هدوء
04-10-2015, 07:58 PM
انحنى قليلاً، حاول أنْ يُمْسكَ رِباطَ حذائه لكنَّه تثاقلَ، كانتِ المسافة بين يديه وبين رِباط الحذَاء طويلة، رَفَعَ جسدَه وأخذَ نَفَسًا عميقًا، دقَّق في رباط الحذاء، فرآه متهدِّلاً مُتَّسخًا، مُلوًّى، بدأت الأفكار تهاجمه من كل الجهات، كيف يمكن السيطرة على التهدُّل والاتِّساخ؟ وكيف يمكنُ التخلُّص من الالْتِواء، أخَذَ مَوْقِعًا على الرصيف وجَلَسَ يفكِّر، قلّبَ الأمرَ من كلِّ جِهاته، وعلى كلِّ أوْجهه، الحذاء يضغطُ على القَدمين، والرطوبة تتسربُ إلى الجِسْم، الشقوق والاهْتراء يجلبان الكآبة إلى النفس، والتآكُل يهدمُ الإحساس، الثقوبُ المنتشرة في كلِّ الأجزاء تُرْهِقُ المشاعر، والرباط زادَ الأمورَ تعقيدًا خلفَ تعقيدٍ.
حدَّق بالمارة، فكَّر للحظة أن يطلبَ من أحدِهم المساعدة في ربط حذائه، لكن الحياءَ منعَه من ذلك، انتصبَ ليسير نحو زاوية مهجورة؛ من أجلِ العمل على ربْط الحذاء بعيدًا عن عيون المارة، لكنَّه خافَ أن يدوسَ الرباط فيسقط أمام الناس، نظرَ إلى الرباط بحنق بالغٍ، انْحَنَى من جديدٍ لكنَّ الرباط ظلَّ بعيدًا عن متناوَل يدِه.
سارَ وهو يباعد بين قَدَميه، أصبح كطفلٍ يخاف خُطواته، أحسَّ بحرارة شديدة تتسرَّبُ إلى ذاته، بدأَ جِلْده يحسُّ بأزمة مبالغ فيها، أزمة الحرارة الداخلية وبرودة الهواء المنتشر في الأجواء، اختلَّ توازنُ الإحساس لَدَيه، وأيْقَنَ بأنَّ المارَّة كلهم - ودون أي استثناء - يراقبون الخَلل في خُطواته، حاولَ أن يقرِّبَ بين الخُطوات، لكنَّ الرباط مالَ بسرعة نحو القدمِ اليُمْنَى، مما اضطره للمباعدة بين قَدَمَيه من جديدٍ.
بدأَ العَرَقُ ينْفرُ من مسامه، عَرَقٌ لَزِجٌ ثقيل، وهاجَمَ معدته ألمٌ مفاجئ، ألمٌ يثيرُ في النفس الغضبَ والتوتُّرَ، فهو لا يستطيع الشعور بالراحة الطبيعيَّة، وكذلك لا يستطيع أنْ يشعرَ بالألمِ الذي يَرْميه في الفراش، هو ألمٌ غريب، زوفان وغثيان يثيران التقزُّزَ والإعياءَ، اشتدَّ نفورُ العَرَق، أصبحتْ نفسُه موزَّعة بين العَرَق الحارق وبيْنَ الهواء البارد، ورباط الحذاء الذي يسخرُ منه ومِن إمكاناته.
مثل هذا الألمِ لم يكنْ غريبًا عنه، ربَّما شعر به في ظروفٍ غير هذه الظروف، لكنها بأيِّ حالٍ من الأحوال كانتْ تكشف عن أنواعٍ من العذاب والتلوِّي التي لم يكنْ يعْهَدُها بذاته، فهناك أحيانًا أشياءُ تستبدُّ بالنفْس، تمسكها، تقلِّبُها على نيرانٍ من ألمٍ ووَجَعٍ، دون أن نعرفَ سببَها، أو بداية نشْأتها؛ فهي تأتي كبَرْقٍ مفاجئ بسرعة تُشَابه الخيالَ، لكنها تبقى ساكنة فينا إلى أمدٍ طويل، ولكن مع احتفاظها بسرعة قُدومِها وغموض استقرارها، حتى تتوزع النفسُ بين الألمِ المضروب على مُحيط الجسد والنفْس كحصارٍ لا يُمْكن اخْتراقُه، وبين الغموض والمجهول الذي يشوينا شيًّا بطيئًا، ونحن نحاولُ أن نعرفَ ماهيتَه وتكوينَه، أصلَه ومنْشَأَه، لكن دونَ جَدْوَى، فهناك تآمرٌ كاملٌ بين المعلوم والمجهول، بين الألمِ والعذاب والغموض والمجهول، هو العيشُ بحالة من حالات المستحيل، مستحيل القادم، وما بين اليَدَيْن.
وقفَ تحت عمود النور، رآه مضاءً رغم أنَّ اليومَ في أوله، استغرب الأمرَ، حاول أن يجدَ سببًا منطقيًّا لذلك لكنَّه فَشِلَ؛ فالنور القادم من المصباح غزا نفْسه وأعماقَه، نور أصْفر باهتٌ حزين كئيبٌ، شعر بالاختناق، شعر بغضبٍ عارمٍ، واجتاحته فَوْضى مُشَتته، أرادَ أن ينفجرَ، أن يوزعَ أجزاءَه وشظاياه على الكون، حاولَ أن يخنقَ نفْسه بكمِّ الألمِ والكآبة والغثيان المستبد بذاته، لكنه فَشِلَ، فزادَ ذلك إحساسَه بالإحْباط والهزيمة، اندفعَ بكل قوَّته أمامَ سيارة كبيرة محاولاً الانْتحَار، لكن رباطَ حذائه أوْقعه على الرصيف، انتصب بتثاقُل، أصبحَ العَرَقُ يسحُّ من كل جسدِه، أحس بأنه بدأ ينتفخُ كبالون كبيرٍ، تحسَّس جسدَه، فأيقنَ أنه قاربَ على الانْفجار، فتحَ فمَه وهو يسحب من الجو كميَّات كبيرة من هواء، أرادَ أنْ يضغطَ جسدَه إلى حدِّ الانفجار، ولكنَّه أحسَّ بحركة في مؤخِّرته، أصاغ السمع جيدًا، كان الضراطُ قد فتحَ نافذة جديدة لتفريغ الهواء المضغوط، تحسَّس جسدَه من جديد فعرفَ أن التنفيسَ قد بدَّد آماله بالانْفجارِ.
تقدَّم قليلاً نحو الشارع، لاحظَ وبطرفة عينٍ سيارةً سريعة تطوي الأرضَ بِنهمٍ وجُنون، قذفَ نفسَه نحو الرصيف؛ خوفًا من الموت تحتَ عجلاتها.
انتفضَ واقفًا والرعب يحتشد في ملامحه، جمْعٌ من الناس تجمْهَرَ ليرى أثرَ الصدمة التي تلقَّاها في رأْسه حين اصطدمَ بحافَّة الرصيف، كان الدمُ يسيلُ من رأْسِه على خَدَّيه ورقبته، دمٌ طازجٌ مُوَرّد لا سوادَ فيه، تتصاعد منه سخونة خاصَّة يبدو أنها قادمة من المسامات المخفيَّة تحتَ الجلد.
الناسُ تهتفُ وتتهامس، بعضُهم أخرجَ مِنْديله من جَيبه، والبعضُ الآخرُ كانَ يأتي بالمياه من المحلات المجاورة، وبعضهم كان يبحثُ عن مُطَهِّرٍ وضمادة، فالجُرْحُ عميق غائرٌ، والدماءُ تتدفَّق بسرعة، والضغطُ الشديد على الجرح يزيد من قوة اندفاع الدمِ فورَ رفْعِ اليد عن الجُرْح، وهو لا يزال يقف واجمًا ينظر نحو الأسْفل دون أن يبدي أيَّ اهتمامٍ للدم النازفِ أو الجمع المحتَشِد لمساعدته.
سأله أحدُهم وهو يضغطُ على الجُرْح بقوة: هل تشعرُ بالألمِ؟ لكنَّه ظلَّ صامتًا مُحدقًا بالأسفل، كانت الهواجس تتلاعب في رأْسِه ونفسِه بقوة: لماذا هَرِبْتُ من عجلات السيارة؟ المشكلة الكبيرة أنني كنتُ قبلَ لحظات أطلبُ الموت، لكن رباط الحذاء حال دوني ودون تحقيق رغْبَتِي، الآن وحين هربتُ من السيارة المحمومة، دفعني رباط الحذاء نحو حافَّة الرصيف، دفعني بقوة وكأنَّه يريدُ تحطيمَ رأْسِي على حافَّته الصُّلْبة، الناس تتجمهَرُ تمسحُ دِمائي، لكنَّ أيًّا منهم لم يفكرْ ولو للحظة في مشكلة رباط حذائي، وحتى رباط الحذاء يبدو أنَّه يستطيع أن يقرِّرَ طريقة مَوْتَي وأَلَمِي، كلُّ الأشياء والأحْداث تسيرُ بطريقة مُعَقَّدة متباينة، وكلُّ الأمور تتَّجه بعْكس انفعالاتي وتقلُّبَات نفْسي.
الدم والجُرْح الغائر بالرأْس شكَّلا حدثًا جمعَ الناس حولي من كلِّ الجهات، الكلُّ يعملُ بسرعة واضطراب؛ الماء والمطهِّر، الأصوات والأيدي، المشاهد والمتفرِّج، والدم المتجلِّط، كلّ هذه الأمور شكَّلت حلقةً واسعةً من الناس والأفْراد الذين أعرفُهم ولا أعرفهم من أجْلِ إبْقائي على قَيْد الحياة، هل يتفقُ هذا مع إرادتي؟ هل يتفق هذا مع إرادة رباط الحِذاء؟ وبسرعة أنزلَ نظرَه مرة أخرى نحو حذائِه، كان الرباط وقد تناثرتْ عليه بعضٌ من الدماء التي زادتْ من كآبة النفسِ وعُمْق الحزْنِ.
سارَ ورأْسُه ملفوف بشاش أبيض، مباعدًا بين قَدَمَيْه، لا يعرفُ ماذا عليه أن يفعلَ، وفي زاوية خالية من الناس جلسَ على نُتُوء إسمنتي، رفعَ قَدَمه فوقَ فخذِه، وأحنى ظهرَه قليلاً، تفقَّد الشارع المقابل، تفقَّد الأزِقَّة التي تُفْضي إلى مكان جلوسه، تفحَّصَ النوافذَ المطِلَّة على مكانه، ودقَّق في الأبواب كلِّها بابًا خلفَ الآخر، ولَمَّا اطمأنَّ أن الظروفَ كلَّها تقف في خِدْمته، أنزلَ عينيه نحو الحذاء، وزاد من انحنائه، أمسك الرباطَ بيديه، بدأَ بمحاولة الربط، لكنَّه رفعَ يديه مرة واحدة وهو يقفزُ من مكانه بعد أن دَوَّى صوتٌ مَعدني خلفَه، نظرَ فوجدَ جُرْذًا ضخْمًا يقفزُ فوقَ لوحٍ مَعدني دون أن يستطيعَ تجاوزَه بسببِ تقعُّرِه.
حدَّقَ في الجرذ المذعور الحانق من وضْعه الذي لا يستطيع تجاوزَه، كان يقفزُ بغضبٍ عارمٍ ورُعْبٍ هائلٍ، وكانَ هو يرقبُ كلَّ ذلك بنفْسِ الغضب ونفْسِ الرعب، ومرة واحدة سكنتْ حركةُ الجرذ، وبدأ كلٌّ منهما يحدِّقُ في الآخر.
الجرذ المأْسور في تقعُّر اللوحِ المعدني يهيِّئ نفسَه لخوض معركة طاحنة، فانكماشُه نحو قوائمه الخلفيَّة، واندفاع جسدِه نحو الأمام بارتفاع مَلْحوظ، وحركة شَارِبَيْه المذعورة، وفَمُه الذي يكشفُ عن قواطع حادَّة، كلّ هذا يشير إلى استعداد متحفِّزٍ من أجْل معركة مَصيريَّة.
والرجل المنْتَصِب بصدرٍ يخفق بشدة ونظراتٍ مذهولة، وفمٍ مفغور، لا يزال تحت صدمةِ الرُّعْب والمفاجَأة، ينظرُ نحو الجرذ بعَيْنَيْن ذابلتين، حاولَ - وبكلِّ جُهْدِه - أن يجمعَ أجزاءَ المشهْد، أن يتذكرَ كيفَ حصلَ كلُّ هذا دُفْعةً واحدة، لكنَّه لم يستطعْ، حرَّك قَدَمَه قليلاً نحو الوراء، فتحرَّك الجرذُ بسرعة، وزادَ من وَضْع استعداده، حاولَ الرجلُ أن يستديرَ بسرعة، لكنَّه تعثَّرَ برباط حذائه فانكفأ على اللوح المعدني مُحْدِثًا ضجيجًا هائلاً، قفزَ الجرذُ نحوه وغَرَسَ قواطعَه في ساعِده، ثم وَلَّى هاربًا بعد أن اتَّخَذَ من جسدِه جسْرًا لعبور التقعُّر.
ضجيجُ السقطة، ودويُّ الصرخة التي خرجتْ فورَ انْغِراس قواطع الجرذ في ساعده - دفَعَا الناس إلى فتْحِ النوافذ والأبواب، بدا المشْهد للجميع غاية في الغرابة، رجلٌ ملفوفٌ رأْسُه بشاشٍ أبيض، مع تناثُر دماء على صدرِه وظهْرِه وكَتِفَيه، وحفرة عميقة في الساعد تنثرُ الدماءَ على جانب الجسد، ورجل مصعوق حائر، تستبدُّ به دهشة مركّزة، تقدَّم الناس حولَه وبدؤوا بمعالجة ساعدِه المنهوش وهم يردِّدون كلمات الشفقة والعطف، النساء يتكوَّمْنَ حول بعضِهنَّ على النوافذ المفتوحة وهو يُسدِّد نظراته نحو الأسفل، ومرة واحدة عادَ ليتفحص الطرقات والأبواب والنوافذَ، فوجدَها جميعًا تغصُّ بالناس، وتناهى إلى مسامعِه صوتُ النساء وهنَّ يضحكْنَ ويُقَهْقِهْنَ.
غزاه شعورٌ بالمذلة والعار، وغاصَ في دوَّامة قاتلة من التوزُّع بين شعوره الجديد وبين رباط حذائه المتهدِّل، يجب أن تذهبَ للطبيب، قال بعضُ الناس، أما البعض الآخر، فقد كان يصرخُ بالنساء أن يَقْذِفْنَ رأْسًا من الثوم، ورأْسًا من البصلِ، وفي لحظات كان الثومُ المهروس الممزوج بالبصل يستقرُّ في الحفرة المنهوشة، ويُغَطَّى بضمادة من خِرْقَة بَالِيَة.
تفرَّق الناس وهم يوصونه برفْعِ الضمادة بعد ساعات، لكنَّه ظلَّ عالقًا بالدهشة، وظلَّ السؤال يتردَّد صداه في عُمْق النفْسِ، لماذا لم ينتبه أحدٌ إلى رباط حذائي؟
غادرَ وهو يباعد بين ساقيه، كمن يعاني حالة سماط حارق، بدأ شكلُه يتحوَّل إلى طَللٍ يغزوه التقادُمُ بسرعة زمنيَّة غير مَسْبُوقة، الشاش الذي يلفُّ الرأسَ وأثَر الدماء على الجسد والعُنُق والساعِدَيْن، الدم المتجلِّط خَلفَ الأُذُنَين وعلى نهاية الشفاه، الخِرْقة البالية التي تلف الساعِدَ، رائحة الثوم والبصل المتمكِّنة منه ومن ذاته، الملابس المحمَّلة بالأتْرِبَة والصدأ، وبقايا المياه المتحالفة مع بقَعِ الدماء هنا وهناك، ورباط الحذاء المتهدِّل الملوَّى، والقذَى المتراكم بالعينين، كل هذا كان يحوِّله من شخصٍ إلى بقايا شخص، من ذات إلى أجزاء مركَّبة على بعضها.
