عازفة القيثار
09-13-2015, 05:18 AM
حَدِيثُ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ -يَعْنِي: ابْنُ إِدْرِيسَ-، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَابَيْهِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ﴾ (1)، وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» (2).
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ: هُوَ المَرْوَزِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ إِدْرِيسَ: هُوَ الأَوْدِيُّ ثِقَةٌ فَقِيهٌ رَحِمَهُ اللهُ، وَأَبُوهُ إِدْرِيسُ ثِقَةٌ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ.
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: عَبْدُ المَلِكِ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ المَكِيُّ الفَقِيهُ رَحِمَهُ اللهُ، مِنَ الطَّبَقَةِ السَّادِسَةِ، وَقَالَ هُنَا: «عَنْ»، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِتَدْلِيسِهِ، لَكِنَّ تَدْلِيسَهُ قَلِيلٌ، وَقَدْ صَرَّحَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِالتَّحْدِيثِ، وَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ.
عَنِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، وَهُوَ لَا بَأْسَ بِهِ ثِقَةٌ رَحِمَهُ اللهُ.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَابَيْهِ: هُوَ المَكِّيُّ أَيْضًا لَا بَأْسَ بِهِ.
عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: وَيُقَالُ: ابْنُ مَنِيَّةَ التَّمِيمِيِّ صَحَابِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ.
قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
يَعْنِي تَلَا عَلَيْهِ الآيَةَ:
﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾:
فَكَأَنَّهُ أَشْكَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَفِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَتَأَمَّلُونَ وَيَنْظُرُونَ، وَكَانُوا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ يُبَيِّنُ لَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِيهِ دِلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى عُمْقِ فَهْمِ الصَّحَابَةِ وَعِلْمِهِمْ بِدِلَالَاتِ الأَلْفَاظِ، وَأَنَّ دِلَالَاتِ الأَلْفَاظِ مُعْتَبَرَةٌ وَأَنَّ طَالِبَ العِلْمِ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي دِلَالَاتِ الأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ، وَأَنَّ المَفَاهِيمَ مِنْ أَشْرَفِ مَعَانِي الفِقْهِ وَمِنْ أَجَلِّهَا، وَلِهَذَا فَالقِيَاسُ كُلُّه مَبْنِيٌّ عَلَى المَفَاهِيمِ، القِيَاسُ مَدَارُهُ مَهْمَا طِيلَ فِيهِ وَمَهْمَا اتَّسَعَتِ السُّبُلُ فَمَدَارُهُ عَلَى مَفَاهِيمَ، فَالقِيَاسُ مِنْ أَوَّلِهِ لِآخِرِهِ مَدَارُهُ كُلُّهُ عَلَى المَفَاهِيمِ بِأَنْوَاعِهَا.
وَلِهَذَا يَعَلَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا تَلَا عَلَيْهِ:
﴿إِنْ خِفْتُم﴾:
المَفْهُومُ هُنَا عَلَى صِيغَةِ الشَّرْطِ، فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ القَصْرَ مُقَيَّدٌ بِالخَوْفِ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا انْتَفَى الخَوْفُ أَنَّهُ لَا قَصْرَ، وَلِهَذَا لَمَّا خَاطَبَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ الآيَةَ، لَمْ يُورِدِ الإِشْكَالَ مِنَ الآيَةِ لِظُهُورِهِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ شَكٍّ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ بَعْضَ مَا سَلَكَهُ الظَّاهِرِيَّةُ فِي إِنْكَارِ المَفَاهِيمِ، وَمِثْلُ هَذَا جَاءَ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وَفِي بَحْثِهِمْ وَفِي نَظَرِهِمْ، وَلِهَذَا أَقَرَّهُ عُمَرُ، فَقَالَ يَعْلَى:
وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ:
فَأَوْرَدَهُ إِيرَادَ مَنِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ هَذَا الشَّيْءُ مِنْ جِهَةِ لُغَةِ العَرَبِ، وَهُوَ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ، وَأَوْرَدَهُ عَلَى عُمَرَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ اسْتِدْلَالُهُ، وَأَنَّهُ كَالأَمْرِ المُسْتَقِرِّ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ - مُقَرِّرًا وَمُصَدِّقًا لِبَحْثِهِ وَنَظَرِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -:
عَجِبْتُ يَعْنِي مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ:
وَهَذَا فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى فَضْلِ عُمَرَ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَدْ تَنَبَّهَ لَهَا أَوَّلًا، فَبَادَرَ وَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ بَادَرَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ إِلَى سُؤَالِهِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ يَجِدُ عِنْدَهُ مَا يُثْلِجُ صَدْرَهُ وَيَحْصُلُ لَهُ بَرْدُ اليَقِينِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ.
فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»:
فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَمَا أَقَرَّ عُمَرُ أُمَيَّةَ عَلَى ذَلِكَ. وَالمَقْصُودُ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَنَّ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ بِمَشْرُوعِيَّةِ القَصْرِ وَإِنْ كُنَّا آمِنِينَ، فَالآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ القَصْرِ حَالَ الخَوْفِ، وَالقَصْرُ قَصْرَانِ:
قَصْرُ كَيْفِيَّةٍ: بِمَعْنَى قَصْرِ الأَرْكَانِ أَوْ قَصْرِ هَيْئَتِهَا كَمَا فِي صَلَاةِ الخَوْفِ وَسَـيَأَتِي إِنْ شَاءَ اللهُ فِي كَلَامِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ.
وَقَصْرُ كِمِّيَّةٍ: بِمَعْنَى قَصْرِ عَدَدِ رَكَعَاتِهَا كَمَا جَاءَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»، وَ«سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ»، وَالنَّسَائِيِّ، أَنَّ صَلَاةَ الخَوْفِ تُصَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً فَهَذَا قَصْرُ عَدَدٍ لَا قَصْرُ هَيْئَةٍ، كَذَلِكَ قَصْرُ الرُّبَاعِيَّةِ إِلَى رَكْعَتَيْنِ.
فَإِذَا اجْتَمَعَ السَّفَرُ مَعَ الخَوْفِ فَيَقْصِرُ عَدَدَهَا وَيَقْصِرُ هَيْئَتَهَا وَهِيَ الصِّفَاتُ المَعْرُوفَةُ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الخَوْفِ.
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ: إِنَّ عُثْمَانَ صَلَّى أَرْبَعًا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَ عُمَرَ لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ (3)، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ رَكْعَتَيْنِ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ «بِمِنَى» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تُقْصَرُ إِلَى رَكْعَتَيْنِ.
وَالقَصْرُ سُنَّةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ العُلَمَاءِ، وَذَهَبَ بَعْضُ العُلَمَاءِ - وَهُوَ قَوْلُ الأَحْنَافِ - إِلَى وُجُوبِهِ، وَالقَوْلُ بِالوُجُوبِ لَهُ قُوَّتُهُ لِقَوْلِهِ: «فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»، لَكِنَّ الجُمْهُورَ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَبِفِعْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا وَهَذَا كُلُّهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ»، وَوَافَقَهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُخَالِفْ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ وَاجِبًا لَذَكَرَ هَذَا وَبَيَّنَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ إِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ، وَتَرَكَ رَحِمَهُ اللهُ النِّزَاعَ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ: الخِلَافُ شَرٌّ، فَرَأَى مُوَافَقَةَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ فَاتَ مِنَ المَصْلَحَةِ مَا فَاتَ لِاجْتِهَادِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَهُوَ تَأَوَّلَ كَمَا تَأَوَّلَتْ عَائِشَةُ، وَالمُجْتَهِدُ إِذَا أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ.
(1) سورة النساء: 101.
(2) أخرجه مسلم في كتاب صَلَاة المسافرين وقصرها- باب صَلَاة المسافرين وقصرها (686).
(3) أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة، باب: ما جاء في التقصير (1084) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب: قصر الصلاة بمنى (694).
