل عندما رأت نظراتي المتسائله...وبكل براءه :
- انت عندك شعر ابيض...
اثار سؤالها استغرابي اكثر من نظراتها الغريبه...
-شعر ابيض!!!
-ايه شعر ابيض....
-ماادري انتي شوفي....
اقتربت اكثر... تجرأت وتفحصت شعري بااصابعهاالصغيره...وانا احاول ان اكتم ضحكتي....
- الحمد لله مافيه ابيض.....
ابتسمت بسخريه...اي شعر ابيض تبحثين عنه يااريج...والسواد الذي غطى حياتي منع أي بياض ان يتخلله حتى لو كان بياض الشيب....فعالمي حالك السواد ...يلفه اليأس من كل اتجاه....
تنهدت بارتياح...
-علشان تنقهر افراح...
- من افراح ؟؟
- بنت جيرانا...دايم تقول ابوك شعره ابيض...اللحين بقولها الحمد لله اني عندي ابو اثنين واحد شعره ابيض وواحد شعره اسود....
ضحكت على براءتها ضحكه لم اضحكها منذ زمن بعيد...وزاد حقدي على من حرمت بسببه هذه السعاده.....
جلست امامي....
- قريت رسايلي اللي ارسلتها...
اجبتها بحيره...
-رسايلك!!
- اكيد قراها....
جاني صوت سلمى المنقذ...
- اريج ابوي زعلان منك...ويسأل وينك؟؟
قفزت من فوق السرير بخفه....وشعرها يتطاير من وراها....
سألت سلمى بعد خروجها...
- وشي هالرسايل اللي تسأل عنها؟؟؟
- انا قايله لها انك مسافر....وكانت تكتب رسايل ورسومات وتطلب اوصلها لك...وكنت اوهمها انه وصلت لك....واحيانا اكتب لها رسايل
بااسمك لها...
-تصدقين توقعت ما تتقبل وجودي بهالسهوله...
ضحكت ...
-طول فترة غيابك...واريج ما تنام الا بعد مااحكي لها عن بابا...
وقصص بابا البطوليه...
بصوت ساخر...
- أي قصص بطوليه ياسلمى تحكينها لاريج...
وسمعت صوت اريج تنادي امها......
- فيه قصص كثيره...بعدين احكيها لك ان شاء الله لكن اللحين اريج تنادي... اكيد عمي طلب منها تناديك...
خرجت خلفها بتردد...وانا اقدم رجل وااخر الاخرى....
ورأيته واقف ينظر الي...خنقتني العبره عندما رأيته وقد امتلاءت عيناه بالدموع...هالني مظهره وقد انحنى ظهره...ورسمت المأساه خطوطها في وجهه على شكل تجاعيد عميقه...
.
.
.
.
كنت احتسي الشاي الساخن بشفتين فاترتين تجمد الاحساس فيهما...وعيناي مثبتتان على الدخان المتصاعد من كوب والدي ...حتى اتحاشى النظر الى عينيه...وانا استمع اليه وهو يحكي لي كل التطورات التي حدثت في حياته بعد دخولي السجن...وعن انتقاله بعد المضايقات التي كان يواجهه ...وعن متجره الصغير الذي استطاع من خلاله ان يكفل حياه مستوره لزوجتي وابنتي...
وبعد لحظات صمت سئلته سؤالي اليتيم الذي كان يدور في رأسي....
- ماتت وانا ماطلبت منها تسامحني...تتوقع سامحتني؟؟
واطلق زفرة حرى....
- الله يرحمها... عمرها ما شالت في قلبها عليك....
- اللي ذابحني يابوي انها ماتت وانا بعيد عنها...نهايتها كلها تعاسه وحزن ...وانا السبب...
- محمد ياولدي ...امك ماتت الله يرحمها وهي تدعي لك في كل ساعه.....وكانت تتمنى تشوفك وانت بين زوجتك وبنتك......لكن الحمد لله على كل حال...انسى الماضي ...وفكر في المستقبل وفكر في اهلك ومستقبلهم..........
