مشاهدة النسخة كاملة : نبذة حول الأديب: أبو حيان التوحيدي


جنــــون
08-25-2011, 10:17 AM
اسمه : علي بن محمد بن العباس التوحيدي ويكنى بأبي حيان ( 310- 414 هـ )

مولده :
ولد في بغداد حوالي 310هـ على أرجح الأقوال

تعليمه :
كانت طريقته في أخذ العلم متنوعة بين السماع ، والسؤال ، والمشافهة ، والقراءة ، والنزول إلى البادية . أخذ الفلسفة عن مدرسة الإسكندرية الفلسفية ، وأخذ اللغة والأدب والنحو وعلوم الشريعة على أئمة علماء هذه العلوم في القرن الرابع الهجري .
تمثل الجاحظ في المعرفة والتأليف ، فحاول أن يسير في دربه ، وينسج على منواله ، على أننا نزعم أنه فاقه بحتمية النشوء والارتقاء .
يعتبر دائرة معارف عصره ، فقد خاض في كل بحر ، وغاص في كل لجة . تثقف بالثقافة اليونانية بعد ترجمتها إلى العربية ، ومن ثم أتاح له ذلك الإطلاع على كتب اليونان .

تحليله للفن :
مبلغ فهم التوحيدي لمشكلة الفن والإبداع الفني ، فرأى أن الفن من أخص خصائص الإنسان المفكر ، الملهم الذي يستخدم عقله ، كما يستخدم يده لإبداع عمل فني ما مغلفاً بذات الفنان ونفسه ، وأن الفنان عندما يبدع فإنه يحاكي الطبيعة التي هي من صنع الله سبحانه وتعالى . فالفن فعل إنساني ينطوي على الإبداع ، والخلق ، وليس المحاكاة ، والفن يعبر عن مشاعر ورغبات وأفكار إنسانية ، وجمال الفن وواقعه ووحيه ، هو ترجمة لروح الفنان التي تنطوي على مجموعة رفيعة من الأحاسيس ، والأفكار , والانفعالات ..

حقائق :

في دراسة جامعية أعدها ( الدكتور عبدالواحد حسن الشيخ ) تحت عنوان ( أبوحيان التوحيدي وجهوده الأدبية والفنية ) جاء في أهم
نتائجها :
- نعتقد أنه عربي الأصل بغدادي المنشأ ، شيرازي الدفن .

- أنه لم ينسب إلى تمر التوحيد ، أوإلى المعتزلة ، بل نسب إلى لفظة التوحيد ، ذاتها وذلك لولوعه بالتوحيد .

- لم يكن زنديقاً ، بل حنيفاً مسلماً .

- عاب طريقة المتكلفين والسجاع ، ووضع قانوناً عاماً لاستخدام السجع الذي يسلس في مكان دون مكان .

- اهتم بالكلمة في الجملة ، ثم بالجملة في العبارة ، ثم بالعبارة في سياق الكلام ولذا وجدنا عنده أفانين مختلفة من ألوان التعابير لا تتوقف على السجع أو الجناس أو الازدواج فقط ، كما أثرت دراسته للفلسفة والمنطق في أسلوبه .

- عرف كيف يطوع النثر لأغراض الشعر كالهجاء مثلاً .

- تعتبر رسالة السقيفة فيما نعتقد منة وضع أبي حيان لا أبي حامد المرزوي .

- أحسن الكلام عنده ما رق لفظه ، ولطف معناه .

- يتحد العقل والحس والشعور لدى الفنان ساعة الإلهام لإبداع العمل الفني .

آراه :
- تكلم عن اللعة وخاصة السماع المؤيد للقياس ، ورده للطبع .

- ورأى المترادفات في اللغة ليست سرقاً أو عبثاً أو ترفاً فكرياً .

- ذهب إلى أن النحو منطق عربي ، والمنطق نحو عقلي ، يوناني ومن ثم وطد الصلة بين النحو والمنطق .

- لا يقول بالسرقة عند التشابه ، بل يؤمن بتوارد الخواطر .

- رأى أن النقد الصحيح هو النقد الداخلي للنص .

- من أنصار التسوية بين اللفظ والمعنى ، فحطم نظرية الثنائية التي كانت شائعة في النقد العربي .

- كان ينظر إلى الشعر نظرة تركيبية .

- التفاضل عنده بين البلغاء في النظم والنثر ، إنما يكون في التركيب أي تأليف الكلام ورصفة مع مراعاة المثل السابق .

- قسم البلاغة إلى أقسام منها بلاغة النظم ، والنثر ، والخطابة ، والمثل ، والعقل ، والبديهة وأخيراً بلاغة التأويل .

- العلاقة بين الفن والطبيعة علاقة تبادلية ، وليس في مقدور الفنان التفوق على الطبيعة لأن الفن متناه عكس الطبيعة فهي غير متناهية .

- يرى أن الطبيعة تتفوق على الفن ولذا يحاول الفنان الماهر اللحاق بالطبيعة ، والعمل الفني هو القاسم المشترك الأعظم بين الفنان والمتذوق ، والتذوق الفني نتيجة للتأمل العميق للأثر المتَذَوَق .

ما قاله النقاد :
أبو حيان التوحيدي فيلسوف الأدباء ، وأديب الفلاسفة ، ومحقق المتكلمين ، ومتكلم المحققين بما له وما عليه على حد قول ( الدكتور عبدالواحد حسن الشيخ ) ويختم بقوله :
يتضح لنا أهمية دراسة أبي حيان وقيمة كتبه أدبياً وفنياً ، وفلسفياً ، ومن ثم نوصي الدارسين بضرورة الاهتمام بدراسة التوحيدي وبإعادة النظر فيما خلفه من آثار أدبية وفكرية .

يقول د عباس إحسان : وقد سخر أبو حيان هذا الأسلوب في موضوعات متباينة ، غير أنه جلاه أتم جلاء في الدعاء والمناجاة ، فأربى في هذا الفن على كل من قبله ، ولم يطاوله أحد مما جاء بعده ، وليست أدعية الصوفية إلا شيئاً ساذجاً إلى جانب أدعيته فقد صنع بالمناجاة فناً ذاتياً أصيلاً .

دراسات عنه :
- أبو حيان التوحيدي سيرته وآثاره ( ماجستير في الأدب العربي ) / د. عبدالرزاق محيي الدين .
- دراسة عنه / د. إحسان عباس ( كتاب )
- دراسة عنه / د. إبراهيم الكيلاني ( كتاب )
- دراسة عنه / د. الحوفي
- أبو حيان التوحيدي أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء / د. زكريا إبراهيم ( كتاب ) - أبو حيان التوحيدي وجهوده الأدبية والفنية / د. عبدالواحد حسن الشيخ ( دراسة جامعية )

مؤلفاته :
- البصائر والذخائر
- الإمتاع والمؤانسة
- الدعاء والمناجاة
- الإشارات الإلهية
- أخلاق الوزيرين
- الصداقة والصديق

وفاته :
على أرجح الأقوال توفي سنة 414 هـ

جنــــون
08-25-2011, 10:18 AM
من كتاب الهوامل والشوامل
المسألة الأولى وهي لغوية

قلت أعزك الله‏:‏ ما الفرق بين العجلة والسرعة وهل يجب أن يكون بين كل لفظتين - إذا تواقعتا على معنى وتعاورتا غرضاً - فرق لأنك تقول‏:‏ سر فلان وفرج وأشر فلان ومرح ، وبعد فلان ونزح وهزل فلان ومزح وحجب فلان وصد ومنع فلان ورد وأعطى فلان وناول ورام فلان وحاول وعالج فلان وزاول وذهب فلان ومضى وحكم فلان وقضى وجاء فلان وأتى واقترب فلان ودنا وتكلم فلان ونطق وأصاب فلان وصدق وجلس فلان وقعد ونأى فلان وبعد وحضر فلان وشهد ورغب عن كذا وزهد ‏.‏

وهل يشتمل السرور والحبور والبهجة والغبطة والفكه والجذل والفرح والإرتياح والبجح على معنى واحد أو على معان مختلفة وخذ على هذا فإن بابه طويل وحبله مثنى وشكله كثير‏.‏

فإن كان بين كل نظيرين من ذلك يفصل معنى من معنى ويفر مراداً من مراد ويبين غرضاً من غرض فلم لا يشترك في معرفته كما اشترك في معرفة أصله‏.‏

وما الذي أوضح الفرق بين نطق وسكت وألبس الفرق بين نطق وتكلم وبين سكت يكن بد من أن يفزع إلى حركات بأصوات دالة على هذه المعاني بالاصطلاح ليستدعيها بعض الناس من بعض وليعاون بعضهم بعضاً فيتم لهم البقاء الإنساني وتكمل فيهم الحياة البشرية‏.‏

وكان الباري - جل وعز - بلطيف حكمته وسابق علمه وقدرته قد أعد للإنسان آلة هي أكثر الأعضاء حركة وأوسعها قدرة على التصرف ووضعها في طريق الصوت وضعاً موافقاً لتقطيع ما لا يخرج منه مع النفس ملائماً لسائر الأخر المعينة في تمام الكلام - كانت هذه الآلة أجدر الأعضاء باستعمال أنواع الحركات المظهرة لأجناس الأصوات الدالة على المعاني التي ذكرناها وقد بلغت عدة هذه الأصوات المفردة المقطعة بهذه الحركات المسماة حروفاً - ثمانية وعشرين حرفاً في اللغة العربية‏.‏

ثم ركبت كلها ثنائياً وثلاثياً ورباعياً وجميعها متناهية محصاة لأن أصولها وبسائطها محصورة معدودة فالمركبات منها أيضاً محصورة معدودة‏.‏

ولما كانت قسمة العقل توجب في هذه الكلم إذا نظر إليها بحسب دلالتها على المعاني أن تكون على أحوال خمس لا أقل منها ولا أكثر وجدت منقسمة إليها لا غير وهي‏:‏ أن يتفق اللفظ والمعنى معاً أو يختلفا معاً أو تتفق الألفاظ وتختلف المعاني أو تختلف الألفاظ وتتفق المعاني أو تتركب اللفظة فيتفق بعض حروفها وبعض المعنى وتختلف في الباقي‏.‏

وهذه الألفاظ الخمسة هي التي عدها الحكيم في أول كتبه المنطقية وتكلم عليها المفسرين وسموها المتفقة والمتباينة والمتواطئة والمترادفة والمشتقة وهي مشروحة هناك ولكن السبب الذي من أجله احتيج إلى وضع الكلام يقتضى قسماً واحداً منها وهو أن تختلف الألفاظ بحسب اختلاف المعاني وهي المسماة المتباينة فأما الأقسام الباقية فإن ضرورات دعت إليها وحاجات بعثت عليها ولم تقع بالقصد الأول وسنشرح ذلك بعون الله وتوفيقه‏.‏

وقد تقدم البيان أن المعاني والأحوال التي تتصور للنفس كثيرة جداً وأنها بلا نهاية‏.‏

فأما الحروف الموضوعة الدالة بالتواطؤ والمركبات منها فمتناهية محصورة محصاة بالعدد‏.‏