داهمَه إحساسٌ مفرطٌ بضرورة الموت، أو معالجة أمرِ الرباط المتهدِّل، بين الموت وبين إصلاح وضْع الرباط مسافة قصيرة لا تُرى بالعَين، ولا تُحسب بلغة الأرْقَام، فإمَّا أن يموتَ الآن ومن غير تأجيل، ودون أن يسمحَ للظروف بالتدخُّل للحيلولة بينَه وبين الموتِ، وإمَّا أن يربطَ حذاءَه الآن من غير تأْجيلٍ ودون أن يسمحَ للظروف أن تحولَ بينه وبين إصلاح رباط الحذاء.
قَرَّبَ قَدَمَيْه وانطلقَ مُسْرِعًا نحو منزلٍ مهجورٍ في آخر المدينة، تسلَّق السور بخِفَّة قِطٍّ مَذْعور، ودَخلَ الحديقة، الْوَحْشَة تلفُّ المكان، الأشْجار تقفُ مكانَها بثباتٍ، والعصافير تزقزق زقزقةَ الآمن المطمئن، والأوراق المتساقطة منذ زمنٍ تتطاير هنا وهناك، أوراق جافَّة صفراء، والحشائش الغزيرة تُغَطِّي الأرضَ بقوة فيَّاضة، والهدوء المطْبِق يغلِّفُ كلَّ الأشياء، تأمَّل المنزلَ، كانت الطحالب قد اغتنمتْ فرصةَ الوحشة، فكدَّستْ نفسَها على الحِيطان، طحالب داكنة الخُضرة، سميكة الطبقات، والنوافذ مُشَقَّقة كما الجدران، يتجوَّل النملُ في الشقوق بحرية واستباحة لكلِّ حُرمات البيت والجُدران، والعناكب نشرتْ نسيجها في كلِّ مكانٍ، أعلنتْ وبصَلَفٍ حقَّها بممارسة غاياتها كما تحبُّ وتشتهي.
دخلتِ الوحشة أعماقَه، وللحظة بسيطة أحسَّ بخوف مفاجئ، تحسَّس جسدَه المرْتَعِد، وأجالَ نظرَه في المكان من جديد، سمعَ صوتًا يشبه نغمات الشخير الممجوج، استجمعَ طاقة سمعِه، كان الصوت يقتربُ قليلاً قليلاً منه، تفحَّص الحديقة من كلِّ جِهاتها، تفحَّص الوحشة، بيت مهجور تمامًا، عوامل الهجر واضحة جَليَّة، بدأَ الصوتُ يعلو، تحوَّل من شخير إلى نغمة مَعْهُودة في شيء ما، لكنَّه لم يستطعْ أن يحدِّدَ ماهية الشيء، أحسَّ بوخزات في ربلتَيْه، رفعَ بِنْطَاله، كان النملُ قد تسلَّلَ تحته، انْحنى وهو يضربُ بيديه النملَ، ثم ابْتعدَ قليلاً، وعلى مصطبة عالية جَلَسَ ليأخذَ نفَسًا.
رفعَ قَدَمَه فوقَ فخذه، أمْسك رباطَ الحذاء ولفَّه بين أناملِه، انتفضَ واقفًا كمن مَسَّته صاعقةٌ حارقة، ألْصقَ ظهرَه إلى جدار المنزل وهو يرتجف ذُعرًا وهَلعًا، كان الكلبُ يقف وهو يَهْمِرُ بعصبيَّة بالغة، كلبٌ أسود فاحم، ضخمٌ، مُهَجَّنٌ مِن ضبع أو شيطان، بِنْيَتُه قوية فَتِيَّة، ولعابُه يسيلُ بغَزَارة مقززة، يقفُ مستعدًّا للانقضاض، لكنَّه ما زالَ يتفحَّص الفريسة، والفريسة تدفعُ نفسَها نحو الجدار، تحاولُ شقَّه والدخول فيه، تَكَوَّمَ على بعضِه، تمنَّى في داخله حدوث معجزة خارقة، كأنْ يموتُ الكلبُ في التوِّ بسكْتةٍ قلبيَّة حادَّة، أو تنشق الأرضُ عن أهْل البيت فتضيع الوحْشَة، وتختفي كلُّ علامات هجرة البيت، أو أنْ تأتيَ صاعقةٌ مفاجئة تلفُّ الكلبَ في دوَّامتها السريعة، وربَّما ينقلبُ إلى بطلٍ فيمزِّق جسدَ الكلبِ كما يمزِّق ورقةَ دُخَان.
خرجَ الغضبُ المضغوط إلى عَيْنَي الكلبِ، وتجمَّع في صوتِه الذي بدأَ يعلو شيئًا فشيئًا، وأصبحَ قلبُ الرجل مَرْفًأ للرعب والهَلَعِ، أحسَّ بسقوط أحشائِه نحو قَدَمَيْه، وانخرطَ في بكاء حارٍّ، قفزَ الكلبُ بشراهة ونهمٍ، وأطبقَ بأسنانه على فخذِه، تلوَّى الرجلُ كأفْعَى مقطوعة الرأْس وهو يضرب بيدَيْه وقَدَمَيْه، ولغَ الكلبُ في الفخذِ الأخرى، ثم ولغَ ببطنه، صراخه تَعَالَى؛ مما دَفَعَ الناس للقفزِ من فوق السور إلى الحديقة، تنبَّه الكلبُ للناس وهي تتساقط من فوق السور وتركضُ نحوه، فولَّى هاربًا وفمُه مُغَطّى بالدماء وبقايا من لحْمٍ.
حملوه، كسروا قفلَ الباب، أوقفوا سيارة وطاروا به إلى المشْفَى، تلقَّفه سريرُ الطوارئ، وانزلقوا مسرعين إلى غُرْفة الأطبَّاء، بدا وكأنه قادمٌ من عصرٍ آخرَ كإنسانٍ بِدائي، مرغتْه الغابة بمجهولها، ووزعتْ منه قليلاً على حيواناتها، يستحقُّ الرثاءَ فِعْلاً، ويستحقُّ الشفقةَ، غسلوا جراحَه بالمطهِّر، واستوقفَهم الجرحُ المقضوم، لكنَّهم رغم استغرابهم لم يتوقَّعوا أبدًا أنه ناتجٌ عن قواطع جرذ.
خلعوا ملابسه، لم يكن بإمكانِهم تحمُّلُ رائحة العفن والنَّتانة، ألْبَسُوه منامة المشْفَى، وتركوه بعد أن "زرقوه" إبرة مُنَوِّم.
رأى أنه يسير في طريق فرعيٍّ لمدينة مهجورة لا يَقْطنها بشرٌ، لكنَّها تكتظُّ بمخلوقات غريبة مسطَّحة الجسد، مُثَلثة العيون، تسير على أطْراف مُسطَّحة، تبدو من شِدة تسطُّحِها أنَّها لا تلامس أرضَ المدينة وطُرقاتها، وحتى الطرقاتُ بدتْ واضحة وهي تدفعُ قشرتها نحو الأقْدام المسطَّحة، كانوا يأكلون أطراف المدينةِ، ويشربون أطرافَ مياهها؛ لذلك كانتْ تصغرُ كلَّ يومٍ وتتقلَّصُ، تتكوَّم على الفُتات المتبقِّي في محاولة لِلَمْلَمَتِه وإلْصَاقه بالجسد المتآكِل، وحين شاهدوه بدؤوا يُتَمْتِمُون بطريقة تشبه ثغاءَ النِّعاج، وما هي سوى لحظات قليلة حتى اجتمعتِ المدينة بأَسْرِها؛ لترى هذا المخلوقَ الغريبَ، تحرَّكوا كأوراقٍ مقصوصة على شكلِ بشرٍ، اجتمعوا حولَه وهم يُحدِّقون بحذائه المتَّسِخ المتهدِّل، تقدَّم أحدُهم وانْحنى ممسكًا رباط الحذاء، وحين هَمَّ بربطِه هزَّ الجوَّ زعيقُ طائر، انقضَّ على المخلوق الممْسِك برباط الحذاء، ونقرَ عينيْه، تلوَّى المخلوق على قشرة الأرض، وسقطَ الرباطُ ليتهدَّلَ من جديد.
أفاقَ من أثرِ المخدِّر، تناولَ وجبة الإفْطَار، ما هي إلا لحظات حتى دخلَ الطبيبُ المعالِج يبتسمُ ابتسامة عَذْبَة فيها نوع من الرأْفة، سألَه عن حالِه وقال له بأنَّه يمكنُه المغادرة، ولكنَّه مضطرٌّ إلى خلْعِ منامةِ المشْفَى وارتداء ملابسِه القديمة، وابتسمَ وهو يخرجُ متمنِّيًا له الصحة والعافية.
لحظة هَمَّ بارتداء ملابسِه قفزَ الحُلمُ إلى مَخيلته من جديد بكل تفاصيله، فأحسَّ معدته تخفقُ بالأَسَى، وجالَ برأْسِه صداعٌ ممزّقٌ؛ فالمخلوق الغريبُ الذي حاولَ أن يعقدَ رباطَ حذائه، فَقَدَ بصره في سبيل ذلك، والمشْفَى هنا بأَسْره، اهتمَّ بجروحه بطريقة رائعة مُدْهِشَة، لكنَّه لم يهتمَّ ولو للحظة بمساعدته بربط الحذاء، بين الحُلم وبينَه الآن لباسٌ سيرتديه وحذاءٌ كُلَّما همَّ بربطِه، داهمه حدثٌ ما، حدثٌ غير مُتوقَّع، فماذا عليه أن يصنعَ؟
جاءَه صوتُ الممرِّضة واضحًا: نحن بحاجة للغُرْفة بأَسْرع وقتٍ، بدأَ ارتداء ملابسِه، أصبحت رائحة الدمِ والعَرَق والكلب والجرذ معتقة، تفوحُ وكأنَّها قادمة من مغارة قديمة في التاريخ، وضعَ قدمَه بالحذاء، وانْحَنَى ليربطه، لكنَّه أحسَّ بالعجز؛ بسبب نهشات الكلب في فَخذَيه، تطلَّع نحو الممرضة، فكَّر للحظة أن يطلبَ منها مساعدتَه بالأمر، لكنَّها فَهِمَتْ ذلك دون حاجته للكلام، وحين انحنتْ لتربط الحذاء أحسَّ - ولأول مرة منذُ وقتٍ طويل - براحة عارمة تجتاحُ نفسَه، وأحسَّ بشعور غريبٍ: هو أن مشكلات الكون كلّه بدأتْ في الضمور والتلاشِي.
لم يكنْ منظرُ الممرضة وهي تنحني نحو الحذاء سريعًا، ربما بالمفهوم العادي الذي نحياه نحن، هي لحظات صغيرة مسحوبة من الزمن، لكن بالنسبة إليه هو، فقدْ كان المشهد يخضعُ للتصوير البطيء جدًّا، وكأنَّ الحدثَ قضيَّة علميَّة تنتصبُ آلةُ تصويرٍ لمراقبة تحوُّلاتها وتبدُّلاتِها؛ كي يستطيعَ العلماءُ استعادتها بنفْسِ البُطءِ من أجلِ دراسة الخُطوات والتحوُّلات، مشْهَد عضلات وجهِه وهو ينزل مع نزول الممرِّضة نحو الحذاء بدا خُرافيًّا أُسْطوريًّا، بل هو خلف الخُرافة والأسطورة، هو شيءٌ لا يُوصَف، ولا يُمْكن استعادةُ بريقه الممتشق من غمد العجز والخوف والرعب، هو شعورٌ يتساوَى مع مَن وقفَ أمامَ الموت قبلَ لحظات من النهاية، وهو يعرفُ أنَّ عقربَ الثواني يسير ليستلَّ آخرَ أنفاسٍ له في الحياة، في مثل هذه اللحظات تتكوَّم الدنيا كجَنينٍ صغير لترقُدَ في مرفَأِ العين بكلِّ ما فيها من اتساع ومجهول، هو لم يكنْ بعيدًا عن هذا الشعور أبدًا؛ لأنَّ الرباط بالنسبة له - بصورة ما - يشكِّلُ عقربَ الثواني الذي يسحبُ الزمنَ من بين جَنْبَيه، فإنْ نَجَحَت الممرضة في عمليَّة الربط، يكون عقرب الثواني قد هُزِمَ وكُسِرَ، توقَّف عند نقطة لا يمكنه بعدَها الاسترسال أو التقدُّم.
كان غارقًا في الحُلم والواقع يشدُّ ذاتَه بقوَّة عارمة نحو الحُلم، نحو الأمل المعقود على نزول الممرضة، وكان الواقع يذكِّره بكلِّ خُطواته السابقة؛ بفشلِه المتتابع بالوصول إلى نقطة الذروة في التحكُّم والإنْجاز، نقطة العلو بالذات إلى مَصاف القُدرة والاقْتِدَار، نَسِي للحظاتٍ كلَّ آلامِه، حتى أوجاع نهشِ الكلب كلها تلاشتْ، والإبَر التي "زرقت" بجسدِه من كلِّ اتجاه، لم يعدْ لتأثيرها أيُّ وجودٍ، هنا تقفُ اللحظة الحاسمة نحو النهاية، نحو ربط الحذاء، نحو التحرُّر من كلِّ الألمِ ومن المحاولات القادمة التي تحملُ بطيَّاتها مجاهيلَ غريبة، كانت السعادة تقتربُ من ملامحه، والفرحة تستعدُّ لتلصقَ بجبهته، وفجأة انقلبتِ الأشياءُ.
ومرة واحدة انتزعت آماله كلها حين دخلَ الغُرْفة مجموعة من الممرضين وهم يدفعون سريرًا يتلوَّى فوقَه مريضٌ معذَّبٌ بألمٍ حارقٍ، نهضتِ الممرضة بسرعة؛ لتستقبل المريض الجديد تاركة أمرَ الرباط لصاحبه، وحين همَّ بالخروج كان آخِر ما شاهده يد الممرضة وهي تعالج رباط حذاء المريض بخبْرةٍ لتنزعَه من عقده.
أثناء خروجه من المشْفَى ظلَّتْ عيناه معلَّقَتَان على أحْذية المارَّة، يتفحَّصها بعينٍ يكاد الحزنُ يخترقُها، جميع الأحْذية مربوطة بشكلٍ جيدٍ سليمٍ بأناقة، هذا يدلُّ على أنَّ مشكلتهم مع الرباط مُنْتَهيَة، أو هي غير موجودة أصْلاً، استهجنَ الأمرَ واستغربَ طريقةَ تفكيره، وهلْ من الممكن أنْ تتحوَّل مشكلة الناس إلى مشكلة مع أرْبطة أحْذيتهم؟ تساءَل بينَه وبين نفسه، لكنَّه عادَ وفكَّرَ في أنَّ جميعَ مشكلات الناسِ تبدأُ من تحتهم؛ أي: من الأسْفل؛ لذلك قد يأتي يومٌ وتجدهم جميعًا يحاولون الانْحناء نحو أربطة أحذيتهم، فيعجزون بسبب عضَّة كلبٍ أو قضمة جرذٍ.
أصبحتْ هذه الفكرة تطارده وتلحُّ عليه، وأحسَّ بأنه بدأ يتحوَّل شيئًا فشيئًا نحو الإيمان المطْلَق بأن التغيرات القادمة كلَّها ستنصبُّ على أربطة الأحذية؛ لذلك أصبحَ هَمُّه الأوَّل أنَ يكتشفَ طريقةً لربْطِ حذائه قبلَ أن تستفحلَ المشكلة في المدينة كلِّها، بل وأحسَّ - بشعور غريبٍ - بأنَّ واجب المدينة أن تتركَ كلَّ أعمالِها وكلّ اهتماماتها؛ لتنصبَّ معه في إيجاد طريقة تمكِّنها من معالجة مشكلة الرباط قبلَ أن تذوبَ الأمورُ في أتُّون الأيام القادمة.