أي مستقبل لانسان مثلي ...كلمات رددتها في سري بسخريه....
ربت بيده على كتفي بحنان...
- لا انا ولا امك قدرنا نشيل في قلوبنا عليك...انت والدنا الوحيد واملنا في هالحياه...احنا زعلانا على حالك....لكن الحمد لله على كل حال...
خطوةتمنيتها منذ زمن طويل..مشيت بضع خطوات ووقفت استجمع شتات نفسي.. ونظرت خلفي..وتأملتالسجن باسواره العاليه واسلاكه الشائكه ...وحراسته المشدده..
تنهدت بقوه...حسبتمعها ان قلبي سيقفز خارج صدري..
خلف تلك الاسوار قضيت اتعس سنوات عمري..اتجرعالمراره والقهر..تتقاذفني امواج الالم والعذاب..اعيش حياة كئيبه بلا لون ولاطعم...واحساسي بالعجز يقتلني..
عشر سنوات ولا بصيص نور يبددعتمتها..
وتراقصت صور بلا ملامح..لوجوه اعرفها..وتذكرت ذلك اليومالتعيس..الذي قتلت فيه العداله..وانتحرت الحقيقه على ايد الغدروالخيانه..
هاجتني الذكريات الاليمه بشراسه..ذكرياتي انا ماهي الا مأساة كتبتاسطرها بيد الغدر لتخط بحبر اسود فصول من العذاب والالم... كان حبرها سنين عمريوحريتي واحلامي..
- محمد....
انتشلني ذلك الصوت من احزاني....واعادني منتأملاتي...
ونظرت لصاحب الصوت وهو مقبلا علي....وابتسمت رغم عني ...وانا اتأملهبموده..
ارتمى في حظني...ودفن راسه في صدري ...وبصوت متقطع..
- اخيرا...طلعت!!
ابتسمت بسخريه..
- الحمد لله ربك سهل وطلعنا....
ربت علىكتفي بود...
- الحمد لله على سلامتك...
- الله يسلمك...اشلونك؟؟ وكيف ابوي؟؟ووقاطعني وهو يمسك بيدي...
-كلنا بخير...عمي وسلمى واريج...كلهم مشتاقينلك..
امسكت بيده واوقفته بعنف...
- قلت لهم عن موعد طلعتي؟
-لا تطمن مااحد يدري..لكن اتصل قبل ما تروح..اخاف احد يجيه سكته قلبيه..وينقلب الفرححزن..
عندما وصلنا لسياره فتح لي باب السائق...
- تفضل طالعمرك...
تجاوزته متجها لمقعد المجاور للسائق..
-سق انت..
- اوكيه.... دعالقياده لنا وتمتع بالراحه..
بعد ما ركبت رحت اتأمل يوسف ابن عمي واخوزوجتي..يصغرني بعامين..هو الوحيد الذي لم يتخلى عني وقت محنتي..رغم انه كاد ان يفقدعمله بسببي..
- نور الرياض والله..
جأني صوته..
رددت عليه بصوتساخر
-للي يسمعك يقول مسافر..ترى حتى انا كنت في الرياض..اتنفس هواها..وامشى علىارضها...تصدق..ما ادري ليش توقعت اول ما اطلع من السجن ارفع يدي اغطي عيني من نورالشمس كأني كنت مسجون تحت الارض..الظاهر متأثر بافلام ابيض واسود..
قاطعني يوسفبصوت مازح
- بخصوص يدك اللي بتحطها على عيونك...عاد انا توقعت تحطها على راسك منالمطر.
رفع بصره الى السماء وهو يتأمل السماء الملبده بالغيوم..
- لكن الظاهرالنشره الجويه ما عندهم سالفه....ما علينا...الله يا محمد لو تشوف اريج..