ومن الأحكام البينة والقضايا الواضحة ببدائه العقول أن الكثير إذا قسم على القليل اشتركت عدة منها في واحدة لا محالة فمن ههنا حدث الاتفاق في الإسم وهو أن توجد لفظة واحدة دالة على معان كثيرة كلفظة العين الدالة على العين التي يبصر بها وعلى عين الماء وعين الركبة وعين الميزان والمطر الذي لا يقلع أياماً وأشباهه من الأسماء كثيرة جداً ولم يقع هذا الفعل المؤدي إلى الإلباس والإشكال وإلى الغلط والخطأ في الأعمال والإعتقادات باختيار بل باضطرار طبيعي كما بينا وأوضحنا‏.‏

وعرض بعد ذلك أن أصحاب صناعة البلاغة وصناعة الشعر والسجع وأصحاب البلاغة والخطابة هم الذين يحتاجون إلى الإقناعات العامية في مواقف الإصلاح بين العشائر مرة والحض على الحروب مرة والكف عنها مرة وفي المقامات الأخر التي يحتاج فيها إلى الإطالة والإسهاب وترديد المعنى الواحد على مسامع الحاضرين ليتمكن من النفوس وينطبع في الأفهام - لم يستحسنوا إعادة اللفظة الواحدة مراراً كثيرة ولا سيما الشاعر فإنه مع ذلك دائم الحاجة إلى لفظ يضعه مكان لفظ دال على معناه بعينه ليصحح به وزن شعره ويعدل به أقسام كلامه‏.‏

فاحتيج لأجل ذلك إلى أسماء كثيرة دالة على معنى واحد‏.‏

وهذا العارض الذي عرض للألفاظ المترادفة كأنه مناصب للقصد الأول في وضع الكلام مخالف له وقد دعت الحاجة إليه كما تراه ولولا حاجة الخطباء والشعراء وأصحاب السجع والموازنة إليه لكان لغواً باطلاً‏.‏

ولما كانت المسألة متعلقة بهذين القسمين من الكلام اقتصرنا على شرحهما وعولنا - بمن نشط للوقوف على الأقسام الأخر - على الكتب المصنفة فيها لأهل المنطق لأنها مستقصاة هناك‏.‏

وإذ قد فرغنا من التوطئة التي رمناها أمام المسألة فإنا نأخذ في الجواب عنها فنقول‏:‏ إن من الألفاظ ما توجد متباينة وهي التي تختلف باختلاف المعنى وإليها كان القصد الأول بوضع اللغة‏.‏

ومنها ما توجد مترادفة وهي التي تختلف ألفاظها ومعانيها واحدة‏.‏

وهذان القسمان حدثا بالضرورة كما بينا‏.‏

وربما وجدت ألفاظ مختلفة دالة على معان متقاربة وإن كانت أشخاص تلك المعاني مختلفة وربما دلت على أحوال مختلفة ولكنها مع اختلافها هي لشخص واحد فلأجل ذلك يستعملها الخطيب والشاعر مكان المترادفة لموضع المناسبة والشركة القريبة بينها وإن كانت متباينة بالحقيقة ومثال ذلك ما يوجد من أسماء الداهية فإنها على كثرتها نعوت مختلفة ولكنها لما كانت لشيء واحد استعملت كأنها معنى واحد‏.‏

وكذلك أسماء الخمر والسيف وأشباهها‏.‏

وأنت إذا أنعمت النظر واستقصيت الروية وجدت هذه الأشياء مختلفة المعاني ولكنها لما كانت أوصافاً لموصوف واحد أجريت مجرى الأسماء الدالة على معنى واحد وذلك عند اتساع الناس في الكلام وعند حاجتهم إلى التسمح وترك التكلف والتجوز في كثير من الحقائق‏.‏

ولولا علمي بثقافة فطنتك وإحاطة معرفتك وسرعة تطلعك بفهمك على ما أومأت إليه لتكلفت لك الفرق بين معاني ألفاظ الخمر والشراب والشمول والراح والقهوة وسائر أسمائها وبين معاني ألفاظ السيف والصمصام والحسام وباقي ألقابه ونعوته وكذلك في أسماء الدواهي فينبغي لنا إذا وجدنا ألفاظاً مختلفة ومعانيها متفقة أو متقاربة أن ننظر فيها فإن نبهنا على موضع خلاف في المعاني حملنا تلك الألفاظ على مقتضى اللغة وموجب الحكمة في وضع الكلام فنجعلها من الألفاظ المتباينة التي اختلفت باختلاف المعاني‏.‏

وهي السبيل الواضحة والطريقة الصحيحة التي يسقط معها سؤال السائل وشك المتشكك‏.‏

فإن لم يقع لنا موضع الخلاف في المعاني ولم يدلنا عليه النظر حملناه على الأصل الآخر وصرفناه إلى القسم الذي بيناه وشرحناه من الضرورة الداعية في الشعر والخطابة إلى إستعمال الألفاظ الكثيرة الدالة على معنى واحد‏.‏

فلما وجدت المسائل التي صدرت في هذه الرسالة قد مثل فيها بألفاظ بعينها - تكلفت الكلام فيها ليستعان بها على نظائرها فإنها عند التصفح كثيرة واسعة جداً والله الموفق‏.‏

أما الفرق بين العجلة والسرعة فإن العجلة على الأكثر تستعمل في الحركات الجسمانية التي تتوالى وأكثر ما تجيء في موضع الذم فإنك تقول للرجل‏:‏ عجلت علي وعجل فلان على فلان فيعلم منه أنه ذم وأنت لا تفهم هذا المعنى من أسرع فلان‏.‏

وأيضاً فإنك لا تستعمل الأمر من العجلة إلا لأصحاب المهن الدنية ولا تقوله إلا لمن هو دونك‏.‏

فأما السرعة فإنها من الألفاظ المحمودة وأكثر ما تجيء في الحركات غير الجسمانية وذاك أنك تقول فلان سريع الهاجس وسريع الأخذ للعلم وقد أسرع في الأمر وأسرع في الجواب ‏{‏وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ وفرس فلان أسرع من الريح وأسرع من البرق ويقال في الطرف سريع وفي القضاء سريع والفلك سريع الحركة ولا يستعمل بدل هذه الألفاظ عجل ولا تنصرف لفظة العجلة في شيء من هذه المواضع‏.‏

وهذا فرق واضح ولكن الإتساع في الكلام وتقارب المعنيين يحمل الناس على وضع إحدى الكلمتين مكان الأخرى‏.‏

وأما قولهم سر فلان وفرح وأشر ومرح فإن الفرق بين السرور والفرح وبين الأشر والمرح ظاهر فإن الأشر والمرح لا يستعملان إلا في الذم والعيب وأما السرور والفرح فليسا من ألفاظ الذم‏.‏

ووضوح الفرق ههنا أظهر وأبين من أن يحتاج فيه إلى تكلف شرح وبيان‏.‏

فأما السرور والفرح وإن كانا متقاربين في المعنى فإن أحدهما وهو السرور لا يستعمل إلا إذا كان فاعله بك غيرك‏.‏

وأما الفرح فهو حال تحدث بك غير فاعل وتصريف الفعل منهما يدل على صحة ما ذكرناه وذلك أنك تقول‏:‏ سررت وسر فلان ولا يستعمل فيه إلا لفظ فعل الذي هو وإن لم يسم فاعله فهو فعل غيرك‏.‏

وأما بعد فلان ونزح فبينهما أيضاً فرق وذلك أن البعد في المسافات على أنواع وإن كان يجمعها هذا الاسم فإن الأخذ في الطول والعرض والعمق مختلف الجهات وإن كان الجنس واحداً فلما اختلفت الجهات وكانت كل واحدة منها خلاف الأخرى - وجب أن تختلف الألفاظ الدالة عليها فلفظة البعد وإن كان كالجنس مستعملة في كل واحدة من الجهات فإنه يختص بالأخذ طولاً‏.‏

وأما لفظة نزح فإنه يختص بالأخذ عمقاً فأصله في البئر وما جرى مجراها من العمق ثم حملهم الإتساع في الكلام - وأن العمق أيضاً بعد ما - على أن أجروه مجرى الطول‏.‏

وأما هزل فلان ومزح فبينهما فرق وذلك أن الهزل هو ضد الجد وهو مذموم‏.‏

فأما المزح فليس بمذموم‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً ولم يكن يهزل‏.‏

ويقال‏:‏ فلان حسن الفكاهة مزاح يوصف به ويمدح فإذا هزل عيب وذم‏.‏

فأما قولهم‏:‏ حجب فلان وصد فإن الحجاب معنى سابق وكأنه سبب للصدود ولما كان الصدود هو الإعراض بالوجه - وإنما يقع هذا الفعل بعد الحجاب منه - صار قريباً فاستعمل مكانه وبين المعنيين تفاوت‏.‏

فأما الألفاظ الأخر التي ذكرت بعد فإن المتأمل لها يعرف الفرق بينهما بأدنى تأمل ولذلك تركت الكلام فيها إذ كان أعطى أصله من عطا يعطو وإنما عدى بالهمزة كما تقول قام فلان وأقامه غيره‏.‏

وأما ناول فهو فاعل من النول وحاول فعل من الحول‏.‏

وهذه الأشياء من الظهور بحيث يستغني عن الكلام فيها‏.‏

وأما قولهم جلس فلان وقعد فإن الهيئة وإن كانت واحدة فإن الجلوس لما كان بعقب تكاء واستلقاء والقعود لما كان بعقب قيام وانتصاب - أحبوا أن يفرقوا بين الهيئتين الواقعتين بعقب أحوال مختلفة‏.‏

والدليل على أنهم خالفوا بين هاتين اللفظتين لأجل الأحوال المختلفة قبلهما أنك تقول‏:‏ كان فلان متكئاً فاستوى جالساً ولا تقول استوى قاعداً‏.‏

ولست أقول‏:‏ إن هذا الحكم واجب في كل لفظتين مختلفتين إذا دلتا على معنى ولا هو حتم عليك ولا ضربة لا زب لك بل قد قدمنا أما هذه المسألة ما جعلنا لك فيه فسحة تامة ورخصة واسعة‏:‏ إذا لم تجد الفرق واضحاً بيناً أن تذهب بهما إلى الاتفاق في الاسم الذي هو أحد أقسام الألفاظ التي عددناها‏.‏

ثم قلت في آخر المسألة‏:‏ ما الفرق بين المعنى والمراد والغرض وبينهما فروق بينة وذلك أن المعنى أمر قائم بنفسه مستقل بذاته وإنما يعرض له بعد أن يصير مراداً وقد يكون معنى ولا يكون مراداً‏.‏

فأما الغرض فأصله المقصود بالسهم ولكنه لما كان منصوباً لك تقصده بالحركة والإرادة صار كالغرض للسهم فاستعملت هذه اللفظة ههنا على التشبيه‏.‏

وأما قولك في خاتمة المسألة‏:‏ ما الذي أوضح الفرق بين نطق وسكت وألبس الفرق بين سكت وصمت فما أعجبه من مطالبة وأغربه من مسألة‏!‏ كيف لا يكون الفرق بين المتضادين اللذين هما في الطرفين والحاشيتين وأحدهما في غاية البعد عن الآخر - أوضح من الشيئين المتقاربين اللذين ليس بينهما إلا بعد وأمد قريب يخفى على الناظر إلا بعد حده النظر واستقصاء التأمل على أن الفرق بين صمت وسكت أيضاً غير ملتبس لأن السكوت لا يكون إلا من متكلم ولا يقع إلا من ناطق‏.‏