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ -يَعْنِي: ابْنُ إِدْرِيسَ-، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَابَيْهِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ﴾ (1)، وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» (2).
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ: هُوَ المَرْوَزِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ إِدْرِيسَ: هُوَ الأَوْدِيُّ ثِقَةٌ فَقِيهٌ رَحِمَهُ اللهُ، وَأَبُوهُ إِدْرِيسُ ثِقَةٌ أَيْضًا رَحِمَهُ اللهُ.
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: عَبْدُ المَلِكِ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ المَكِيُّ الفَقِيهُ رَحِمَهُ اللهُ، مِنَ الطَّبَقَةِ السَّادِسَةِ، وَقَالَ هُنَا: «عَنْ»، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِتَدْلِيسِهِ، لَكِنَّ تَدْلِيسَهُ قَلِيلٌ، وَقَدْ صَرَّحَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِالتَّحْدِيثِ، وَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ.
عَنِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، وَهُوَ لَا بَأْسَ بِهِ ثِقَةٌ رَحِمَهُ اللهُ.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَابَيْهِ: هُوَ المَكِّيُّ أَيْضًا لَا بَأْسَ بِهِ.
عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: وَيُقَالُ: ابْنُ مَنِيَّةَ التَّمِيمِيِّ صَحَابِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ.
قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
يَعْنِي تَلَا عَلَيْهِ الآيَةَ:
﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾:
فَكَأَنَّهُ أَشْكَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَفِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَتَأَمَّلُونَ وَيَنْظُرُونَ، وَكَانُوا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ يُبَيِّنُ لَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِيهِ دِلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى عُمْقِ فَهْمِ الصَّحَابَةِ وَعِلْمِهِمْ بِدِلَالَاتِ الأَلْفَاظِ، وَأَنَّ دِلَالَاتِ الأَلْفَاظِ مُعْتَبَرَةٌ وَأَنَّ طَالِبَ العِلْمِ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي دِلَالَاتِ الأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ، وَأَنَّ المَفَاهِيمَ مِنْ أَشْرَفِ مَعَانِي الفِقْهِ وَمِنْ أَجَلِّهَا، وَلِهَذَا فَالقِيَاسُ كُلُّه مَبْنِيٌّ عَلَى المَفَاهِيمِ، القِيَاسُ مَدَارُهُ مَهْمَا طِيلَ فِيهِ وَمَهْمَا اتَّسَعَتِ السُّبُلُ فَمَدَارُهُ عَلَى مَفَاهِيمَ، فَالقِيَاسُ مِنْ أَوَّلِهِ لِآخِرِهِ مَدَارُهُ كُلُّهُ عَلَى المَفَاهِيمِ بِأَنْوَاعِهَا.
وَلِهَذَا يَعَلَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا تَلَا عَلَيْهِ:
﴿إِنْ خِفْتُم﴾:
المَفْهُومُ هُنَا عَلَى صِيغَةِ الشَّرْطِ، فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ القَصْرَ مُقَيَّدٌ بِالخَوْفِ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا انْتَفَى الخَوْفُ أَنَّهُ لَا قَصْرَ، وَلِهَذَا لَمَّا خَاطَبَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ الآيَةَ، لَمْ يُورِدِ الإِشْكَالَ مِنَ الآيَةِ لِظُهُورِهِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ شَكٍّ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ بَعْضَ مَا سَلَكَهُ الظَّاهِرِيَّةُ فِي إِنْكَارِ المَفَاهِيمِ، وَمِثْلُ هَذَا جَاءَ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وَفِي بَحْثِهِمْ وَفِي نَظَرِهِمْ، وَلِهَذَا أَقَرَّهُ عُمَرُ، فَقَالَ يَعْلَى:
وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ:
فَأَوْرَدَهُ إِيرَادَ مَنِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ هَذَا الشَّيْءُ مِنْ جِهَةِ لُغَةِ العَرَبِ، وَهُوَ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ، وَأَوْرَدَهُ عَلَى عُمَرَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ اسْتِدْلَالُهُ، وَأَنَّهُ كَالأَمْرِ المُسْتَقِرِّ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ - مُقَرِّرًا وَمُصَدِّقًا لِبَحْثِهِ وَنَظَرِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -:
عَجِبْتُ يَعْنِي مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ:
وَهَذَا فِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى فَضْلِ عُمَرَ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَدْ تَنَبَّهَ لَهَا أَوَّلًا، فَبَادَرَ وَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ بَادَرَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ إِلَى سُؤَالِهِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ يَجِدُ عِنْدَهُ مَا يُثْلِجُ صَدْرَهُ وَيَحْصُلُ لَهُ بَرْدُ اليَقِينِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ.
فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»:
فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَمَا أَقَرَّ عُمَرُ أُمَيَّةَ عَلَى ذَلِكَ. وَالمَقْصُودُ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَنَّ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ بِمَشْرُوعِيَّةِ القَصْرِ وَإِنْ كُنَّا آمِنِينَ، فَالآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ القَصْرِ حَالَ الخَوْفِ، وَالقَصْرُ قَصْرَانِ:
قَصْرُ كَيْفِيَّةٍ: بِمَعْنَى قَصْرِ الأَرْكَانِ أَوْ قَصْرِ هَيْئَتِهَا كَمَا فِي صَلَاةِ الخَوْفِ وَسَـيَأَتِي إِنْ شَاءَ اللهُ فِي كَلَامِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ.
وَقَصْرُ كِمِّيَّةٍ: بِمَعْنَى قَصْرِ عَدَدِ رَكَعَاتِهَا كَمَا جَاءَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»، وَ«سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ»، وَالنَّسَائِيِّ، أَنَّ صَلَاةَ الخَوْفِ تُصَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً فَهَذَا قَصْرُ عَدَدٍ لَا قَصْرُ هَيْئَةٍ، كَذَلِكَ قَصْرُ الرُّبَاعِيَّةِ إِلَى رَكْعَتَيْنِ.
فَإِذَا اجْتَمَعَ السَّفَرُ مَعَ الخَوْفِ فَيَقْصِرُ عَدَدَهَا وَيَقْصِرُ هَيْئَتَهَا وَهِيَ الصِّفَاتُ المَعْرُوفَةُ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الخَوْفِ.
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ: إِنَّ عُثْمَانَ صَلَّى أَرْبَعًا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَ عُمَرَ لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ (3)، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ رَكْعَتَيْنِ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ «بِمِنَى» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تُقْصَرُ إِلَى رَكْعَتَيْنِ.
وَالقَصْرُ سُنَّةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ العُلَمَاءِ، وَذَهَبَ بَعْضُ العُلَمَاءِ - وَهُوَ قَوْلُ الأَحْنَافِ - إِلَى وُجُوبِهِ، وَالقَوْلُ بِالوُجُوبِ لَهُ قُوَّتُهُ لِقَوْلِهِ: «فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»، لَكِنَّ الجُمْهُورَ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَبِفِعْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا وَهَذَا كُلُّهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ»، وَوَافَقَهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُخَالِفْ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ وَاجِبًا لَذَكَرَ هَذَا وَبَيَّنَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ إِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ، وَتَرَكَ رَحِمَهُ اللهُ النِّزَاعَ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ: الخِلَافُ شَرٌّ، فَرَأَى مُوَافَقَةَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ فَاتَ مِنَ المَصْلَحَةِ مَا فَاتَ لِاجْتِهَادِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَهُوَ تَأَوَّلَ كَمَا تَأَوَّلَتْ عَائِشَةُ، وَالمُجْتَهِدُ إِذَا أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ.
(1) سورة النساء: 101.
(2) أخرجه مسلم في كتاب صَلَاة المسافرين وقصرها- باب صَلَاة المسافرين وقصرها (686).
(3) أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة، باب: ما جاء في التقصير (1084) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب: قصر الصلاة بمنى (694).