غذَّ الخُطَى كعادته نحو شارعٍ فرعيٍّ، وهْمُ المدينة والناس والأطفال والنساء يتعاظمُ في صدرِه، فيتفتق عن إصرار عظيمٍ وعزيمة جبَّارة، تخرُّ لها الجبالُ، وتصغر دونها الرواسي العظيمةُ؛ من أجل أن يربطَ حذاءَه قبلَ أن يأتي الطوفان فيجْرف المدينة.
دخلَ أحدَ الأزِقَّة المهجورة إلا من مارٍّ بالصدفة، شاهدَ طفلاً صغيرًا يضربُ كُرة بالحائط بحيويَّة ونشاطٍ، مُتهلِّل الأسارير، والكرة ترتدُّ فيتبعها بنشاطٍ حيويٍّ عارمٍ، تطلَّع إليه، كان يلبسُ حذاءً رياضيًّا، مربوطًا بشكلٍ جيدٍ، مستقرٍّ فوقَ القدمِ بهدوءٍ وسَكِينة، شعرَ بنوعٍ من الفرحة وبشيءٍ من الطمأنينة على المدينة، فالأطفال لا يزالون يملِكُون القدرة على رَبْط أحذيتهم ببراعة واحْتراف، لكن ماذا لو فقدَ الأطفال هذه القدرة يومًا ما؟ قد لا يفقدونها بإرادتهم، ولكنهم قد يفقدونها لحظة يفقدها الآباءُ، فتصبح العادة الجارية العجز عن قُدرة ربط الأحذيَّة عادة وراثيَّة، تنتقلُ عبرَ الأجيال جيلاً خلفَ جيلٍ.
الوراثة شيءٌ معقَّدٌ وغيرُ مفهومٍ، تتبدلُ بين الناس؛ بفِعْل الظروف وعوامل الزمن والتعوّد، أسوأ شعور عرفتْه الحياةُ؛ فهو يُفْقِدُ الأشياءَ حياتَها وحيويتها، يُذَوِّبُ معانيها ببوتقتِه الغاصَّة بالرتَابة، فتنتقل المشاعرُ من حالة إلى حالة، من مَوْقِعٍ إلى مَوقع، وتختلف المفاهيم والأفكارُ، تتبدل، تهوي إلى قاعٍ وترتفع إلى قِمَّة، حسب مقتضيات التعوُّد الذي يزوِّد الوراثة بنوعٍ جديد من الأحاسيس.
يجب أن يفكرَ بطريقة تجعلُ مشكلة الأرْبِطَة تنتهي وتدخل حالة التعوُّد، لتنتقل إلى حالة الوراثة، لتصبح أمرًا يخلِّصُ المدينةَ من شقاءٍ قادمٍ، شقاء عضَّات الكلاب وقضمات الجُرذان.
وفيما هو غارق في تفكيره، أحسَّ بشيءٍ يصطدمُ بين قَدَمَيه، حدَّقَ فوجَدَ الكرة قد استقرَّتْ هناك، نظر نحو الطفل، فوجدَه يأخذُ وضْعَ الاستعداد لالتقاط الكرة، تراجعَ قليلاً، جهَّزَ نفسَه، وحين تقدَّم نحو الكرة ليضربها، تعثَّرَ برباط الحذاء، فوقعَ ككومة نفايات فوقَ الأرض، خبط رأْسه بحاجز إسمنتي، ففارَ الدمُ وانبثقَ مندفعًا كغازٍ مضغوط أُخْلِيَ سبيلُه.
ذُعِرَ الطفلُ وبدأ يصرخُ صرخات استغاثة، تجمْهَر الناس ورفعوه عن الأرض، فلم يتبيَّنوا ملامَحه من غزارةِ الدمِ السائل، ضغطوا على الجُرْح، وأجروا له الإسعافات اللازمة، وحين نظر إلى المدينة من خلال دمائه أحسَّ بسقوط صخرة فوقَ قَدَمَيه، لكنَّه نهضَ وغادَرَ الجمعَ، دون أنْ يقولَ شيئًا، ودون أن ينظرَ إلى أحدٍ.
ما الذي يمكنُ أنْ يحصلَ ويخرج المعجزة من مكانها؟ كلُّ الأشياء تترتَّبُ بطريقة غريبة، تبدو للناس بأنها طبيعيَّة، لكنَّها غريبة فِعْلاً ومستهجَنَة، فحركة السيارات - التي تأخذُ من الشوارع طبيعتَها وتوازنها، لتجعلها تدورُ في مجموعة من السُّرعات المبعثرة المتناقضة - تُعْتَبرُ ضرورة، وهذا صحيحٌ مائة بالمائة، لكن الناسَ الذين يركبون السيارات يشعرون بالضِّيق والْمَلَلِ، وأكثر ما يزعجهم بالطرق الطويلة أحذيتُهم؛ لذلك يسرعون بحلِّ أربطتها وإخراج أقدامِهم للهواء والشمس، فتتهلَّل أساريرُهم، وتنفرج قَسمَاتُهم عن راحة متوثِّبة فيَّاضة، راحة تؤكِّد - بصورة ما خفيَّة - أنَّ علاقة المدينة مع الأحذية علاقة نفورٍ غير ظاهرة كامنة، تنتظر لحظة اكتشافٍ، لتخرج بدويّها وقوَّتها إلى النفوس والعقول لتتشبثَ بهما وتنغرزَ كجذر السنديان الموزَّع بين طبقات التراب وشقوق الصخر.
مشكلة الحذاء، تتجلَّى بوضوحٍ فيَّاض على وجوهِهم لحظة انتهاء الرحلة، في هذه اللحظة بالذات تتكدَّر نفوسُهم، وتستنفر ملامِح الضيق والضجر، فتراهم وهم ينحون نحو الحذاء - قسرًا وجبْرًا - بإرادة الضجر والضيق، وبملامح التكدُّر تراهم ووجوهُهم تحتقنُ بالدمِ المندفعِ ليتكوَّم فيها، ينحنون ليُدْخِلوا الحذاءَ بأقدامِهم ويربطونها، وحين يرفعون وجوهَهم يزفرون بقوة مُعبِّرين عن راحة جمَّة حين ارتفعوا بوجوهِهم من فوق الحذاء بعد ربطه.
لكنَّهم حتى اليوم لم يشعروا بأن الضيقَ الذي يجلبه الحذاءُ، هو السبب في غضبِهم المكبوت، والذي يتفجَّر كبركان بوجْهٍ زوجاتهم وأطفالهم من وقتٍ لآخر، فتراهم حين يخلون إلى أنفسهم يعضّون أصابعَ الندمِ على الانفجار العصبي الذي انفجرَ بوجْه زوجاتهم وأطفالهم، ويبدأ الغيظُ بالتراكُم كما تتراكم اللغات في العقول؛ قليلاً، قليلاً دون أن يشعروا، أو حتى يدركوا بمجهول الخاطر أو الإحساس أنَّ الهَرمَ السريع الذي يتكوَّن كغبار الصحاري ولونِها على وجوهِهم قادمٌ من غيظٍ مكبوت متراكمٍ؛ بسبب أحْذِيَتهم الضاغطة - بأسلوبٍ ما - على عقولِهم وأنفاسِهم.
لكني أنا أدركُ ذلك؛ فكلَّما انحنيتُ أوقفنِي حدثٌ ما؛ ليرفعني من مكاني، الفرقُ بيني وبينهم أنهم لا يدركون؛ لذلك ينجحون دومًا في ربط أحْذيتهم، ولكني أدركُ فأعجز عن ربْط حِذَائي، ويجمعنا أمرٌ واحدٌ أنَّ المشكلةَ التي تضمُّنا بإدراك، وبغير إدراك مشكلةُ الحِذاء.
كان قدْ وصلَ الشاطئ والناس هناك كلها حافية، مُحَرَّرة من الحذاء وضغطه، تبدو السعادة البرَّاقَة وهي ترفرف على وجوهِهم النابضة بالمتعة والحياة، أقدام مُتحرِّرة من الأحذية، نوعٌ من الحرية التي تحيطُ بالجسد المتلقِّي للشمس والفضاء، فاحتِ الرائحة العتيقة بملابسه بالنَّتَانة والعفن، نظرَ نحو الحذاءِ، ولما أدركَ طبيعة الجروح التي أحدثَها الكلبُ بجسدِه، وأنه لن يستطيعَ خلْعَ الحذاء، انطلقَ نحو المياه بملابسه وحذائه، وخاضَ في موجة قادمة، فتسرَّبَ الملحُ إلى الجروح، فدوَّت صرختُه بأفُق البحر ومَوْجِه.
أخرجَه الناسُ بعد أن شَرِبَ من البحر وملوحته ضِعْفَ ما شربته ملابسُه، جلسَ على الشاطئ والدموع تتزاحمُ في عينيه تزاحُمَ مَصبٍّ نهريٍّ يحجزه سدٌّ فولاذي، وجاءتْ فكرةٌ جديدة إلى ذِهْنِه، استبدتْ به وهو يراقب فرحة الناس المصطافين، وتساءل: هل الخروج من سجن الملابس يقود إلى الشعور بالانطلاق والفرحة؟ ولماذا لا يشعر الناس بمثْل هذا الفيْض والفرح وهم يسيرون أو يجلسون بملابسهم في الطرقات أو المتنزّهات؟ لكنَّه ببارقٍ سريعٍِ ارتدَّ نحو المتنزّهات فرأى الناسَ - بأقدامٍ عارية من الأحذية - مسرورين جَذلين، فأيقن أن الملابسَ لا تشكِّل - ولا بأيِّ صورة من الصور - عِبْئًا عليهم؛ وإنما المشكلة، كلّ المشكلة تكمُن في الحذاء من جديد.
كانت الملوحة المستبدَّة بحلقه استبداد القراد تدفعُه نحو عالمٍ مفتوحٍ على تذوُّق نكهة الأجْواء بطريقة تختلفُ تمامًا عمَّا عَهِدَ في حياته السابقة، فالملوحة الغائصة بالحلْق ورائحة الطحالب، والماء المتساقط والتشوه المطلّ من بعض الأجْساد المحروقة أو المجرحة، كل ذلك تداخَلَ ليحفز خيالَه نحو صورة التشكُّل المثير للتقزُّز، ودفعتْ أنفه نحو نوعٍ من زكام مُبَلَّل برائحة العفن المغسول بماء البحر.
حدَّق في الحذاء من جديد، وانخرطَ في سهوم مفاجئ، وأتتْه الفكرة كمطرقة فولاذيَّة تدقُّ على الرأْس، ما الفرق بين شكلِ الحذاء الذي أرْتديه، وبين التزاحم البشري المتكالب على الماء؛ كي يتخلصَ من أدران القذارة الموزَّعة على الأجساد من شتَّى الطرق والمسارب؟ بل ما هو الفارق بين عجزي وبين توجُّهات هذه الحشود نحو الموج القادم من مجهول؛ كي يلامسَ تشوهاتهم الجَسَديَّة والنفسيَّة، ليعود إلى المجهول المستحيل الاستعادة بنوعٍ جديدٍ من الروائح والعَرَق؟
اندفعتِ التشوُّهات النفسيَّة إلى مخيلتِه من جديد، وبدأتْ تتشكَّل بملامح محسوسة، تتكون أمامَه ككائنٍ حيٍّ يمكن لمسُه والتحقُّق من خُطوط الزمن المسحوبة عليه، وانهمرتِ الوجوه بوعيه بكلِّ ما فيها من توتُّرات متنقلة من حيرة إلى حيرة، ومن ضياع إلى ضياع، اشْرأبَّتْ نفسُه من مهْجعها المرتبط برباط الحذاء، وأخذتْ تتسللُ إلى تلك الخطوط كأفعى مَرِنَة أرْهَقَها الركودُ، وربَطَ كل التوتُّرات بمشكلة الحذاء العَصِي على الربطِ، فأيقنَ أنَّ هناك حدثًا ما مستترًا خلفَ غلالات شفَّافة يستطيعُ لو تمكَّن من الإمساك به أن يساوِي بين عجزِه عن ربطِ الحذاء، وبين كلِّ تلك الحركات النفسيَّة التي تدورُ على محْور الحيرة ونقْطة الضَّياع.
وبينما هو غارقٌ في سهومه المفاجئ، هدرَ الموج بقوَّة وخلعته صرخةٌ من سهومه، صرخة تَبعَتها صرخاتٌ، وجَّه نظرَه نحو الصرخة، فأُصيبَ بالانشداه، كانت سراويل البحر تتهاوَى من مكانها، تتساقطُ عن الأجْساد والناس تحتضن أجسادَها بأيديها في محاولة يائسة لسترِ العَورات التي برزتْ بكلِّ ما فيها من غَرَابة.
بعضُ الناس كانوا يحاولون بكلِّ قوَّتِهم منع السراويل من السقوط نحو الأسْفل، لكنَّهم لم يستطيعوا ذلك؛ فقوة السقوط الكامنة بالسراويل أعْظم من قوَّة السواعد التي تحاول إرجاعَها إلى مكانِها.
ضجَّ الشاطئ وانتشر الضجيجُ إلى تفاعلات الجو ومكوناته وإلى ذرَّاتِ الموج والملح، وتكوَّمتِ الطيور في الفضاء بأسْرابٍ متلاصقة تنعقُ وتزقْزِق، تصدح وتغنِّي، تنشد وتزعق؛ حتى بدا التداخُلُ في التكوين المفاجئ للمشهَد القافز من بؤرة العدمِ - لوحةً ممزَّقة متهتِّكة الأصْل، محطَّمة الإطَار.
نظرَ إلى حذائه فأحسَّ بشعورِ الواثق من قُدرته على ربْطِ الحذاء، بشرط أن يستطيعَ الجمْعَ بين تفاصيل المشْهد وعمليَّة الربطِ، ركَّز بقوَّة التأمُّل، ومدَّ يديه نحو الرباط، أمسكَ به، وظلَّ محدقًا بقوة بتفاصيل المشهدِ، حرَّك يدَه نحو الأخرى، وألْقى بالرباط فوقَ بعضه، شعرَ بفرحة غامرة، فلم يتبقَ بينه وبين مفتاح الحريَّة سوى دورة واحدة، ليتحوَّل إلى رجلٍ يملكُ القدرةَ على الربط، كما يملكُ القدرة على حَلِّ رباطِ الحذاء متى شاء وأنَى شاء.
تضخمت الفرحةُ، وبدأت تنمو بقوة غير محسوبة، فغابتْ رائحة الدمِ التي سكنتْ نفسَه إثْرَ هجوم الكلب عليه، وزالتْ رائحة الطاعون وظلالُه من مكان قضمة الجرذ، واندفعتْ صورة الطفل وهو يضرب الكرة نحو الحائط بحذاء مُحْكَم الربط، تبرعمتْ ملامح جديدة على خُطوط الألمِ الذي رافقه منذ أيام، أحسَّ بحركة خفيفة على وجْهه، تنمْنَمَ، اهتزَّ جلدُه، رفَعَ يدَه بغيْر وَعْيٍّ ليحكّ مكانَ النمْنَمَة، فتباعدَ المشهدُ من أمامه ومن مخيلته.
أعادَ يدَه بقوة نحو الرباط وهو يحاول استرجاع اللحظات السابقة، لكنَّه شعرَ بضربة تصيب أحشاءَه، تطلَّع نحو البحر، لكنه لم يستطعِ اسْترجاع الموجة التي شربَ منها قبلَ أن يخرجَه الناس الذين ظهروا أمامَه من جديدٍ وهم يرتدون سراويلهم، مغمورين باللذة والفرحة والحياة.