وأما الصمت فليس يقع إلا عن نطق لا محالة لأنه يقال‏:‏ جاء فلان بما صاء وصمت يعني به ضروب المال الحي منه والجماد‏.‏

ولا يقال في المال‏:‏ صامت إلا لما كان غير ذي حياة ولا نطق ولا صوت كالذهب والفضة وما جرى مجراها من الجمادات‏.‏

وأما المال الذي هو ماشية وحيوان فلا يقال له‏:‏ صامت ولا يقال للصامت من المال ساكت لأن السكوت إنما يكون عن كلام أو صوت‏.‏

وقد يقال في الثوب إذا أخلق‏:‏ سكت الثوب وإنما ذلك على التشبيه كأنهم لما وجدوه جديداً يصوت ويقعقع شبهوه بالمتكلم ثم لما أمسك عند الإخلاق شبهوه بالساكت وهذا من ملح الكلام وطرف المجاز‏.‏

جنــــون
08-25-2011, 10:18 AM
الليلة الأولى ( الإمتاع والمؤانسة )
وصلت أيها الشيخ - أطال الله حياتك - أول ليلة إلى مجلس الوزير - أعز الله نصره، وشد بالعصمة والتوفيق أزره - فأمرني بالجلوس، وبسط لي وجهه الذي ما اعتراه منذ خلق العبوس؛ ولطف كلامه الذي ما تبدل منذ كان لا في الهزل ولا في الجد، ولا في الغضب ولا في الرضا.
ثم قال بلسانه الذليق، ولفظه الأنيق: قد سألت عنك مراتٍ شيخنا أبا الوفاء، فذكر أنك مراعٍ لأمر البيمارستان من جهته، وأنا أربأ بك عن ذلك، ولعلي أعرضك لشيء أنبه من هذا وأجدى، ولذلك فقد تاقت نفسي إلى حضورك للمحادثة والتأنيس، ولأتعرف منك أشياء كثيرةً مختلفة تردد في نفسي على مر الزمان، لا أحصيها لك في هذا الوقت، لكني أنثرها في المجلس بعد المجلس على قدر ما يسنح ويعرض، فأجبني عن ذلك كله باسترسال وسكون بال؛ بملء فيك، وجم خاطرك، وحاضر علمك؛ ودع عنك تفنن البغداديين مع عفو لفظك، وزائد رأيك، وربح ذهنك؛ ولا تجبن جبن الضعفاء، ولا تتأطر تأطر الأغبياء؛ واجزم إذا قلت، وبالغ إذا وصفت؛ واصدق إذا أسندت، وافصل إذا حكمت، إلا إذا عرض لك ما يوجب توقفاً أو تهادياً؛ وما أحسن ما قال الأول:
لا تقدح الظنة في حكمـه شيمته عـدلٌ وإنـصـاف
يمضي إذا لم تلقه شـبـهةٌ وفي اعتراض الشك وقاف
وقد قال الأول:
أبالي البلاء وإني امرؤٌ إذا ما تبينت لم أرتب
وكن على بصيرة أني سأستدل مما أسمعه منك في جوابك عما أسألك عنه على صدقك وخلافه، وعلى تحريفك وقرافه.
فقلت قبل: كل شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري على ما يراد مني فإني إن منعته نكلت، وإن نكلت قل إفصاحي عما أطالب به وخفت الكساد، وقد طمعت بالنفاق وانقلبت بالخيبة، وقد عقدت خنصري على المسألة. فقال - حرس الله روحه -: قل - عافاك الله - ما بدا لك، فأنت مجاب إليه ما دمت ضامناً لبلوغ إرادتنا منك، وإصابة غرضنا بك.
قلت: يؤذن لي في كاف المخاطبة، وتاء المواجهة، حتى أتخلص من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض، وأركب جدد القول من غير تقية ولا تحاش ولا محاوبة ولا انحياش.
قال: لك ذلك، وأنت المأذون فيه، وكذلك غيرك، وما في كاف المخاطبة وتاء المواجهة? إن الله تعالى - على علو شأنه، وبسطه ملكه، وقدرته على جميع خلقه - يواجه بالتاء والكاف، ولو كان في الكناية بالهاء رفعةٌ وجلالةٌ وقدر ورتبة وتقديس وتمجيد لكان الله أحق بذلك ومقدماً فيه، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله - عليهم السلام - وأصحابه - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان - رحمة الله عليهم - وهكذا الخلفاء، فقد كان يقال للخليفة: يا أمير المؤمنين أعزك الله، ويا عمر أصلحك الله؛ وما عاب هذا أحد، وما أنف منه حسيب ولا نسيب، ولا أباه كبيرٌ ولا شريف؛ وإني لأعجب من قومٍ يرغبون عن هذا وشبهه، ويحسبون أن في ذالك ضعةً أو نقيصةً أو حطاً أو زرايةً، وأظن أن ذلك لعجزهم وفسولتهم، وانخزالهم وقلتهم وضؤولتهم، وما يجدونه من الغضاضة في أنفسهم، وأن هذا التكلف والتجبر يمحوان عنهم ذلك النقص، وذلك النقص ينتفي بهذا الضلف؛ هيهات، لا تكون الرياسة حتى تصفو من شوائب الخيلاء ومن مقابح الزهو والكبرياء.
فقلت: أيها الوزير، قد خالطت العلماء، وخدمت الكبراء وتصفحت أحوال الناس في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم، فما سمعت هذا المعنى من أحدل على هذه السياقة الحسنة والحجة الشافية والبلاغ المبين؛ وقد قال بعض السلف الصالح: "ما تعاظم أحد على من دونه إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه". والتصاغر دواء النفس، وسجية أهل البصيرة في الدنيا والدين؛ ولذلك قال ابن السماك للرشيد - وقد عجب من رقته وحسن إصاخته لموعظته وبليغ قبوله لقوله وسرعة دمعته على وجنته -: "يا أمير المؤمنين، لتواضعك في شرفك أشرف من شرفك، وإني أظن أن دمعتك هذه قد أطفأت أوديةً من النار وجعلتها برداً وسلاماً".
قال: هذا باب مفترقٌ فيه، ورجعنا إلى الحديث فإنه شهي، سيما إذا كان من خطرات العقل قد خدم بالصواب في نغمةٍ ناغمة، وحروف متقاومة؛ ولفظٍ عذب، ومأخذٍ سهل؛ ومعرفة بالوصل والقطع، ووفاء بالنثر والسجع؛ وتباعدٍ من التكلف الجافي، وتقاربٍ في التلطف الخافي، قاتلالله ذا الرمة حيث يقول:
لها بشرٌ مثل الحرير ومنـطـقٌ رخيم الحواشي لا هراءٌ ولا نزر
وكنت أنشد أيام الصبا هذا بالذال، وكان ذلك من سوء تلقين المعلم؛ وبالعراق رد علي وقيل: هو بالزاي؛ وقد أجاد القطامي أيضاً وتغزل في قوله:
فهن ينبذن من قول يصـبـن بـه مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
قلت: ولهذا قال خالد بن صفوان حين قيل له: أتمل الحديث? قال: إنما يمل العتيق، والحديث معشوق الحس بمعونة العقل، ولهذا يولع به الصبيان والنساء، فقال: وأي معونة لهؤلاء من العقل ولا عقل لهم? قلت: ههنا عقلٌ بالقوة وعقلٌ بالفعل، ولهم أحدهما وهو العقل بالقوة، وههنا عقلٌ متوسط بين القوة والفعل مزمع، فإذا برز فهو بالفعل، ثم إذا استمر العقل بلغ الأفق؛ ولفرط الحاجة إلى الحديث ما وضع فيه الباطل، وخلط بالمحال ووصل بما يعجب ويضحك ولا يؤول إلى تحصيل وتحقيق، مثل هزار أفسان وكل ما دخل في جنسه من ضروب الخرافات؛ والحسن شديد اللهج بالحادث والمحدث والحديث، لأنه قريب العهد بالكون، وله نصيب من الطرافة. ولهذا قال بعض السلف: "حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدثور"، كأنه أراد اصقلوها واجلو الصدأ عنها، وأعيدوها قابلةً لودائع الخير، فإنها إذا دثرت - أي صدئت، أي تغطت؛ ومنه الدثار فوق الشعار - لم ينتفع بها؛ والتعجب كله منوطٌ بالحادث؛ وأما التعظيم والإجلال فهما لكل ما قدم: إما بالزمان، وإما بالدهر؛ ومثال ما يقدم بالزمان الذهب والياقوت وما شابههما من الجواهر التي بعد العهد بمبادئها، وسيمتد العهد جداً إلى نهاياتها؛ وأما ما قدم بالدهر، فكالعقل والنفس والطبيعة؛ فأما الفلك وأجرامه المزدهرة في المعانقة العجيبة، ومناطقه الخفية، فقد أخذت من الدهر صورةً إلهية، وأحدثت فيما سلف منها صورةً زمانية.
فقال: بقي أن يتصل به نعت العتيق والخلق، فكان من الجواب أن العتيق يقال على وجهين: فأحدهما يشار به إلى الكرم والحسن والعظمة، وهذا موجودٌ في قول العرب: البيت العتيق؛ والآخر يشار به إلى قدم من الزمان مجهول. فأما قولهم: عبد عتيق، فهو داخل في المعنى الأول، لأنه أكرم بالعتق، وارتفع عن العبودية، فهو كريم. وكذلك وجه عتيق لأنه أعتقته الطبيعة من الدمامة والقبح. وكذلك فرس عتيق.
وأما قولهم: هذا شيء خلق، فهو مضمن معنيين: أحدهما يشار به إلى أن مادته بالية؛ والآخر أن نهاية زمانه قريبة. وكان ابن عباد قال لكاتبه مرة - أعني ابن حسولة - في شيء جرى... نعم، العالم عتيق ولكن ليس بقديم أي لو كان قديماً لكان لا أول له، ولما كان عتيقاً كان له أعول، ومن أجل هذا الاعتقاد وصفوا الله تعالى بأنه قديم، واستحسنوا هذا الإطلاق. وقد سألت العلماء البصراء عن هذا الإطلاق، فقالوا: ما وجدنا هذا في كتاب الله - عز وجل - ولا كلام نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا في حديث الصحابة والتابعين. وسألت أبا سعيد السيرافي الإمام: هل تعرف العرب أن معنى القديم ما لا أول له? فقال: هذا ما صح عندنا عنهم ولا سبق إلى وهمنا هذا منهم، إلا أنهم يقولون: هذا شيء قديم وبنيان قديم ويسرحون وهمهم في زمانٍ مجهول المبدأ.
فقل: قد مر في كلامك شيء يجب البحث عنه، ما الفرق بين الحادث والمحدث والحديث؛ فكان من الجواب أن الحادث ما يلحظ نفسه والمحدث ما يلحظ مع تعلقٍ بالذي كان عنه محدثاً. والحديث كالمتوسط بينهما مع تعلقٍ بالزمان ومن كان منه.
وههنا شيء آخر، وهو الحدثان والحدثان؛ فأما الأول فكأنه لما هو مضارعٌ للحادث، وأما الحدثان فكأنه اسم للزمان فقط، لأنه يقال: كان كذا وكذا في حدثان ما ولي الأمير، أي في أول زمانه، وعلى هذا يدور أمر الحدث والأحداث والحادثات والحوادث. وفلان حدث ملوكٍ كله من ديوان واحد وواد واحد وسبك واحد. قال: ما الفرق بين حدث وحدث? قلت: لا فرق بينهما إلا من جهة أن حدث تابع لقدم، لأنه يقال: أخذه ما قدم وما حدث؛ فإذا قيل لإنسان: حدث يا هذا. فكأنه قيل له: صل شيئاً بالزمان يكون به في الحال، لا تقدم له من قبل.
ثم رجعت فقلت. ولفوائد الحديث ما صنف أبو زيد رسالة لطيفة الحجم في المنظر، شريفة الفوائد في المخبر، تجمع أصناف ما يقتبس من العلم والحكمة والتجربة في الأخبار والأحاديث، وقد أحصاها واستقصاها وأفاد بها، وهي حاضرة. فقال احملها واكتبها، ولا تمل إلى البخل بها على عادة أصحابنا الغثاث. قلت: السمع والطاعة.
ثم رويت أن عبد الملك بن مروان قال لبعض جلسائه: قد قضيت الوطر من كل شيء إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر، على التلال العفر.
وأحسن من هذا ما قال عمر بن عبد العزيز قال: والله إني لأستري المحادثة من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بألف دينار من بيت مال المسلمين. فقيل: يا أمير المؤمنين، أتقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك وتنزهك? فقال: أين يذهب بكم? والله إني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف دنانير، إن في المحادثة تلقيحاً للعقول، وترويحاً للقلب، وتسريحاً للهم، وتنقيحاً للأدب.
قال: صدق هذا الإمام في هذا الوصف، إن فيه هذا كله.
قلت: وسمعت أبا سعيد السيرافي يقول: سمعت ابن السراج يقول: دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي قضى فيه، فأنشدنا قوله:
ولقد سئمت مآربـي فكأن أطيبها خبـيث
إلا الحـديث فـإنـه مثل اسمه أبداً حديث
وقال سليمان بن عبد الملك: قد ركبنا الفاره، وتبطنا الحسناء، ولبسنا اللين، وأكلنا الطيب حتى أجمناه، وما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عني مؤونة التحفظ ويحدثني بما لا يمجه السمع، ويطرب إليه القلب. وهذا أيضاً حقٌ وصواب، لأن النفس تمل، كما أن البدن يكل؛ وكما أن البدن إذا كل طلب الراحة، كذلك النفس إذا ملت طلبت الروح وكما لابد للبدن أن يستمد ويستفيد بالجمام الذاهب بالحركة الجالبة للنصب والضجر، كذلك لابد للنفس من أن تطلب الروح عند تكاثف الملل الداعي إلى الحرج فإن البدن كثيف النفس، ولهذا يرى بالعين، كما أن النفس لطيفة البدن، ولهذا لا توجد إلا بالعقل؛ والنفس صفاء البدن، والبدن كدر النفس. فقال: أحسنت في هذه الروايات على هذه التوشيحات وأعجبني ترحمك على شيخك أبي سعيد، فما كل أحد يسمح بهذا في مثل هذا المقام، وما كل أحد يأبه لهذا الفعل؛ هات ملحه الوداع حتى نفترق عنها، ثم نأخذ ليلة أخرى في شجون الحديث.
قلت: حدثنا ابن سيف الكاتب الراوية، قال: رأيت جحظة قد دعا بناءً ليبني له حائطاً فحضر، فلما أمسى اقتضى البناء الأجرة، فتماكسا وذلك أن الرجل طلب عشرين درهماً؛ فقال جحظة: إنما عملت يا هذا نصف يوم وتطلب عشرين درهماً? قال: أنت لا تدري، إني قد بنيت لك حائطاً يبقى مائة سنة؛ فبينما هما كذلك وجب الحائط وسقط؛ فقال جحظة: هذا عملك الحسن? قال: فأردت أن يبقى ألف سنة? قال: لا، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك. فضحك - أضحك الله سنه -.

