مشاهدة النسخة كاملة : نبذة حول الأديب: عبدالله ابن المقفع


جنــــون
11-13-2011, 09:38 PM
اسمه : عبدالله بن المقفع وكان اسمه قبل إسلامه " روزبه بن داذويه "

مولده:
ولد على وجه التقريب عام ( 106هـ / 724 م ) في " جور / إحدى المحافظات الإيرانية ، وتعرف اليوم بـ " فيروز أباد " الواقعة في الجنوب من القرب من مدينة البصرة " من أبوين فارسيين.

يقول " ابن خالكان " : ( أن والده كان جابياً لخراج فارس من قبل الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق ( 75 – 95 هـ ) ولما مد يده فيما قيل إلى التلاعب بالأموال وصرفها في البذخ ، والترف .. استثار غضب الحجاج ، فأمر بضربه ضرباً مبرحاً حتى تقفعت " تشنجت " يده ، فسمي بذلك المقفع " ثم سمي بذلك ابنه الذي صار له لقباً واشتهر به .. )

تعليمه : عكف ابن المقفع على الثقافة والمعرفة في إقليم فارس وأخذ يتعلم الفارسية ويتعرف على أصولها .. ويدرس إلى جانب ذلك الحضارة الإيرانية القديمة, .. ألقى عصى التسيار في البصرة .. وكانت وقتئذ منتدى العلماء والأدباء ومنبت فحولها ومقر الرواة والمحدثين من الشعراء والكتاب . وكان في الخامسة عشر من عمره على وجه التقريب فتلقى فيها مبادئ الفصاحة .. وتعلم فيها فنون البلاغة ، ثم خالط الأعراب الذين يفدون إليها من البادية ، فأخذ اللغة والشعر عنهم ، وزاد محصوله من التراث الأدبي القديم ، كما كان يجالس الأدباء والشعراء في المربد فسلس لسانه ، ورقت ألفاظة ، وعذبت معانية ، وتدرب على أساليب الفصاحة العربية أيضاً عن طريق اتصاله بآل الأهتم ، وهم أهل فصاحة ولسن ، فقوم ذلك من لسانه .
فكانت تلك النشأة المزدوجة لها أعظم الأثر في تكوين ابن المقفع تكويناً نادراً إذ جمع بين الثقافتين العريقتين الفارسية والعربية وساعده على التمكن من الآداب العربية حدة ذهنه وعمق دراسته للآداب الفارسية ونيله منها محصولاً كبيراً لم يدركه أحد من معاصريه . وكان ابن المقفع مثلاً حياً في النبوغ والعبقرية تتراءى عليه مخايل الذكاء منذ نعومة أظفاره .

ما قاله النقاد :
حظي ابن المقفع باهتمام بالغ في الدراسات النقدية القديمة والحديثة وذلك للمكانة التي تبؤها في الأدب العربي .

-فيروي محمد بن سلام عن مشايخه قولهم : ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع أجمع .

- وقال الجاحظ عنه : لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد ..!

- وترجم ابن النديم له فكان مما قاله : عبدالله بن المقفع من أعلام المترجمين من اللغة البهلوية " إحدى لغات فارس " إلى اللغة العربية ويضعه في الصدارة بالنسبة لمترجمي العصر العباسي، وإن ابن المقفع هو الذي شرع طريقة تدوين التاريخ لأنه ترجم كتاب " سير ملوك فارس " فكان مثلاً للعرب في كتابة التاريخ .

- وأثنى عليه خليل مردم بقوله : ما رزقت العربية كاتباً حبب الحكمة إلى النفوس كابن المقفع .. فإنه يعمد إلى الحكمة العالية فلا يزال يروضها بعذوبة ألفاظه .. ويستزلها بسلامة تراكيبه .. حتى يبرزها إلى الناس ، سهلة المأخذ ، بادية الصفحة ..
فهو من هذه الناحية : أكتب الحكماء .. وأحكم الكتاب

- ويذكره زكي مبارك فيقول : وحقاً كان أمة في البلاغة ، ورصانة القول ، وشرف المعاني .. مع وضوح الغرض .. وسمو الأسلوب .. وهو أكبر كتاب عصره .. تأنقاً في صوغ الجمل ، وكن يقوم في النثر بما كان يقوم به زهير في الشعر .! وهو أحد الكتاب اللذين لم يلتزموا السجع ..

- ويقول محمد كرد : كأن ألفاظ ابن المقفع .. منخولة في منخل دقيق نفى الزؤان مما يحمل أما التركيب فهي موضع العجب .! في رصف بعضها إلى جانب بعض .. على غاية الإحكام ثم ليس هو في ألفاظه بالبخيل ولا المسرف يعطي منها بمقدار ، ثم يلبس معانية حلة قشيبة فيجمع بين الجزالة والوضوح ، والإيجاز .. ومعانية كلها ناصعة

- قال عنه عميد الأدب العربي طه حسين : إن ابن المقفع كان عظيم الحظ من الثقافة العربية والبهلوية واليونانية ) ويقول المستشرق الألماني " يوهان فك " : ( إن ابن المقفع سمق في عصره مجده غير مزعزع ، وعد من البلغاء اللامعين في العالم العربي ) ولغة ابن المقفع سوية شفافة مبسطة حسب أغراضها ، وبدلاً من الثروة الفياضة في المادة البدوية القديمة تكتفي لغة ابن المقفع إلى حد بعيد بالتعبيرا ت العامة وتؤثر تصوير الخصائص البارزة بعبارات مقاربة ..

- ويقول شوقي ضيف : والحق .. أن ابن المقفع بصناعة أساليبه ، رغم ما يبدو عليها أحياناً من انحرافات جرته إليها دقته المبالغة .. كان ينفر نفوراً شديداً من التقعير والتبحر فيه.

ويصفه محمد غفران الخراساني بقوله : لقد كان ابن المقفع .. غزير المعاني .. إذا كتب أمعن في اختيار المعنى .. ثم أمعن في اختيار اللفظ المناسب لتأدية هذا المعنى . وكان قلم ابن المقفع يقف ، فقيل له غي ذلك ، فقال : " إن الكلام .. يزدحم في صدري .. فأقف لأتخيره ..!

اتهامه بالزندقة انقسم الباحثون في أمره فمنهم من رماه بالزندقه ومنهم من نفاها عنه وهو أمر غامض تكتنفه شواهد وملابسات تاريخية ، يقول خليل مردم : " إذا قصدوا بالزندقة جحد أركان الإسلام ومخالفة أحكامه والطعن فيه والكيد له ، فابن المقفع لم يثبت عليه شيء من ذلك ..
وإن أرادوا بها التهاون في الفرائض وصحبة المتهمين في دينهم ، والتفكير الحر .. فيكون ابن المقفع زنديقاً .. "

ولعل مجالسته سمار الليالي ومخالطته لبعض الملاحدة كان متنفساً لما يحمله من ضيق في صدره ومن سخط إزاء حكم المنصور الجائر !!

مؤلفاته :
-الأدب الكبير
-الأدب الصغير
-أدب الكاتب
-كليلة ودمنة
-رسالة الصحابة

ترجمته من الفهلوية إلى العربية
- كتاب التاج في سيرة أنوشروان
- آئين نامه
- سير ملوك الفرس / من أهم الكتب التي ترجمها ولقد اندثر مع غيره من الآثار الفارسية
- تنسر نامه

المؤلفات والرسائل العلمية حول ابن المقفع :
-ابن المقفع الكاتب والمترجم والمصلح أحمد علبي
- ابن المقفع صريع الفكر الحر محمد حمود.
- تنوع الأداء البلاغي في أدب ابن المقفع رسالة ماجستير نوير الثبيتي.

وفاته : يختلف المؤرخون في قصة قتل ابن المقفع وإن كان كثيرو منهم يشير إلى أن المنصور أمر واليه على البصرة سفيان بن معاوية بقتل ابن المقفع بسبب كتاب كتبه ابن المقفع أغاظ المنصور.. وقد نفذ معاوية قتل ابن المقفع إذ كان يحمل في نفسه حقدا دفينا عليه .
وكان ذلك في سنة : ( 142هـ / 759م ).

جنــــون
11-13-2011, 09:39 PM
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل. فاضرب لي مثل الذي يدع صنعه الذي يليق به ويشاكله، ويطلب غيره فلا يدركه: فيبقى حيران مترددا. قال الفيلسوف: زعموا أنه كان بأرض الكرخ ناسك عابد مجتهد. فنزل به ضيف ذات يوم، فدعا الناسك لضيفه بتمر: ليطرفه به. فأكلا منه جميعا. ثم قال الضيف: ما أحلى هذا التمر وأطيبه! فليس هو في بلادي التي أسكنها، وليته كان فيها! ثم قال: أرى أن تساعدني على أن آخذ منه ما أغرسه في أرضنا: فإني لست عارفا بثمار أرضكم، هذه ولا بمواضعها. فقال له الناسك: ليس لك في ذلك راحة: فإن ذلك يثقل عليك. ولعل ذلك لا يوافق أرضكم، مع أن بلادكم كثيرة الأثمار فما حاجتها مع كثرة ثمارها إلى التمر مع وخامته وقلة موافقته للجسد؟ ثم قال له الناسك: إنه لا يعد حكيما من طلب ما لا يجد. وإنك سعيد الجد إذا قنعت بالذي تجد، وزهدت فيها لا تجد. وكان هذا الناسك يتكلم بالعبرانية. فاستحسن الضيف كلامه وأعجبه، فتكلف أن يتعلمه؛ وعالج في ذلك نفسه أياما. فقال الناسك لضيفه: ما أخلقك أن تقع مما تركت من كلامك، وتكلفت من كلام العبرانية، في مثل ما وقع فيه الغراب! قال الضيف: وكيف كان ذلك؟

قال الناسك: زعموا أن غرابا رأى حجلة تدرج وتمشي، فأعجبته مشيتها، وطمع أن يتعلمها. فراض على ذلك نفسه، فلم يقدر على إحكامها، وأيس منها، وأراد أن يعود إلى مشيته التي كان عليها: فإذا هو قد اختلط وتخلع في مشيته، وصار أقبح الطير مشيا. وإنما ضربت لك هذا المثل لما رأيت من أنك تركت لسانك الذي طبعت عليه، وأقبلت على لسان العبرانية، وهو لا يشاكلك، وأخاف ألا تدركه، وتنسى لسانك، وترجع إلى أهلك وأنت شرهم لسانا: فإنه قد قيل: إنه يعد جاهلا من تكلف من الأمور ما لا يشاكله، وليس من عمله ولم يؤدبه عليه آباؤه وأجداده من قبل.

جنــــون
11-13-2011, 09:39 PM
قال : البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة ، فمنها ما يكون في السكوت ، ومنها ما يكون في الاستماع ، ومنها ما يكون في الإشارة ، ومنها ما يكون في الحديث ، ومنها ما يكون في الاحتجاج ، ومنها ما يكون جواباً ، ومنها ما يكون ابتداء.

ومنها ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها .. والإشارة إلى المعنى .. والإيجاز هو البلاغة ، فأما الخطب بين السماطين .. وفي إصلاح ذات البين فالإكثار في غير خطل ، وإطالة في غير إملال .. وليكن في صدرك دليل على حاجتك .. كما أن خير أبيات الشعر .. البيت الذي إذا سمعت صدره .. عرفت قافيته .! )

ثم قيل له : فإن مل المستمع الإطالة .. التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف ..؟
قال ابن المقفع : ( إذا أعطيت كل مقام حقه .. وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام ‘ وأرضيت من يعرف حقوق الكلام .. فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو ، فإنه لا يرضيها شيء ، وأما الجاهل فلت منه وليس منك ..! ورضا جميع الناس شيء لا تناله ، وقد كان يقال : رضى الناس شيء لا ينال )

يقول في آداب خطبة النكاح ما نصه : ( والسنة في النكاح أن يطيل الخاطب ، ويقصر المجيب ، ألا ترى إلى قيس بن خارجة ابن سنان لما ضرب بصفيحة سيفه مؤخرة راحلتي الحاملين في شأن حمالة داحس والغبراء
قال : ما لي فيها أيها العشتمان ؟
قالا له : بل ما عندك ؟
قال : عندي قرى كل نازل .. ورضا كل ساخط ..!
وخطبة .. من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب .. آمر فيها بالتواصل ، وأنهى فيها عن التقاطع .. )
سئل ابن المقفع عن قول قول عمر بن الخطاب : ما يتصعدني كلام كما تصعدني خطبة النكاح .
قال : ما أعرفه إلا أن يكون أراد قرب الوجوه من الوجوه .. ونظر الحداق من قرب في أجواف الحداق .. ولأنه إذا كان جالساً معهم كانوا كأنهم نظراء وأكفاء ، وإذا علا المنبر صاروا سوقه ورعية قارب عدوك بعض المقاربة تنل حاجتك .. ولا تقاربه كل المقاربة فيجترئ عليك عدوك وتذل نفسك ويرغب عنك ناصرك .!
ومثل ذلك مثل العود .. المنصوب في الشمس .. إن أملته قليلاً .. زاد ظله .!
وإن جاوزت الحد في إمالته .. نقص الظل .!

جنــــون
11-13-2011, 09:40 PM
- لا عقل لمن أغفله عن آخرته ما يجد من لذة دنياه ..وليس من العقل أن يحرمه حظه من الدنيا بصره بزوالها

- من لا عقل له فلا دنيا له ولا آخرة

- وأمارة صحة العقل.. اختيار الأمور بالبصر وتنفيذ البصر بالعزم .. وللعقول سجيات .. وغرائز بها تقبل الأدب وبالأدب تتنمى العقول وتزكو.

- والعقل بإذن الله هو الذي يحرز الحظ ويؤنس الغربة وينفي الفاقة ويعرف النكرة ويثمر المكسبة ويطيب الثمرة ويوجه السوقة عند السلطان ويستنزل للسلطان نصيحة السوقة ويكسب الصديق وينفي العدو

- وليعلم أن على العاقل أموراً إذا ضيعها حكم عقله بمقارنة الجهال فعلى العاقل أن يعلم أن الناس مشتركون فمستوون في الحب لما يوافق والبغض لما يؤذي وأن هذه منزلة اتفق عليها الحمقى والأكياس ثم اختلفوا بعدها في ثلاث خصال هن جماع الثواب وجماع الخطأ وعندهن تفرقت العلماء والجهال والحزمة والعجزة .