حاول وبعزيمة من فولاذ أن يستعيدَ حالة الفَوْضى التي تمكَّنتْ من الناس، من الأشياء والمكان، ليزجّ بذاته إلى شعور الثقة الهائل بقُدرته على التعامل مع رباطِ حذاء، لكنه لم يتمكَّنْ وأدركَ في لحظة خارجة من ثقته التي تلاشت أنَّ العزيمةَ تمكَّنتْ من فَتِّ إرادته.
غادرَ المكان لا يلوي على شيء، لكنَّ فكرة الحذاء والرباط ظلَّتْ تدور بخلايا دماغه وتسكن إدراكَه، لتنسلَّ من بين الاثنين إلى نفسِه انسلالَ الأفعَى في جُحْرها بعد ابتلاعها جرذ عظيم ثقيلة وممضة، تقعُ بيْن قدرتها على الافْتراس، وعجزها عن الانسلال السريعِ، فتحسّ بثِقَل جسدِها المتواري ببطء شديدٍ داخِلَ الجُحر.
كانتِ الكآبة القادمة من عقلِه تزحف إلى صدرِه وقلبه بنفس بطء الأفعى، لتزيد من توتُّره وغَلَيَانه.
وبينما هو سائرٌ مستغرقًا بالحزن، صدمَ نظراته مشهدٌ عجيبٌ، رأى رجلاً يمد قَدَمَه فوقَ صندوق صغير، ورجلاً آخرَ يعمل بنشاط وحيويَّة في مسْح الحذاء وتلميعه، يده تتحرك ببراعة فائقة وهي ممسكة بالفُرْشَاة، تروح وتجيء بانتظام وخِبْرة، ثم تنتقل إلى قطعة مخمل تلفها بحذقٍ، وتبدأ عملية احتكاك مُحْكَمَة لتلميع الحِذاء.
تفرَّس في وجْه صاحب الحذاء بقدرة مستخرجة من هَمِّه في معالجة رباط حذائه، لمسَ الراحةَ والهدوء يسيطران على كلِّ قَسَمَاته، وأحسّ بداخلِه وبعُمْق أن همومَ العالم كلَّها لا تَعني لهذا الرجل شيئًا؛ فهو يرفعُ قدمًا ليضعَ قدمًا، وأخيرًا دارَ ماسح الأحذية بيديه دورة خفيفة سريعةً، ورفعَ الرجل رجلَه عن الصنْدوق، فبدا الحذاءُ مربوطًا بطريقة رائعة ومُحْكَمَة.
راودَه الخاطرُ فورًا: سأمسحُ حذائي عند هذا الرجل، وحين ينتهي سيقوم بربطِه، وهنا تنتهي المشكلة وإلى الأبد؛ حيث يبقى الحذاء مربوطًا وإلى الأبد.
بدتْ ملامحُ الراحة والاطمئنان تتشكَّل على وجْهِه بانتظام، كفُسَيْفساء رائعة التوزيع والتنميق، لماذا لم يخطرْ لي هذا الخاطرُ منذ زمنٍ؟ فماسِحُو الأحذية على الأرْصِفة والمقاهي والشوارع يتقاطرون على الناس دون دعوتهم، وهم دون غيرهم يتسابقون للفوز بحذاء يحتاجُ إلى التلميع والربط، وهم مستعدون لتنفيذ الطلبِ دونما اعتراضٍ أو احتجاجٍ، وهم - وهذا الأهمُّ - يملكون براعة تُشَابه براعة الساحرِ في ربط الحذاء ربطات مختلفة الشكلِ والمنظر.
لو خطر لي ذلك، لما وقعت فريسة الرصيف، ولا حدثَ بيني وبين الجرذ ذاك القتال والتحفُّز، ولما امتلأتُ رعبًا من أنياب الكلب ولُعَابه السائل، ولما شربتُ من البحر ملوحتَه المستقرِّة بأعماقي.
تقدَّم نحو الصندوق بخُطًى ثابتة واثقة؛ فهو دون أدنى شكٍّ يملكُ المال للدفعِ، ويملك الرغبة العارمة في ربْطِ الحذاء، ولو دون تلميعه، والأهم أنه يملكُ الآن سببًا للفرح والنشوة.
تقدَّم ورفعَ قَدَمَه فوقَ الصندوق، رفَعَ الماسحُ رأْسَه نحوه، وأخَذَ الفرشاة بيدِه، لكنه عادَ ورَفَعَ رأْسَه نحوه من جديدٍ، لم تكنْ نظراتُه تبعثُ على الاطمئنان، حدَّقَ في الحذاء وفي وجْه الرجل مرات عِدَّة، ثم قذَفَ بالفُرشاة جانبًا وراحَ يدخِّن.
توسَّل الرجلُ إليه بتكلُّف مؤدبٍ وهو يشير بيده نحو النقود، لكنَّ الرجلَ المشدوه، ظلَّ مُعلقًا بين الحذاء وبين رنينِ النقود.
لم يجرُؤِ الرجلُ على العمل أبدًا؛ فالحذاء مهْتَرِئ متآكلٌ، والدم الموجود عليه - مع اختلاطات مجهولة متداخِلة - يشير إلى استحالة تلميعه، وبالتالي فإنَّ جُهْدَه ومواده ستضيعُ عبثًا حين يُعلنُ صاحبه أنَّ الحذاء لم يلمعْ.
حاولَ جاهدًا أن يقنعَ الرجل بضرورة مسْحِ الحذاء، لكنَّه رفضَ - وبطريقة فظَّة - أن يمسحَ حذاءً لا يمكنُ مسحُه أو تلميعُه.
غادرَ مكانَه ونفسُه تمور بالغضب والحيرة: لماذا يرفض الناس القيامَ بما نذرت من أجْله؟ ماسحُ الأحذية هذا وُلِدَ ليكونَ كذلك، وجْهه الملوح بعناءِ النظرِ إلى الأحذية، وأصابعه الملطَّخة بالألوان، وجلسته أمام الصنْدوق، وقَبوله بالأمْر، كل هذا يؤكِّد أنَّه وُلِدَ ليكونَ كذلك.
والغريب في الأمْر أنه يضعُ نفسَه أمامَ قضيَّة القَبول والرَّفْض؛ فهو يمسحُ حذاءَ فلانٍ، ويرفض مسْحَ حذائي، مع أنَّ المبلغَ المحصَّل من هنا ومن هناك متساوٍ تمامًا.
أليس المالُ هو العاملَ الوحيد لجلوسه للعمل؟ إذًا فلماذا رفضَ مسْحَ حذائي؟
عادَ مسرعًا إلى الرجل وسأله: لماذا ترفضُ مسْحَ حذائي، عِلمًا بأني سأدفعُ لكَ مثْل غيْري؟
أجابه الرجل بعد لحظات من التأمُّل: حذاؤك لا يصلح للمسْحِ، الأفضل أن تشتريَ حذاءً جديدًا.
وما يعنيه إنْ كانَ حذائي يصلحُ للمسْحِ أم لا؟ المفروض أن النقودَ هي الشيء الأهمّ؛ لذلك كانَ عليه أن يفكِّرَ من هذا الاتجاه، دون أن يضحِّي بزبون لا يحتاج أصْلاً إلى مسْح الحذاء، بل الوصول فقط إلى حذاءٍ مربوطٍ.
كانَ عَلَيّ أن أخبرَه بطلبِي بما أودُّ صادقًا منه، ولكن لو طلبتُ منه ذلك، هل كان سيقبلُ طلبِي؟ أو سيجد بذلك إهانةً تدفعه لإحداثِ نزيفٍ في أحد أعضائي؟
الثأْرُ للكرامة والعزة سيقوده إلى الانفجار المفاجئ دون تخطيطٍ، وستفور الدماءُ بيافوخه الراقد تحت وطأة الأحذية المكدَّسة بذاكِرَته التي لا تتسعُ لشيءٍ غيرها، وعندها سأُهاجَمُ من يافوخٍ تتحكمُ فيه أحذيةٌ متراكِمة منذ زمنٍ بعيد.
الأفضل أن أبتعدَ عنه، وأفكر بطريقة تجعلني أجدُ حَلاًّ منطقيًّا لمشكلة الحِذاء المستعْصِية.
ولكنَّ فِكْرة جديدة اندفعتْ في رأْسه: كيف يعيش هذا الرجل مع الأحذية طوال هذه الفترة من عُمْره؟ وبماذا يحسُّ حين يبدأ بتنظيف الحذاء وخَلْع الطين عنه؟ وما هي الأحاسيسُ التي تتملَّكه حين يحول الحذاء المتَّسِخ البشع إلى حذاءٍ لامعٍ؟ هل يشعرُ بالنشوة والفرحة التي تنتابُ الصانعَ حين يتمّ صنعتَه؟
وحين يعودُ للبيت ويغتسلُ من رائحة الأصْبَاغ ويستعد للأكْلِ، هل تغادر الرائحة أنفَه؟ وماذا لو أرادَ أن يصفَ شيئًا بالجمال والروْعَة؟ هل تنفكُّ عن خاطره روعةُ الحذاء الذي تحوَّل من كومة قَذَارة إلى حذاءٍ لامعٍ؟
هذا الرجلُ يَقْضِي ساعات عُمْره مع الأحْذية، يعيش حالاتها وتقلُّبَاتها واختلافها، لكنَّه في النهاية مربوطٌ بوجودها بالاتصال مع أشكالها، ولو سألْته عن طبيعة الأحذية ونوعيَّاتها، لاندفع كالموج يقصُّ ويحدِّثُ، وربَّما ذكر تفاصيل لا يمكن لغيره معرفتُها.
وأنا أصبحتُ على صلة بعالَمه، لي اتصالٌ بحذائي الذي نغَّصَ مسيرةَ حياتي، والفرق بيني وبينه أنه يستطيعُ وبلمحة بصرٍ أن يعقدَ الرباط بالطريقة التي يريدُ ليصلَ به إلى أيِّ شكلٍ يريدُ.
وأنا أغادرُ من مصيبة إلى مصيبة، ومن كارثة إلى كارثة، أستجمعُ كلَّ طاقاتي وأنْحنِي نحو الحذاء، أمْسكُ الرباطَ، أحاولُ وصلََه ببعضه، فأفشلُ.
ماذا لو عَرَفَ الناسُ سرِّي الذي قادني إلى ما أنا فيه؟ ماذا لو توسّطتُ أيَّةَ منصَّة في المدينة، وأخذتُ أصرخُ طالبًا العونَ في ربْطِ حذائي؟ ما الذي سيحصل؟ ماذا ستقول المدينة؟ وكيف سيفهمون مَدَى حاجتي للخَلاص؟
لا أحد سيصدق، وليس هناك مَن هو مستعدٌّ لقَبول الفكرة، بل ربَّما ينهالُ الناسُ كلُّهم عليَّ ضربًا رَكْلاً؛ لأنهم - وببساطة - سيعتقدون أني أوجِّه لهم إهانةً؛ فليس أعزّ على الناس مِن أن توصلَهم إلى مرحلة الانْحِنَاء نحو الحذاء.
غريبون هم، وأشدُّ ما بهم من غرابة أنَّهم ينحنون لأشياءَ كثيرة أقلّ قيمة من الحذاء، لكنَّهم يرفضون الاعترافَ بذلك، يرفضون حتى الاعتراف بأن حياتهم كلَّها موقوفة على رضا فردٍ واحدٍ أو غضبه.
هذا الرجل القابع هناك على زاوية الطريق المؤدِّي إلى المسجد، ناشرًا مَحْرَمَتَه الصغيرة على الأرض، بثيابه التي يأبَى أيُّ كلبٍ نَتنٍ أن يعَضَّ عليها، وتأبَى حتى الجراثيم أنْ تعيشَ في طيَّاتها، مُرددًا توسُّلات يَنَدَى لها جبينُ الغارق بالنذالة، لو طلبتُ منه الآن أن يَربِطَ حذائي مُقابل مبلغ يومِه لرفض، وربَّما يهاجمني بأظافره وأسنانه، بل ربَّما يوزِّع نتانتَه كلَّها عليّ.
سيشعرُ بالإهانة، بالذل، لا لشيء سوى أن الطلبَ اقترنَ بالحذاء، وحتى ماسِح الأحذية الذي لا يستطيع تنسُّمَ الهواء المفرَّغ من رائحة الأصباغ الذي قَضَى ويَقْضِي عمرَه كلَّه في ملامسة الأحذية وتدليلِها، كان من الممكن أن يصرعَني لو طلبتُ منه ذلك، لكنَّه لا يشعر بالإهانة ولا يصرعُ مَن يدفعُ بقدمِه نحو وجْهه؛ كي ينظفَه مما عَلقَ به من أوساخٍ تراكمت مِن الطرقات والشوارع.
شعر بهبوط ضغطِه، وضرباتٍ متلاحقة بالمعدة، وأخذتْ أحاسيسُ مثقلة بضباب مكثَّف تتصاعد في صدرِه، شعرَ بأنَّ ثقلاً متراكمًا بدأَ يمسكُ بتلابِيبِه، وظلَّ الحذاء يدور بين عَينيه وفي مخيلته كقضيَّة عَصِيَّة على الحلَّ، وكأمْرٍ يستطيعُ أن ينْسفَ كلَّ ما فيه من قوَّة.
حدَّق بأرْجلِ المارَّة من جديد، بعضهم يرتدي أحذية لامعة نظيفة، وبعضهم تُنافسُ قَذَارةُ أحذيتهم ما بحذائه من قذَارة، وبعضهم يلبس حذاءً بغير رباط، نعم بغير رباط، هذا هو الحلُّ إذًا، حذاءٌ بغير رباط.
كيف لم تخطرْ له هذه الفكرة من قبل؟ الأمور أسهل بكثير مما يتصورُ، بل وأكثر ليونة من التعقيد الذي تخلَّل حياتَه طوال الفترة السابقة.
ولكنَّه حين أطالَ التحديقَ بأرْجلِ المارَّة وأحذيتهم، وبعد تفحُّصٍ مستمرٍّ مُجْهدٍ، تبيَّن الفرقُ بين جمال الحذاء الخالي من ثقوب الرباط، وبين الحذاء المزيَّن بالرباط القابع كتَاجٍ مَلَكِي على الحذاء.
تكاثفَ الضبابُ بنفسِه من جديد، فالمشكلة الآن وقعتْ بهوَّة جديدة، هُوَّة عميقة، تداخلَ فيها مفهومُ الجمال بمفهوم المقدرة؛ فالرباط يشكِّل أزمة عُمْره ورُوحه، والتخلي عنه يعني التخلِّي عن فِكرة جمال نبزت مرة واحدة داخِل دماغِه.
وهو كشخص حسَّاس مُفرط الحساسية، رومانسي مُفرط الرومانسيَّة، لا يستطيع الوصول إلى موازنة تفصلُ الجمال عن القدرة، والقدرة عن الجمال، لا لشيءٍ ثابتٍ أو بارزٍ؛ بل لأن عواطفَه كلَّها تنسابُ مرة واحدة في اتجاه كتدفُّقِ نهرٍ يسير بقوة خفيَّة نحو مصبٍّ لا يعرفه ولا يتصلُ بإرادته، يتدفق هكذا دون تمييزٍ أو حِساب.
بدتِ المدينة بعَيْنه من جديد وهي تتأزَّم قليلاً قليلاً، تظهرُ على سطحِها رائحةُ الأحذية، وتلتفُّ حولَها أربطتُها كمشنوقٍ ينتظرُ التأرجُح في هاوية الموت.
فكَّر للحظة بالمدينة المحاطَة بالأحذية، شاهدَها وهي تتوسط أكوامًا من الأحذية كغريقٍ وسط الموج، يهبط كلَّما عَلَتِ الموجة، ينزلُ إلى قاعِ البحر، وحين تخرج الرُّوح يطفو على السطح، وتبادرتْ إلى ذِهْنِه فكرةٌ جديدة، ماذا لو ارتفعتْ أكوامُ الأحذية ثم انهمرتْ كالموجِ فوقَ الأسطح والناس؟ ماذا سيرى أهل المدن الأخرى؟ لا شيء، مدينة تطفو على أمواجٍ من الأحذية.