جنــــون
08-25-2011, 10:18 AM
من كتاب الصداقة والصديق
سُمع مني في وقت بمدينة السلام كلامٌ في الصداقة، والعشرة، والمؤاخاة، والألفة، وما يلحق بها من الرعاية، والحفاظ، والوفاء، والمساعدة، والنصيحة، والبذل، والمواساة، والجود، والتكرم، مما قد ارتفع رسمه بين الناس، وعفا أثره عند العام والخاص، وسُئلت إثباته ففعلت، ووصلت ذلك بجملةٍ مما قال أهل الفضل والحكمة، وأصحاب الديانة والمروءة؛ ليكون ذلك كلُّه رسالة تامة يمكن أن يستفاد منها في المعاش والمعاد.
***
قال أبو سليمان السجستاني: "فأما الملوك فقد جَلُّوا عن الصداقة؛ ولذلك لا تصح لهم أحكامها، ولا توفي بعهودها، وإنما أمورهم جارية على القدرة، والقهر، والهوى، والشائق، والاستحلاء، والاستخفاف.

وأما خدمهم وأولياؤهم فعلى غاية الشبه بهم، ونهاية المشاكلة لهم؛ لانتشابهم بهم، وانتسابهم إليهم، وولوع طورهم بما يصدر عنهم، ويَرِدُ عليهم.



وأما التُّنَّاء وأصحاب الضياع فليسوا من هذا الحديث في عير ولا نفير.

وأما التجار فكسب الدوانيق سدٌّ بينهم وبين كل مروءة، وحاجزٌ لهم عن كل ما يتعلق بالفتوة.

وأما أصحاب الدين والورع - فعلى قلتهم - فربما خلصت لهم الصداقة؛ لبنائهم إياها على التقوى، وتأسيسها على أحكام الحرج، وطلب سلامة العقبى.

وأما الكتَّاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوا من التنافس، والتحاسد، والتماري، والتماحك - فربما صحت لهم الصداقة، وظهر منهم الوفاء، وذلك قليل، وهذا القليل من الأصل القليل.

وأما أصحاب المذاب والتطفيف فإنهم رجرجة بين الناس، لا محاسن لهم فتذكر، ولا مخازي فتنشر؛ ولذلك قيل لهم همج، ورعاع، وأوباش، وأوناش، ولفيف، وزعانف، وداصة، وسقاط، وأنذال، وغوغاء؛ لأنهم من دقَّة الهمم، وخساسة النفوس، ولؤم الطبائع على حال لا يجوز معها أن يكونوا في حومة المذكورين، وعصابة المشهورين.
***
كان سبب إنشاء هذه الرسالة في الصداقة والصديق أني ذكرت شيئاً منها لزيد بن رفاعة أبي الخير، فنماه إلى ابن سعدان الوزير أبي عبد الله سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة قبل تحمله أعباء الدولة، وتدبيره أمر الوزارة، حين كانت الأشغال خفيفة، والأحوال على إذلالها جارية، فقال لي ابن سعدان: قال لي زيد عنك كذا وكذا، قلت: قد كان ذاك، قال: فدوِّن هذا الكلام، وصِلْهُ بصلاته مما يصح عندك لمن تقدم؛ فإنَّ حديث الصديق حلو، ووصف الصاحب المساعد مطرب؛ فجمعت ما في هذه الرسالة، وشُغل عن ردِّ القول فيها، وأبطأت أنا عن تحريرها إلى أن كان من أمره ما كان.

فلما كان هذا الوقت - وهو رجب سنة أربعمائة - عثرت على المسودة وبيضتها على نحيلها، فإن راقتك فذاك الذي عزمتُ بنيِّتي، وحولي، واستخارتي، وإن تزحلقتُ عن ذلك فللعذر الذي سحبتُ ذيله، وأرسلت سيله.

***
واسترسال الكلام في هذا النمط شفاءٌ للصدر، وتخفيف من البُرَحاء، وانجياب للحرقة، واطراد للغيظ، وبرد للغليل، وتعليل للنفس، ولا بأس بإمرار كل ما لاءمه، ودخل في حوزته، وإن كان آخره لا يدرك، وغايته لا تملك.

***

قال صالح بن عبد القدوس:

بُنيَّ عليك بتقوى الإله * * * فإنَّ العواقب للمتَّقي

وإنك ما تأتِ من وجهه * * * تجدْ بابه غير مُستغلقِ

عدوك ذو العقل أبقى عليك * * * من الصاحب الجاهل الأخرق

ذو العقل يأتي جميل الأمور * * * ويعمد للأرشد الأوفقِ



فأما الذي قال في أصدقائه وجلسائه الخير، وأثنى عليهم الجميل، ووصف جدَّه بهم، ودلَّ على محبته لهم - فغريب!.



قال بعضهم:

أنتم سروري وأنتم مُشتكى حَزَني * * * وأنتم في سَواد الليل سُمَّاري

أنتم وإن بَعُدت عنَّا منازلكم * * * نوازلٌ بين أسراري وتذكاري

فإن تكلمتُ لم أَلْفِظْ بغيركُمُ * * * وإن سكتُّ فأنتم عَقْدُ إضماري

الله جارُكُم مما أحاذرُه فيكم * * * وحبي لكم من هجركم جاري

***



أخبرنا أبو سعيد السِّيرافي، قال: أخبرنا ابن دُريد، قال: قال أبو حاتم السجستاني: "إذا مات لي صديق سقط مني عضوٌ".
***

وقيل لأعرابي: مَنْ أكرمُ الناس عشرة؟ قال: مَنْ إن قَرُبَ مَنَح، وإن بَعُدَ مَدَح، وإن ظُلِمَ صفح، وإن ضويق فسح، فمن ظفر به فقد أفلح ونجح. ***

كان أبو داود السجستاني أيام شبابه وطلبه للرواية قاعداً في مجلس، والمستملي في حدَّته، فجلس إليه فتى، وأراد أن يكتب، فقال له: أيها الرجل استمدُّ من محبرتك؟ قال: لا، فانكسر الرجل، فأقبل عليه أبو داود، وقد أحسَّ بخجله: أما علمت أن من شرع في مال أخيه بالاستئذان، فقد استوجب بالحشمة الحرمان، فكتب الرجل من محبرته، وسمي أبو داود حكيماً.

***

أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى، أخبرنا ابن دريد، عن عبد الرحمن، عن عمه الأصمعي، قال عبد الله بن جعفر: كمال الرجل بخلال ثلاث:

معاشرة أهل الرأي والفضيلة، ومداراة الناس بالمخالقة الجميلة، واقتصاد من غير بخل في القبيلة، فذو الثلاث سابق، وذو الاثنين زاهق، وذو الواحدة لاحق، فمن لم تكن فيه واحدة من الثلاث لم يسلم له صديق، ولم يتحنَّن عليه شفيق، ولم يتمتع به رفيق.


***
قال العتابي لصاحب له: ما أحوجك إلى أخ كريم الأخوة، كامل المروءة، إذا غبت خلفك، وإذا حضرت كنَفَك، وإذا نكرت عرفك، وإذا جفوت لاطفك، وإذا بررت كافأك، وإذا لقي صديقك استزاده لك، وإن لقي عدوك كفَّ عنك غرب العادية، وإذا رأيته ابتهجت، وإذا باثَثْتَهُ استرحت.