- ليس من الدنيا سرور يعدل صحبة الإخوان ولا فيها غم يعدل فقدهم

- على العاقل مخاصمة نفسه ومحاسبتها والقضاء عليها والإثابة والتنكيل بها

-أشد الفاقة عدم العقل وأشد الوحدة وحدة اللجوج ولا مال أفضل من العقل ولا أنيس آنس من الاستشارة

- أفضل ما يورث الأباء الأبناء الثناء الحسن والأدب النافع والإخوان الصالحون

- العجب آفة العقل واللجاجة قعود الهوى والبخل لقاح الحرص والمراء فساد العقل والحمية سبب الجهل والأنفة توأم السفه والمنافسة أخت العداوة

- ليست للخلة التي هي الغنى مدح إلا وهي للفقير عيب .. فإن كان شجاعاً .. سمي أهوجاً وإن كان جواداً .. سمي مفسداً .. وإن كان حليماً .. سمي ضعيفاً وإن كان قوياً .. سمي بليداً وإن كان لسناً .. سمي مهذاراً وإن كان صموتاً .. سمي عيياً


-إن للسلطان المقسط حقاً لا يصلح لخاصة ولا عامة أمر إلا بإرادته .. فذو اللب حقيق على أن يخلص لهم النصيحة ، ويبذل لهم الطاعة ويكتم سرهم ويزين سيرتهم ويذب بلسانه ويده عنهم ....، ولا يعثر عليهم إذا رضوا عنه ، ولا يتغير عليهم إذا سخطوا عليه وأن يحمدهم على ما أصاب من خير منهم غيرهم ، فإنه لا يقدر أحد أن يصيبه بخير إلا بفاع الله عنه بهم .

- وقد يسعى إلى أبواب السلطان أجناس من الناس كثير أم الصالح فمدعو وأما الطالح فمقتحم وأما ذو الأدب فطالب وأما من لا أدب له فمختلس وأما القوي فمدافع وأما الضعيف فمدفوع وأما المحسن فمستثيب وأما المسيء فمستجير فهو مجمع البر والفاجر والعالم والجاهلب والشريف والوضيع

جنــــون
11-13-2011, 09:41 PM
- قطعة أدبية رائعة في وصف صديقه :
إني مخبرك عن صاحب .. كان أعظم الناس في عيني ، وكان رأس ما أعظمه عندي صغر الدنيا في عينه .. كان خارجاً من سلطان بطنه ..
فلا يشتهي ما لا يجد ولايكثر إذا وجد وكان خارجاً من سلطان فرجه .. فلا يدعو فلا يدعو لى ريبة ولا يستخف به رأياً ولا بدن!
وكان خارجاً من سلطان لسانه ..
لا يقول .. ما لم يعلم
ولا ينازع .. فيما يعلم !
وكان خارجاً من سلطان الجهالة ..
فلا يقدم أبداً .. إلا على ثقة بمنفعة
وكان أكثر دهره .. صامتاً ! فإذا نطق .. بذ القائلين .!
كان يرى .. متضعفاً مستضعفاً
فإذا جاء الجد .. فهو الليث عادياً !!
وكان .. لا يدخل في دعوى ولا يشترك في مراء ولا يدلي بحجة
حتى يرى .. قاضياً عادلاً وشهوداً عدولاً ...
وكان .. لا لوم أحد على ما قد يكون العذر في مثله .. حتى يعلم ما اعتذاره .!
وكان .. لا يشكو .. وجعاً إلا لمن يرجو عنده البرء ..
وكان .. لا يستشير صاحباً لا من يرجو عنده النصيحة .!
وكان .. لا يتبرم ولا يتسخط ولا يشتهي ولا يشتكي !
وكان .. لا ينتقم على الوليِ ولا يغفل عن العدو
ولا يخص نفسه عن إخوانه بشيء من .. اهتمامه وحيلته وقوته !


- أعدل السير أن تقيس الناس بنفسك فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك .
- إن وجدنا الناس قبلنا .. كانوا أعظم أجساماً وأعظم مع أجسامهم أحلاماً وأشد مع قوتهم للأمور امتحاناً .. وأطول أعماراً وأطول بأعمارهم للأشياء اختباراً ..

جنــــون
11-13-2011, 09:41 PM
قال خسرو أبزوز لكاتبه :
.. وإذا فكرت .. فلا تعجل
وإذا كتبت .. فلا تعذر
ولا تستعين بالفضول .. فإنها علاوة على الكفاية .!
ولا تقتصرن .. عن التحقيق .. فإنه هجنة المقالة .!
ولا تلبس كلاماً بكلام ..
ولا تباعدن .. معنى عن معنى ..
أكرم كتابتك عن ثلاث : خضوع يستخفه ، وانتشار يشينه ، ومعان تقعد به
واجمع الكثير مما تريد .. في قليل مما تقول !
وليكن بسطة كتابك على السوقه .. كبسطة ملك الملوك على الملوك !
ولا يكن ما تملك عظيماً .. ومال تقول صغيراً ..!
فإنما كلام الكاتب ..
[ مقدار الملك .. فاجعله عالياً كعلوه وفائقاً فوقه ]
وجماع الكلام كله خصال أربع : سؤالك .. الشيء ، وسؤالك .. عن الشيء ، وأمرك .. بالشيء ، وخبرك .. عن الشيء.
فهذه الخصال .. دعائم المقالات
إن التمس .. لها خامس لم يوجد
وإن نقص .. منها رابع لم تتم !
فإن أمرت .. فاحكم
وإذا .. سئلت .. فأوضح
وإذا طلبت .. فاسجع
وإذا أخبرت .. فحقق
فإنك إن فعلت ذلك .. أخذت بحذافير القول كله..!
فلم يشتبه عليك وارده ..!
ولم يعجزك .. صادره ..!
أثبت في دوواينك .. ما أدخلت
وأحص .. ما أخرجت !

جنــــون
11-13-2011, 09:41 PM
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت مثل المتحابين كيف قطع بينهما الكذب وإلى ماذا صار عاقبة أمره من بعد ذلك. فحدثني، إن رأيت؛ عن إخوان الصفاء كيف يبتدأ تواصلهم ويستمع بعضهم ببعض؟ قال الفيلسوف: إن العاقل لا يعدل بالإخوان شيئا فالإخوان هم الأعوان على الخير كله، والمؤاسون عند ما ينوب من المكروه. ومن أمثال ذلك مثل الحمامة المطوقة والجرذ والظبي والغراب. قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال بيدبا: زعموا أنه كان بأرض سكاوندجين، عند مدينة داهر، مكان كثير الصيد، ينتابه الصيادون؛ وكان في ذلك المكان شجرة كثيرة الأغصان ملتفة الورق فيها وكر غراب فبينما هو ذات يوم ساقط في وكره إذ بصر بصياد قبيح المنظر، سيئ الخلق، على عاتقه شبكة، وفي يده عصا مقبلا نحو الشجرة، فذعر منه الغراب؛ وقال: لقد ساق هذا الرجل إلى هذا المكان: إما حيني وإما حين غيري. فلأثبتن مكاني حتى أنظر ماذا يصنع. ثم إن الصياد نصب شبكته، ونثر عليها الحب، وكمن قريبا منها، فلم يلبث إلا قليلا، حتى مرت به حمامة يقال لها المطوقة، وكانت سيدة الحمام ومعها حمام كثير؛ فعميت هي وصواحبها عن الشرك، فوقعن على الحب يلتقطنه فعلقن في الشبكة كلهن؛ وأقبل الصياد فرحا مسرورا. فجعلت كل حمامة تضطرب في حبائلها وتلتمس الخلاص لنفسها. قالت المطوقة: لا تخاذلنا في المعالجة ولا تكن نفس إحداكن أهم إليها م نفس صاحبتها؛ ولكن نتعاون جميعا فنقلع الشبكة فينجو بعضنا ببعض؛ فقلعن الشبكة جميعهن بتعاونهن، وعلون في الجو؛ ولم يقطع الصياد رجاءه منهن وظن أنهن لا يجاوزن إلا قريبا ويقعن. فقال الغراب: لأتبعهن وأنظرو ما يكون منهن. فالتفتت المطوقة فرأت الصياد يتبعهن. فقالت للحمام: هذا الصياد مجد في طلبكن، فإن نحن أخذنا في الفضاء لم يخف عليه أمرنا ولم يزل يتبعنا وإن نحن توجهنا إلى العمران خفي عليه أمرنا، وانصرف. وبمكان كذا جرذ هو لي أخ؛ فلو انتهينا إليه قطع عنا هذا الشرك. ففعلن ذلك. وأيس الصياد منهن وانصرف. وتبعهن الغراب. فلما انتهت الحمامة المطوقة إلى الجرذ، أمرت الحمام أن يسقطن، فوقعن؛ وكان للجرذ مائة حجر للمخاوف فنادته المطوقة باسمه، وكان اسمه زيرك، فأجابها الجرذ من حجره: من أنت؟ قالت: أنا خليلتك المطوقة. فأقبل إليها الجرذ يسعى، فقال لها: ما أوقعك في هذه الورطة؟ قالت له: ألم تعلم أنه ليس من الخير والشر شيء إلا هو مقدر على من تصيبه المقادير، وهي التي أوقعتني في هذه الورطة؛ فقد لا يمتنع من القدر من هو أقوى مني وأعظم أمرا؛ وقد تنكسف الشمس والقمر إذا قضي ذلك عليهما. ثم إن الجرذ أخذ في قرض العقد الذي فيه المطوقة. فقالت له المطوقة: ابدأ بقطع عقد سائر الحمام، وبع ذلك أقبل على عقدي؛ وأعادت ذلك عليه مرارا، وهو لا يلتفت إلى قولها، فلما أكثرت عليه القول وكررت، قال لها: لقد كررت القول علي كأنك ليس لك في نفسك حاجة، ولا لك عليها شفقة، ولا ترعين لها حقا. قالت: إني أخاف، إن أنت بدأت بقطع عقدي أن تمل وتكسل عن قطع ما بقي؛ وعرفت أنك إن بدأت بهن قبلي، وكنت أنا الأخيرة لم ترض وإن أدركك الفتور أن أبقى في الشرك قال الجرذ: هذا مما يزيد الرغبة والمودة فيك. ثم إن الجرذ أخذ في قرض الشبكة حتى فرغ منها، فانطلقت المطوقة وحمامها معها.

فلما رأى الغراب صنع الجرذ، رغب في مصادقته، فجاء وناداه باسمه، فأخرج الجرذ رأسه، فقال له: ما حاجتك؟ قال: إني أريد مصادقتك. قال الجرذ: ليس بيني وبينك تواصل، وإنما العاقل ينبغي له أن يلتمس ما يجد إليه سبيلا، ويترك التماس ما ليس إليه سبيل، فإنما أنت الآكل، وأنا طعام لك. قال الغراب: إن أكلي إياك، وإن كنت لي طعاما، مما لا يغني عني شيئا؛ وإن مودتك آنس لي مما ذكرت ولست بحقيق، إذا جئت أطلب مودتك، أن تردني خائبا. فإنه قد ظهر لي منك من حسن الخلق ما رغبني فيك، وإن لم تكن تلتمس إظهار ذلك: فإن العاقل لا يخفي فضله، وإن هو أخفاه؛ كالمسك الذي يكتم ثم لا يمنعه ذلك من النشر الطيب والأرج الفائح. قال الجرذ. إن أشد العداوة عداوة الجوهر: وهي عداوتان: منها ما هو متكافئ كعداوة الفيل والأسد. فإنه ربما قتل الأسد الفيل أو الفيل الأسد، ومنها ما قوته من أحد الجانبين على الآخر كعداوة ما بيني وبين السنور وبيني وبينك: فإن العداوة التي بيننا ليست تضرك، وإنما ضررها عائد علي: فإن الماء لو أطيل إسخانه لم يمنعه ذلك من إطفائه النار إذا صب عليها، وإنما مصاحب العدو ومصالحه كصاحب الحية يحملها في كمه، والعاقل لا يستأنس إلى العدو الأريب.
قال الغراب: قد فهمت ما تقول، وأنت خليق أن تأخذ بفضل خليقتك، وتعرف صدق مقالتي ولا تصعب علي الأمر بقولك: ليس إلى التواصل بيننا سبيل: فإن العقلاء الكرام لا يبتغون على معروف جزاء، والمودة بين الصالحين سريع اتصالها بطيء انقطاعها. ومثل ذلك مثل الكوز من الذهب: بطيء الانكسار، سريع الإعادة، هين الإصلاح، إن أصابه ثلم أو كسر، والمودة بين الأشرار سريع انقطاعها، بطيء اتصالها. ومثل ذلك مثل الكوز من الفخار سريع الانكسار ينكسر من أدنى عيب ولا وصل له أبدا. والكريم يود الكريم واللئيم لا يود أحدا إلا عن رغبة أو رهبة. وأنا إلى ودك ومعروفك محتاج: لأنك كريم وأنا ملازم لبابك غير ذائق طعاما حتى تؤاخيني. قال الجرذ: قد قبلت إخاءك: فإني لم أردد أحدا عن حاجة قط، وإنما بدأت بما بدأتك به إرادة التوثق لنفسي فإن أنت غدرت بي لم تقل: إني وجدت الجرذ سريع الانخداع. ثم خرج من حجره، فوقف عند الباب. فقال له الغراب: ما يمنعك من الخروج إلي، والاستئناس بي؟ فهل في نفسك بعد ذلك مني ريبة؟ قال الجرذ: إن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم أمرين ويتواصلون عليهما وهما ذات النفس، وذات اليد. فالمتباذلون ذات النفس هم الأصفياء، وأما المتباذلون ذات اليد فهم المتعاونون الذين يلتمس بعضهم الانتفاع ببعض. ومن كان يصنع المعروف لبعض منافع الدنيا فإنما مثله فيما يبذل ويعطى كمثل الصياد وإلقائه الحب للطير، لا يريد بذلك نفع الطير وإنما يريد نفع نفسه. فتعاطى ذات النفس أفضل من تعاطي ذات اليد. وإني وثقت منك بذات نفسك، ومنحتك من نفسي مثل ذلك. وليس يمنعني من الخروج إليك سوء ظن بك، ولكن قد عرفت أن لك أصحابا جوهرهم كجوهرك، وليس رأيهم في رأيك.