هل سيستغربون؟ طبعًا؛ فليس هناك مَن غرِقَ في الأحذية قبل ذلك، وجُلُّ ما سيفعلونه أنَّهم سيقومون بحلِّ أربطة الأحذية عن رقاب الغَرْقَى ورؤوسِهم، وأخيرًا سيلْقُون بالجُثث في مَقْبَرة جماعيَّة، قد تُسَمَّى مقبرة غَرْقَى الأحذية، وسيشعلون النار بتلك الأحذية، بل وربَّما يعادُ تصنيعها إلى أحذية جديدة تحتاج إلى أربطة وماسِحٍ.
حدَّق بالمارة، فكَّر للحظة أن يطلبَ من أحدِهم المساعدة في ربط حذائه، لكن الحياءَ منعَه من ذلك، انتصبَ ليسير نحو زاوية مهجورة؛ من أجلِ العمل على ربْط الحذاء بعيدًا عن عيون المارة، لكنَّه خافَ أن يدوسَ الرباط فيسقط أمام الناس، نظرَ إلى الرباط بحنق بالغٍ، انْحَنَى من جديدٍ لكنَّ الرباط ظلَّ بعيدًا عن متناوَل يدِه.
سارَ وهو يباعد بين قَدَميه، أصبح كطفلٍ يخاف خُطواته، أحسَّ بحرارة شديدة تتسرَّبُ إلى ذاته، بدأَ جِلْده يحسُّ بأزمة مبالغ فيها، أزمة الحرارة الداخلية وبرودة الهواء المنتشر في الأجواء، اختلَّ توازنُ الإحساس لَدَيه، وأيْقَنَ بأنَّ المارَّة كلهم - ودون أي استثناء - يراقبون الخَلل في خُطواته، حاولَ أن يقرِّبَ بين الخُطوات، لكنَّ الرباط مالَ بسرعة نحو القدمِ اليُمْنَى، مما اضطره للمباعدة بين قَدَمَيه من جديدٍ.
بدأَ العَرَقُ ينْفرُ من مسامه، عَرَقٌ لَزِجٌ ثقيل، وهاجَمَ معدته ألمٌ مفاجئ، ألمٌ يثيرُ في النفس الغضبَ والتوتُّرَ، فهو لا يستطيع الشعور بالراحة الطبيعيَّة، وكذلك لا يستطيع أنْ يشعرَ بالألمِ الذي يَرْميه في الفراش، هو ألمٌ غريب، زوفان وغثيان يثيران التقزُّزَ والإعياءَ، اشتدَّ نفورُ العَرَق، أصبحتْ نفسُه موزَّعة بين العَرَق الحارق وبيْنَ الهواء البارد، ورباط الحذاء الذي يسخرُ منه ومِن إمكاناته.
مثل هذا الألمِ لم يكنْ غريبًا عنه، ربَّما شعر به في ظروفٍ غير هذه الظروف، لكنها بأيِّ حالٍ من الأحوال كانتْ تكشف عن أنواعٍ من العذاب والتلوِّي التي لم يكنْ يعْهَدُها بذاته، فهناك أحيانًا أشياءُ تستبدُّ بالنفْس، تمسكها، تقلِّبُها على نيرانٍ من ألمٍ ووَجَعٍ، دون أن نعرفَ سببَها، أو بداية نشْأتها؛ فهي تأتي كبَرْقٍ مفاجئ بسرعة تُشَابه الخيالَ، لكنها تبقى ساكنة فينا إلى أمدٍ طويل، ولكن مع احتفاظها بسرعة قُدومِها وغموض استقرارها، حتى تتوزع النفسُ بين الألمِ المضروب على مُحيط الجسد والنفْس كحصارٍ لا يُمْكن اخْتراقُه، وبين الغموض والمجهول الذي يشوينا شيًّا بطيئًا، ونحن نحاولُ أن نعرفَ ماهيتَه وتكوينَه، أصلَه ومنْشَأَه، لكن دونَ جَدْوَى، فهناك تآمرٌ كاملٌ بين المعلوم والمجهول، بين الألمِ والعذاب والغموض والمجهول، هو العيشُ بحالة من حالات المستحيل، مستحيل القادم، وما بين اليَدَيْن.
وقفَ تحت عمود النور، رآه مضاءً رغم أنَّ اليومَ في أوله، استغرب الأمرَ، حاول أن يجدَ سببًا منطقيًّا لذلك لكنَّه فَشِلَ؛ فالنور القادم من المصباح غزا نفْسه وأعماقَه، نور أصْفر باهتٌ حزين كئيبٌ، شعر بالاختناق، شعر بغضبٍ عارمٍ، واجتاحته فَوْضى مُشَتته، أرادَ أن ينفجرَ، أن يوزعَ أجزاءَه وشظاياه على الكون، حاولَ أن يخنقَ نفْسه بكمِّ الألمِ والكآبة والغثيان المستبد بذاته، لكنه فَشِلَ، فزادَ ذلك إحساسَه بالإحْباط والهزيمة، اندفعَ بكل قوَّته أمامَ سيارة كبيرة محاولاً الانْتحَار، لكن رباطَ حذائه أوْقعه على الرصيف، انتصب بتثاقُل، أصبحَ العَرَقُ يسحُّ من كل جسدِه، أحس بأنه بدأ ينتفخُ كبالون كبيرٍ، تحسَّس جسدَه، فأيقنَ أنه قاربَ على الانْفجار، فتحَ فمَه وهو يسحب من الجو كميَّات كبيرة من هواء، أرادَ أنْ يضغطَ جسدَه إلى حدِّ الانفجار، ولكنَّه أحسَّ بحركة في مؤخِّرته، أصاغ السمع جيدًا، كان الضراطُ قد فتحَ نافذة جديدة لتفريغ الهواء المضغوط، تحسَّس جسدَه من جديد فعرفَ أن التنفيسَ قد بدَّد آماله بالانْفجارِ.
تقدَّم قليلاً نحو الشارع، لاحظَ وبطرفة عينٍ سيارةً سريعة تطوي الأرضَ بِنهمٍ وجُنون، قذفَ نفسَه نحو الرصيف؛ خوفًا من الموت تحتَ عجلاتها.
انتفضَ واقفًا والرعب يحتشد في ملامحه، جمْعٌ من الناس تجمْهَرَ ليرى أثرَ الصدمة التي تلقَّاها في رأْسه حين اصطدمَ بحافَّة الرصيف، كان الدمُ يسيلُ من رأْسِه على خَدَّيه ورقبته، دمٌ طازجٌ مُوَرّد لا سوادَ فيه، تتصاعد منه سخونة خاصَّة يبدو أنها قادمة من المسامات المخفيَّة تحتَ الجلد.
الناسُ تهتفُ وتتهامس، بعضُهم أخرجَ مِنْديله من جَيبه، والبعضُ الآخرُ كانَ يأتي بالمياه من المحلات المجاورة، وبعضهم كان يبحثُ عن مُطَهِّرٍ وضمادة، فالجُرْحُ عميق غائرٌ، والدماءُ تتدفَّق بسرعة، والضغطُ الشديد على الجرح يزيد من قوة اندفاع الدمِ فورَ رفْعِ اليد عن الجُرْح، وهو لا يزال يقف واجمًا ينظر نحو الأسْفل دون أن يبدي أيَّ اهتمامٍ للدم النازفِ أو الجمع المحتَشِد لمساعدته.
سأله أحدُهم وهو يضغطُ على الجُرْح بقوة: هل تشعرُ بالألمِ؟ لكنَّه ظلَّ صامتًا مُحدقًا بالأسفل، كانت الهواجس تتلاعب في رأْسِه ونفسِه بقوة: لماذا هَرِبْتُ من عجلات السيارة؟ المشكلة الكبيرة أنني كنتُ قبلَ لحظات أطلبُ الموت، لكن رباط الحذاء حال دوني ودون تحقيق رغْبَتِي، الآن وحين هربتُ من السيارة المحمومة، دفعني رباط الحذاء نحو حافَّة الرصيف، دفعني بقوة وكأنَّه يريدُ تحطيمَ رأْسِي على حافَّته الصُّلْبة، الناس تتجمهَرُ تمسحُ دِمائي، لكنَّ أيًّا منهم لم يفكرْ ولو للحظة في مشكلة رباط حذائي، وحتى رباط الحذاء يبدو أنَّه يستطيع أن يقرِّرَ طريقة مَوْتَي وأَلَمِي، كلُّ الأشياء والأحْداث تسيرُ بطريقة مُعَقَّدة متباينة، وكلُّ الأمور تتَّجه بعْكس انفعالاتي وتقلُّبَات نفْسي.
الدم والجُرْح الغائر بالرأْس شكَّلا حدثًا جمعَ الناس حولي من كلِّ الجهات، الكلُّ يعملُ بسرعة واضطراب؛ الماء والمطهِّر، الأصوات والأيدي، المشاهد والمتفرِّج، والدم المتجلِّط، كلّ هذه الأمور شكَّلت حلقةً واسعةً من الناس والأفْراد الذين أعرفُهم ولا أعرفهم من أجْلِ إبْقائي على قَيْد الحياة، هل يتفقُ هذا مع إرادتي؟ هل يتفق هذا مع إرادة رباط الحِذاء؟ وبسرعة أنزلَ نظرَه مرة أخرى نحو حذائِه، كان الرباط وقد تناثرتْ عليه بعضٌ من الدماء التي زادتْ من كآبة النفسِ وعُمْق الحزْنِ.
سارَ ورأْسُه ملفوف بشاش أبيض، مباعدًا بين قَدَمَيْه، لا يعرفُ ماذا عليه أن يفعلَ، وفي زاوية خالية من الناس جلسَ على نُتُوء إسمنتي، رفعَ قَدَمه فوقَ فخذِه، وأحنى ظهرَه قليلاً، تفقَّد الشارع المقابل، تفقَّد الأزِقَّة التي تُفْضي إلى مكان جلوسه، تفحَّصَ النوافذَ المطِلَّة على مكانه، ودقَّق في الأبواب كلِّها بابًا خلفَ الآخر، ولَمَّا اطمأنَّ أن الظروفَ كلَّها تقف في خِدْمته، أنزلَ عينيه نحو الحذاء، وزاد من انحنائه، أمسك الرباطَ بيديه، بدأَ بمحاولة الربط، لكنَّه رفعَ يديه مرة واحدة وهو يقفزُ من مكانه بعد أن دَوَّى صوتٌ مَعدني خلفَه، نظرَ فوجدَ جُرْذًا ضخْمًا يقفزُ فوقَ لوحٍ مَعدني دون أن يستطيعَ تجاوزَه بسببِ تقعُّرِه.
حدَّقَ في الجرذ المذعور الحانق من وضْعه الذي لا يستطيع تجاوزَه، كان يقفزُ بغضبٍ عارمٍ ورُعْبٍ هائلٍ، وكانَ هو يرقبُ كلَّ ذلك بنفْسِ الغضب ونفْسِ الرعب، ومرة واحدة سكنتْ حركةُ الجرذ، وبدأ كلٌّ منهما يحدِّقُ في الآخر.
الجرذ المأْسور في تقعُّر اللوحِ المعدني يهيِّئ نفسَه لخوض معركة طاحنة، فانكماشُه نحو قوائمه الخلفيَّة، واندفاع جسدِه نحو الأمام بارتفاع مَلْحوظ، وحركة شَارِبَيْه المذعورة، وفَمُه الذي يكشفُ عن قواطع حادَّة، كلّ هذا يشير إلى استعداد متحفِّزٍ من أجْل معركة مَصيريَّة.
والرجل المنْتَصِب بصدرٍ يخفق بشدة ونظراتٍ مذهولة، وفمٍ مفغور، لا يزال تحت صدمةِ الرُّعْب والمفاجَأة، ينظرُ نحو الجرذ بعَيْنَيْن ذابلتين، حاولَ - وبكلِّ جُهْدِه - أن يجمعَ أجزاءَ المشهْد، أن يتذكرَ كيفَ حصلَ كلُّ هذا دُفْعةً واحدة، لكنَّه لم يستطعْ، حرَّك قَدَمَه قليلاً نحو الوراء، فتحرَّك الجرذُ بسرعة، وزادَ من وَضْع استعداده، حاولَ الرجلُ أن يستديرَ بسرعة، لكنَّه تعثَّرَ برباط حذائه فانكفأ على اللوح المعدني مُحْدِثًا ضجيجًا هائلاً، قفزَ الجرذُ نحوه وغَرَسَ قواطعَه في ساعِده، ثم وَلَّى هاربًا بعد أن اتَّخَذَ من جسدِه جسْرًا لعبور التقعُّر.
ضجيجُ السقطة، ودويُّ الصرخة التي خرجتْ فورَ انْغِراس قواطع الجرذ في ساعده - دفَعَا الناس إلى فتْحِ النوافذ والأبواب، بدا المشْهد للجميع غاية في الغرابة، رجلٌ ملفوفٌ رأْسُه بشاشٍ أبيض، مع تناثُر دماء على صدرِه وظهْرِه وكَتِفَيه، وحفرة عميقة في الساعد تنثرُ الدماءَ على جانب الجسد، ورجل مصعوق حائر، تستبدُّ به دهشة مركّزة، تقدَّم الناس حولَه وبدؤوا بمعالجة ساعدِه المنهوش وهم يردِّدون كلمات الشفقة والعطف، النساء يتكوَّمْنَ حول بعضِهنَّ على النوافذ المفتوحة وهو يُسدِّد نظراته نحو الأسفل، ومرة واحدة عادَ ليتفحص الطرقات والأبواب والنوافذَ، فوجدَها جميعًا تغصُّ بالناس، وتناهى إلى مسامعِه صوتُ النساء وهنَّ يضحكْنَ ويُقَهْقِهْنَ.
غزاه شعورٌ بالمذلة والعار، وغاصَ في دوَّامة قاتلة من التوزُّع بين شعوره الجديد وبين رباط حذائه المتهدِّل، يجب أن تذهبَ للطبيب، قال بعضُ الناس، أما البعض الآخر، فقد كان يصرخُ بالنساء أن يَقْذِفْنَ رأْسًا من الثوم، ورأْسًا من البصلِ، وفي لحظات كان الثومُ المهروس الممزوج بالبصل يستقرُّ في الحفرة المنهوشة، ويُغَطَّى بضمادة من خِرْقَة بَالِيَة.
تفرَّق الناس وهم يوصونه برفْعِ الضمادة بعد ساعات، لكنَّه ظلَّ عالقًا بالدهشة، وظلَّ السؤال يتردَّد صداه في عُمْق النفْسِ، لماذا لم ينتبه أحدٌ إلى رباط حذائي؟
غادرَ وهو يباعد بين ساقيه، كمن يعاني حالة سماط حارق، بدأ شكلُه يتحوَّل إلى طَللٍ يغزوه التقادُمُ بسرعة زمنيَّة غير مَسْبُوقة، الشاش الذي يلفُّ الرأسَ وأثَر الدماء على الجسد والعُنُق والساعِدَيْن، الدم المتجلِّط خَلفَ الأُذُنَين وعلى نهاية الشفاه، الخِرْقة البالية التي تلف الساعِدَ، رائحة الثوم والبصل المتمكِّنة منه ومن ذاته، الملابس المحمَّلة بالأتْرِبَة والصدأ، وبقايا المياه المتحالفة مع بقَعِ الدماء هنا وهناك، ورباط الحذاء المتهدِّل الملوَّى، والقذَى المتراكم بالعينين، كل هذا كان يحوِّله من شخصٍ إلى بقايا شخص، من ذات إلى أجزاء مركَّبة على بعضها.
داهمَه إحساسٌ مفرطٌ بضرورة الموت، أو معالجة أمرِ الرباط المتهدِّل، بين الموت وبين إصلاح وضْع الرباط مسافة قصيرة لا تُرى بالعَين، ولا تُحسب بلغة الأرْقَام، فإمَّا أن يموتَ الآن ومن غير تأجيل، ودون أن يسمحَ للظروف بالتدخُّل للحيلولة بينَه وبين الموتِ، وإمَّا أن يربطَ حذاءَه الآن من غير تأْجيلٍ ودون أن يسمحَ للظروف أن تحولَ بينه وبين إصلاح رباط الحذاء.