***
وقال الخليل بن أحمد: الرجل بلا صديق كاليمين بلا شمال.
***
مرض قيس بن سعد بن عبادة فأبطأ إخوانه عنه، فسأل عنهم، فقيل: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدَّين، فقال: أخزى الله ما يمنع الإخوان من العيادة، ثم أمر منادياً فنادى: ألا مَنْ كان لقيس عليه حق، فهو منه في حلٍّ وسعة، فكسرت درجته بالعشي؛ لكثرة من عاده.
***
قال عمر بن شبَّة: الْتَقَى أخوان في الله، فقال أحدهما لصاحبه: والله يا أخي إني لأحبك في الله، فقال له الآخر: لو علمت مني ما أعلمه من نفسي لأبغضتني في الله.

***

فقال: والله يا أخي لو علمتُ منك ما تعلمه من نفسك لمنعني من بغضك ما أعلمه من نفسي.

***
وقال إبراهيم بن أدهم: أنا منذُ عشرين سنة في طلب أخٍ إذا غضب لم يقل إلا الحق فما أجده.

***
قال بعض السلف: عليك بالإخوان، ألم تسمع قوله - تعالى -: [فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ]

جنــــون
08-25-2011, 10:19 AM
من كتاب البصائر والذخائر

- عدا كلب خلف غزال..
فقال له الغزال : إنك لا تلحقني ..
قال: لِمَ ؟
قال : لأني أعدو لنفسي .. وأنت تعدو لصاحبك .

- قلت لأبي النفيس الرياضي : كيف رأيت الدهر ؟
قال : وهوباً لما سلب .. سلوباً لما وهب .. كالصبي إذا لعب

- قال فيلسوف : لتكن عنايتك بحسن استماع ما تفهمه
في وزن عنايتك بحسن استعمال ما تكسبه ..

- قيل لفيلسوف : ما الكُلْفَة ؟
قال : طلبك ما لا يواتيك .. ونظرك فيما لا يعنيك ..

- قال رجل لبعض العَلَوية : أنت بستان الدنيا ..
فقال العَلَوي : وأنت النهر الذي يشرب منه ذلك البستان ..

- نظر رجل إلى فيلسوف فقال له : ما أشد فقرك !!
فقال له : لو علمتَ ما الفقرُ لشغَلكَ الهَمُّ لنفسك عن الغمَّ لي ..

- قال ابن عيينة : إذا كانت حياتي حياة سفيه..
وموتي موت جاهل .. فما يُغْني عنيّ ما جمعت من طرائف الحكماء ..

- بلغ الإسكندر موت صديق له فقال : ما يحزنني موته كما يحزنني
أنني لم أبلغ من بِّره ما كان أهله مني ..
فقال له فيلسوف : ما أشبه هذا بقول ابني وهو يجود بنفسه : ما يحزنني
موتي كما يحزنني ما فات من إظهار بأسي وبلائي في العدو ..

- قال الإكسندر لما قُتل دارا : إن قاتل دارا لا يعيش ..

- قيل لديوجانس : لِمَ تأكل بالسوق ؟!
قال : لأني جُعتُ بالسوق ..
ورأى رجلاً قد خضب شيبه فقال : يا هذا أخفيت شيبك فهل
تقدر أن تخفي هرمك ؟
ورأى رجلاً يدعو ربه أن يرزقه الحكمة فقال :
لو قبلت الأدبَ رُزِقْتَها .
ورأى غلاماً أسودَ يرمي بالحجارة فقال : لا ترمي
لعلك تصيب أباك ولا تعلم !
ورأى صبياً يشبه أباه فقال : نِعْمَ
الشاهدُ أنتَ لأمِّكَ ..

- رأى فيلسوف مُعَلِّماَ يعلِّمُ جاريةٌ ويعَلِّمُها
الخطَّ فقال : لا تزد الشرَّ شَّراً .

- ورأى جارية تحمل ناراً فقال : نارٌ على نار
والحاملة شرٌ من المحمولة ..
ورأى مرة امرأةً قد حملها سيل فقال :
زادت على كدرٍ كدراً والشر يهلك بالشر .
ورأى امرأة في ملعبٍ فقال : ما خرجت لتَرى ولكن لتُرى ..

- سألت السيرافي عن الزِّنباع ما هو ؟
قال : السَّيِّءُ الخلق والنون زائدة ..

- قيل لناسك : ما الحيلة ؟
قال : ترك الحيلة ..

- قيل لأعرابي : أي شيء ألذ في العين ؟
قال : نظرةٌ على خَطْرة
قيل : فأي شيء أحلى في القلب ؟
قال : كسرُ الجُفُون ومراسلةُ العيون ..

- قال أعرابي لصاحب له : أنت شرس وأنا مرس
فكيف نلتبس ..؟

- قال أحمد بن أبي الحواري : بلغني عن رباح القيسي
أنه كان له غلام أسود لا ينام الليل ، فقال له : لم لا تنام يا غلام ؟
قال : إني إذا ذكرت الجنة اشتد شوقي ، وإذا ذكرت النار اشتد خوفي
وإذا ذكرت الموت طار النعاس عني يا مولاي ..
فمن كانت هذه حالته كيف يهنيه العيش في الدنيا ؟
فبكى رباح وقال : يا غلام .. حقيق على من كانت له هذه المعرفة
أن لا يُستعْبَد .. اذهب فأنت حرٌ .. فبكى الغلام ؟
فقال : ما يبكيك ؟
قال : يا مولاي .. هذا العتق الأصغر فمن لي بالعتق الأكبر ؟!

- قدم أعرابي على ابنة عمه يخطبها فتمنعت عليه ..
فقال لها : عندي سر أفأقوله ؟
قالت : قُل ..
قال له : هل لكِ في ابن عم كاسٍ من الحَسب .. عار من النشب
يتصلصل معك في إزارك .. ويدخل الحمام طرفي نهارك
يواصل بين ثلاث في واحد .. فمتى عجز فأمرك بيدك ..
قالت : يا ابن عمي .. لا يسمعن هذا أحد .. وأنا أمَتُك ..