قال الغراب: إن من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقا، ولعدو صديقه عدوا؛ وليس لي بصاحب ولا صديق من لا يكون لك محبا؛ وإنه يهون عن قطيعة من كان كذلك من جوهري. ثم إن الجرذ خرج إلى الغراب فتصافحا وتصافيا، وأنس كل واحد منهما بصاحبه؛ حتى إذا مضت لهما أيام قال الغراب للجرذ: إن جحرك قريب من طريق الناس، وأخاف أن يرميك بعض الصبيان بحجر؛ ولي مكان في عزلة، ولي فيه صديق من السلاحف وهو مخصب من السمك ونحن واجدون هناك ما نأكل فأريد أن أنطلق بك إلى هناك لنعيش آمنين. قال الجرذ: إن لي أخبار وقصصا سأقصها عليك إذا انتهينا حيث تريد فافعل ما تشاء. فأخذ الغراب بذنب الجرذ وطار به حتى بلغ به حيث أراد. فلما دنى من العين التي فيها السلحفاة بصرت السلحفاة بغراب ومعه جرذ فذعرت منه ولم تعلم أنه صاحبها، فناداه فخرجت إليه وسألته من أين أقبلت؟ فأخبرها بقصته حين تبع الحمام وما كان من أمره وأمر الجرذ حتى انتهى إليها. فلما سمعت السلحفاة شأن الجرذ عجبت من عقله ووفاءه ورحبت به وقالت له: ما ساقك إلى هذه الأرض؟ قال الغراب للجرذ: اقصص علي الأخبار التي زعمت أنك تحدثني بها فأخبرني بها مع جواب ما سألت السلحفاة: فإنها عندك بمنزلتي، فبدأ الجرذ وقال: كان منزلي أول أمري بمدينة ماروت في بيت رجل ناسك وكان خاليا من الأهل والعيال، وكان يؤتى في كل يوم بسلة من الطعام فيأكل منها حاجته ويعلق الباقي، وكنت أرصد الناسك، حتى يخرج وأثب إلى السلة، فلا أدع فيها طعاما إلا أكلته، وأرمي به إلى الجرذان. فجهد الناسك مرارا أن يعلق السلة مكانا لا أناله فلم يقدر على ذلك، حتى نزل به ذات ليلة ضيف فأكلا جميعا، ثم أخذا في الحديث فقال الناسك للضيف: من أي أرض أقبلت؟ وأين تريد الآن؟ وكان الرجل قد جاب الآفاق ورأى عجائب فأنشأ يحدث الناسك عما وطئ من البلاد، ورأى من العجائب، وجعل الناسك خلال ذلك يصفق بيديه لينفرني عن السلة، فغضب الضيف وقال: أنا أحدثك وأنت تهزأ بحديثي! فما حملك على أن سألتني؟ فاعتذر إليه الناسك، وقال: إنما أصفق بيدي لأنفر جرذا قد تحيرت في أمره، ولست أضع في البيت شيئا إلا أكله، فقال الضيف: جرذ واحد يفعل ذلك أم جرذان كثيرة؟ فقال الناسك: فما أستطيع له حيلة. قال الضيف: لقد ذكرتني قول الذي قال: لأمر ما باعت هذه المرأة سمسما مقشورا بغير مقشور! قال الناسك: وكيف كان ذلك؟

قال الضيف: نزلت مرة على رجل بمكان كذا، فتعشينا، ثم فرش لي. وانقلب الرجل على فراشه، فسمعته يقول في آخر الليل لامرأته: إني أريد أن أدعو غدا رهطا ليأكلوا عندنا، فاصنعي لهم طعاما. فقالت المرأة: كيف تدعو الناس إلى طعامك، وليس في بيتك فضل عن عيالك؟ وأنت رجل لا تبقي شيئا ولا تدخره. قال الرجل: لا تندمي على شيء أطعمناه وأنفقناه: فإن الجمع والادخار ربما كانت عاقبته كعاقبة الذئب. قالت المرأة وكيف كان ذلك؟ قال الرجل: زعموا أنه خرج ذات يوم رجل قانص، ومعه قوصه ونشابه فلم يجاوز غير بعيد، حتى رمى ظبيا، فحمله ورجع طالبا منزله، فاعترضه خنزير بري فرماه بنشابة نفذت فيه، فأدركه الخنزير وضربه بأنيابه ضربة أطارت من يده القوس، ووقعا ميتين، فأتى عليهم ذئب فقال: هذا الرجل والظبي والخنزير يكفيني أكلهم مدة، ولكن أبدأ بهذا الوتر فآكله، فيكون قوت يومي، فعالج الوتر حتى قطعه فلما انقطع طارت سية القوس فضربت حلقه فمات. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلمي أن الجمع والادخار وخيم العاقبة. فقالت المرأة: نعم ما قلت! وعندنا من الأرز والسمسم ما يكفي ستة نفر أو سبعة، فأنا غادية على اصطناع الطعام، فادع من أحببت. وأخذت المرأة حين أصبحت سمسما فقشرته، وبسطته في الشمس ليجف، وقالت لغلام لهم: اطرد عنه الطير والكلاب وتفرغت المرأة لصنعها؛ وتغافل الغلام عن السمسم؛ فجاء كلب، فعاث فيه؛ فاستقذرته المرأة، وكرهت أن تصنع منه طعاما ما؛ فذهبت به إلى السوق، فأخذت به مقايضة سمسما غير مقشور: مثلا بمثل، وأنا واقف في السوق؛ فقال رجل: لأمر ما باعت هذه المرأة سمسما مقشورا بغير مقشور. وكذلك قولي في هذا الجرذ الذي ذكرت أنه على غير علة ما يقدر على ما شكوت منه. فالتمس لي فأسا لعلي أحتقره جحره فأطلع على بعض شأنه. فاستعار الناسك من بعض جيرانه فأسا، فأتى بها الضيف، وأنا حينئذ في غير جحري أسمع كلامهما، وفي جحري كيس فيه مائة دينار، لا أدري من وضعها، فاحتفر الضيف حتى انتهى إلى الدنانير فأخذها وقال الناسك: ما كان هذا الجرذ يقوى على الوثوب حيث كان يثب إلا بهذه الدنانير: فإن المال جعل له قوة وزيادة في الرأي والتمكن. وسترى بعد هذا أنه لا يقدر على الوثوب حيث كان يثب. فلما كان من الغد اجتمع الجرذان التي كانت معي فقالت: قد أصابنا الجوع، وأنت رجائنا فانطلقت ومعي الجرذان إلى المكان الذي كنت أثب منه إلى السلة فحاولت ذلك مرارا: فلم أقدر عليه فاستبان للجرذان نقص حالي فسمعتهن يقلن: انصرفن عنه، ولا تطمعن فيما عنده: فإنا نرى له حالا لا نحسبه إلا قد احتاج معها إلى من يعوله. فتركني، ولحقن بأعدائي وجفونني، وأخذن في غيبتي عند من يعاديني ويحسدني. فقلت في نفسي: ما الإخوان ولا الأعوان ولا الأصدقاء إلا بالمال ووجدت من لا مال له، إذا أراد أمرا قعد به العدم عما يريده: كالماء الذي يبقى في الأودية من مطر الشتاء: لا يمر إلى نهر ولا يجري إلى مكان، فتشربه أرضه. ووجدت من لا إخوان له لا أهل له، ومن لا ولد له لا ذكر له: ومن لا مال له لا عقل له، ولا دنيا ولا آخرة له: لأن الرجل إذا افتقر قطعه أقاربه وإخوانه: فإن الشجرة النابتة في السباخ، المأكولة من كل جانب، كحال الفقير المحتاج إلى ما في أيدي الناس.

ووجدت الفقر رأس كل بلاء، وجالبا إلى صاحبه كل مقت، ومعدن النميمة. ووجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمنا، وأساء به الظن من كان يظن فيه حسنا: فإن أذنب غيره كان هو للتهمة موضعا. وليس من خلة هي للغني مدح إلا وهي للفقير ذم، فإن كان شجاعا قيل: أهوج، وإن كان جوادا سمي مبذرا، وإن كان حليما سمي ضعيفا، وإن كان وقورا سمي بليدا. فالموت أهون من الحاجة التي تحوج صاحبها إلى المسألة، ولا سيما مسألة الأشحاء واللئام: فإن الكريم لو كلف أن يدخل يده في فم الأفعى، فيخرج منه سما فيبتلعه كان ذلك أهون عليه وأحب إليه من مسألة البخيل اللئم. وقد كنت رأيت الضيف حين أخذ الدنانير فقاسمها الناس، فجعل الناسك نصيبه في خريطة عند رأسه ولما جن الليل، فطمعت أن أصيب منها شيئا فأرده إلى جحري، ورجوت أن يزيد ذلك في قوتي، ويراجعني بسببه بعض أصدقائي. فانطلقت إلى الناسك وهو نائم، حتى انتهيت عند رأسه، ووجدت الضيف يقظان، وبيده قضيب، فضربني على رأسي ضربة موجعة، فسعيت إلى جحري. فلما سكن عني الألم، هيجني الحرص والشره، فخرجت طمعا كطمعي الأول، وإذا الضيف يرصدني، فضربني ضربة أسالت مني الدم، فتقلبت ظهرا لبطن إلى جحري، فخررت مغشيا علي، فأصابني من الوجع ما بغض إلى المال رعدة وهيبة. ثم تذكرت فوجدت البلاء في الدنيا إنما يسوقه الحرص والشره، ولا يزال صاحب الدنيا في بلية وتعب ونصب، ووجدت تجشم الأسفار البعيدة في طلب الدنيا أهون علي من بسط اليد إلى السخى بالمال، ولم أر كالرضا شيئا، فصار أمري إلى أن رضيت وقنعت، وانتقلت من بيت الناسك إلى البرية، وكان لي صديق من الحمام، فسيقت إلي بصداقته صداقة. ثم ذكر لي الغراب ما بينك وبينه من المودة، وأخبرني أنه يريد إتيانك، فأحببت أن آتيك معه، فكرهت الوحدة، فإنه لا شيء من سرور الدنيا يعدل صحبة الإخوان، ولا غم فيها يعدل البعد عنهم. وجربت: فعلمت أنه لا ينبغي للعاقل أن يلتمس من الدنيا غير الكفاف الذي يدفع به الأذى عن نفسه: وهو اليسير من المطعم والمشرب، إذا اشتمل على صحة البدن ورفاهة البال.

ولو أن رجلا وهبت له الدنيا بما فيهان لم يك ينتفع من ذلك إلا بالقليل الذي يدفع به عن نفسه الحاجة: فأقبلت مع الغراب إليك على هذا الرأي، وأنا لك أخ، فلتكن منزلتي عندك كذلك. فلما فرغ الجرذ من كلامه أجابته السلحفاة بكلام رقيق عذب، وقالت: قد سمعت كلامك، وما أحسن ما تحدثت به! إلا أني رأيتك تذكر بقايا أمور هي في نفسك. واعلم أن حسن الكلام لا يتم إلا بحسن العمل، وأن المريض الذي قد علم دواء مرضه إن يتداو به، لم يغن به شيئا، ولم يجد لدائه راحة ولا خفة. فاستعمل رأيك، ولا تحزن لقلة المال: فإن الرجل ذا المروءة قد يكرم على غير مال: كالأسد الذي يهاب، وإن كان رابضا، والغني الذي لا مروءة له يهان وإن كان كثير المال: كالكلب لا يحفل به، وإن طوق وخلخل بالذهب. فلا تكبرن عليك غربتك: فإن العاقل لا غربة له: كالأسد الذي لا ينقلب إلا ومعه قوته. فلتحسن تعاهدك لنفسك: فإنك إذا فعلت ذلك جاءك الخير يطلبك كما يطلب الماء انحداره. وإنما جعل الفضل للحازم البصير بالأمور، وأما الكسلان المتردد فإن الفضل لا يصحبه. وقد قيل في أشياء ليس لها ثبات ولا بقاء: ظل الغمامة في الصيف، وخلة الأشرار، والبناء على غير أساس، والمال الكثير: فالعاقل لا يحزن لقلته، وإنما مال العاقل عقله، وما قدم من صالح، فهو واثق بأنه لا يسلب ما عمل ولا يوآخذ بشيء لم يعمله، وهو خليق ألا يغفل عن أمر أخرته: فإن الموت لا يأتي إلا بغتة، ليس له وقت معين. وأنت عن موعظتي غني بما عندك من العلم. ولكن رأيت أن أقضي مالك من حق قبلنا: لأنك أخونا وما عندنا من النصح مبذول لك. فلما سمع الغراب كلام السلحفاة للجرذ وردها عليه وملاطفتها إياه فرح بذلك وقال: لقد سررتني وأنعمت علي، وأنت جديرة أن تسري نفسك بمثل ما سررتني به. وإن أولى أهل الدنيا بشدة السرور من لا يزال عنده منهم جماعة يسرهم ويسرونه، ويكون من وراء أمورهم وحاجاتهم بالمرصاد: فإن الكريم إذا عثر لا يأخذ بيده إلا الكرام: كالفيل إذا وحل لا تخرجه إلا الفيلة. فبينما الغراب في كلامه، إذ أقبل نحوهم ظبي يسعى، فذعرت منه السلحفاة، فغاصت في الماء، وخرج الجرذ إلى جحره، وطار الغراب فوقع على شجرة.