قاطعتهبلهفه لم احاول ان اخفيها
- كبرت؟رد ممازحا
- العرسان طوابير ...وانتتقول كبرت...وام اريج ما ودك تسأل عنها؟!!!
-اشلونها سلمى؟؟
-بخير...كانتدايم تتمنى تزورك لكن انت الله يهديك ترفض..
-كنت اكلمها تلفون...وصدقني ما كنتاحب اتعبها..
واشحت بناظري الي الجهة الاخرى..وتذكرت مكالماتي المتقطعهلها..والتي ما تخلو من طلبها الدائم رؤيتي..وهو ما كنت ارفض رفضا قاطعا..لا اعلمربما هو كبريائي الذي كان يجبرني على رفض زيارتها رغم شوقي حتى لا تراني في لحظاتضعفي وهواني...وقمة انكساري..او كنت احاول ان اجنبها المضايقات التي كانت ستواجهعند زيارتي....واللحظات الصعبه التي ستقضيها بعد انتهـاء الزياره..
- محمد...اكلمك...
انتبهت على صوت يوسف...
- كنت سرحان شوي...
- قلشويات....المهم...عندي دوام اللحين...اوصلكقاطعته
-لاء...رح للمطار...واناادل البيت..
-معقوله...ترى مر عشر سنين..
- انت رح المطار وماعليك...
اطاعني واتجه للمطار..
المطار!!!!
كلمة اثارت شجوني....اللتفتاليه وبنظرات كلها اسف..
- يوسف ....
قاطعني كعادته كلما ذكرتهبالماضي..
- ياربي بتبدى الموال....تكفى خلني ادوام وانا رايق...محمد انسى ياخويوابدا صفحه جديده..
زفرت بألم..
انسى...وكيف انسى؟!!
النسيان نعمهيبدواني حرمت منها....
كيف انسى!!
هل انسى امي اللي ماتت كمدا وحزنا علي وانافي السجن؟!!
انسى زهرة شبابي التي ذبلت!!
انسى احلامي اللياغتيلت!!
وامنياتي التي سحقت !!
والعار اللي الحق بي وبكل فرد فيعايلتي!!
صعب انسى ...
وان نسيت فسأجد من يذكرني!!!
- الظاهر ما انتمعي...
اعادني صوت يوسف للواقع..
كنا وصلنا للمطار..نزلت من السياره لاودعه.. وبعد ما اختفى عن نظري ودخل المطار ركبت السياره..كنت غير مستعد نفسيا للعودهللبيت..واتجهت لحينا القديم.. رغم التغير والتقدم الهائل الا انني لم اجد صعوبه فيالوصول للحي القديم..
جبت انحاء الحي...وانا اجتر الذكريات..
كنت مثل أيمسافر عاد لوطنه...لكن سفري كان قسري..
السفر!!!!
كانت بداية مأساتيالسفر....كنت سعيدا وانا اوضب حقيبة السفر...بعد امتناع سلمى عن مساعدتي..لازلتاتذكر ذلك اليوم السعيد ...كانت جالسه على طرف السرير عابسة الوجه تعض على شفتيهابغيض..
- مصمم على السفر...
ابتسمت عندما شعرت انها تحاول تكتم غضبها...وتضبطاعصابها...
- كلها عشره ايام وراجع...ليش هالزعل كله !!...وقاطعتنيبعنف...
- اصلا انت اناني...
وبرود قاتل رددت عليها
- انا !! حرام ليشتظلميني..
شدت نفسا عميقا...
- ما فكرت فيني...حامل .... ...وامك وابوك بعدمحتاجينك..كلنا محتاجينك يامحمد...
- حتى انا والله مااستغني عن وجودكم وغيابيمارح يطول..
لم اكمل عندما سمعت ارتطام الباب معلنا خروجها غاضبه منالحجره..
- لو سمحت...
اعادني ذلك الصوت الطفولي للواقع..كنت اقف عندالاشاره..وولد في العاشره من عمره...يمد يده باستجداء...منظره اثار استغرابي لانيرأيت طفل آخر خلف سيارتي يكلم سائق اخر..