جنــــون
08-25-2011, 10:19 AM
الليلة الثالثة عشر ( الإمتاع والمؤانسة )
الليلة الثالثة عشرة
فلما حضرت ليلةً أخرى قال: هات. قلت: إن الكلام في النفس صعب، والباحثون عن غيبها وشهادتها وأثرها وتأثرها في أطراف متناوحة وللنظر فيهم مجال، وللوهم عليهم سلطان، وكل قد قال ما عنده بقدر قوته ولحظه، وأنا آتي بما أحفظه وأرويه، والرأي بعد ذلك إلى العقل الناصح والبرهان الواضح.
قال بعض الفلاسفة: إذا تصفحنا أمر النفس لحظناها تفعل بذاتها من غير حاجة إلى البدن، لأن الإنسان إذا تصور بالعقل شيئاً فإنه لا يتصوره بآلة كما يتصور الألوان بالعين والروائح بالأنف، فإن الجزء الذي فيه النفس من البدن لا يسخن ولا يبرد ولا يستحيل من جهة إلى أخرى عند تصوره بالعقل، فيظن الظان منا أن النفس لا تفعل بالبدن، لأن هذه الأمور ليست بجسم ولا أعراض جسمية.
وقد تعرف النفس أيضاً الآن من الزمان والوحدة واليقظة، وليس لأحد أن يقول: إن النفس تعرف هذه الأشياء بحس من الإحساس، ففعل النفسي إذن يفارق البدن، وتأليف البرهان أن يكون على أن يقال: للنفس أفعال تخصها خلوٌ من البدن، مثل التصور بالعقل، وكل ما له فعل يخصه دون البدن فإنه لا يفسد بفساد البدن عند المفارقة.
وقال أيضاً: وجدنا الناس متفقين على أن النفس لا تموت، وذلك أنهم يتصدقون عن موتاهم، فلولا أنهم يتصورون أن النفس لا تموت، ولكنها تنتقل من حال إلى أخرى إما إلى خير وإما إلى شر؛ ما كانوا يستغفرون لهم، وما كانوا يتصدقون على موتاهم ويزورون قبورهم.
وقال أيضاً: النفس لا تموت، لأنها أشبه بالأمر الإلهي من البدن، إذ كان يدبر البدن ويرأسه.
والله جل وعز المدبر لجميع الأشياء، والرئيس لها. والبدن أشبه شيء بالشيء الميت من النفس إذ كان البدن إنما يحيا بالنفس.
وقال أيضاً: النفس قابلة للأضداد، فهي جوهر، فالفائدة أن النفس جوهر.
وقال: النفس ليست بهيولى، فلو كانت هيولى لكانت قابلةً للعظم، فليست النفس إذاً بهيولى.
وقال: ليست النفس بجسم، لأن النفس نافذة في جميع أجزاء الجسم الذي له نفس، والجسم لا ينفذ في جميع أجزاء الجسم؛ ولا هيولى، لأن النفس لو كانت هيولى لكانت قابلة للمقادير والعظم، وفائدة هذا أن النفس جوهر على طريق الضرورة.
وقال آخر: حركة كل متحرك تنقسم قسمين: أحدهما من داخل، وهو قسمان: قسم كالطبيعة التي لا تسكن البتة، كحركة النار ما دامت ناراً، وقسمٌ هو كحركة النفس تهيج أحياناً وتسكن أحياناً، وكحركة جسد الإنسان التي تسكن إذا خرجت نفسه وصار جيفة.
والقسم الآخر من خارج، وهو قسمان: أحدهما يدفع دفعاً كما يدفع السهم ويطلق عن القوس، والآخر يجر جراً كما تجر العجلة والجيفة.
وقال: فنقول: ليس يخفى أن جسدنا ليس مدفوعاً دفعاً ولا مجروراً جراً ولما كان كل مدفوع أو مجرور متحرك من خارج متحركاً لا محالة من داخل، فالجسد إذن متحرك من داخل اضطراراً.
وقال: إن كان جسدنا متحركاً من داخل، وكان كل متحرك من داخل إما متحركاً حركةً طبيعية لا تسكن، وإما نفسية تسكن.
فليس يخفى أن حركة جسد الإنسان ليست بدائمة لا تسكن، بل ساكنة لا تدوم، وكانت حركة كل ما سكنت حركته فلم تدم ليست حركةً طبيعية لا تسكن، بل نفسيةً من قبل نفسٍ تحركه وتحسسه.
بوقال: إن كانت النفس هي التي تحيي الإنسان وتحركه، وكان كل محرك يحرك غيره حياً قائماً موجوداً، فالنفس إذاً حيةٌ قائمة موجودة.
وقال أيضاً: النفس جوهر لا عرض، وحد الجوهر أنه قابل للأضداد من غير تغير، وهذا لازم للنفس، لأنها تقبل العلم والجهل، والبر والفجور، والشجاعة والجبن، والعفة وضدها، وهذه أشياء أضدادٌ، من غير أن تتغير في ذاتها، فإذا كانت النفس قابلةً لحد الجوهر، وكان كل قابل لحد الجوهر جوهراً فالنفس إذاً جوهر.
وقال: قد استبان أن النفس هي المحيية المحركة للجسد الذي هو الجوهر ولما كان كل محيٍ حركٍ للجوهر جوهراً فالنفس إذاً جوهر.
وقال: لا سبيل أن يكون المحيا المحرك جوهراً ويكون المحيي المحرك غير جوهر، فإذا كانت هي المحيية المحركة للجسد، وكان لا يمكن أن يكون المحيي المحرك للموجود غير موجود، فالنفس إذاً لا يمكن أن تكون غير موجودة.
وقال: إن كانت النفس بها قوى وحياة الجسد، فيمتنع أن يكون قوامها بالجسد، بل بذاتها التي قامت بها حياة الجسد.
وقال: إن كانت النفس قائمة بذاتها التي قامت بها حياة الجسد، فما كان قائماً بذاته فهو جوهر، فالنفس إذا جوهر.
وقد أملى علينا أبو سليمان كلاماً في حديث النفس هذا موضعه، ولا عذر في الإمساك عن ذكره ليكون مضموماً إلى غيره، وإن كان كل هذا لم يجر على وجهه بحضرة الوزير - أبقاه الله ومد في عمره - لكن الخوض في الشيء بالقلم مخالفٌ للإفاضة باللسان، لأن القلم أطول عناناً من اللسان، وإفضاء اللسان أحرج من إفضاء القلم، والغرض كله الإزادة، فليس يكثير الطويل.
قال: ينبغي أن نعرف باليقظة التامة أن فينا شيئاً ليس بجسم له مدات ثلاث: أعني الطول والعرض والسمك، ولا يجزأ من جسم ولا عرض من الأعراض، ولا حاجة به إلى قوة جسمية، لكنه جوهر مبسوط غير مدرك بحس من الإحساس. ولما وجدنا فينا شيئاً غير الجسم وضد أجزائه بحدته وخاصته، ورأينا له أحوالاً تباين أحوال الجسم حتى لا تشارك في شيء منها وكذلك وجدنا مباينته للأعراض، ثم رأينا منه هذه المباينة للأجسام والأعراض إنما هي من حيث كانت الأجسام أجساماً والأعراض أعراضاً؛ قضينا أن ها هنا شيئاً ليس بجسم ولا جزء من الجسم، ولا هو عرض، ولذلك لا يقبل التغير ولا الحيلولة، ووجدنا هذا الشيء أيضاً يطلع على جميع الأشياء بالسواء ولا يناله فتور ولا ملال، ويتضح هذا بشيء أقوله: كل جسم له صورة فإنه لا يقبل صورةً أخرى من جنس صورته الأولى البتة إلا بعد مفارقته الصورة الأولى، مثال ذلك أن الجسم إذا قبل صورةً أو شكلاً كالتثليث، فليس يقبل شكلاً آخر من التربيع والتدوير إلا بعد مفارقة الشكل الأول. وكذلك إذا قبل نقشاً أو مثالاً فهذا حاله، وإن بقي فيه من رسم الصورة الأولى شيء لا يقبل الصورة الأخرى على النظم الصحيح، بل تنقش فيه الصورتان، ولا تتم واحدة منهما، وهذا يطرد في الشمع وفي الفضة وغيرها إذا قبل صورة نقشٍ في الخاتم؛ ونحن نجد النفس تقبل الصور كلها على التمام والنظام من غير نقص ولا عجز، وهذه الخاصة ضدٌ لخاصة الجسم، ولهذا يزداد الإنسان بصيرةً كلما نظر وبحث وارتأى وكشف.
ويتضح أيضاً عن كثب أن النفس ليست بعرض، لأن العرض لا يوجد إلا في غيره، فهو محمول لا حامل وليس هو قواماً، وهذا الجوهر الموصوف بهذه الصفات هو الحامل لما لها أن تحمل، وليس له شبه من الجسم ولا من العرض.
وكان يقول: إذا صدق النظر، وكان الناظر عارياً من الهوى، وصح طلبه للحق بالعشق الغالب، فإنه لا يخفى عليه الفرق بين النفس المحركة للبدن، وبين البدن المتحرك بالنفس.
قال: ولما عرضت الشبهة لقوم قصر نظرهم، ولم يكن لهم لحظ ولا اطلاع فظنوا أن الرباط الذي بين النفس والبدن إذا انحل فقد بطلا جميعاً.
وهذا ظن فيه عسف، لأنهما لم يكونا في حال الارتباط على شكل واحد وصورةٍ واحدة، أعني أنهما تباينا في تصاحبهما وتصاحبا في تباينهما.
ألا ترى أن البدن كان قوامه ونظامه وتمامه بالنفس? هذا ظاهر.
وليس هذا حكم النفس في شأنها مع البدن، لأ،ها واصلته في الأول عند مسقط النطفة، فما زالت تربيه وتغذيه وتحييه وتسويه حتى بلغ البدن إلى ما ترى، ووجد الإنسان بها، لأن النفس وحدها ليست بإنسان، والبدن وحده ليس بإنسان، بل الإنسان بهما إنسان، فإذاً الإنسان نصيبه من النفس أكثر من نصيبه من البدن.
وهذه الكثرة توجد في الأول من ناحية شرف النفس في جوهرها، وتوجد في الثاني من جهة صاحب النفس الذي هو الإنسان بما يستفيده من المعارف الصحيحة، ويضمه إلى الأفعال الواجبة الصالحة، فأمر المعارف الصحيحة معرفة الله الواحد الحق باليقين الخالص، وأمر الأفعال الواجبة الصالحة العبادة له والرضوان عنه.
وغاية المعرفة الاتصال بالمعروف، وغاية الأفعال الواجبة الفوز بالنعيم والخلود في جوار الله، وهذا هو الصراط المستقيم الذي دعا إلى الجواز عليه كل من رجع إلى بصيرة وآوى إلى حسن سيرة.
فأما من هو عن هذا كله عمٍ وعما يجب عليه ساهٍ، فهو في قطيع النعم، وإن كان متقلباً في أصناف النعم.
وكان يقول كثيراً: الناس أصناف في عقولهم: فصنفٌ عقولهم مغمورة بشهواتهم، فهم لا يبصرون بها إلا حظوظهم المعجلة، فلذلك يكدون في طلبها ونيلها، ويستعينون بكل وسع وطاقة على الظفر.
وصنف عقولهم منتبهة، لكنها مخلوطة بسبات الجهل، فهم يحرضون على الخير واكتسابه، ويخطئون كثيراً، وذلك أنهم لم يكملوا في جبلتهم الأولى وهذا نعتٌ موجود في العباد الجهلة والعلماء الفجرة، كما أن النعت الأول موجودٌ في طالبي الدنيا بكل حيلة ومحالة.
وصنفٌ عقولهم ذكيةٌ ملتهبة، لكنها عمية عن الآجلة، فهي تدأب في نيل الحظوظ بالعلم والمعرفة والوصايا اللطيفة والسمعة الربانية، وهذا نعت موجود في العلماء الذين لم تثلج صدورهم بالعلم، ولا حق عندهم الحق اليقين؛ وقصروا عن حال أبناء الدنيا الذين يشهرون في طلبها السيوف الحداد، ويطيلون إلى نيلها السواعد الشداد فهم بالكيد والحيلة يسعون في طلب اللذة وفي طلب الراحة.
وصنف عقولهم مضيئة بما فاء عليها من عند الله تعالى باللطف الخفي، والاصطفاء السني، والاجتنباء الزكي، فهم يحلمون بالدنيا ويستيقظون بالآخرة؛ فتراهم حضوراً وهم غيب، واشياعاً وهم متباينون.
وكل صنف من هؤلاء مراتبهم مختلفة، وإن كان الوصف قد جمعهم باللفظ.
وهذا كما تقول: الملوك ساسةٌ، ولكل واحد منهم خاصة؛ وكما يقولون: هؤلاء شعراء ولكل واحد منهم بحر؛ وهؤلاء بلغاء ولكل واحد منهم أسلوب وكما تقول: علماء، ولكل واحد منهم مذهب.
وعلى هذا أبو سليمان - حفظه الله - إذا أخذ في هذا الطريق أطرب، لسعة صدره بالحكمة، وفيض صوابه من المعرفة، وصحة طبيعته بالفطرة.
وقال: إنا بعد هذا المجلس تركنا صنفاً لم نرسمه بالذكر، ولم نعرض له بالاستيفاء، وهم الهمج الرعاع الذين إن قلت: لا عقول لهم كنت صادقاً، وإن قلت: لهم أشياء شبيهة بالعقول كنت صادقاً؛ إلا أنهم في العدد، من جهة النسبة العنصرية والجبلة الطينية والفطرة الإنسية، وفي كونهم في هذه الدار عمارة لها ومصالح لأهلها: ولذلك قال بعض الحكماء: لا تسبوا الغوغاء فإنهم يخرجون الغريق ويطفئون الحريق ويؤنسون الطريق ويشهدون السوق.
فضحك - أضحك الله ثغره، وأطال عمره، وأصلح شأنه وأمره - فقال: قد جرى في حديث النفس أكثر مما كان في النفس، وفيه بلاغ إلى وقت، وأظن الليل قد تمطى بصلبه، وناء بكلكله؛ وانصرفت.