ثم إن الغراب حلق في السماء لينظر هل للظبي طالب؟ فنظر فلم ير شيئا؛ فنادى الجرذ والسلحفاة، وخرجا، فقالت السلحفاة للظبي، حين رأته ينظر إلى الماء: اشرب إن كان بك عطش، ولا تخف: فإنه لا خوف عليك. فدنا الظبي فرحبت به السلحفاة وحيته وقالت له: من أين أقبلت؟ قال: كنت أسنح بهذه الصحارى فلم تزل الأساورة تطردني من مكان إلى مكان حتى رأيت اليوم شبحا. فخفت أن يكون قانصا قالت: لا تخف: فإنا لم نرى هاهنا قانصا قط، ونحن نبذل لك ودنا ومكاننا والماء والمرعى كثيران عندنا فارغب في صحبتنا. فأقام الظبي معهم وكان لهم عريش يجتمعون فيه ويتذاكرون الأحاديث والأخبار. فبينما الغراب والجرذ والسلحفاة ذات يوم في العريش غاب الظبي فتوقعوه ساعة فلم يأت. فلما أبطأ أشفقوا أن يكون قد أصابه عنت، فقال الجرذ والسلحفاة للغراب: انظر هل ترى مما يلينا شيئا؟ فحلق الغراب في السماء فنظر: فإذا الظبي في الحبائل مقتنصا فانقض مسرعا فأخبرهما بذلك فقالت السلحفاة والغراب للجرذ: هذا أمر لا يرجى فيه غيرك، فأغث أخاك، فسعى الجرذ مسرعا، فأتى الظبي، فقال له: كيف وقعت في هذه الورطة وأنت من الأكياس؟ قال الظبي: هل يغني الكيس مع المقادير شيئا، فبينما هما في الحديث إذ وافتهما السلحفاة فقال لها الظبي. ما أصبت بمجيئك إلينا: فإن القانص لو انتهى إلينا وقد قطع الجرذ الحبائل استبقه عدوا، وللجرذ أحجار كثيرة، والغراب يطير وأنت ثقيلة: لا سعى لك ولا حركة وأخاف عليك القانص. فقالت: لا عيش مع فراق الأحبة وإذا فارق الأليف أليفه فقد سلب فؤاده، وحرم سروره، وغشى بصره، فلم ينتهي كلامهما حتى وافى القانص، ووافق ذلك فراغ الجرذ من قطع الشرك، فنجا الظبي بنفسه، وطار الغراب محلقا ودخل الجرذ بعض الأحجار ولم يبق غير السلحفاة، ودنا الصياد فوجد حبالته مقطعة، فنظر يمينا وشمالا فلم يجد غير السلحفاة تدب، فأخذها وربطها، فلم يلبث الغراب والجرذ والظبي أن اجتمعوا فنظروا القانص قد ربط السلحفاة فاشتد حزنهم، وقال الجرذ: ما أرانا نجاوز عقبة من البلاء إلا صرنا في أشد منها. ولقد صدق الذي قال: لا يزال الإنسان مستمرا في إقباله ما لم يعثر، فإذا عثر لج به العثار وإن مشى في جدد الأرض. وحذري على السلحفاة خير الأصدقاء التي خلتها ليست للمجازاة ولا لالتماس مكافأة، ولكنها خلة الكرم والشرف، خلة هي أفضل من خلة الوالد لولده، خلة لا يزيلها إلا الموت. ويح لهذا الجسد الموكل به البلاء الذي لا يزال في تصرف وتقلب، ولا يدوم له شيء، ولا يلبث معه أمر: كما لا يدوم للطالع من النجوم طلوع، ولا للآفل منها أفول، لكن لا يزال للطالع منها آفلا، والآفل طالعا، وكما تكون آلام الكلوم وانتقاض الجراحات، كذلك من قرحت كلومه بفقد إخوانه بعد اجتماعه بهم.

فقال الظبي والغراب للجرذ: إن حذرنا وحذرك وكلامك، وإن كان بليغا، كل منها لا يغني عن السلحفاة شيئا، وإنه كما يقال: إنما يختر الناس عند البلاء، وذو الأمانة عند الأخذ والعطاء، والأهل والولد عند الفاقة، كذلك يختبر الإخوان عند النوائب. قال الجرذ: أرى من الحيلة أن تذهب أيها الظبي فتقع بمنظر من القانص: كأنك جريح، ويقع الغراب عليك كأنه يأكل منك، وأسعى أنا فأكون قريبا من القانص، مراقبا له، فعله أن يرمي ما معه من الآلة، ويضع السلحفاة، ويقصدك طامعا فيك، راجيا تحصيلك. فإذا دنا منك ففر عنه رويدا: بحيث لا ينقطع طمعه منك، ومكنه من أخذك مرة بعد مرة، حتى يبعد عنا، وانح منه هذا النحو ما استطعت: فإني أرجو ألا ينصرف إلا وقد قطعت الحبائل عن السلحفاة، وأنجو بها. ففعل الغراب والظبي ما أمرهما به الجرذ، وتبعهما القانص، فاستجره الظبي، حتى أبعده عن الجرذ والسلحفاة، والجرذ مقبل على قطع الحبائل، حتى قطعها، ونجا بالسلحفاة، وعاد القانص مجهودا لاغبا فوجد حبالته مقطعة. ففكر في أمره مع الظبي المتظالع، فظن أنه خولط في عقله وفكر في أمر الظبي والغراب الذي كأنه يأكل منه وقرض حبالته فاستوحش من الأرض وقال: هذه أرض جن أو سحرة. فرجع موليا لا يلتكس شيئا ولا يلتفت إليه. واجتمع الغراب والظبي والجرذ والسلحفاة إلى عريشهم سالمين آمنيين كأحسن ما كانوا عليه. فإذا كان هذا الخلق مع صغره وضعفه قد قدر على التخلص م مرابط الهلكة مرة بعد أخرى بمودته وخلوصها وثبات قلبه عليها واستمتاعه مع أصحابه بعضهم ببعض فالإنسان الذي قد أعطي العقل والفهم. وألهم الخير ولا شر ومنح التميز والمعرفة، أولى وأحرى بالتواصل والتعاضد. فهذا مثل إخوان الصفاء وأتلافهم في الصحبة.

جنــــون
11-13-2011, 09:41 PM
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت مثل إخوان الصفاء وتعاونهم، فاضرب لي مثل العدو الذي لا ينبغي أن يغتر به، وإن أظهر تضرعا وملقا، قال الفيلسوف: من اغتر بالعدو الذي لم يزل عدوا، أصابه ما أصاب البوم من الغربان. قال الملك وكيف كان ذلك؟

قال بيدبا: زعموا أنه كان في جبل في الجبال شجرة من شجر الدوح، فيها وكر ألف غراب، وعليهن وال من أنفسهن، وكان عند هذه الشجرة كهف فيه ألف بوم، وعليهن وال منهن. فخرج ملك البوم لبعض غدواته وروحاته، وفي نفسه العداوة لملك الغربان، وفي نفس الغربان وملكها مثل ذلك للبوم، فأغار ملك البوم في أصحابه على الغربان في أوكارها، فقتل وسبى منها خلقا كثيرا، وكانت الغارة ليلا، فلما أصبحت الغربان اجتمعت إلى ملكها فقلن له: قد علمت ما لقينا الليلة من ملك البوم، وما منا لإلا أصبح قتيلا أو جريحا أو مكسور الجناح أو منتوف الريش أو مقطوف الذنب وأشد مما أصابنا ضرا علينا جراءتهن علينا، وعلمهن بمكاننا، وهن عائدات إلينا غير منقطعات عنا: لعلمهن بمكاننا: فإنما نحن لك، ولك الرأي، أيها الملك، فانظر لنا ولنفسك، وكان في الغربان خمسة معترف لهن بحسن الرأي، يسند إليهن في الأمور، ويلقى عليهن أزمة الأحوال. وكان الملك كثيرا ما يشاورهن في الأمور، ويأخذ آراءهن في الحوادث والنوازل. فقال الملك للأول من الخمسة: ما رأيك في هذا الأمر؟ قال: رأي قد سبقتنا إليه العلماء، وذلك أنهم قالوا: ليس للعدو الحنق إلا الهرب منه. قال الملك للثاني: ما رأيك في هذا الأمر؟ قال: رأي ما رأى هذا من الهرب. قال الملك: لا أرى لكما ذلك رأيا، أن نرحل عن أوطاننا ونخليها لعدونا من أول نكبة أصابتنا منه ولا ينبغي لنا ذلك ولكن نجمع أمرنا ونستعد لعدونا ونذكي نار الحرب فيما بيننا وبين عدونا ونحترس من الغرة إذا أقبل إلينا فنلقاه مستعدين ونقاتله قتالا غير مراجعين فيه، ولا مقصرين عنه وتلقى أطرافنا أطراف العدو ونتحرز بحصوننا وندافع عدونا: بالأناة مرة وبالجلاد أخرى حيث نصيب فرصتنا وبغيتنا، وقد ثنينا عدونا عنا. ثم قال الملك للثالث: ما رأيك أنت؟ قال: ما أرى ما قالا رأيا. ولكن نبث العيون ونبعث الجواسيس ونرسل الطلائع بيننا وبين عدونا فنعلم أيريد صلحنا أم يريد حربنا أم يريد الفدية؟ فإن رأينا أمره أمر طامع في مال، لم نكره الصلح على خراج نؤديه إليه كل سنة، ندفع به عن أنفسنا ونطمئن في أوطاننا: فغن من أراء الملوك إذا أشتدت شوكة عدوهم، فخافوه على أنفسهم وبلادهم، أن يجعلوا الأموال جنة البلاد والملك والرعية. قال الملك للرابع: فما رأيك في هذا الصلح؟ قال لا أراه رأيا بل أن نفارق أوطاننا ونصبر على الغربة وشدة المعيشة خير من أن نضيع أحسابنا ونخضع للعدو الذي نحن أشرف منه مع أن البوم لو عرضنا ذلك عليهن لما رضين منا إلا بالشطط. ويقال في الأمثال: قارب عدوك بعض المقاربة: لتنال حاجتك.

ولا تقاربه كل المقاربة: فيتجرىء عليك ويضعف جندك وتذل نفسك. ومثل ذلك مثل الخشبة المنصوبة في الشمس: إذا أملتها قليلا زاد ظلها، وإذا جاوزت بها الحد في إمالتها نقص الظل. وليس عدونا راضيا منا بالدون في المقاربة، فالرأي لنا ولك المحاربة. قال الملك للخامس: ما تقول أنت؟ وماذا ترى: القتال أم الصلح أم الجلاء عن الوطن؟ قال: أما القتال فلا سبيل للمرء إلى قتال من لا يقوى عليه وقد يقال: إنه من لا يعرف نفسه وعدوه وقاتل من لا يقوى عليه، حمل نفسه على حتفها مع أن العاقل لا يستصغر عدوا: فإن من استصغر عدوه اغتر به ومن اغتر بعدوه لم يسلم منه. وأنا للبوم شديد الهيبة وإن أضربن عن قتالنا وقد كنت أهابها قبل ذلك، فإن الحازم لا يأمن عدوه على كل حال فإن كان بعيدا لم يأمن سطوته، وإن كان مكثبا لم يأمن من وثبته، وإن كان وحيدا لم يأمن من مكره. وأحزم الأقوام وأكسيهم من كره القتال لجل النفقة فيه: فإن ما دون القتال النفقة فيه من الأموال والقول والعمل، والقتال النفقة فيه من الأنفس والأبدان. فلا يكونن القتال للبوم من رأيك، أيها الملك: فإن من قاتل من لا يقوى عليه فقد غرر بنفسه. فإذا كان الملك محصنا للأسرار، متخيرا للوزراء، مهيبا في أعين الناس، بعيدا من أن يقدر عليه، كان خليقا ألا يسلب صحيح ما أوتى من الخير. وأنت، أيها الملك، كذلك. وقد استشرتني في أمر جوابك مني عنه، في بعضه علانية، وفي بعضه سر وللأسرار منازل: منها ما يدخل فيه الرهط، ومنها ما يستعان فيه بالقوم، ومنها ما يدخل فيه الرجلان. ولست أرى لهذا السر على قدر منزلته أن يشارك فيه إلا أربع آذان ولسانان. فنهض الملك من ساعته، وخلا به، فاستشاره، فكان أول ما سأله عنه الملك أنه قال: هل يعلم ابتداء عداوة ما بيننا وبين البوم؟ قال: نعم: كلمة تكلم بها غراب. قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الغراب: زعموا أن جماعة من الكراكي لم يكن لها ملك، فأجمعت أمرها على أن يملكن عليهن ملك البوم فبينما هي في مجمعها إذ وقع لها غراب، فقالت: لو جاءنا هذا الغراب. لاستشرناه؛ فلم يلبثن دون أن جاءهن الغراب. فاستشرنه، فقال: لو أن الطير بادت من الأقاليم، وفقد الطاوس والبط والنعام والحمار من العالم لما اضطررتن إلى أن تملكن عليكن البوم التي هي أقبح الطير منظرا، وأسوؤها خلقا، وأقلها عقلا، وأشدها غضبا وأبعدها من كل رحمة، مع عماها وما بها من العشا بالنهار، وأشد من ذلك وأقبح أمورها سفهها وسوء أخلاقها، إلا أن ترين أن تملكنها وتكن أنتن تدبرن الأمور دونها برأيكن وعقولكن، كما فعلت الأرنب التي زعمت أن القمر ملكها، ثم عملت برأيها، قال الطير: وكيف كان ذلك؟