منظر لم اتعوده قبل دخوليالسجن....مددت له يدي بورقه نقديه فئة عشرة ريالات..
وبسبب نظراته المستخفه سحبتالعشره من يده التي لازلت ممدوه ...
لا يستحقها بالتأكيد..
فتح الضوءالاخضر...ومشيت...لكن لم انسى نظرات الطفل المستخفه..
نظرات!!!!
اجلتذكرت نظرات ياسر الستخفه..ومحاولاته التقليل من كل من هو اقل منه..وهو مالم اقبلهعلى نفسي فكنت انا وهو في صدام دائم..
كان وقح مغرور...مستهتر بالاخرين..كلمااكره من صفات تجسدت في شخصه..
صدمت عندما علمت باامر سفره معنا...ولوعلمتمسبقا لما سافرت...
ولولا اصرار بدر ونواف لما سافرت...
قضيت ليال طويله واناماانفك افكر..فيمن كان خلف تلك التهمه التي الصقت بي...وبعد تفكير عميق وطويل لماجد غير ياسر...
اجل هو بالتأكيد خلف التهمه التي الصقت بي..
على صوتانحراف السياره التي امامي تنبهت..عندما سمعت شتائم السائق في تلك السياره علمت انيبسبب سرحاني وشرودي كدت اتسبب بحادث اليم ..
اوقفت السياره على جانب الطريق... ...الشمس انحرفت للمغيب..
واخذ المطر يتساقط..اخذت نفسا عميق...كم احب رائحةالمطر...دائما تذكرني رائحته بقريتنا الصغيره مرتع الصبا والطفوله.......
اخترتان اقف تحت المطر لاثبت لنفسي اني حر...ولي حق الاختيار...
مضى الوقتسريعا...وانا بين حنين للماضي..وخوف من المستقبل...ومشاعر شتىتجتاحني...غضبا...وحقد ...وخوف ...
وفي منتصف الليل وصلت لمنزلي ... ولماتصل كما وعدت يوسفلاخبرهم بموعد خروجي.. تأخرت عن قصد لعلم ان والدي يناممبكرا..وكنت اؤجل رؤيته..فتحت الباب بمفتاح اعطاني اياه يوسف...وتسللت لداخل المنزل ..
كنت اعلم ان دخولي في منتصف الليل لبيتي غير مأمون النتائج لكن لم اقاومالرغبه التي تلح في داخلي... في منتصف الصاله كنت اتلمس الحائط بحثا عن زرالكهرباء.. وفوجئت بنور يملأ الصاله..وسمعت صوت بكاء خافت..التفت للخلف ..لأراها..
كانت واقفه ..بوجه غطته الدموع...عندما رأيتها على تلك الحاله علمتان يوسف اخبرها بخروجي..
نظرت اليها بحب..عشر سنوات مرت...حرمت رؤيتها...في اقلمن ثوان تفحصتها وانا لم ازل واقفا في مكاني...جعلتها السنوات اكثر انوثةوجمالا...كما هي دائما رأيتها هالة من نور تسطع في ظلمة حياتي..
جاءت الي...ورمتنفسها على صدري وغرقت في بحر من الدموع..
-2-
كان الدقائق تمر عليبطيئه وانا في انتظاره....من بعد اتصال يوسف ...وانا اقوم بواجباتي اليوميهبعجل...وجلست على الكنبه اخيرا بعد ما خلدت اريج للنوم...ودخل عميغرفته....
اطفأت التلفزيون وانوار الصاله....كنت انتظر زائـــر عزيز علىقلبي...في مثل هذا الوقت من كل يوم ...كنت اقضيه في ملل وارق...واحيانا خوف من أيصوت اسمعه من خارج المنزل....
وهاانا انظر اليه واتأمل ملامح وجهه وهونائم...واخير خرج زوجي من السجن...مااصعبها من كلمه....