قَرَّبَ قَدَمَيْه وانطلقَ مُسْرِعًا نحو منزلٍ مهجورٍ في آخر المدينة، تسلَّق السور بخِفَّة قِطٍّ مَذْعور، ودَخلَ الحديقة، الْوَحْشَة تلفُّ المكان، الأشْجار تقفُ مكانَها بثباتٍ، والعصافير تزقزق زقزقةَ الآمن المطمئن، والأوراق المتساقطة منذ زمنٍ تتطاير هنا وهناك، أوراق جافَّة صفراء، والحشائش الغزيرة تُغَطِّي الأرضَ بقوة فيَّاضة، والهدوء المطْبِق يغلِّفُ كلَّ الأشياء، تأمَّل المنزلَ، كانت الطحالب قد اغتنمتْ فرصةَ الوحشة، فكدَّستْ نفسَها على الحِيطان، طحالب داكنة الخُضرة، سميكة الطبقات، والنوافذ مُشَقَّقة كما الجدران، يتجوَّل النملُ في الشقوق بحرية واستباحة لكلِّ حُرمات البيت والجُدران، والعناكب نشرتْ نسيجها في كلِّ مكانٍ، أعلنتْ وبصَلَفٍ حقَّها بممارسة غاياتها كما تحبُّ وتشتهي.
دخلتِ الوحشة أعماقَه، وللحظة بسيطة أحسَّ بخوف مفاجئ، تحسَّس جسدَه المرْتَعِد، وأجالَ نظرَه في المكان من جديد، سمعَ صوتًا يشبه نغمات الشخير الممجوج، استجمعَ طاقة سمعِه، كان الصوت يقتربُ قليلاً قليلاً منه، تفحَّص الحديقة من كلِّ جِهاتها، تفحَّص الوحشة، بيت مهجور تمامًا، عوامل الهجر واضحة جَليَّة، بدأَ الصوتُ يعلو، تحوَّل من شخير إلى نغمة مَعْهُودة في شيء ما، لكنَّه لم يستطعْ أن يحدِّدَ ماهية الشيء، أحسَّ بوخزات في ربلتَيْه، رفعَ بِنْطَاله، كان النملُ قد تسلَّلَ تحته، انْحنى وهو يضربُ بيديه النملَ، ثم ابْتعدَ قليلاً، وعلى مصطبة عالية جَلَسَ ليأخذَ نفَسًا.
رفعَ قَدَمَه فوقَ فخذه، أمْسك رباطَ الحذاء ولفَّه بين أناملِه، انتفضَ واقفًا كمن مَسَّته صاعقةٌ حارقة، ألْصقَ ظهرَه إلى جدار المنزل وهو يرتجف ذُعرًا وهَلعًا، كان الكلبُ يقف وهو يَهْمِرُ بعصبيَّة بالغة، كلبٌ أسود فاحم، ضخمٌ، مُهَجَّنٌ مِن ضبع أو شيطان، بِنْيَتُه قوية فَتِيَّة، ولعابُه يسيلُ بغَزَارة مقززة، يقفُ مستعدًّا للانقضاض، لكنَّه ما زالَ يتفحَّص الفريسة، والفريسة تدفعُ نفسَها نحو الجدار، تحاولُ شقَّه والدخول فيه، تَكَوَّمَ على بعضِه، تمنَّى في داخله حدوث معجزة خارقة، كأنْ يموتُ الكلبُ في التوِّ بسكْتةٍ قلبيَّة حادَّة، أو تنشق الأرضُ عن أهْل البيت فتضيع الوحْشَة، وتختفي كلُّ علامات هجرة البيت، أو أنْ تأتيَ صاعقةٌ مفاجئة تلفُّ الكلبَ في دوَّامتها السريعة، وربَّما ينقلبُ إلى بطلٍ فيمزِّق جسدَ الكلبِ كما يمزِّق ورقةَ دُخَان.
خرجَ الغضبُ المضغوط إلى عَيْنَي الكلبِ، وتجمَّع في صوتِه الذي بدأَ يعلو شيئًا فشيئًا، وأصبحَ قلبُ الرجل مَرْفًأ للرعب والهَلَعِ، أحسَّ بسقوط أحشائِه نحو قَدَمَيْه، وانخرطَ في بكاء حارٍّ، قفزَ الكلبُ بشراهة ونهمٍ، وأطبقَ بأسنانه على فخذِه، تلوَّى الرجلُ كأفْعَى مقطوعة الرأْس وهو يضرب بيدَيْه وقَدَمَيْه، ولغَ الكلبُ في الفخذِ الأخرى، ثم ولغَ ببطنه، صراخه تَعَالَى؛ مما دَفَعَ الناس للقفزِ من فوق السور إلى الحديقة، تنبَّه الكلبُ للناس وهي تتساقط من فوق السور وتركضُ نحوه، فولَّى هاربًا وفمُه مُغَطّى بالدماء وبقايا من لحْمٍ.
حملوه، كسروا قفلَ الباب، أوقفوا سيارة وطاروا به إلى المشْفَى، تلقَّفه سريرُ الطوارئ، وانزلقوا مسرعين إلى غُرْفة الأطبَّاء، بدا وكأنه قادمٌ من عصرٍ آخرَ كإنسانٍ بِدائي، مرغتْه الغابة بمجهولها، ووزعتْ منه قليلاً على حيواناتها، يستحقُّ الرثاءَ فِعْلاً، ويستحقُّ الشفقةَ، غسلوا جراحَه بالمطهِّر، واستوقفَهم الجرحُ المقضوم، لكنَّهم رغم استغرابهم لم يتوقَّعوا أبدًا أنه ناتجٌ عن قواطع جرذ.
خلعوا ملابسه، لم يكن بإمكانِهم تحمُّلُ رائحة العفن والنَّتانة، ألْبَسُوه منامة المشْفَى، وتركوه بعد أن "زرقوه" إبرة مُنَوِّم.
رأى أنه يسير في طريق فرعيٍّ لمدينة مهجورة لا يَقْطنها بشرٌ، لكنَّها تكتظُّ بمخلوقات غريبة مسطَّحة الجسد، مُثَلثة العيون، تسير على أطْراف مُسطَّحة، تبدو من شِدة تسطُّحِها أنَّها لا تلامس أرضَ المدينة وطُرقاتها، وحتى الطرقاتُ بدتْ واضحة وهي تدفعُ قشرتها نحو الأقْدام المسطَّحة، كانوا يأكلون أطراف المدينةِ، ويشربون أطرافَ مياهها؛ لذلك كانتْ تصغرُ كلَّ يومٍ وتتقلَّصُ، تتكوَّم على الفُتات المتبقِّي في محاولة لِلَمْلَمَتِه وإلْصَاقه بالجسد المتآكِل، وحين شاهدوه بدؤوا يُتَمْتِمُون بطريقة تشبه ثغاءَ النِّعاج، وما هي سوى لحظات قليلة حتى اجتمعتِ المدينة بأَسْرِها؛ لترى هذا المخلوقَ الغريبَ، تحرَّكوا كأوراقٍ مقصوصة على شكلِ بشرٍ، اجتمعوا حولَه وهم يُحدِّقون بحذائه المتَّسِخ المتهدِّل، تقدَّم أحدُهم وانْحنى ممسكًا رباط الحذاء، وحين هَمَّ بربطِه هزَّ الجوَّ زعيقُ طائر، انقضَّ على المخلوق الممْسِك برباط الحذاء، ونقرَ عينيْه، تلوَّى المخلوق على قشرة الأرض، وسقطَ الرباطُ ليتهدَّلَ من جديد.
أفاقَ من أثرِ المخدِّر، تناولَ وجبة الإفْطَار، ما هي إلا لحظات حتى دخلَ الطبيبُ المعالِج يبتسمُ ابتسامة عَذْبَة فيها نوع من الرأْفة، سألَه عن حالِه وقال له بأنَّه يمكنُه المغادرة، ولكنَّه مضطرٌّ إلى خلْعِ منامةِ المشْفَى وارتداء ملابسِه القديمة، وابتسمَ وهو يخرجُ متمنِّيًا له الصحة والعافية.
لحظة هَمَّ بارتداء ملابسِه قفزَ الحُلمُ إلى مَخيلته من جديد بكل تفاصيله، فأحسَّ معدته تخفقُ بالأَسَى، وجالَ برأْسِه صداعٌ ممزّقٌ؛ فالمخلوق الغريبُ الذي حاولَ أن يعقدَ رباطَ حذائه، فَقَدَ بصره في سبيل ذلك، والمشْفَى هنا بأَسْره، اهتمَّ بجروحه بطريقة رائعة مُدْهِشَة، لكنَّه لم يهتمَّ ولو للحظة بمساعدته بربط الحذاء، بين الحُلم وبينَه الآن لباسٌ سيرتديه وحذاءٌ كُلَّما همَّ بربطِه، داهمه حدثٌ ما، حدثٌ غير مُتوقَّع، فماذا عليه أن يصنعَ؟
جاءَه صوتُ الممرِّضة واضحًا: نحن بحاجة للغُرْفة بأَسْرع وقتٍ، بدأَ ارتداء ملابسِه، أصبحت رائحة الدمِ والعَرَق والكلب والجرذ معتقة، تفوحُ وكأنَّها قادمة من مغارة قديمة في التاريخ، وضعَ قدمَه بالحذاء، وانْحَنَى ليربطه، لكنَّه أحسَّ بالعجز؛ بسبب نهشات الكلب في فَخذَيه، تطلَّع نحو الممرضة، فكَّر للحظة أن يطلبَ منها مساعدتَه بالأمر، لكنَّها فَهِمَتْ ذلك دون حاجته للكلام، وحين انحنتْ لتربط الحذاء أحسَّ - ولأول مرة منذُ وقتٍ طويل - براحة عارمة تجتاحُ نفسَه، وأحسَّ بشعور غريبٍ: هو أن مشكلات الكون كلّه بدأتْ في الضمور والتلاشِي.
لم يكنْ منظرُ الممرضة وهي تنحني نحو الحذاء سريعًا، ربما بالمفهوم العادي الذي نحياه نحن، هي لحظات صغيرة مسحوبة من الزمن، لكن بالنسبة إليه هو، فقدْ كان المشهد يخضعُ للتصوير البطيء جدًّا، وكأنَّ الحدثَ قضيَّة علميَّة تنتصبُ آلةُ تصويرٍ لمراقبة تحوُّلاتها وتبدُّلاتِها؛ كي يستطيعَ العلماءُ استعادتها بنفْسِ البُطءِ من أجلِ دراسة الخُطوات والتحوُّلات، مشْهَد عضلات وجهِه وهو ينزل مع نزول الممرِّضة نحو الحذاء بدا خُرافيًّا أُسْطوريًّا، بل هو خلف الخُرافة والأسطورة، هو شيءٌ لا يُوصَف، ولا يُمْكن استعادةُ بريقه الممتشق من غمد العجز والخوف والرعب، هو شعورٌ يتساوَى مع مَن وقفَ أمامَ الموت قبلَ لحظات من النهاية، وهو يعرفُ أنَّ عقربَ الثواني يسير ليستلَّ آخرَ أنفاسٍ له في الحياة، في مثل هذه اللحظات تتكوَّم الدنيا كجَنينٍ صغير لترقُدَ في مرفَأِ العين بكلِّ ما فيها من اتساع ومجهول، هو لم يكنْ بعيدًا عن هذا الشعور أبدًا؛ لأنَّ الرباط بالنسبة له - بصورة ما - يشكِّلُ عقربَ الثواني الذي يسحبُ الزمنَ من بين جَنْبَيه، فإنْ نَجَحَت الممرضة في عمليَّة الربط، يكون عقرب الثواني قد هُزِمَ وكُسِرَ، توقَّف عند نقطة لا يمكنه بعدَها الاسترسال أو التقدُّم.
كان غارقًا في الحُلم والواقع يشدُّ ذاتَه بقوَّة عارمة نحو الحُلم، نحو الأمل المعقود على نزول الممرضة، وكان الواقع يذكِّره بكلِّ خُطواته السابقة؛ بفشلِه المتتابع بالوصول إلى نقطة الذروة في التحكُّم والإنْجاز، نقطة العلو بالذات إلى مَصاف القُدرة والاقْتِدَار، نَسِي للحظاتٍ كلَّ آلامِه، حتى أوجاع نهشِ الكلب كلها تلاشتْ، والإبَر التي "زرقت" بجسدِه من كلِّ اتجاه، لم يعدْ لتأثيرها أيُّ وجودٍ، هنا تقفُ اللحظة الحاسمة نحو النهاية، نحو ربط الحذاء، نحو التحرُّر من كلِّ الألمِ ومن المحاولات القادمة التي تحملُ بطيَّاتها مجاهيلَ غريبة، كانت السعادة تقتربُ من ملامحه، والفرحة تستعدُّ لتلصقَ بجبهته، وفجأة انقلبتِ الأشياءُ.
ومرة واحدة انتزعت آماله كلها حين دخلَ الغُرْفة مجموعة من الممرضين وهم يدفعون سريرًا يتلوَّى فوقَه مريضٌ معذَّبٌ بألمٍ حارقٍ، نهضتِ الممرضة بسرعة؛ لتستقبل المريض الجديد تاركة أمرَ الرباط لصاحبه، وحين همَّ بالخروج كان آخِر ما شاهده يد الممرضة وهي تعالج رباط حذاء المريض بخبْرةٍ لتنزعَه من عقده.
أثناء خروجه من المشْفَى ظلَّتْ عيناه معلَّقَتَان على أحْذية المارَّة، يتفحَّصها بعينٍ يكاد الحزنُ يخترقُها، جميع الأحْذية مربوطة بشكلٍ جيدٍ سليمٍ بأناقة، هذا يدلُّ على أنَّ مشكلتهم مع الرباط مُنْتَهيَة، أو هي غير موجودة أصْلاً، استهجنَ الأمرَ واستغربَ طريقةَ تفكيره، وهلْ من الممكن أنْ تتحوَّل مشكلة الناس إلى مشكلة مع أرْبطة أحْذيتهم؟ تساءَل بينَه وبين نفسه، لكنَّه عادَ وفكَّرَ في أنَّ جميعَ مشكلات الناسِ تبدأُ من تحتهم؛ أي: من الأسْفل؛ لذلك قد يأتي يومٌ وتجدهم جميعًا يحاولون الانْحناء نحو أربطة أحذيتهم، فيعجزون بسبب عضَّة كلبٍ أو قضمة جرذٍ.
أصبحتْ هذه الفكرة تطارده وتلحُّ عليه، وأحسَّ بأنه بدأ يتحوَّل شيئًا فشيئًا نحو الإيمان المطْلَق بأن التغيرات القادمة كلَّها ستنصبُّ على أربطة الأحذية؛ لذلك أصبحَ هَمُّه الأوَّل أنَ يكتشفَ طريقةً لربْطِ حذائه قبلَ أن تستفحلَ المشكلة في المدينة كلِّها، بل وأحسَّ - بشعور غريبٍ - بأنَّ واجب المدينة أن تتركَ كلَّ أعمالِها وكلّ اهتماماتها؛ لتنصبَّ معه في إيجاد طريقة تمكِّنها من معالجة مشكلة الرباط قبلَ أن تذوبَ الأمورُ في أتُّون الأيام القادمة.
غذَّ الخُطَى كعادته نحو شارعٍ فرعيٍّ، وهْمُ المدينة والناس والأطفال والنساء يتعاظمُ في صدرِه، فيتفتق عن إصرار عظيمٍ وعزيمة جبَّارة، تخرُّ لها الجبالُ، وتصغر دونها الرواسي العظيمةُ؛ من أجل أن يربطَ حذاءَه قبلَ أن يأتي الطوفان فيجْرف المدينة.