قال الغراب: زعموا أن أرضا من أراضي الفيلة تتابعت عليها السنون، وأجدبت، وقل ماؤها، وغارت عيونها، وذوى نبتها، ويبس شجرها، فأصاب الفيلة عطش شديد: فشكون ذلك إلى ملكهن، فأرسل الملك رسوله ورواده في طلب الماء، في كل ناحية. فرجع إليه بعض الرسل، فأخبره إني قد وجدت بمكان كذا عينا يقال لها عين القمر، كثيرة الماء. فتوجه ملك الفيلة بأصحابه إلى تلك العين ليشرب منها هو وفيلته. وكانت العين في أرض للأرانب، فوطئن الأرانب في أجحارهن، فأهلكن منهن كثيرا، فاجتمعت الأرانب إلى ملكها فقلن له: قد علمت ما أصابنا من الفيلة فقال: ليحضرن منكن كل ذي رأي رأيه. فتقدمت أرنب من الأرانب يقال لها فيروز. وكان الملك يعرفها بحسن الرأي والأدب، فقالت: إن رأى الملك أن يبعثني إلى الفيلة ويرسل معي أمينا، ليرى ويسمع ما أقول، ويرفعه إلى الملك، فقال لها الملك: أنت أمينة، ونرضى بقولك، فانطلقي إلى الفيلة، وبلغي عني ما تريدين. واعلمي أن الرسول برأيه وعقله، ولينه وفضله، يخبر عن عقل المرسل. فعليك باللين والرفق والحلم والتأني: فإن الرسول هو الذي يلين الصدور إذا رفق، ويخشن الصدور إذا خرق. ثم إن الأرنب انطلقت في ليلة قمراء، حتى انتهت إلى الفيلة، وكرهت أن تدنو منهن: مخافة أن يطأنها بأرجلهن، فيقتلنها، وإن كن غير متعمدات. ثم أشرفت على الجبل ونادت ملك الفيلة وقالت له: إن القمر أرسلني إليك، والرسول غير ملوم فيما يبلغ، وإن أغلظ في القول. قال ملك الفيلة: فما الرسالة؟ قالت: يقول لك: إن من عرف فضل قوته على الضعفاء، فاغتر بذلك في شأن الأقوياء، قياسا لهم على الضعفاء، كانت قوته وبالا عليه. وأنت قد عرفت فضل قوتك على الدواب، فغرك ذلك، فعمدت إلى العين التي تسمى باسمي، فشربت منها، وكدرتها. فأرسلني إليك: فأنذرك ألا تعود إلى مثل ذلك. وإنك إن فعلت أغش بصرك، وأتلف نفسك. وإن كنت في شك من رسالتي، فهلم إلى العين من ساعتك: فإني موافيك بها. فعجب ملك الفيلة من قول الأرنب، فانطلق إلى العين مع فيروز الرسول. فلما نظر إليها، رأى ضوء القمر فيها. فقالت له فيروز الرسول: خذ بخرطومك من الماء فاغسل به وجهك، واسجد للقمر. فأدخل الفيل خرطومه في الماء، فتحرك فخيل للفيل أن القمر ارتعد. فقال: ما شأن القمر ارتعد؟ أتراه غضب من إدخالي الخرطوم في الماء؟ قالت فيروز الأرنب: نعم. فسجد الفيل للقمر مرة أخرى، وتاب إليه مما صنع، وشرط ألا يعود إلى مثل ذلك هو ولا أحد من فيلته. قال الغراب: ومع ما ذكرت من أمر البوم إن فيها الخب والمكر والخديعة، وشر الملوك الخادع، ومن ابتلى بسلان مخادع، وخدمه، أصاب ما أصاب الأرنب والفرد حين احتكما إلى السنور. قالت الكراكي: وكيف كان ذلك؟ قال الغراب: كان لي جارا من االصفاردة في أصل شجرة قريبة من وكرى وكان يكثر مواصلتي ثم فقدته فلم أعلم أين غاب وطالت غيبته عني. فجاءت أرنب إلى مكان الصفرد فسكنته فكرهت أن أخاصم الأرنب فلبثت فيه زمانا. ثم إن الصفرد غاد بعد زمان فأتى منزله فوجد فيه الأرنب. فقال لها : هذا المكان لي ، فانتقلي عنه. قالت الأرنب: المسكن لي، وتحت يدي؛ وأنت مدع له. فإن كان لك حق فاستعد بإثباته علي. قال الصفرد: القاضي منا قريب: فهلمي بنا إليه. قالت الأرنب: ومن القاضي؟ قال الصفرد: إن بساحل البحر سنورا متعبدا، يصوم النهار، ويقوم الليل كله؛ ولا يؤذي دابة، ولا يهرق دما، عيشه من الحشيش ومما يقذفه إليه البحر. فإن أحببت تحاكمنا إليه، ورضينا به. قالت الأرنب: المسكن لي، وتحت يدي، وأنت مدع له. فإن كان لك حق فاستعد بإثباته علي.

قال الصفرد: القاضي؟ منا قريب: إن بساحل البحر سنورامعبدا، يصوم النهار، ويقوم الليل كله، ولايؤذى دابة، ولا يهريق دما، عيشه من الحشيش ومما يقذفه إليه البحر. فإن أحببت تحاكما إليه، ورضينا به. قالت الأرنب: ما أرضاني به إذا كان كما وصفت. فانطلقا إليه فتبعهما لأنظر إلى حكومة الصوام القوام ثم إنهما ذهبا إليه فلما بصر النور بالأرنب والصفرد مقبيلين نحوه، انتصب قائما يصلي، وأظهر الخشوع والتنسك. فعجبا لما رأيا من حاله ودنوا منه هائبين له، وسلما عليه وسألاه أن يقضي بينهما. فأمر هما أن يقصا عليه القصة ففعلا. فقال لهما: قد بلغني الكبر وثقلت أذناي: فادنوا مني فاسمعانى ما تقولان. فدنوا منه، وأعادا عليه القصة وسألاه الحكم فقال قد فهمت ما قلتما، وأنا مبتدئكما بالنصيحة قبل الحكومة بينكما: فأنا آمركما بتقوى الله وألاتطلبا إلا الحق هو الذي يفلح، وأن قضى عليه وطالب الحق هو الذي يفلح وإن قضى عليه وطالب الباطل مخصوم وإن قضى له. وليس لصاحب الدنيا من دنياه شئ لا مال ولا صديق سوى العمل الصالح يقدمه فذو العقل حقيق أن يكون سعيه في طلب ما يبقى وعود نفعه عليه غدا، وأن يمقت بسعيه فيما سوى ذلك من أمور الدنيا: فإن منزلة المال عند العاقل بمنزلة المدر، ومنزلة الناس عنده فيما يحب أهم من الخير ويكره من الشر بمنزلة نفسه. ثم إن السنور لم يزل يقص عليهما من جنس هذا وأشباهه، حتى أنسا إليه، وأقبلا عليه، ودنوا منه، ثم وثب عليهما فقتلهما. قال الغراب: ثم إن البوم تجمع مع ما وصفت لكن من الشؤم سائر العيوب: فلا يكونن تمليك البوم من رأ يكن. فلما سمع الكراكى ذلك من كلام الغراب أضربن عن تمليك البوم. زكان هناك بوم حاضر قد سمع ما قالوا، فقال الغراب: لقد وترتني أعظم الترة، ولا أعلم أنه سلف مني إليك سوء أوجب هذا. وبعد فاعلم أن الفأس يقطع به الشجر فيعود ينبت السيف يقطع اللحم ثم يعود فيندمل واللسان لا يندمل جرحه ولا تؤسى مقاطعه. والنصل من السهم يغيب في اللحم ثم ينزع فيخرج، وأشباه النصل من الكلام إذا وصلت إلى القلب لم تنزع ولم تستخرج. ولكل حريق مطفئ: فللنار الماء، وللسم الدواء وللحزن الصبر ونلر الحقد لا تخبو أبدا. وقد غرستم معاشر الغربان بيننا وبينكم شجر الحقد والعداوة والبغضاء.
فلما قضى البوم مقالته، ولى مغضبا، فأخبر ملك البوم بما جرى وبكل ما كان منقول الغراب، ثم إن الغراب ندم على ما فرط منه، وقال: والله لقد خرقت في قولي الذي جلبت به العداوة والبغضاء على نفسي وقومي! وليتني لم أخبر الكراكي بهذه الحال! ولا أعلمتها بهذا الأمر! ولعل أكثر الطير قد رأى أكثر مما رأيت، وعلم أضعاف ما علمت، فمنعها من الكلام بمثل ما اتقاء ما لم أتق، والنظر فيما لم أنظر فيه من حذار العواقب، لا سيما إذا كان الكلام أفظع كلام، يلقى منه سامعه وقائله المكروه مما يورث الحقد والضغينة، فلا ينبغي لأشباه هذا الكلام، أن تسمى كلاما، ولكن سهاما. والعاقل، وإن كان واثقا بقوته وفضله، لا ينبغي أن يحمل ذلك على أن يجلب العداوة على نفسه اتكالا على ما عنده من الرأي والقوة، كما أنه وإن كان عنده الترياق لا ينبغي له أن يشرب السم اتكالا على ما عنده. وصاحب حسن العمل، وإن قصر به القول في مستقبل الأمر، كان فضله بينا واضحا في العاقبة والاختار، وصاحب حسن القول، وإن أعجب الناس منه حسن صفته للأمور لم تحمد عاقبة أمره. وأنا صاحب القول الذي لا عاقبة له محمودة. أليس من سفهي اجترائي على التكلم في الأمر الجسيم لا أستشير فيه أحدا، ولم أعمل فيه رأيا؟ ومن لم يستشر النصاء الأولياء، وعمل برأيه من غير تكرار النظر والروية، لم يغتبط بمواقع رأيه. فما كان أغناني عما كسبت يومي هذا، وما وقعت فيه من الهم! وعاتب الغراب نفسه بهذا الكلام وأشباهه وذهب. فهذا ما سألتني عنه من ابتداء العداوة بيننا وبين البوم.
وأما القتال فقد علمت رأيي فيه، وكراهتي له، ولكن عندي من الرأي والحيلة غير القتال ما يكون فيه الفرج إن شاء الله تعالى: فإنه رب قوم قد احتالوا بآرائهم حتى ظفروا بما أرادوا. ومن ذلك حديث الجماعة الذين ظفروا بالناسك، وأخذوا عريضه قال الملك: وكيف كان ذلك؟

قال الغراب: زعموا ان ناسكا اشتى عريضا ضخما ليجعله قربانا، فانطلق به يقوده فبصر به قوم من المكرة، فأتمروا بينهم أن يأخذوه من الناسك. فعرض له أحدهم فقال له: أيها الناسك، ما هذا الكلب الذي معك؟ ثم عرض له الآخر فقال لصاحبه: ما هذا الناسك، لأن الناسك لا يقود كلبا. فلم يزالو مع الناسك على هذا ومثله حتى لم يشك أن الذي يقوده كلب، وأن الذي باعه إياه سحر عينه، فأطلقه من يده، فأخذه الجماعة المحتالون ومضوا به. وإنما ضربت لك هذا المثل لما أرجو أن نصيب من حاجتنا بالرفق والحيلة. وإني أريد من الملك أن ينقرني على رؤوس الأشهاد، وينتف ريشي وذنبي، ثم يطرحني في أصل هذه الشجرة، ويرتحل الملك هو وجنوده إلى مكان كذا. فأرجو أني أصبر وأطلع على أحوالهم، ومواضع تحصينهم وأبوابهم، فأخادعهم وآتي إليكم لنهجم عليهم، وننا منهم غرضنا إن شاء الله تعالى.
قال الملك: أتطيب نفسك لذلك؟ قال: نعم، وكيف لا تطيب نفسي لذلك وفيه أعظم الراحات للملك وجنوده؟ ففعل الملك بالغراب ما ذكر، ثم ارتحل عنه فجعل الغراب يئن ويهمس حتى رأته البوم وسمعته يئن، فأخبرن ملكهن بذلك، فقصد نحوه ليسأله عن الغربان فلما دنا منه أمر بوما أن يسأله فقال له: من أنت؟ وأين الغربان؟ فقال: أما اسمي ففلان، وأما ما سألتني عنه فإني أحسبك ترى أن حالي حال من لا يعلم الأسرار فقيل لملك البوم: هذا وزير ملك الغربان وصاحب رأيه، فنسأله بأي ذنب صنع به ما صنع؟ فسئل الغراب عن أمره فقال: إن ملكنا استشار جماعتنا فيكن: وكنت يومئذ بمحضر من الأمر، فقال: أيها الغربان، ما ترون في ذلك؟ فقلت: أيها الملك لا طاقة لنا بقتال البوم: لأنهن أشد بطشا، وأحد قلبا منا ولكن أرى أن نلتمس الصلح، ثم نبذل الفدية في ذلك، فإن قبلت البوم ذلك منا، وإلا هربنا في البلاد وإذا كان القتال بيننا وبين البوم كان خيرا لهن وشرا لنا، فالصلح أفضل من الخصومة وأمرتهن بالرجوع عن الحرب، وضربت لهن الأمثال في ذلك، وقلت لهن: إن العدو الشديد لا يرد بأسه وغضبه مثل الخضوع له: ألا ترين إلى الحشيش كيف يسلم من عاصف الريح للينه وميله معها حيث مالت فعصينني في ذلك وزعمن أنهن يردن القتال وأتهمنني في ما قلت، وقلنا إنك قد مالأت البوم علينا ورددن قولي ونصيحتي وعذبنني بهذا العذاب وتركني الملك وجنوده وأرتحل ولا علم لي بهن بعد ذلك: فلما سمع ملك البوم مقالة الغراب قال لبعض وزرائه: ما تقول في الغراب؟ وما ترى فيه؟ قال: ما أرى إلا المعاجلة له بالقتل: فإن هذا أفضل عدد الغربان، وفي قتله لنا راحة من مكره وفقده على الغربان شديد ويقال: من ظفر بالساعة التي فيها ينجح العمل ثم لا يعاجله بالذي ينبغي له فليس بحكيم ومن طلب الأمر الجسيم فأمكنه ذلك فأغفله فاته الأمر وهو خليق ألا تعود له الفرصة ثانية ومن وجد عدوه ضعيفا ولم ينجز قتله ندم إذا استقوى ولم يقدر عليه قال الملك لوزير آخر: ما ترى أنت في هذا الغراب؟ قال: أرى ألا تقتله: فإن العدو الذليل الذي لا ناصر له أهل لأن يستبقى ويرحم ويصفح عنه ولا سيما المستجير الخائف: فإنه أهل لأن يؤمن.
قال ملك البوم لوزير آخر من وزائه: ما تقول في الغراب؟ قال: أرى أن تستبقيه وتحسن إليه: فإنه خليق أن ينصحك والعاقل يرى معادات بعض أعدائه بعضا ظفرا حسنا ويرى أشتغال بعض أعدائه ببعض خلاصا لنفسه منهم ونجاة كنجاة الناسك من اللص والشيطان حين اختلفا عليه قال الملك له: وكيف كان ذلك؟