السجن !!!
كان هو مسجون خلف القضبان ...وانا مسجونه بلا قضبان...مااصعبها حياةالتي عشتها بعيدة عنه...تحملت مسؤلية البيت من بعده...وتهت في غيابه في دوامة منالاحزان والالام...قبل دخوله لسجن كنت اتباهى بان كل قصص الحب غير كامله الاقصة حبيانا....
قصة حب تقليديه لابن عمي....كتمت حبه داخل صدري....وما بحت لاحدبسري...
تفتح قلبي الصغير على حبه...وما ان اسمع صوته او يذكرون اسمه...الاواسمع دقات قلبي تدق كطبول...حتى يخيل الي ان كل من في البيت يسمعدقاته...
قاسيا هو الحب من طرف واحد....و لم اعلم انه لم يكن حب من طرفواحد.....
فمحمد يبادلني حبي الصامت كما علمت منه فيما بعد....
كنت زوجهلمحمد وانا لم اكمل الثامنه عشر من عمري...وهو يدرس في سنته الجامعيه الاخيره...تلكالسنه كانت الاجمل والاحلى ...
كنا صغار...وزواجنا بين مد وجزر...
حتىخلافاتنا الصغيره كانت تافهه...انا بعنادي وهو بتعنته واستفزازه الدائم لي ... لكنمااعذب تصالحنا بعد حروبنا الطفوليه.......
وبعد ثلاث سنوات كانت الفاجعه بدخولهالسجن.....
عدت للواقع عندما سمعت صرير الباب....
اطلت اريج بوجههاونظراتها منصبه على النائم في السرير...مشيت بخفه وامسكت بيدها وخرجت واغلقت الباببهدوء.....
رفعت اريج وجهها بنظرات كلها تساؤل وحيره....
تنهدت بعمق....الآنبدأت مهمتي في اخبارها واخبار عمي بوصول الحبيبالغائب...
-
احسست باانفاس حاره على وجهي....وفتحت عيني ببطئ...انتفضت بحركه لااراديه وفي نفس الوقت رأيتها تلوذ بالفرار.....تظاهرت بالنوم عندما رأيتها تطل مره اخرى...وبعينين شبه مغمضتين رأيتها تعود مرة اخرى كانت تمشى بخفه...والابتسامه تعلو وجهها البريء ....
واقتربت من السرير من جديد...وقربت وجهها من وجهي ...وهي تتأمل شئ ما في رأسي بتركيز اثار استغرابي....ماهو الشئ الغريب الذي يجعها تتفحصني بهذه الطريقه المريبه !!!
سحبت يدي من تحت الغطاء ووامسكت يدها بأحكام....وحملتها بخفه ووضعتها في حظني بعد ما عدلت جلستي....
كانت مستسلمه لي وابتسامه خجلى تعلو محياها......
أي مشاعر غريبه اجتاحت كل خلية في جسمي...
قبلتها ...قبله حملتها شوق وحنين سنين الحرمان التي مضت....
سألتها:
- عرفتي من انا؟؟
بصوت عذب ردت:
- انت بابا....
مااعذبها من كلمه.....
بابا...
كلمة تغلغلت الى اعماق روحي وحنايا وجداني....
وبصوت طفولي...
-انا اريج عرفتني...
- اكيد عرفتك...
وقفت ورجعت تتأملني ...وهذه المره كانت تتأمل شعري بنظرات متفحصه...
ابتسمت بخجل عندما رأت نظراتي المتسائله...وبكل براءه :
- انت عندك شعر ابيض...
اثار سؤالها استغرابي اكثر من نظراتها الغريبه...
-شعر ابيض!!!
-ايه شعر ابيض....
-ماادري انتي شوفي....
اقتربت اكثر... تجرأت وتفحصت شعري بااصابعهاالصغيره...وانا احاول ان اكتم ضحكتي....