جنــــون
08-25-2011, 10:20 AM
من كتاب الهوامل واشوامل

ارفق بنا يا ابا حيان - رفق الله - وأرخ من خناقنا، وأسغنا ريقنا، ودعنا وما نعرفه في أنفسنا من النقص فإنه عظيم، وما بلينا به من الشكوك فإنه كثير، ولا تبكتنا بجهل ما علمناه، وفوت ما أدركناه، فتبعثنا على تعظيم أنفسنا، وتمنعنا من طلب ما فاتنا، فإنك - والله - تأثم في أمرنا، وتقبح فينا، أسأل الله أن لا يؤاخذك ولا يطالبك ولا يعاقبك؛ فإنك بعرض جميع ذلك إلا أن يعفو ويغفر، فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
أما أولى المسائل فالجواب عنها: أن الإنسان لما كان مركبا من نفس وجسد، واسم الإنسانية واقع على هذين الشيئين معا.
وأشرف جزأي الإنسان النفس التي هي معدن كل فضيلة، وبها وبعينها يرى الحق والباطل في الاعتقاد، والخير والشر في الأفعال، والحسن والقبيح في الأخلاق، والصدق والكذب في الأقاويل.
وأما جزؤه الآخر الذي هو الجسم وخواصه وتوابعه فهو أرذل جزأيه وأخسهما؛ وذلك أنه مركب من طبائع مختلفة متعادية، ووجوده في الكون دائما لا لبث له طرفة عين، بل هو متبدل سيال؛ ولهذا سمى عالمه العالم السوفسطائي.
وهذه مباحث محققة مشروحة في مواضعها، وإنما ذكرنا بها لحاجتنا في جواب المسألة إليها.
فإذا كان الإنسان مركبا من هذين الجزأين، وممزوجا من هاتين القوتين، وكان أشرف جزأيه ما ذكرناه - وهو النفس التي ليس وجودها في كون، ولا هي متركبة من أجزاء متعادية متضادة، بل هي جوهر بسيط بالإضافة إلى الجسم، وهي قوة إلهية غنية بذاتها - وجب أن يكون شغل الإنسان بهذا الجزء أفضل من شغله بالجزء الآخر؛ لأن هذا باق وذاك فان، وهذا جوهر واحد، وذاك جواهر متضادة، وهذا له وجود سرمدي، وذاك لا وجود له إلا في الكون الذي لا ثبات له.
وفي عدنا فضائل النفس، ونقائص الجسم خروج عن غرض هذه المسألة.
والذي يكفي في الجواب عن هذه المسألة بعد تقرير هذه الأصول والإقرار بها، أن الإنسان إذا أحس بهذه الفضائل التي في نفسه، والرذائل التي في جسمه - وجب عليه أن يستكثر من الفضائل ليرتقي بها إلى درجات الإلهيين، ويقل العناية بما يعوق عنها.
ولما كان الشغل بالحواس وخصائص الجسم عائقا عن هذه الفضائل والعلوم الخاصة بالإنسان، استقبح أهل كل ملة الإنهماك فيه، وصرف الهمة والبال إليه، وأمروا بأخذ قوته الذي لا بد له منه في مادة الحياة، وصرف باقي الزمان بالهمة إلى تلك الفضائل التي هي السعادة.
وهذا المعنى يلوح للناظر، ويبين له بيانا جليا، إذا نظر إلى فوق ما بين الإنسان وسائر الحيوانات، لأنه إنما فضلها بخاصة النفس لا بخواص الجسد؛ لأن خواص الجسد للحيوانات أتم وأغزر - وقد علم أن الإنسان أفضل منها - وأعنى بخواص الجسد، الأيد والبطش والقدرة على الأكل والشراب والجماع وما أشبه ذلك، فإذا تمامية الإنسان وفضيلته إنما هي بهذه المزية التي وجدت له دون غيره، فالمستريد منها أحق باسم الإنسانية، وأولى بصفة الفضيلة؛ ولهذا يقال: فلان كثير الإنسانية، وهو من أبلغ ما يمدح به.
ومن أحب الاطلاع على تلك الأصول، والاستكثار منها وبلوغ غاية اليقين فيها فليأخذه من مظانه.
فأما حرص الناس - مع شعورهم بهذه الفضيلة - وكلبهم على الدنيا بركوب البر والبحر لأجل الملاذ الخسيسة؛ فلأن الجزء الذي فينا معاشر البشر من الجسم الطبيعي أقوى من الجزء الآخر.
وعرض لنا من تجاذب هاتين القوتين ما يعرض لكل مركب من قوى مختلفة، فيكون الأقوى أبدا أظهر أثرا؛ فلأجل ذلك انجذبنا إلى هذا الجزء مع علمنا بفضيلة الجزء الآخر.

ونحن وإن علمنا أن هذا كما حكيناه، وتيقنا هذا المذهب تيقنا لا ريب فيه، فإنا في جهاد دائم، فربما غلب علينا هذا الجزء، وربما ملنا إلى الجزء الآخر بحسب العناية، وسأضرب في ذلك مثلا من العيان والحس، وهو أن المريض والناقة والخارج عن مزاج الاعتدال قد تيقن أنه بالحمية وترك الشهوات يعود إلى الصحة والاعتدال الطبيعي، وهو مع ذلك لا يمتنع من كثير من شهواته، لشدة مجاذبتها له، وغلبتها على صحيح عقله، وثاقب فكره، ونصيحة طبيبه، حتى إذا فرغ من مواقعه تلك الشهوة وأحس بالألم، ندم ندامة يظن معها ألا يعاود أبدا، ثم لا يلبث أن تهيج به شهوة أخرى أو هي بعينها، وهو في ذلك يعظ نفسه، ويديم تذكيرها الألم، ويشوقها إلى الصحة، ولا ينفعه وعظ ولا تذكير، للعلة التي ذكرناها قبل من شدة مجاذبة الشهوة الحاضرة، حتى ينال شهوته ثانيا، ثم هذه حال مستمرة به ما دام مريضا.
وكذلك هو أيضا في حالة الصحة، يتناول من الشهوات ما يعلم أنه يخرج عن مزاج الاعتدال، ولا يأمن هجوم الأمراض عليه، فيحمله سوء التحفظ وشدة مجاذبة الطبيعة إلى مخالفة التمييز، ومشاركة البهائم.
فإذا رأيت هذا المثل صحيحا، ووجدته من نفسك ضرورة، اطلعت على ما قدمناه، وفهمته فهما بينا، وعذرت من زهدك في الدنيا وإن خالفك إليها ومن نصحك بتركها وإن أخذ هو بها واستكثر منها.
فأما ما اعترض في المسألة من ذكر السبب والعلة، والمسألة عن الفرق بينهما، فإن السبب هو الأمر الداعي إلى الفعل، ولأجله يفعل الفاعل.
فإما العلة فهي الفاعلة بعينها؛ ولذلك صار السبب أشد اختصاصا بالأشياء العرضية، وصارت العلة أشد اختصاصا بالأمور الجوهرية.
والحكماء قد أطلقوا لفظ العلة على الباري تقدس اسمه، وعلى العقل، والنفس، والطبيعة، حتى قالوا: العلة الأولى، والعلة الثانية والثالثة والرابعة، وقالوا أيضا: العلة القريبة والعلة البعيدة، في أشياء تتبينها من كتبهم.
وعلى أن هذه المسألة - بجهة من الجهات - تنحل إلى المسألة الأولى وتعود إليها؛ لأنها يجوز أن توجد في المتباينة اسماؤها بضرب من الاعتبار، وفي المترادفة أسماؤها بضرب آخر من الاعتبار، وقد مر هذا الكلام مستقصى فلا وجه لإعادته.
وأما الزمان والمكان، فإن الكلام فيهما كثير، قد خاض فيه الأوائل، وجادل فيه أصحاب الكلام الإسلاميون، وهو أظهر من أن ينشف الريق، ويضرع فيه الخد،ولا سيما وقد أحكم القول فيه الحكيم، وناقص أصحاب الآراء فيهما، وبين فساد المذاهب القديمة، وذكر رأى نفسه ورأى أستاذه في كتاب السماع الطبيعي وكل شيء وجد لهذا الحكيم فيه كلام فقد شفى وكفى، وقد فسر كلامه فضلاء أصحابه المفسرين، ونقل إلى العربية، وهو موجود.
وأنا أذكر نص المذاهب لما تقتضيه مسألتك في عرض المسألة الأولى، وأترك الاحتجاج لأنه مسطور، وإذا دللت على موضعه فقرىء منه كان أولى من نقله إلى هذا المكان نسخا.
أما الزمان فهو مدة تعدها حركات الفلك.
وأما المكان فهو السطح الذي يجوز المحوي والحاوي.
وأما الفرق الذي سألته بين الوقت والزمان، والدهر والحين، فإن الوقت قدر من الزمان مفروض مميز من جملته، مشار إليه بعينه.
وكذلك الحين هو مدة أطول من الوقت وأفسح وأبعد، وإنما تقترن أبدا هاتان اللفظتان بما يميزهما ويفصلهما من جملة الزمان الذي هو كل لهما، فيقال: وقت كذا وحين كذا، فينسب إلى حال أو شخص أو ما أشبه ذلك.
فإذا أريد بهما الإبهام لا الإفهام قيل: كان كذا أو يكون كذا في حين أو وقت، فيعلم السامع أن المتكلم لم يؤثر تعيين الوقت والحين، وهما لا محالة معينان محصلان.
فأما الدهر فليس من الزمان ولا الحين ولا الوقت في شيء، ولكنه أخص بالأشياء التي ليست في زمان ولا مقدرة بحركات الفلك؛ لأنها أعلى رتبة من الأمور الطبيعية.
فأقول: نسبة الزمان إلى الأمور الطبيعية كنسبة الدهر إلى الأمور غير الطبيعية، أعنى ما هو فوق الطبيعية.
وهذا القدر من الكلام كاف في الإيماء إلى ما سألت عنه، وإن أحببت التوسع فيه فعليك بالمواضع التي أرشدناك إليها من كلام الحكيم ومفسري كتبه؛ فإنه مستقصى هناك.
وهذه المواضع - أبقاك الله - إذا نظر فيها الإنسان وعرفها حق معرفتها، تنبه على حكمة بارئها، ومبدئها، وصارت أسبابا محكمة، ودواعي قوية إلى التوحيد.

جنــــون
08-25-2011, 10:20 AM
من كتاب أخلاق الوزيرين


فإن قلت: هؤلاء شعراء، والشعراء سفهاء، ليسوا علماء ولا حكماء، وإنما يقولون ما يقولون، والجشع باد منهم، والطمع غالب عليهم، وعلى قدر الرغبة والرهبة يكون صوابهم وخطأهم؛ ومن أمكن أن يزحزح عن الحق بأدنى طمع، ويحمل على الباطل بأيسر رغبة، فليس ممن يكون لقوله إتاء، أو لحكمته مضاء، أو لقدره رفعة، أو في خلقه طهارة؛ ولهذا قال القائل:
لا تصحبن شاعرا فإنه ... يهجوك مجانا ويطري بثمن
وهذا لأنه مع الريح، إن مالت به مال، يتطوح مع أقل عارض، ويجيب أول ناعق، ويشيم أي برق لاح، ولا يبالي في أي واد طاح؛ فقد جمع دينه ومروئته في قرن تهاونا بهما، وعجزا عن تدبيرهما؛ فهو لا يكترث كيف أجاب سائلا، وكيف أبطل مجيبا، وكيف ذم كاذبا ومتحاملا، وكيف مدح مواربا ومخاتلا. فلا تفعل، فداك عمك، وشب ابنك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: " إن من الشعر لحكما " ، كما قال: " وإن من البيان لسحرا " ، وكيف لا يكون كذلك وفيه مثل قول لبيد:
إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل
والشعر كلام وإن كان من قبيل النظم، كما أن الخطبة كلام وإن كان من قبيل النثر، والانتثار والانتظام صورتان للكلام في السمع، كما أن الحق والباطل صورتان للمعنى، وكذلك المثل في السمع، وليس الصواب مقصورا على النثر دون النظم، ولا الحق مقبولا بالنظم دون النثر؛ وما رأينا أحدا أغضى على باطل النظم واعترض على حق النثر؛ لأن النثر لا ينتقص من الحق شيئا؛ وما أحسن ما قال القائل:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على المجالس إن كيسا وإن حمقا
وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال، إذا أنشدته، صدقا
وهذا باب لا يفيد الإغراق فيه إلا ما يفيد التوسط والقصد، فلا وجه مع هذا للإطالة، ولما يكون سببا للملامة.
وهذه الجملة - أكرمك الله - أنت أحوجتني إليها، وجشمتني صعبها حتى نشبت بها قائما وقاعدا، وتقلبت في حافاتها مختارا ومضطرا، وتصرفت في فنونها محسنا ومسيئا، لما تابعت إلي من كتاب بعد كتاب، تطالبني في جميعه بنسخ أشياء من حديث ابن عباد وابن العميد وغيرهما ممن أدركت في عصري من هؤلاء، منذ سنة خمسين وثلاثمائة إلى هذه الغاية، وزعمت أني قد خبرت هذين الرجلين من غمار الباقين، ووقفت على شأنهما، واستبنت دخائلهما، وعرفت خوافي أحوالهما، وغرائب مذاهبهما وأخلاقهما. ولعمري قد كان أكثر ذاك، إما بالمشاهدة والصحبة، وإما بالسماع والرواية من البطانة والحاشية والندماء وذوي الملابسة.
وقلت: ينبغي أن تضيف إلى ذلك ما يتعلق به، ويدخل في طرازه ولا يخرج عن الإفادة بذكره، والاستفادة من نشره؛ فإن ذلك يأتي على كل ما تتوق إليه النفس من كرم ولؤم، وزيادة ونقص، وورع وانسلاخ، ورزانة وسخف، وكيس وبله، وشجاعة وجبن، ووفاء وغدر، وسياسة وإهمال، واستعفاف ونطف، ودهاء وغفلة، وبيان ووعي، ورشاد وغي، وخطإ وصواب، وحلم وسفه، وخلاعة وتمالك، ونزاهة ودنس، وفظاظة ورقة، وحياء وقحة، ورحمة وقسوة.
وقلت: ولا يحلو موقع ذلك كله ولا يعذب ورده، ولا يغزر عده، ولا ينقاد السمع له، ولا يراح القلب به إلا بعد أن تدع المحاشاة وأنت مقتدر، وتفارق المخاشاة وأنت منتصر، وإلا بعد أن تترك العدو والحاسد ينقدان بغيظهما انقدادا، ويرتدان على أعقابهما ارتدادا؛ فإن التقية في هذا الفن مجزعة مضرعة، وركوب الردع فيه مأثرة ومفخرة.