قال الوزير: زعموا أن ناسكا أصاب من رجل بقرة حلوبا فانطلق بها يقودها إلى منزله، فعرض له لص أراد سرقتها واتبعه شيطان يريد اختطافه. فقال الشيطان للص: من أنت؟ قال أنا اللص، أريد أن أسرق البقرة من الناسك إذا نام. فمن أنت؟ قال: أنا الشيطان أريد أختطافه إذا نام وأذهب به فاتهيا على هذا إلى المنزل فدخل الناسك منزله ودخلا خلفه وأدخل البقرة فربطها في زاوية المنزل وتعشى ونام. فأقبل اللص والشيطان يأتمران فيه واختلفا على من يبدأ بشغله أولا فقال الشيطان للص: إن أنت بدأت بأخذ البقرة فربما استيقظ وصاح، واجتمع الناس: فلا أقدر على أخذه فأنظرني ريثما آخذه، وشأنك وما تريد. فأشفق اللص إن بدأ الشيطان باختطافه فربما استيقظ فلا يقدر على أخذ البقرة، فقال: لا، بل انظرني أنت حتى آخذ البقرة وشأنك زما تريد فلم يزالا في المجادلة هكذا حتى نادى اللص: أيها الناسك انتبه: فهذا الشيطان يريد اختطافك، ونادى الشيطان: أيها الناسك انتبه: فهذا اللص يريد أن يسرق بقرتك فانتبه الناسك وجيرانه بأصواتهما، وهرب الخبيثان. قال الوزير الأول الذي أشار بقتل الغراب: أظن أن الغراب قد خدعكن ووقع كلامه في نفس الغبي منكن موقعه، فتردن أن تضعن الرأي في غير موضعه فمهلا مهلا أيها الملك عن هذا الرأي. فلم يلتفت الملك إلى قوله وأمر الغراب أن يحمل إلى منازل البوم، ويكرم ويستوصى به خيرا.
ثم إن الغراب قال للملك يوما وعنده جماعة من البوم وفيهن الوزير الذي أشار بقتله: أيها الملك قد علمت ما جرى علي من الغربان وأنه لا يستريح قلبي إلا بأخذي بثأري منهن، وإني قد نظرت في ذلك فإذا بي لا أقدر على ما رمت: لأني غراب وقد روى عن العلماء أنهم قالوا: من طابت نفسه بأن يحرقها فقد قرب لله أعظم القربان لا يدعو عند ذلك بدعوة إلا استجيب له فإن رأى الملك أن يأمرني فأحرق نفسي وأدعو ربي أن يحولني بوما فأكون أشد عداوة وأقوى بأسا عل الغربان لعلي أنتقم منهن! قال الوزير الذي أشار بقتله: ما أشبهك في خير ما تظهر وشر ما تخفي إلا بالخمرة الطيبة الطعم والريح المنقع فيها السم أرأيت لو أحرقنا جسمك بالنار كان جوهرك وطباعك متغيرة! أليست أخلاقك تدور معك حيثما درت، وتصير بعد ذلك إلى أصلك وطويتك؟ كالفأرة التي خيرت في الأزواج بين الشمس والريح والسحاب والجبل فلم يقع اختيارها إلا على الجرذ وقيل له: وكيف كان ذلك؟

قال: زعموا أنه كان ناسكا مستجاب الدعوة فبينما هو ذات يوم جالسا على ساحل البحر إذ مرت به حدأة في رجلها درص فأرة فوقعت منها عند الناسك، وأدركته لها رحمة، فأخذها ولفها في ورقة، وذهب بها إلى منزله، ثم خاف أن تشق على أهله تربيتها فدعا ربه أن يحولها جارية: فتحولت جارية حسناء فانطلق بها إلى امرأته، فقال لها هذه ابنتي فاصنعي معها صنيعك بولدي. فلما كبرت قال لها الناسك: يا بنية أختاري من أحببت حتى أزوجك به. فقالت، أما إذا خيرتني فإني أختار زوجا يكون أقوى الأشياء. فقال الناسك لعلك تريدين الشمس! ثم انطلق إلى الشمس فقال: أيها الخلق العظيم إن لي جارية وقد طلبت زوجا يكون أقوى الأشياء، فهل أنت متزوجها؟ فقالت الشمس أنا أدلك على من هو أقوى مني: السحاب الذي يغطيني، ويرد حر شعاعي ويكسف أشعة أنواري. فذهب الناسك إلى السحاب فقال له ما قال للشمس، فقال السحاب: وأنا أدلك على من هو أقوى مني: فاذهب إلى الريح التي تقبل بي وتدبر وتذهب بي شرقا وغربا فجاء الناسك إلى الريح فقال لها كقوله للسحاب فقالت: وأنا أدلك على من هو أقوى مني وهو الجبل الذي لا أقدر على تحريكه فمضى إلى الجبل وقال له القول المذكور فأجابه الجبل وقال له: أنا أدلك على من هو أقوى مني: الجرذ الذي لا أستطيع الامتناع منه إذا ثقبني واتخذني مسكنا. فانطلق الناسك إلى الجرذ فقال له: هل أنت متزوج هذه الجارية؟ فقال وكيف أتزوجها وجحري ضيق؟ إنما يتزوج الجرذ الفأرة فدعا الناسك ربه أن يحولها فأرة كما كانت وذلك برضى الجارية، فأعادها الله إلى عنصرها الأول فانطلقت مع الجرذ فهذا مثلك أيها المخادع فلم يلتفت ملك البوم إلى ذلك القول، ورفق بالغراب ولم يزدد له إلا إكراما حتى إذا طاب عيشه ونبت ريشه واطلع على ما أراد أن يطلع عليه راغ روغة. فأتى أصحابه بما رأى وسمع فقال للملك: إني قد فرغت مما كنت أريد ولم يبقى إلا أن تسمع وتطيع، فقال له: أنا والجند تحت أمرك، فاحتكم كيف شئت.
قال الغراب: إن البوم بمكان كذا في جبل كثير الحطب وفي ذلك الموضع قطيع من الغنم مع رجل راع، ونحن مصيبون هناك نارا، ونلقيها في أنقاب البوم ونقذف عليها من يابس الحطب ونتراوح عليها ضربا بأجنحتنا حتى تضرم النار في الحطب: فمن خرج منهن احترق ومن لم يخرج مات بالدخان موضعه ففعل الغربان ذلك: فأهلكن البوم قاطبة ورجعن إلى منازلهن سالمات آمنات.

ثم إن ملك الغربان قال لذلك الغراب: كيف صبرت على صحبة البوم ولا صبر للأخيار على صحبة الأشرار؟ فقال الغراب: إنما ما قلته أيها الملك لكذلك لكن العاقل إذا أتاه الأمر الفظيع العظيم الذي يخاف من عدم تحمله الجائحة على نفسه وقومه لم يجزع من شدة الصبر عليه، لما يرجو من أن يعقبه صبره حسن العاقبة زكثير الخير فلم يجد لذلك ألما، ولم تكره نفسه الخضوع لمن هو دونه حتى يبلغ حاجته فيغتبط بخاتمة أمره وعاقبة صبره. فقال الملك: أخبرني عن عقول البوم: فقال الغراب: لم أجد فيهن عاقلا إلا الذي كان يحثهن على قتلي، وكان حرضهن على ذلك مرارا فكن أضعف شيء رأيا! فلم ينظرن في رأيه ويذكرن أني قد كنت ذا منزلة في الغربان، وأني أعد من ذوي الرأي ولم يتخوفن مكري وحيلتي ولا قبلن من الناصح الشفيق ولا أخفين دوني أسرارهن وقد قال العلماء: ينبغي للملك أن يحصن أموره من أهل النميمة ولا يطلع أحدا منهم على مواضع سره فقال الملك: ما أهلك البوم في نفسي إلا الغي، وضعف رأي الملك وموافقته وزراء السوء فقال الغراب: صدقت أيها الملك، إنه قلما ظفر أحد بغنى ولم يطع، وقل من أكثر من الطعام إلا مرض. وقل من وثق بوزراء السوء وسلم من أن يقع في المهالك وكان يقال: لا يطمعن ذو الكبر في حسن الثناء، ولا الخب في كثرة الصديق، ولا السي الأدب في الشرف، ولا الشحيح في البر، ولا الحريص في قلة الذنوب ولا الملك المحتال، المتهاون بالأمور، الضعيف الوزراء في ثبات ملكه، وصلاح رعيته قال الملك: لقد احتملت مشقة شديدة في تصنعك للبوم، وتضرعك لهن قال الغراب: إنه من احتمل مشقة يرجو نفعها، ونحى عن نفسه الأنفة والحمية، ووطنها على الصبر حمد غب رأيه، كما صبر الأسود على حمل ملك الضفادع على ظهره، وشبع بذلك وعاش قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الغراب: زعموا أن أسود من الحيات كبر، وضعف بصره وذهبت قوته: فلم يستطع صيدا ولم يقدر على طعام وأنه انساب يتلمس شيئا يعيش به، حتى انتهى إلى عين كثيرة الضفادع، قد كان يأتيها قبل ذلك، فيصيب من ضفاضعها رزقه فرمى نفسه قريبا منهن مظهرا للكآبة والحزن فقال له ضفدع: ما لي أراك أيها الأسود كئيبا حزينا؟ قال: ومن أحرى بطول الحزن مني! وإنما كان أكثر معيشتي مما كنت أصيب من الضفادع فابتليت ببلاء وحرمت على الضفادع من أجله، حتى إني إذا التقيت ببعضها لا أقدر على إمساكه. فانطلق الضفدع إلى ملك الضفادع، فبشره بما سمع من الأسود فقال له: كيف كان أمرك؟ قال سعيت منذ أيام في طلب ضفدع وذلك عند المساء فاضطررته إلى بيت ناسك، ودخلت في أثره في ظلمة وفي البيت ابن الناسك، فأصبت إصبعه، فظننت أنها الضفدع، فلدغته فمات فخرجت هاربا، فتبعني الناسك في أثري، ودعا علي ولعنني وقال: كما قتلت ابني البريء ظلما وتعديا، أدعو عليك أن تذل وتصير مركبا لملك الضفادع، فلا تستطيع أخذها، ولا أكل شيء منها، إلا ما يتصدق به عليك ملكها فأتيت إليك لتركبني مقرا بذلك راضيا به فرغب ملك الضفادع بركوب الأسود، وظن أن ذلك فخرا له وشرف ورفعة فركب و استطاب له ذلك.

فقال له الأسود: قد علمت أيها الملك أني محروم فاجعل لي رزقا أعيش به فقال ملك الضفادع: لعمري لابد من رزق يقوم بك، إذا كنت مركبي فأمر له بضفدعين يؤخذان في كل يوم ويدفعان إليه فعاش بذلك، ولم يضره خضوعه للعدو الذليل، بل انتفع بذلك وصار له رزقا ومعيشة وكذلك كان صبري على ما صبرت عليه، التماسا لهذا النفع العظيم الذي اجتمع لنا فيه الأمن الظفر، وهلاك العدو والراحة منه ووجدت صرعة اللين والرفق أسرع وأشد استئصالا للعدو من صرعة المكابرة: فإن النار لا تزيد بحدتها وحرها إذا أصابت الشجرة على أن تحرق ما فوق الأرض منها والماء ببرده ولينه يستأصل ما تحت الأرض منها ويقال أربعة أشياء لا يستقل قليلها: النار والمرض والعدو والدين. قال الغراب: وكل ذلك من رأى الملك وأدبه وسعادة جده وإنه كان يقال: إذا طلب اثنان أمرا ظفر به منها أفضلهما مروءة فإن اعتدلا في المروءة فأشدهما عزما. فإن استويا في العزم فأسعدهما جدا وكان يقال: من حارب الملك الحازم الأريب المتضرع الذي لا تبطره السراء ولا تدهشه الضراء كان هو داعي الحتف إلى نفسه، ولا سيما إذا كان مثلك أيها الملك العالم بفروض الأعمال، ومواضع الشدة واللين، والغضب والرضا والمعاجلة والأناة الناظر في أمر يومه وغده، وعواقب أعماله قال الملك للغراب: بل برأيك وعقلك ونصيحتك ويمن طالعك كان ذلك، فإن رأى الرجل الواحد، العاقل الحازم أبلغ في هلاك العدو من الجنود الكثيرة، من ذوي البأس والنجدة، والعدد والعدة. وإن من عجيب أمرك عندي طول لبثك بين ظهراني البوم تسمع الكلام الغليظ، ثم لم تسقط بينهن بكلمة! قال الغراب: لم أزل متمسكا بأدبك أيها الملك: أصحب البعيد والقريب، بالرفق واللين، والمبالغة والمواتاة. قال الملك: أصبحت وقد وجدتك صاحب العمل، ووجدت غيرك من الوزراء أصحاب أقاويل: ليس لها عاقبة حميدة فقد من الله علينا بك منة عظيمة لم نكن قبلها نجد لذة الطعام والشراب، ولا النوم ولا القرار وكان يقال: لا يجد المريض لذة الطعام والنوم حتى يبرأ، ولا الرجل الشره الذي قد أطعمه سلطانه في مال وعمل في يده، حتى ينجزه له، ولا الرجل الذي قد ألح عليه عدوه، وهو يخافه صباحا ومساء حتى يستريح منه قلبه ومن وضع الحمل الثقيل عن يديه أراح نفسه ومن أمن عدوه ثلج صدره.
قال الغراب: أسأل الله الذي أهلك عدوك أن يمتعك بسلطانك، وأن يجعل في ذلك صلاح رعيتك، ويشركهم في قرة العين بملكك! فإن الملك إذا لم يكن في ملكه قرة عيون رعيته، فمثله مثل زنمة العنز التي يمصها، وهو يحسبها حلمة الضرع، فلا يصادف فيها خيرا. قال الملك: أيها الوزير الصالح، كيف كانت سيرة البوم وملكها في حروبها، وفيما كانت فيه من أمورها؟ قال الغراب: كانت سيرته سيرة بطر، وأشر وخيلاء وعجز وفخر مع ما فيه من الصفات الذميمة وكل أصحابه ووزرائه شيبه به، إلا الوزير الذي كان يشير عليه بقتلي: فإنه كان حكيما أريبا، فيلسوفا حازما عالما، قلما يرى مثله في علو الهمة، وكمال العقل، وجودة الرأي قال الملك: وأي خصلة رأيت منه كانت أدل على عقله؟ قال خلتان: إحداهما رأيه في قتلي والأخرى أنه لم يكتم صاحبه نصيحته وإن استقلها ولم يكن كلامه كلام عنف وقسوة ولكنه كلام رفق ولين حتى إنه ربما أخبره ببعض عيوبه ولا يصرح بحقيقة الحال بل يضرب له الأمثال ويدثه بعيب غيره فيعرف عيبه فلا يجد ملكه إلى الغضب عليه سبيلا وكان مما سمعته يقول لملكه: إنه لا ينبغي للملك أن يغفل عن أمره فإنه أمر جسيم لا يظفر به من الناس إلا قليل ولا يدرك إلا بالحزم فإن الملك عزيز فمن ظفر به فليحسن حفظه وتحصينه، فإنه قد قيل إنه في قلة بقاءه بمنزلة قلة بقاء الظل عن ورق النيلوفر وهو في خفة زواله، وسرعة إقباله وإدباره كالريح وفي قلة ثباته كاللبيب مع اللئام، وفي سرعة اضمحلاله كحباب الماء من وقع المطر. فهذا مثل أهل العداوة الذين لا ينبغي أن يغتر بهم، وإن هم أظهروا توددا وتضرعا.