دخلَ أحدَ الأزِقَّة المهجورة إلا من مارٍّ بالصدفة، شاهدَ طفلاً صغيرًا يضربُ كُرة بالحائط بحيويَّة ونشاطٍ، مُتهلِّل الأسارير، والكرة ترتدُّ فيتبعها بنشاطٍ حيويٍّ عارمٍ، تطلَّع إليه، كان يلبسُ حذاءً رياضيًّا، مربوطًا بشكلٍ جيدٍ، مستقرٍّ فوقَ القدمِ بهدوءٍ وسَكِينة، شعرَ بنوعٍ من الفرحة وبشيءٍ من الطمأنينة على المدينة، فالأطفال لا يزالون يملِكُون القدرة على رَبْط أحذيتهم ببراعة واحْتراف، لكن ماذا لو فقدَ الأطفال هذه القدرة يومًا ما؟ قد لا يفقدونها بإرادتهم، ولكنهم قد يفقدونها لحظة يفقدها الآباءُ، فتصبح العادة الجارية العجز عن قُدرة ربط الأحذيَّة عادة وراثيَّة، تنتقلُ عبرَ الأجيال جيلاً خلفَ جيلٍ.
الوراثة شيءٌ معقَّدٌ وغيرُ مفهومٍ، تتبدلُ بين الناس؛ بفِعْل الظروف وعوامل الزمن والتعوّد، أسوأ شعور عرفتْه الحياةُ؛ فهو يُفْقِدُ الأشياءَ حياتَها وحيويتها، يُذَوِّبُ معانيها ببوتقتِه الغاصَّة بالرتَابة، فتنتقل المشاعرُ من حالة إلى حالة، من مَوْقِعٍ إلى مَوقع، وتختلف المفاهيم والأفكارُ، تتبدل، تهوي إلى قاعٍ وترتفع إلى قِمَّة، حسب مقتضيات التعوُّد الذي يزوِّد الوراثة بنوعٍ جديد من الأحاسيس.
يجب أن يفكرَ بطريقة تجعلُ مشكلة الأرْبِطَة تنتهي وتدخل حالة التعوُّد، لتنتقل إلى حالة الوراثة، لتصبح أمرًا يخلِّصُ المدينةَ من شقاءٍ قادمٍ، شقاء عضَّات الكلاب وقضمات الجُرذان.
وفيما هو غارق في تفكيره، أحسَّ بشيءٍ يصطدمُ بين قَدَمَيه، حدَّقَ فوجَدَ الكرة قد استقرَّتْ هناك، نظر نحو الطفل، فوجدَه يأخذُ وضْعَ الاستعداد لالتقاط الكرة، تراجعَ قليلاً، جهَّزَ نفسَه، وحين تقدَّم نحو الكرة ليضربها، تعثَّرَ برباط الحذاء، فوقعَ ككومة نفايات فوقَ الأرض، خبط رأْسه بحاجز إسمنتي، ففارَ الدمُ وانبثقَ مندفعًا كغازٍ مضغوط أُخْلِيَ سبيلُه.
ذُعِرَ الطفلُ وبدأ يصرخُ صرخات استغاثة، تجمْهَر الناس ورفعوه عن الأرض، فلم يتبيَّنوا ملامَحه من غزارةِ الدمِ السائل، ضغطوا على الجُرْح، وأجروا له الإسعافات اللازمة، وحين نظر إلى المدينة من خلال دمائه أحسَّ بسقوط صخرة فوقَ قَدَمَيه، لكنَّه نهضَ وغادَرَ الجمعَ، دون أنْ يقولَ شيئًا، ودون أن ينظرَ إلى أحدٍ.
ما الذي يمكنُ أنْ يحصلَ ويخرج المعجزة من مكانها؟ كلُّ الأشياء تترتَّبُ بطريقة غريبة، تبدو للناس بأنها طبيعيَّة، لكنَّها غريبة فِعْلاً ومستهجَنَة، فحركة السيارات - التي تأخذُ من الشوارع طبيعتَها وتوازنها، لتجعلها تدورُ في مجموعة من السُّرعات المبعثرة المتناقضة - تُعْتَبرُ ضرورة، وهذا صحيحٌ مائة بالمائة، لكن الناسَ الذين يركبون السيارات يشعرون بالضِّيق والْمَلَلِ، وأكثر ما يزعجهم بالطرق الطويلة أحذيتُهم؛ لذلك يسرعون بحلِّ أربطتها وإخراج أقدامِهم للهواء والشمس، فتتهلَّل أساريرُهم، وتنفرج قَسمَاتُهم عن راحة متوثِّبة فيَّاضة، راحة تؤكِّد - بصورة ما خفيَّة - أنَّ علاقة المدينة مع الأحذية علاقة نفورٍ غير ظاهرة كامنة، تنتظر لحظة اكتشافٍ، لتخرج بدويّها وقوَّتها إلى النفوس والعقول لتتشبثَ بهما وتنغرزَ كجذر السنديان الموزَّع بين طبقات التراب وشقوق الصخر.
مشكلة الحذاء، تتجلَّى بوضوحٍ فيَّاض على وجوهِهم لحظة انتهاء الرحلة، في هذه اللحظة بالذات تتكدَّر نفوسُهم، وتستنفر ملامِح الضيق والضجر، فتراهم وهم ينحون نحو الحذاء - قسرًا وجبْرًا - بإرادة الضجر والضيق، وبملامح التكدُّر تراهم ووجوهُهم تحتقنُ بالدمِ المندفعِ ليتكوَّم فيها، ينحنون ليُدْخِلوا الحذاءَ بأقدامِهم ويربطونها، وحين يرفعون وجوهَهم يزفرون بقوة مُعبِّرين عن راحة جمَّة حين ارتفعوا بوجوهِهم من فوق الحذاء بعد ربطه.
لكنَّهم حتى اليوم لم يشعروا بأن الضيقَ الذي يجلبه الحذاءُ، هو السبب في غضبِهم المكبوت، والذي يتفجَّر كبركان بوجْهٍ زوجاتهم وأطفالهم من وقتٍ لآخر، فتراهم حين يخلون إلى أنفسهم يعضّون أصابعَ الندمِ على الانفجار العصبي الذي انفجرَ بوجْه زوجاتهم وأطفالهم، ويبدأ الغيظُ بالتراكُم كما تتراكم اللغات في العقول؛ قليلاً، قليلاً دون أن يشعروا، أو حتى يدركوا بمجهول الخاطر أو الإحساس أنَّ الهَرمَ السريع الذي يتكوَّن كغبار الصحاري ولونِها على وجوهِهم قادمٌ من غيظٍ مكبوت متراكمٍ؛ بسبب أحْذِيَتهم الضاغطة - بأسلوبٍ ما - على عقولِهم وأنفاسِهم.
لكني أنا أدركُ ذلك؛ فكلَّما انحنيتُ أوقفنِي حدثٌ ما؛ ليرفعني من مكاني، الفرقُ بيني وبينهم أنهم لا يدركون؛ لذلك ينجحون دومًا في ربط أحْذيتهم، ولكني أدركُ فأعجز عن ربْط حِذَائي، ويجمعنا أمرٌ واحدٌ أنَّ المشكلةَ التي تضمُّنا بإدراك، وبغير إدراك مشكلةُ الحِذاء.
كان قدْ وصلَ الشاطئ والناس هناك كلها حافية، مُحَرَّرة من الحذاء وضغطه، تبدو السعادة البرَّاقَة وهي ترفرف على وجوهِهم النابضة بالمتعة والحياة، أقدام مُتحرِّرة من الأحذية، نوعٌ من الحرية التي تحيطُ بالجسد المتلقِّي للشمس والفضاء، فاحتِ الرائحة العتيقة بملابسه بالنَّتَانة والعفن، نظرَ نحو الحذاءِ، ولما أدركَ طبيعة الجروح التي أحدثَها الكلبُ بجسدِه، وأنه لن يستطيعَ خلْعَ الحذاء، انطلقَ نحو المياه بملابسه وحذائه، وخاضَ في موجة قادمة، فتسرَّبَ الملحُ إلى الجروح، فدوَّت صرختُه بأفُق البحر ومَوْجِه.
أخرجَه الناسُ بعد أن شَرِبَ من البحر وملوحته ضِعْفَ ما شربته ملابسُه، جلسَ على الشاطئ والدموع تتزاحمُ في عينيه تزاحُمَ مَصبٍّ نهريٍّ يحجزه سدٌّ فولاذي، وجاءتْ فكرةٌ جديدة إلى ذِهْنِه، استبدتْ به وهو يراقب فرحة الناس المصطافين، وتساءل: هل الخروج من سجن الملابس يقود إلى الشعور بالانطلاق والفرحة؟ ولماذا لا يشعر الناس بمثْل هذا الفيْض والفرح وهم يسيرون أو يجلسون بملابسهم في الطرقات أو المتنزّهات؟ لكنَّه ببارقٍ سريعٍِ ارتدَّ نحو المتنزّهات فرأى الناسَ - بأقدامٍ عارية من الأحذية - مسرورين جَذلين، فأيقن أن الملابسَ لا تشكِّل - ولا بأيِّ صورة من الصور - عِبْئًا عليهم؛ وإنما المشكلة، كلّ المشكلة تكمُن في الحذاء من جديد.
كانت الملوحة المستبدَّة بحلقه استبداد القراد تدفعُه نحو عالمٍ مفتوحٍ على تذوُّق نكهة الأجْواء بطريقة تختلفُ تمامًا عمَّا عَهِدَ في حياته السابقة، فالملوحة الغائصة بالحلْق ورائحة الطحالب، والماء المتساقط والتشوه المطلّ من بعض الأجْساد المحروقة أو المجرحة، كل ذلك تداخَلَ ليحفز خيالَه نحو صورة التشكُّل المثير للتقزُّز، ودفعتْ أنفه نحو نوعٍ من زكام مُبَلَّل برائحة العفن المغسول بماء البحر.
حدَّق في الحذاء من جديد، وانخرطَ في سهوم مفاجئ، وأتتْه الفكرة كمطرقة فولاذيَّة تدقُّ على الرأْس، ما الفرق بين شكلِ الحذاء الذي أرْتديه، وبين التزاحم البشري المتكالب على الماء؛ كي يتخلصَ من أدران القذارة الموزَّعة على الأجساد من شتَّى الطرق والمسارب؟ بل ما هو الفارق بين عجزي وبين توجُّهات هذه الحشود نحو الموج القادم من مجهول؛ كي يلامسَ تشوهاتهم الجَسَديَّة والنفسيَّة، ليعود إلى المجهول المستحيل الاستعادة بنوعٍ جديدٍ من الروائح والعَرَق؟
اندفعتِ التشوُّهات النفسيَّة إلى مخيلتِه من جديد، وبدأتْ تتشكَّل بملامح محسوسة، تتكون أمامَه ككائنٍ حيٍّ يمكن لمسُه والتحقُّق من خُطوط الزمن المسحوبة عليه، وانهمرتِ الوجوه بوعيه بكلِّ ما فيها من توتُّرات متنقلة من حيرة إلى حيرة، ومن ضياع إلى ضياع، اشْرأبَّتْ نفسُه من مهْجعها المرتبط برباط الحذاء، وأخذتْ تتسللُ إلى تلك الخطوط كأفعى مَرِنَة أرْهَقَها الركودُ، وربَطَ كل التوتُّرات بمشكلة الحذاء العَصِي على الربطِ، فأيقنَ أنَّ هناك حدثًا ما مستترًا خلفَ غلالات شفَّافة يستطيعُ لو تمكَّن من الإمساك به أن يساوِي بين عجزِه عن ربطِ الحذاء، وبين كلِّ تلك الحركات النفسيَّة التي تدورُ على محْور الحيرة ونقْطة الضَّياع.
وبينما هو غارقٌ في سهومه المفاجئ، هدرَ الموج بقوَّة وخلعته صرخةٌ من سهومه، صرخة تَبعَتها صرخاتٌ، وجَّه نظرَه نحو الصرخة، فأُصيبَ بالانشداه، كانت سراويل البحر تتهاوَى من مكانها، تتساقطُ عن الأجْساد والناس تحتضن أجسادَها بأيديها في محاولة يائسة لسترِ العَورات التي برزتْ بكلِّ ما فيها من غَرَابة.
بعضُ الناس كانوا يحاولون بكلِّ قوَّتِهم منع السراويل من السقوط نحو الأسْفل، لكنَّهم لم يستطيعوا ذلك؛ فقوة السقوط الكامنة بالسراويل أعْظم من قوَّة السواعد التي تحاول إرجاعَها إلى مكانِها.
ضجَّ الشاطئ وانتشر الضجيجُ إلى تفاعلات الجو ومكوناته وإلى ذرَّاتِ الموج والملح، وتكوَّمتِ الطيور في الفضاء بأسْرابٍ متلاصقة تنعقُ وتزقْزِق، تصدح وتغنِّي، تنشد وتزعق؛ حتى بدا التداخُلُ في التكوين المفاجئ للمشهَد القافز من بؤرة العدمِ - لوحةً ممزَّقة متهتِّكة الأصْل، محطَّمة الإطَار.
نظرَ إلى حذائه فأحسَّ بشعورِ الواثق من قُدرته على ربْطِ الحذاء، بشرط أن يستطيعَ الجمْعَ بين تفاصيل المشْهد وعمليَّة الربطِ، ركَّز بقوَّة التأمُّل، ومدَّ يديه نحو الرباط، أمسكَ به، وظلَّ محدقًا بقوة بتفاصيل المشهدِ، حرَّك يدَه نحو الأخرى، وألْقى بالرباط فوقَ بعضه، شعرَ بفرحة غامرة، فلم يتبقَ بينه وبين مفتاح الحريَّة سوى دورة واحدة، ليتحوَّل إلى رجلٍ يملكُ القدرةَ على الربط، كما يملكُ القدرة على حَلِّ رباطِ الحذاء متى شاء وأنَى شاء.
تضخمت الفرحةُ، وبدأت تنمو بقوة غير محسوبة، فغابتْ رائحة الدمِ التي سكنتْ نفسَه إثْرَ هجوم الكلب عليه، وزالتْ رائحة الطاعون وظلالُه من مكان قضمة الجرذ، واندفعتْ صورة الطفل وهو يضرب الكرة نحو الحائط بحذاء مُحْكَم الربط، تبرعمتْ ملامح جديدة على خُطوط الألمِ الذي رافقه منذ أيام، أحسَّ بحركة خفيفة على وجْهه، تنمْنَمَ، اهتزَّ جلدُه، رفَعَ يدَه بغيْر وَعْيٍّ ليحكّ مكانَ النمْنَمَة، فتباعدَ المشهدُ من أمامه ومن مخيلته.
أعادَ يدَه بقوة نحو الرباط وهو يحاول استرجاع اللحظات السابقة، لكنَّه شعرَ بضربة تصيب أحشاءَه، تطلَّع نحو البحر، لكنه لم يستطعِ اسْترجاع الموجة التي شربَ منها قبلَ أن يخرجَه الناس الذين ظهروا أمامَه من جديدٍ وهم يرتدون سراويلهم، مغمورين باللذة والفرحة والحياة.
حاول وبعزيمة من فولاذ أن يستعيدَ حالة الفَوْضى التي تمكَّنتْ من الناس، من الأشياء والمكان، ليزجّ بذاته إلى شعور الثقة الهائل بقُدرته على التعامل مع رباطِ حذاء، لكنه لم يتمكَّنْ وأدركَ في لحظة خارجة من ثقته التي تلاشت أنَّ العزيمةَ تمكَّنتْ من فَتِّ إرادته.
غادرَ المكان لا يلوي على شيء، لكنَّ فكرة الحذاء والرباط ظلَّتْ تدور بخلايا دماغه وتسكن إدراكَه، لتنسلَّ من بين الاثنين إلى نفسِه انسلالَ الأفعَى في جُحْرها بعد ابتلاعها جرذ عظيم ثقيلة وممضة، تقعُ بيْن قدرتها على الافْتراس، وعجزها عن الانسلال السريعِ، فتحسّ بثِقَل جسدِها المتواري ببطء شديدٍ داخِلَ الجُحر.