- الحمد لله مافيه ابيض.....
ابتسمت بسخريه...اي شعر ابيض تبحثين عنه يااريج...والسواد الذي غطى حياتي منع أي بياض ان يتخلله حتى لو كان بياض الشيب....فعالمي حالك السواد ...يلفه اليأس من كل اتجاه....
تنهدت بارتياح...
-علشان تنقهر افراح...
- من افراح ؟؟
- بنت جيرانا...دايم تقول ابوك شعره ابيض...اللحين بقولها الحمد لله اني عندي ابو اثنين واحد شعره ابيض وواحد شعره اسود....
ضحكت على براءتها ضحكه لم اضحكها منذ زمن بعيد...وزاد حقدي على من حرمت بسببه هذه السعاده.....
جلست امامي....
- قريت رسايلي اللي ارسلتها...
اجبتها بحيره...
-رسايلك!!
- اكيد قراها....
جاني صوت سلمى المنقذ...
- اريج ابوي زعلان منك...ويسأل وينك؟؟
قفزت من فوق السرير بخفه....وشعرها يتطاير من وراها....
سألت سلمى بعد خروجها...
- وشي هالرسايل اللي تسأل عنها؟؟؟
- انا قايله لها انك مسافر....وكانت تكتب رسايل ورسومات وتطلب اوصلها لك...وكنت اوهمها انه وصلت لك....واحيانا اكتب لها رسايل
بااسمك لها...
-تصدقين توقعت ما تتقبل وجودي بهالسهوله...
ضحكت ...
-طول فترة غيابك...واريج ما تنام الا بعد مااحكي لها عن بابا...
وقصص بابا البطوليه...
بصوت ساخر...
- أي قصص بطوليه ياسلمى تحكينها لاريج...
وسمعت صوت اريج تنادي امها......
- فيه قصص كثيره...بعدين احكيها لك ان شاء الله لكن اللحين اريج تنادي... اكيد عمي طلب منها تناديك...
خرجت خلفها بتردد...وانا اقدم رجل وااخر الاخرى....
ورأيته واقف ينظر الي...خنقتني العبره عندما رأيته وقد امتلاءت عيناه بالدموع...هالني مظهره وقد انحنى ظهره...ورسمت المأساه خطوطها في وجهه على شكل تجاعيد عميقه...
.
.
.
.
كنت احتسي الشاي الساخن بشفتين فاترتين تجمد الاحساس فيهما...وعيناي مثبتتان على الدخان المتصاعد من كوب والدي ...حتى اتحاشى النظر الى عينيه...وانا استمع اليه وهو يحكي لي كل التطورات التي حدثت في حياته بعد دخولي السجن...وعن انتقاله بعد المضايقات التي كان يواجهه ...وعن متجره الصغير الذي استطاع من خلاله ان يكفل حياه مستوره لزوجتي وابنتي...
وبعد لحظات صمت سئلته سؤالي اليتيم الذي كان يدور في رأسي....
- ماتت وانا ماطلبت منها تسامحني...تتوقع سامحتني؟؟
واطلق زفرة حرى....
- الله يرحمها... عمرها ما شالت في قلبها عليك....
- اللي ذابحني يابوي انها ماتت وانا بعيد عنها...نهايتها كلها تعاسه وحزن ...وانا السبب...
- محمد ياولدي ...امك ماتت الله يرحمها وهي تدعي لك في كل ساعه.....وكانت تتمنى تشوفك وانت بين زوجتك وبنتك......لكن الحمد لله على كل حال...انسى الماضي ...وفكر في المستقبل وفكر في اهلك ومستقبلهم..........
أي مستقبل لانسان مثلي ...كلمات رددتها في سري بسخريه....
ربت بيده على كتفي بحنان...
- لا انا ولا امك قدرنا نشيل في قلوبنا عليك...انت والدنا الوحيد واملنا في هالحياه...احنا زعلانا على حالك....لكن الحمد لله على كل حال...