جنــــون
11-13-2011, 09:42 PM
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل، فاضرب لي مثلا في الأشياء التي يجب على الملك أن يلزم بها نفسه، ويحفظ ملكه ويثبت سلطانه، ويكون ذلك رأس أمره وملاكه: أبالحلم أم بالمروءة أم بالشجاعة أم بالجود؟ قال بيدبا: إن أحق ما يحفظ به الملك ملكه الحلم، وبه تثبت السلطنة، والحلم رأس الأمور وملاكها، وأجود ما كان في الملوك: كالذي زعموا من أنه كان ملك يدعى بلاذ، وكان له وزير يدعى إيلاذ. وكان متعبدا ناسكا. فنام الملك ذات ليلة، فرأى في منامه ثمانية أحلام أفزعته، فاستيقظ مرعوبا. فدعا البراهمة، وهم النساك ليعبروا رؤياه. فلما حضروا بين يديه قص عليهم ما رأى. فقالوا بأجمعهم: لقد رأى الملك عجبا فإن أمهلتنا سبعة أيام جئناه بتأويله. قال الملك: قد أمهلتكم فخرجوا من عنده ثم اجتمعوا في منزل أحدهم وأتمروا بينهم. وقالوا: قد وجدتم علما واسعا تدركون به ثأركم و تنقمون به من عدوكم، وقد علمتم أنه قتل منا بالأمس اثنى عشر ألفا. وها هو قد أطلعنا على سره وسألناه تفسير رؤياه: فهلم نغلظ له القول ونخوفه حتى يحمله الفرق والجزع على أن يفعل الذي نريد ونأمر. فنقول: ادفع إلينا أحباءك ومن يكرم عليك حتى نقتلهم: فإن قد نظرنا في كتابنا فلم نر أن يدفع عنك ما رأيت لنفسك وما وقعت فيه من هذا للشر إلا بقتل من نسمي لك فإن قال الملك: وما تريدون أن تقتلوا؟ سموهم لي. قلنا نريد الملكة ايراخت أم جوير المحمودة أكرم نسائك عليك. ونريد جوير أحب بنيك إليك وأفضلهم عندك. ونريد ابن أخيك الكريم، وإيلاذ خليلك وصاحب أمرك. ونريد كالا الكاتب صاحب سرك وسيفك الذي لا يوجد مثله والفيل الأبيض الذي لا تلحقه الخيل والفرس الذي هو مركبك في القتال. ونريد الفيلين الآخرين العظيمين الذين يكونان مع الفيل الذكر. ونريد البختي السريع القوي. ونريد كباريون الحكيم الفاضل العالم بالأمور لننتقم منه بما فعل بنا. ثم نقول: إنما ينبغي لك أيها الملك أن تقتل هؤلاء الذين سميناهم لك، ثم تجعل دماءهم في حوض تملؤه، ثم تقعد فيه. فإذا خرجت من الحوض اجتمعنا نحن معاشر البراهمة من الآفاق الأربعة نجول حولك فنرقيك ونتفل عليك ونمسح عنك الدم ونغسلك بالماء والدهن الطيب. ثم تقوم إلى منزلك البهي فيدفع الله بذلك البلاء الذي نتخوفه عليك. فإن صبرت، أيها الملك، وطابت نفسك عن أحبائك الذين ذكرنا لك، وجعلتهم فداءك، تخلصت من البلاء، واستقام لك ملكك وسلطانك، واستخلفت من بعدهم من أحببت. وإن أنت لم تفعل تخوفنا عليك أن يغضب ملكك أو تهلك. فإن هو أطاعنا فيما نأمره قتلناه أي قتلة شئنا. فلما أجمعوا على ما أتمروا به رجعوا إليه في اليوم السابع. وقالوا له: أيها الملك، إنا نظرنا في كتبنا في تفسير ما رأيت، وفحصنا عن الرأي فيما بيننا. فلتكن لك أيها الملك الطاهر الصالح الكرامة. ولسنا نقدر أن نعلمك بما رأينا إلا أن تخلو بنا. فأخرج الملك من كان عنده وخلا بهم. فحدثوا بالذي ائتمروا به. فقال لهم: الموت خير لي من الحياة إن أنا قتلت هؤلاء الذين هم عديل نفسي. وأنا ميت لا محالة، والحياة قصيرة، ولست كل الدهر ملكا، وإن الموت عندي وفراق الأحباء سواء. قال له البراهمة: إن أنت لم تغضب أخبرناك. فأذن لهم.

فقالوا: أيها الملك إنك لم تقل صوابا حين تجعل نفس غيرك أعز عندك من نفسك. فاحتفظ بنفسك وملكك. واعمل هذا الذي لك فيه الرجاء العظيم على ثقة ويقين. وقر عينا بملكك في وجوه أهل مملكتك الذين شرفت وكرمت بهم. ولا تدع الأمر العظيم وتأخذ بالضعيف فتهلك نفسك إيثارا لمن تحب. واعلم أيها الملك أن الإنسان إنما يحب الحياة محبة لنفسه. وأنه لا يحب من أحب من الأحباء إلا ليتمتع بهم في حياته. وإنما قوام نفسك بعد الله تعالى بملكك. وإنك لم تنل ملكك إلا بالمشقة والعناء الكثير في الشهور والسنين. وليس ينبغي أن ترفضه ويهون عليك. فاستمع كلامنا. فانظر لنفسك مناها، ودع ما سواها: فإنه لا خطر له. فلما رأى الملك أن البراهمة قد أغلظوا له في القول واجترءوا عليه في الكلام اشتد غمه وحزنه. وقام من بين ظهرانيهم ودخل إلى حجرته فخر على وجهه يبكي ويتقلب كما تتقلب السمكة إذا خرجت من الماء، وجعل يقول في نفسه: ما أدري أي الأمرين أعظم في نفسي؟ المملكة أم قتل أحبائي؟ ولن أنال الفرح ما عشت. وليس ملكي بباق علي إلى الأبد. ولست بالمصيب سؤلي في ملكي. وإني لزاهد في الحياة إذا لم أرى إيراخت. وكيف أقدر على القيام بملكي إذا هلك وزيري إيلاذ؟ وكيف أضبط أمري إذا هلك فيلي الأبيض وفرسي الجواد؟ وكيف أدعى ملكا وقد قتلت من أشار البراهمة بقتله؟ وما أصنع بالدنيا بعدهم؟ ثم إن الحديث فشا في الأرض بحزن الملك وهمه. فلما رأى إيلاذ ما نال الملك من الهم والحزن فكر بحكمته ونظر وقال: ما ينبغي لي أن أستقبل الملك فأسأله عن هذا الأمر الذي قد ناله من غير أن يدعوني. ثم انطلق إلى إيراخت فقال: إني منذ خدمت الملك إلى الآن لم يعمل عملا إلا بمشورتي ورأيي. وأراه يكتم عني أمرا لا أعلم ما هو. ولا أراه يظهر منه شيئا. وإني رأيته خاليا مع الجماعة البرهميين منذ ليال. وقد احتجب عنا فيها. وأنا خائف أن يكون قد أطلعهم على شيء من أسراره. فلست آمنهم أن يشيروا عليه بما يضره ويدخل عليه منه السوء. فقومي وادخلي عليه فاسأليه عن أمره وشأنه. واخبريني بما هو عليه وأعلميني: فإني لست أقدر على الدخول عليه. فلعل البرهميين قد زينوا له أمرا أو حملوه على خطة قبيحة. وقد علمت أن من خلق الملك أنه إذا غضب لا يسأل أحدا. وسواء عنده صغير الأمور وكبيرها. فقالت إيراخت: إنه كان بيني وبين الملك بعض العتاب فلست بداخلة عليه بهذه الحال. فقال لها إيلاذ: لا تحملي عليه الحقد في مثل هذا. ولا يخطرن ذلك على بالك فليس يقدر على الدخول عليه أحد سواك.
وقد سمعته كثيرا يقول: ما أشتد غمي ودخلت علي إيراخت إلا سرى عني، فقومي إليه واصفحي عنه. وكلميه بما تعلمين أنه تطيب به نفسه ويذهب الذي يجده. وأعلميني بما يكون جوابه: فإنه لنا ولأهل المملكة أعظم الراحة. فانطلقت إيراخت فدخلت على الملك فجلست عند رأسه. فقالت: ما الذي بك أيها الملك المحمود؟ وما الذي سمعت من البراهمة؟ فإني أراك محزونا. فأعلمني ما بك، فقد ينبغي لنا أن نحزن معك ونواسيك بأنفسنا. فقال الملك: أيتها السيدة لا تسأليني عن أمري فتزيديني غما وحزنا: فإنه أمر لا ينبغي أن تسأليني عنه. قالت: أو قد نزلت عندك منزلة من يستحق هذا؟ إنما أحمد الناس عقلا من إذا نزلت به النازلة كان لنفسه أشد ضبطا، وأكثرهم استماعا من أهل النصح حتى ينجو من تلك النازلة بالحيلة والعقل والبحث والمشاورة. فعظيم الذنب لا يقنط من الرحمة. ولا تدخلن عليك شيئا من الهم والحزن. فإنهما لا يردان شيئا مقضيا. إلا أنهما ينحلان الجسم ويشفيان العدو. قال لها الملك: لا يسأليني عن شيء فقد شققت علي. والذي تسألينني عنه لا خير فيه: لأن عاقبته هلاكي وهلاكك وهلاك كثير من أهل مملكتي ومن هو عديل نفسي. وذاك أن البراهمة زعموا أنه لا بد من قتلك وقتل كثير من أهل مودتي. ولا خير في العيش بعدكم. وهل أحد يسمع بهذا إلا اعتراه الحزن؟.

فلما سمعت ذلك إيراخت جزعت. ومنعها عقلها أن تظهر للملك جزعا. فقالت: أيها الملك لا تجزع فنحن لك الفداء. ولك في سواي ومثلي من الجواري ما تقر به عينك. ولكني أطلب منك، أيها الملك، حاجة يحملني على طلبها حبي لك وإيثاري إياك. وهي نصيحتي لك. قال الملك: وما هي؟ قالت: أطلب منك أن لا تثق بعدها بأحد من البراهمة. ولا تشاورهم في أمر حتى تتثبت في أمرك. ثم تشاور فيه ثقاتك مرارا: فإن القتل أمر عظيم، ولست تقدر على أن تحيي من قتلت. وقد قيل في الحديث: إذا لقيت جوهرا لا خير فيه فلا تلقيه من يدك حتى تريه من يعرفه. وأنت أيها الملك لا تعرف أعداءك. واعلم أن البراهمة لا يحبونك.
وقد قتلت منهم بالأمس اثني عشر ألفا. ولا تظن أن هؤلاء ليسو من أولئك. ولعمري ما كنت جديرا أن تخبرهم برؤياك، ولا أن تطلعهم عليها. وإنما قالوا لك ما قالوا لأجل الحقد الذي بينك وبينهم: لعلهم يهلكونك ويهلكون أحباءك ووزيرك: فيبلغوا قصدهم منك. فأظنك لو قبلت منهم فقتلت من أشاروا بقتله ظفروا بك وغلبوك على ملكك، فيعود الملك إليهم كما كان. فانطلق إلى كباريون الحكيم، فهو عالم فطن فاخبره عما رأيت في رؤياك واسأله عن وجهها وتأويلها. فلما سمع الملك ذلك سرى عنه وما كان يجده من الغم. فأمر بفرسه فأسرج فركبه ثم انطلق إلى كباريون الحكيم. فلما انتهى إليه نزل عن فرسه وسجد له، وقام مطأطئا الرأس بين يديه. فقال له الحكيم: ما بالك أيها الملك؟ وما لي أراك متغير اللون؟ فقال له الملك إني رأيت في المنام ثمانية أحلام فقصصتها على البراهمة. وأنا خائف أن يصيبني من ذلك عظيم أمر مما سمعت من تعبيرهم لرؤياي. وأخشى أن يغصب مني ملكي أو أن أغلب عليه. فقال له الحكيم: إن شئت فاقصص رؤياك علي. فلما قص عليه الملك رؤياه. قال: لا يحزنك أيها الملك هذا الأمر ولا تخف منه: أما السمكتان الحمراوان اللتان رأيتهما قائمتين على أذنابهما فإنه يأتيك رسول من ملك نهاوند بعلبة فيها عقدان من الدر والياقوت الأحمر، قيمتهما أربعة آلاف رطل من ذهب فيقوم بين يديك. وأما الوزتان اللتان رأيتهما طارتا من وراء ظهرك فوقعتا بين يديك: فإنه يأتيك من ملك بلخ فرسان ليس على الأرض مثلهما فيقومان بين يديك. وأما الحية التي رأيتها تدب على رجلك اليسرى: فإنه يأتيك من ملك صنجين من يقوم بين يديك بسيف خالص الحديد لا يوجد مثله. وأما الدم الذي رأيت كأنه خضب به جسدك: فإنه يأتيك من ملك كازرون من يقوم بين يديك بلباس معجب يسمى حلة أرجوان يضيء في الظلمة. وأما ما رأيت من غسلك جسمك بالماء: فإنه يأتيك من ملك رهزين من يقوم بين يديك بثياب كتان من لباس الملوك. وأما ما رأيت من أنك على جبل أبيض: لا تلحقه الخيل. وأما ما رأيت على رأسك شبيها بالنار: فإنه يأتيك من ملك أرزن من يقوم بين يديك بإكليل من ذهب مكلل بالدر والياقوت. وأما الطير الذي رأيته ضرب رأسك بمنقاره: فلست مفسرا ذلك اليوم. وليس بضارك، فلا توجلن منه. ولكن فيه بعض السخط والإعراض عمن تحبه: فهذا تفسيره رؤياك أيها الملك، وأما هذه الرسل والبرد فإنهم يأتونك بعد سبعة أيام جميعا فيقومون بين يديك. فلما سمع الملك ذلك سجد لكباريون ورجع إلى منزله.