كانتِ الكآبة القادمة من عقلِه تزحف إلى صدرِه وقلبه بنفس بطء الأفعى، لتزيد من توتُّره وغَلَيَانه.
وبينما هو سائرٌ مستغرقًا بالحزن، صدمَ نظراته مشهدٌ عجيبٌ، رأى رجلاً يمد قَدَمَه فوقَ صندوق صغير، ورجلاً آخرَ يعمل بنشاط وحيويَّة في مسْح الحذاء وتلميعه، يده تتحرك ببراعة فائقة وهي ممسكة بالفُرْشَاة، تروح وتجيء بانتظام وخِبْرة، ثم تنتقل إلى قطعة مخمل تلفها بحذقٍ، وتبدأ عملية احتكاك مُحْكَمَة لتلميع الحِذاء.
تفرَّس في وجْه صاحب الحذاء بقدرة مستخرجة من هَمِّه في معالجة رباط حذائه، لمسَ الراحةَ والهدوء يسيطران على كلِّ قَسَمَاته، وأحسّ بداخلِه وبعُمْق أن همومَ العالم كلَّها لا تَعني لهذا الرجل شيئًا؛ فهو يرفعُ قدمًا ليضعَ قدمًا، وأخيرًا دارَ ماسح الأحذية بيديه دورة خفيفة سريعةً، ورفعَ الرجل رجلَه عن الصنْدوق، فبدا الحذاءُ مربوطًا بطريقة رائعة ومُحْكَمَة.
راودَه الخاطرُ فورًا: سأمسحُ حذائي عند هذا الرجل، وحين ينتهي سيقوم بربطِه، وهنا تنتهي المشكلة وإلى الأبد؛ حيث يبقى الحذاء مربوطًا وإلى الأبد.
بدتْ ملامحُ الراحة والاطمئنان تتشكَّل على وجْهِه بانتظام، كفُسَيْفساء رائعة التوزيع والتنميق، لماذا لم يخطرْ لي هذا الخاطرُ منذ زمنٍ؟ فماسِحُو الأحذية على الأرْصِفة والمقاهي والشوارع يتقاطرون على الناس دون دعوتهم، وهم دون غيرهم يتسابقون للفوز بحذاء يحتاجُ إلى التلميع والربط، وهم مستعدون لتنفيذ الطلبِ دونما اعتراضٍ أو احتجاجٍ، وهم - وهذا الأهمُّ - يملكون براعة تُشَابه براعة الساحرِ في ربط الحذاء ربطات مختلفة الشكلِ والمنظر.
لو خطر لي ذلك، لما وقعت فريسة الرصيف، ولا حدثَ بيني وبين الجرذ ذاك القتال والتحفُّز، ولما امتلأتُ رعبًا من أنياب الكلب ولُعَابه السائل، ولما شربتُ من البحر ملوحتَه المستقرِّة بأعماقي.
تقدَّم نحو الصندوق بخُطًى ثابتة واثقة؛ فهو دون أدنى شكٍّ يملكُ المال للدفعِ، ويملك الرغبة العارمة في ربْطِ الحذاء، ولو دون تلميعه، والأهم أنه يملكُ الآن سببًا للفرح والنشوة.
تقدَّم ورفعَ قَدَمَه فوقَ الصندوق، رفَعَ الماسحُ رأْسَه نحوه، وأخَذَ الفرشاة بيدِه، لكنه عادَ ورَفَعَ رأْسَه نحوه من جديدٍ، لم تكنْ نظراتُه تبعثُ على الاطمئنان، حدَّقَ في الحذاء وفي وجْه الرجل مرات عِدَّة، ثم قذَفَ بالفُرشاة جانبًا وراحَ يدخِّن.
توسَّل الرجلُ إليه بتكلُّف مؤدبٍ وهو يشير بيده نحو النقود، لكنَّ الرجلَ المشدوه، ظلَّ مُعلقًا بين الحذاء وبين رنينِ النقود.
لم يجرُؤِ الرجلُ على العمل أبدًا؛ فالحذاء مهْتَرِئ متآكلٌ، والدم الموجود عليه - مع اختلاطات مجهولة متداخِلة - يشير إلى استحالة تلميعه، وبالتالي فإنَّ جُهْدَه ومواده ستضيعُ عبثًا حين يُعلنُ صاحبه أنَّ الحذاء لم يلمعْ.
حاولَ جاهدًا أن يقنعَ الرجل بضرورة مسْحِ الحذاء، لكنَّه رفضَ - وبطريقة فظَّة - أن يمسحَ حذاءً لا يمكنُ مسحُه أو تلميعُه.
غادرَ مكانَه ونفسُه تمور بالغضب والحيرة: لماذا يرفض الناس القيامَ بما نذرت من أجْله؟ ماسحُ الأحذية هذا وُلِدَ ليكونَ كذلك، وجْهه الملوح بعناءِ النظرِ إلى الأحذية، وأصابعه الملطَّخة بالألوان، وجلسته أمام الصنْدوق، وقَبوله بالأمْر، كل هذا يؤكِّد أنَّه وُلِدَ ليكونَ كذلك.
والغريب في الأمْر أنه يضعُ نفسَه أمامَ قضيَّة القَبول والرَّفْض؛ فهو يمسحُ حذاءَ فلانٍ، ويرفض مسْحَ حذائي، مع أنَّ المبلغَ المحصَّل من هنا ومن هناك متساوٍ تمامًا.
أليس المالُ هو العاملَ الوحيد لجلوسه للعمل؟ إذًا فلماذا رفضَ مسْحَ حذائي؟
عادَ مسرعًا إلى الرجل وسأله: لماذا ترفضُ مسْحَ حذائي، عِلمًا بأني سأدفعُ لكَ مثْل غيْري؟
أجابه الرجل بعد لحظات من التأمُّل: حذاؤك لا يصلح للمسْحِ، الأفضل أن تشتريَ حذاءً جديدًا.
وما يعنيه إنْ كانَ حذائي يصلحُ للمسْحِ أم لا؟ المفروض أن النقودَ هي الشيء الأهمّ؛ لذلك كانَ عليه أن يفكِّرَ من هذا الاتجاه، دون أن يضحِّي بزبون لا يحتاج أصْلاً إلى مسْح الحذاء، بل الوصول فقط إلى حذاءٍ مربوطٍ.
كانَ عَلَيّ أن أخبرَه بطلبِي بما أودُّ صادقًا منه، ولكن لو طلبتُ منه ذلك، هل كان سيقبلُ طلبِي؟ أو سيجد بذلك إهانةً تدفعه لإحداثِ نزيفٍ في أحد أعضائي؟
الثأْرُ للكرامة والعزة سيقوده إلى الانفجار المفاجئ دون تخطيطٍ، وستفور الدماءُ بيافوخه الراقد تحت وطأة الأحذية المكدَّسة بذاكِرَته التي لا تتسعُ لشيءٍ غيرها، وعندها سأُهاجَمُ من يافوخٍ تتحكمُ فيه أحذيةٌ متراكِمة منذ زمنٍ بعيد.
الأفضل أن أبتعدَ عنه، وأفكر بطريقة تجعلني أجدُ حَلاًّ منطقيًّا لمشكلة الحِذاء المستعْصِية.
ولكنَّ فِكْرة جديدة اندفعتْ في رأْسه: كيف يعيش هذا الرجل مع الأحذية طوال هذه الفترة من عُمْره؟ وبماذا يحسُّ حين يبدأ بتنظيف الحذاء وخَلْع الطين عنه؟ وما هي الأحاسيسُ التي تتملَّكه حين يحول الحذاء المتَّسِخ البشع إلى حذاءٍ لامعٍ؟ هل يشعرُ بالنشوة والفرحة التي تنتابُ الصانعَ حين يتمّ صنعتَه؟
وحين يعودُ للبيت ويغتسلُ من رائحة الأصْبَاغ ويستعد للأكْلِ، هل تغادر الرائحة أنفَه؟ وماذا لو أرادَ أن يصفَ شيئًا بالجمال والروْعَة؟ هل تنفكُّ عن خاطره روعةُ الحذاء الذي تحوَّل من كومة قَذَارة إلى حذاءٍ لامعٍ؟
هذا الرجلُ يَقْضِي ساعات عُمْره مع الأحْذية، يعيش حالاتها وتقلُّبَاتها واختلافها، لكنَّه في النهاية مربوطٌ بوجودها بالاتصال مع أشكالها، ولو سألْته عن طبيعة الأحذية ونوعيَّاتها، لاندفع كالموج يقصُّ ويحدِّثُ، وربَّما ذكر تفاصيل لا يمكن لغيره معرفتُها.
وأنا أصبحتُ على صلة بعالَمه، لي اتصالٌ بحذائي الذي نغَّصَ مسيرةَ حياتي، والفرق بيني وبينه أنه يستطيعُ وبلمحة بصرٍ أن يعقدَ الرباط بالطريقة التي يريدُ ليصلَ به إلى أيِّ شكلٍ يريدُ.
وأنا أغادرُ من مصيبة إلى مصيبة، ومن كارثة إلى كارثة، أستجمعُ كلَّ طاقاتي وأنْحنِي نحو الحذاء، أمْسكُ الرباطَ، أحاولُ وصلََه ببعضه، فأفشلُ.
ماذا لو عَرَفَ الناسُ سرِّي الذي قادني إلى ما أنا فيه؟ ماذا لو توسّطتُ أيَّةَ منصَّة في المدينة، وأخذتُ أصرخُ طالبًا العونَ في ربْطِ حذائي؟ ما الذي سيحصل؟ ماذا ستقول المدينة؟ وكيف سيفهمون مَدَى حاجتي للخَلاص؟
لا أحد سيصدق، وليس هناك مَن هو مستعدٌّ لقَبول الفكرة، بل ربَّما ينهالُ الناسُ كلُّهم عليَّ ضربًا رَكْلاً؛ لأنهم - وببساطة - سيعتقدون أني أوجِّه لهم إهانةً؛ فليس أعزّ على الناس مِن أن توصلَهم إلى مرحلة الانْحِنَاء نحو الحذاء.
غريبون هم، وأشدُّ ما بهم من غرابة أنَّهم ينحنون لأشياءَ كثيرة أقلّ قيمة من الحذاء، لكنَّهم يرفضون الاعترافَ بذلك، يرفضون حتى الاعتراف بأن حياتهم كلَّها موقوفة على رضا فردٍ واحدٍ أو غضبه.
هذا الرجل القابع هناك على زاوية الطريق المؤدِّي إلى المسجد، ناشرًا مَحْرَمَتَه الصغيرة على الأرض، بثيابه التي يأبَى أيُّ كلبٍ نَتنٍ أن يعَضَّ عليها، وتأبَى حتى الجراثيم أنْ تعيشَ في طيَّاتها، مُرددًا توسُّلات يَنَدَى لها جبينُ الغارق بالنذالة، لو طلبتُ منه الآن أن يَربِطَ حذائي مُقابل مبلغ يومِه لرفض، وربَّما يهاجمني بأظافره وأسنانه، بل ربَّما يوزِّع نتانتَه كلَّها عليّ.
سيشعرُ بالإهانة، بالذل، لا لشيء سوى أن الطلبَ اقترنَ بالحذاء، وحتى ماسِح الأحذية الذي لا يستطيع تنسُّمَ الهواء المفرَّغ من رائحة الأصباغ الذي قَضَى ويَقْضِي عمرَه كلَّه في ملامسة الأحذية وتدليلِها، كان من الممكن أن يصرعَني لو طلبتُ منه ذلك، لكنَّه لا يشعر بالإهانة ولا يصرعُ مَن يدفعُ بقدمِه نحو وجْهه؛ كي ينظفَه مما عَلقَ به من أوساخٍ تراكمت مِن الطرقات والشوارع.
شعر بهبوط ضغطِه، وضرباتٍ متلاحقة بالمعدة، وأخذتْ أحاسيسُ مثقلة بضباب مكثَّف تتصاعد في صدرِه، شعرَ بأنَّ ثقلاً متراكمًا بدأَ يمسكُ بتلابِيبِه، وظلَّ الحذاء يدور بين عَينيه وفي مخيلته كقضيَّة عَصِيَّة على الحلَّ، وكأمْرٍ يستطيعُ أن ينْسفَ كلَّ ما فيه من قوَّة.
حدَّق بأرْجلِ المارَّة من جديد، بعضهم يرتدي أحذية لامعة نظيفة، وبعضهم تُنافسُ قَذَارةُ أحذيتهم ما بحذائه من قذَارة، وبعضهم يلبس حذاءً بغير رباط، نعم بغير رباط، هذا هو الحلُّ إذًا، حذاءٌ بغير رباط.
كيف لم تخطرْ له هذه الفكرة من قبل؟ الأمور أسهل بكثير مما يتصورُ، بل وأكثر ليونة من التعقيد الذي تخلَّل حياتَه طوال الفترة السابقة.
ولكنَّه حين أطالَ التحديقَ بأرْجلِ المارَّة وأحذيتهم، وبعد تفحُّصٍ مستمرٍّ مُجْهدٍ، تبيَّن الفرقُ بين جمال الحذاء الخالي من ثقوب الرباط، وبين الحذاء المزيَّن بالرباط القابع كتَاجٍ مَلَكِي على الحذاء.
تكاثفَ الضبابُ بنفسِه من جديد، فالمشكلة الآن وقعتْ بهوَّة جديدة، هُوَّة عميقة، تداخلَ فيها مفهومُ الجمال بمفهوم المقدرة؛ فالرباط يشكِّل أزمة عُمْره ورُوحه، والتخلي عنه يعني التخلِّي عن فِكرة جمال نبزت مرة واحدة داخِل دماغِه.
وهو كشخص حسَّاس مُفرط الحساسية، رومانسي مُفرط الرومانسيَّة، لا يستطيع الوصول إلى موازنة تفصلُ الجمال عن القدرة، والقدرة عن الجمال، لا لشيءٍ ثابتٍ أو بارزٍ؛ بل لأن عواطفَه كلَّها تنسابُ مرة واحدة في اتجاه كتدفُّقِ نهرٍ يسير بقوة خفيَّة نحو مصبٍّ لا يعرفه ولا يتصلُ بإرادته، يتدفق هكذا دون تمييزٍ أو حِساب.
بدتِ المدينة بعَيْنه من جديد وهي تتأزَّم قليلاً قليلاً، تظهرُ على سطحِها رائحةُ الأحذية، وتلتفُّ حولَها أربطتُها كمشنوقٍ ينتظرُ التأرجُح في هاوية الموت.
فكَّر للحظة بالمدينة المحاطَة بالأحذية، شاهدَها وهي تتوسط أكوامًا من الأحذية كغريقٍ وسط الموج، يهبط كلَّما عَلَتِ الموجة، ينزلُ إلى قاعِ البحر، وحين تخرج الرُّوح يطفو على السطح، وتبادرتْ إلى ذِهْنِه فكرةٌ جديدة، ماذا لو ارتفعتْ أكوامُ الأحذية ثم انهمرتْ كالموجِ فوقَ الأسطح والناس؟ ماذا سيرى أهل المدن الأخرى؟ لا شيء، مدينة تطفو على أمواجٍ من الأحذية.
هل سيستغربون؟ طبعًا؛ فليس هناك مَن غرِقَ في الأحذية قبل ذلك، وجُلُّ ما سيفعلونه أنَّهم سيقومون بحلِّ أربطة الأحذية عن رقاب الغَرْقَى ورؤوسِهم، وأخيرًا سيلْقُون بالجُثث في مَقْبَرة جماعيَّة، قد تُسَمَّى مقبرة غَرْقَى الأحذية، وسيشعلون النار بتلك الأحذية، بل وربَّما يعادُ تصنيعها إلى أحذية جديدة تحتاج إلى أربطة وماسِحٍ.