فلما كان بعد سبعة أيام جاءت البشائر بقدوم الرسل فخرج الملك فجلس على التخت، وأذن للأشراف، وجاءته الهدايا كما اخبره كباريون الحكيم. فلما رأى الملك ذلك اشتد عجبه وفرحه من علم كباريون. وقال: ما وفقت حين قصصت رؤياي على البراهمة فأمروني بما أمروني به. ولولا أن الله تعالى تداركني برحمته لكنت قد هلكت وأهلكت؛ وكذلك لا ينبغي لكل أحد أن يسمع إلا من الأخلاء ذوي العقول. وإن إيراخت أشارت بالخير فقلبته. ورأيت به النجاح. فضعوا الهدية بين يديها لتأخذ منها ما اختارت. ثم قال لإيلاذ: خذ الإكليل واحملها واتبعني بها إلى مجلس النساء. ثم إن الملك دعا إيراخت وحورقناه أكرم نسائه بين يديه. فقال لإيلاذ: ضع الكسوة والإكليل بين يدي إيراخت لتأخذ أيها شاءت. فوضعت الهدايا بين يدي إيراخت. فأخذت منها الإكليل، وأخذت حورقناه كسوة من أفخر الثياب وأحسنها. وكان من عادة الملك أن يكون ليلة عند إيراخت وليلة عند حورقناه. وكان من سنة الملك أن تهيء له المرأة التي يكون عندها في ليلتها أرزا بحلاوة فتطعمه إياه. فأتى الملك إيراخت في نوبتها. وقد صنعت له أرزا. فدخلت عليه بالصحفة والإكليل على رأسها. فعلمت حورقناه بذلك فغارت من إيراخت. فلبست تلك الكسوة. ومرت بين يدي الملك وتلك الثياب تضيء عليها مع نور وجهها كما تضيء الشمس. فلما رآها الملك أعجبته. ثم التفت إلى إيراخت فقال: إنك جاهلة حين أخذت الإكليل وتركت الكسوة إلي ليس في خزائننا مثلها. فلما سمعت إيراخت مدح الملك لحورقناه وثناءه عليها وتجهيلها هي وذم رأيها أخذها من ذلك الغيرة والغيظ. فضربت بالصحفة رأس الملك. فسال الأرز على وجهه. فقام الملك من مكانه ودعا بإيلاذ. فقال له: ألا ترى، وأنا ملك العالم، كيف حقرتني هذه الجاهلة، وفعلت بي ما ترى؟ فانطلق بها فاقتلها ولا ترحمها. فخرج إيلاذ من عند الملك وقال: لا أقتاها حتى يسكن عنه الغضب. فالمرأة عاقلة سديدة الرأي من الملكات إلي ليس لها عديل في النساء. وليس الملك بصابر عنها. وقد خلصته من الموت، وعملت أعمالا صالحة. ورجاؤنا فيها عظيم. ولست آمنة أن يقول: لم لم تؤخر قتلها حتى تراجعني؟ فلست قاتلها حتى أنظر رأي الملك فيها ثانية: فإن رأيته نادما حزينا على ما صنع جئت بها حية. وكنت قد عملت عملا عظيما. وأنجيت إيراخت من القتل. وحفظت قلب الملك. واتخذت عند عامة الناس بذلك يدا. وإن رأيته فرحا مستريحا مصوبا رأيه في الذي فعله وأمر به فقتلها لا يفوت. ثم انطلق بها إلى منزله، ووكل بها خادما من أمنائه، وأمره بخدمتها وحراستها، حتى ينظر ما يكون من أمرها وأمر الملك. ثم خضب سيفه بالدم ودخل على الملك كالكئيب الحزين. فقال أيها الملك: إني قد أمضيت أمرك في إيراخت. فلم يلبث الملك أن سكن عنه الغضب، وذكر جمال إيراخت وحسنها. واشتد أسفه عليها. وجعل يعزي نفسه عنها. ويتجلد وهو مع ذلك يستحي أن يسأل إيلاذ: أحقا أمضى أمره فيها أم لا؟ ورجا لما عرف من عقل إيلاذ ألا يكون قد فعل ذلك. ونظر إليه إيلاذ بفضل عقله فعلم الذي به، فقال له: لا تهتم ولا تحزن أيها الملك: فإنه ليس في الهم والحزن منفعة. ولكنهما ينحلان الجسم ويفسدانه. فاصبر أيها الملك على ما لست بقادر عليه أبدا. وإن أحب الملك حدثته بحديث يسليه. قال: حدثني.

قال إيلاذ: زعموا أن حمامتين ذكرا وأنثى ملا عشهما من الحنطة والشعير. فقال الذكر للأنثى: إنا إذا وجدنا في الصحارى ما نعيش به فلسنا نأكل مما هاهنا شيئا. فإذا جاء الشتاء ولم يكن في الصحارى شيء رجعنا إلى ما في عشنا فأكلناه. فرضيت الأنثى بذلك. وقالت له: نعم ما رأيت. وكان ذلك الحب نديا حين وضعاه في عشهما. فانطلق الذكر فغاب. فلما جاء الصيف يبس الحب وانضمر. فلما رجع الذكر رأى الحب ناقصا. فقال لها: أليس كنا أجمعنا رأينا على ألا نأكل منه شيئا؟ فلم أكلته؟ فجعلت تحلف أنها ما أكلت منه شيئا. وجعلت تعتذر إليه. فلم يصدقها. وجعل ينقرها حتى ماتت. فلما جاءت الأمطار ودخل الشتاء تندى الحب وامتلأ العش كما كان. فلما رأى الذكر ذلك ندم. ثم اضطجع إلى جانب حمامته وقال: ما ينفعني الحب والعيش بعدك إذا طلبتك فلم أجدك، ولم أقدر عليك، وإذا فكرت في أمرك وعلمت أني قد ظلمتك، ولا أقدر على تدارك ما فات. ثم استمر على حزنه فلم يطعم طعاما ولا شرابا حتى مات إلى جانبها. والعاقل لا يعجل في العذاب والعقوبة، ولا سيما من يخاف الندامة، كما ندم الحمام الذكر. وقد سمعت أيضا أن رجلا دخل الجبل وعلى رأسه كارة من العدس فوضع الكارة عن ظهره ليستريح. فنزل قرد من شجرة فأخذ ملء كفه من العدس وصعد إلى الشجرة. فسقطت من يده حبة فنزل في طلبها فلم يجدها. وانتثر ما كان في يده من العدس أجمع. وأنت أيضا أيها الملك عندك ستة عشر ألف امرأة تدع أن تلهو بهن وتطلب التي لا تجد؟؟! فلما سمع الملك ذلك خشي أن تكون إيراخت قد هلكت. فقال لإيلاذ: لم لا تأنيت وتثبت؟ بل أسرعت عند سماع كلمة واحدة فتعلقت بها، وفعلت ما أمرتك به من ساعتك؟ قال إيلاذ: إن الذي قوله واحد لا يختلف هو الله الذي لا تبديل لكلماته ولا اختلاف لقوله. قال الملك: لقد أفسدت أمري وشددت حزني بقتل إيراخت. قال إيلاذ: إثنان ينبغي لهما أن يحزنا: الذي يعمل الإثم في كل يوم، والذي لم يعمل خيرا قط: لأن فرحهما في الدنيا ونعيمهما قليل. وندامتهما إذ يعاينان الجزاء طويلة لا يستطاع إحصاؤها. قال الملك: لئن رأيت إيراخت حية لا أحزن على شيء أبدا. قال إيلاذ: اثنان لا ينبغي لهما أن يحزنا: المجتهد في البر كل يوم، والذي لم يأثم قط. قال الملك: ما أنا بناظر إلى إيراخت أكثر مما نظرت قال إيلاذ: اثنان لا ينظران: الأعمى والذي لا عقل له. وكما أن العمى لا ينظر السماء ونجومها وأرضها ولا ينظر القرب والبعد، كذلك الذي لا عقل له لا يعرف الحسن من القبيح ولا المحسن من المسيء. قال الملك: لو رأيت إيراخت لاشتد فرحي. قال إيلاذ: اثنان هما الفرحان: البصير والعالم. فكما أن البصير يبصر أمور العالم وما فيه من زيادة ونقصان والقريب والبعيد، فكذلك العالم يبصر البر والإثم، ويعرف عمل الآخرة، ويتبين له نجاته، ويهتدي إلى صراط المستقيم. قال الملك: ينبغي لنا أن نتباعد منك يإيلاذ ونأخذ الحذر ونلزم الاتقاء. قال إيلاذ: اثنان يجب أن نتباعد منهما: الذي يقول لا بر ولا إثم ولا عقاب ولا ثواب ولا شيء على مما أنا فيه، والذي لا يكاد فيه يصرف بصره عما ليس له بمحرم ولا أذنه عن استماع السوء، ولا قلبه عما تهم به نفسه من الإثم والحرص. قال الملك: صارت يدي من إيراخت صفرا. قال إيلاذ: ثلاثة أشياء أصفار: النهر الذي ليس فيه ماء، والأرض التي ليس فيها ملك، والمرأة التي ليس لها بعل، قال الملك: إنك يا إيلاذ لتلقي الجواب. قال إيلاذ: ثلاثة يلقون بالجواب: الملك الذي يعطي ويقسم من خزائنه، والمرأة المهداة التي تهوى من ذوي الحسب، والرجل العالم الموفق للخير.

ثم إن إيلاذ لما رأى الملك أشتد به الأمر، قال: أيها الملك إن إيراخت بالحياة. فلما سمع الملك ذلك اشتد فرحه. وقال يإيلاذ: إنما منعني من الغضب ما أعرف من نصيحتك وصدق حديثك. وكنت أرجو لمعرفتي بعلمك ألا تكون قد قتلت إيراخت. فإنها وإن كانت أتت عظيما وأغلظت في القول فلم تأته عداوة ولا طلب مضرة، ولكنها فعلت ذلك للغيرة. وقد كان ينبغي لي أن أعرض عن ذلك وأتحمله، ولكنك يا إيلاذ أردت أن تختبرني وتتركني في شك من أمرها. وقد أخذت عندي أفضل الأيدي. وأنا لك شاكر. فانطلق فأتني بها. فخرج من عند الملك فأتي إيراخت وأمرها أن تتزين ففعلت ذلك. وانطلق بها إلى الملك. فلما دخلت سجدت له. ثم قامت بين يديه. وقالت: أحمد الله تعالى ثم أحمد الملك الذي أحسن إلي: قد أذنبت الذنب العظيم الذي لم أكن للبقاء أهلا بعده، فوسعه حلمه وكرم طبعه ورأفته، ثم أحمد إيلاذ الذي آخر أمري، وأنجاني من الهلكة، لعلمه برأفة الملك وسعة حلمه وجوده وكرم جوهره ووفاء عهده. وقال الملك لإيلاذ: ما أعظم يدك عندي وعند إيراخت وعند العامة: إذ قد أحييتها بعد ما أمرت بقتلها: فأنت الذي وهبتها لي اليوم: فإني لم أزل واثقا بنصيحتك وتدبيرك. وقد ازددت اليوم عندي كرامة وتعظيما. وأنت محكم في ملكي تفعل فيه بما ترى، وتحكم عليه بما تريد. فقد جعلت ذلك إليك ووثقت بك. قال إيلاذ: أدام الله لك أيها الملك الملك والسرور. فلست بمحمود على ذلك. فإنما أنا عبدك. لكن حاجتي ألا يعجل الملك في الأمر الجسيم الذي يندم على فعله، وتكون عاقبته الغم والحزن. ولا سيما في مثل هذه الملكة الناصحة المشفقة التي لا يوجد في الأرض مثلها: فقال الملك بحق قلت يا إيلاذ، وقد قبلت قولك، ولست عاملا بعدها عملا صغيرا ولا كبيرا، فضلا عن مثل هذا الأمر العظيم الذي ما سلمت منه، إلا بعد المؤامرة والنظر والتردد إلى ذوي العقول ومشاورة أهل المودة والرأي. ثم أحسن الملك جائزة لإيلاذ، ومكنه من أولئك البراهمة الذين أشاروا بقتل أحبائه فأطلق فيهم السيف، وقرت عين الملك وعيون عظماء أهل مملكته، وحمدوا الله وأثنوا على كباريون بسعة علمه وفضل حكمته: لأنه بعلمه خلص الملك ووزيره الصالح وامرأته الصالحة.