وقلت والعامة تقول: من جعل نفسه شاة دق عنقه الذئب، ومن صير نفسه نخالة أكله الدجاج، ومن نام على قارعة الطريق دقته الحوافر دقا، والكبر في استيفاء الحق من غير ظلم، كالتواضع في أداء الحق من غير ذل، وكما أن المنع في موضع الإعطاء حرمان، كذلك الإعطاء في موضع المنع خذلان؛ وكما أن الكلام في موضع الصمت فضل وهدر، كذلك السكوت في موضع الكلام لكنة وحصر، وكما أن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، كذلك النفوس طبعت على بغض من أساء إليها؛ والجبل والطبع وإن افترقا في اللفظ فإنهما يجتمعان في المعنى، وكما أن الحب نتيجة الإحسان، كذلك البغض نتيجة الإساءة، وكما أن المنعم عليه لا يتهنأ بنعمته الواصلة إليه إلا بالشكر لواهبها، كذلك المساء إليه لا يجد برد غلته ولذة حياته إلا بأن يشكو صاحب الإساءة، وإلا بأن يهجو المانع، ويذم المقصر، ويثلب الحارم وينادي على الخسيس الساقط، والنذل الهابط، في كل سوق، وفي كل مجلس، وعند كل هزل وجد، ومع كل شكل وضد؛ ميزان عدل، ووزن بقسط، ونصفة مقبولة، وعادة جارية على وجه الدهر.
وقلت: ومن وجع قلبه وجعك، وألم علته ألمك؛ وحرم حرمانك، وخيب خيبتك، وجرع ما جرعته، وقصد بما قصدت به، وعومل بما شاع لك، قال وأطال، وكرر وسير، وأعاد وأبدى، وعرض وصرح، ومرض وصحح، وقام وقعد، وقرب وبعد؛ وإن عينا ترقد على الضيم للعمى أحسن بها، وإن نفسا تقر على الخسف للموت أولى بها من حياتها.
وقلت: أما سمعت قول العاتب على ابن العميد في رسالته حين قال الحق له؟ قال: وليعلم المرء - وإن عز سلطانه، وعلا مكانه، وكثرت حاشيته وغاشيته، وملك الأعنة، وقاد الأزمة - أنه ينعم له في الحمد على الحسن، والذم على القبيح، وأن المخوف يرتاب من ورائه كما يقرع المأمون في وجهه، فأعلاهما حالا أكثرهما عند التقصير وبالا.
وهذا باب يعرفه من الناس من ساس الناس؛ وهذا الكاتب يعرف بالأشل.
وقلت أيضا: ولست أسألك أن لا تذكر من حديثهما إلا ما كان جالبا لمقتهما، وداعيا إلى الزراية عليهما، وباعثا على سوء القول والاعتقاد فيهما، بل تضيف إلى ذلك ما قد شاع لهما وشهر عنهما، من فضائل لم يثلثهما فيها أحد في زمانهما، ولا كثير ممن تقدمهما؛ فإن الفائدة المطلوبة في أمرهما وشرح حديثهما، تأديب النفس واجتلاب الأنس، وإصلاح الخلق، وتخليص ما حسن مما قبح، وتسليط النظر الصحيح، مع العدل المحمود فيما أشكل واشتبه بين الحسن المطلق والقبيح المطلق، وقلت: ومما ينبغي أن لا تغفله ولا تذهب عنه، وتطالب نفسك بالتيقظ فيه، والتجمع له: باب اللفظ والمعنى في الصدق والكذب، فإنك إن حرفت في هذا بعض التحريف، أو جزفت في ذاك بعض التجزيف، خرج معناك من أن يكون فخما نبيلا، ولفظك من أن يكون حلوا مقبولا، لأن الأحوال كلها - في اصلاحها وفسادها - موضوعة دون اللفظ المونق، والتأليف المعجب، وقبل فاسد معناه لصالح لفظه! وقلت: وإنما نبهتك على هذا شفقة عليك، وحرصا على أن لا يكون لمعنت وعائب طريق إليك، وأنت - بحمد الله - مستوص لا تحوج إلى تنبيه بعنف، وإن أحوجت إلى إذكار بلطف؛ وقد كان البيان عزيزا في وقت البيان، والنصح غريبا في وقت النصح، والدين مسترفا في وقت الدين، إذ الحكمة معانقة بالصدر والنحر، مقبلة بكل شفة وثغر، مخطوبة من جميع الآفاق، يقرع من أجلها كل باب، ويحرق على فائتها كل ناب، والأدب متنافس فيه، محروص على الاستكثار منه، مع شعبه الكثيرة وطرائقه المختلفة؛ والدين في عرض ذلك مذبوب عنه بالقول والعمل، مرجوع إليه بالرضا والتسليم، مقنوع به في الغصب والحلم؛ فكيف اليوم وقد استحالت الحال عجماء، وملك الغنى والثراء الرؤساء والعلماء، وقل الخائض فيما كسب زيادة أو نفى نقيصة، وأورث عزا أو أعقب فوزا.
وقلت:

وليكن ذلك كله - إذا نشطت له - مقصورا غير مبسوط، أو بين المقصور والمبسوط، فإنه إن زاد على هذا التحديد طال، وإذا طال مل، وإذا مل نظر إلى صحيحه بعين السقيم، وحكم على حقه بلسان الباطل، وتخيل القصد فيه إسرافا، والعدل فيه جورا، وعند ذلك يحول عن بهجته ومائه، ورونقه وصفائه.
وجميع ما قلته - حاطك الله - وأتيت به، وسحبت ذيلك عليه، ورفلت أعطافك فيه، قد سمعته وفهمته، وطويته في نفسي وبسطته، وجمعته بذهني وفرقته، ونظمته عندي ونثرته؛ ولست جاهلا به ولا ذاهلا عنه، ولكن من لي بعتاد ذلك كله، وبالتأتي له، وبالقدرة عليه، وبالسلامة فيه إن فاتتني الغنيمة فيه؟ مع صدري الضيق، وبالي المشغول ومع رزوح الحال، وفقد النصر، وسوء الجزع، وضعف التوكل؛ نعم!، ومع الأدب المدخول، واللسان الملجلج، والعلم القليل، والبيان النزر، والخوف المانع؛ وإني لأظن أن الطائع لك في هذه الخطة، والمجيب عن هذه المسألة، قليل التقية، سيء البقية، ضعيف البديهة والروية؛ لأنه يتصدى لما لا يفي به، ولا يتسع له، ولا يتمكن منه؛ فإن وفى واتسع وتمكن لم يسلم على كثير ممن يقرأ كلامه، ويتصفح أمره، ويقص أثره، ويطلب عثرته؛ لأن الناس في نشر المدح والذم، وفي بسط العذر واللوم؛على آراء مختلفة، ومذاهب متباينة، وأهواء مشتعلة، وعادات متعاندة.
على أنهم، بعد شدة جدالهم وطول مرائهم، رجلان: متعصب لمن تذمه وتعيبه وتنث القبيح عنه، فهو يغتفر له جميع ما يسمع منك، صادقا كنت أو كاذبا، معرضا كنت أو مفصحا.
أو متعصب على من تمدحه وتزكيه وتفضله وتثني عليه، فهو يرد عليك كل ما تدعيه، محققا كنت أو مجزفا، موضحا كنت أو مزخرفا؛ ولذلك قال بعض علماء السلف الصالح: هما أمران مثواك بينهما، راض عنك فهو يمنحك أكثر مما هو لك، وساخط عليك يتنقصك من حقك؛ فرم ما ثلم الباغي بفضلة الراضي يعتدل بك الأمر؛ والشاعر قد فرغ من هذا المعنى وسيره في قريضه المشهور المتداول حيث يقول:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
على أن هذا الشاعر قد أثبت العيب وإن كان قد وصفه بكلول العين عنه، ودل على المساوي وإن كان السخط مبديها، وهذا لأن الهوى مقيم لابث والرأي مجتاز عارض، ولا بد للهوى من أن يعمل عمله، ويبلغ مبلغه، وله قرار لا يطمئن دونه، وحد هو أبدا يتعداه ويتجاوزه، وله غول تضل، وتمساح يبتلع، وثعبان - إذا نفخ - لا يبقي ولا يذر، والرأي عنده غريب خامل، وناصح مجهول.
وقال بعض الحكماء: فضل ما بين الرأي والهوى أن الهوى يخص والرأي يعم، والهوى في حيز العاجل، والرأي في حيز الآجل، والرأي يبقى على الدهر، والهوى سريع البيود كالزهر، والرأي من وراء حجاب، والهوى مفتح الأبواب ممدد الأطناب؛ ولذلك قال أيضا بعض العرب، ويقال هو عامر بن الظرب: الرأي نائم والهوى يقظان، فأرقدوا الهوى بفظاظة، وأيقظوا الرأي بلطافة.
وقال الشاعر:
كم من أسير في يدي شهواته ... طفر الهوى منه بحزم ضائع
وقال أعرابي: لم أر كالعقل صديقا معقوقا، ولا كالهوى عدوا معشوقا؛ ومن وفقه الله للخير جعل هواه مقموعا، ورأيه مرفوعا.

وإذا كان الهوى - أبقاك الله - على ما وصفنا، وعلى وراء ما وصفنا مما لا نحيط به وإن أطلنا، فمتى يخلو المادح - إذا مدح - من بعض الإفراط تقربا إلى مأموله، وخلابة لعقله، واستدرارا لكرمه، وبعثا على تنويله وتخويله؛ وهذه حال مصحوبة في الممدوح إذا كان أيضا غائبا أو ميتا؟ أو متى يسلم الذام - إذا ذم - من بعض الإسراف تعنتا لصاحبه وحملا عليه بالإنحاء الشديد، والقول الشنيع، والنداء الفاضح، والحديث المخزي، وجريا مع شفاء الغيظ وبرد الغليل؟ لأن جرعة الحرمان أمر من جرعة الثكل، وضياع التأميل أمض من الموت، وخدمة من لم يجعله الله لها أهلا أشد من الفقر، وإنما يخدم من انتصب خليفة لله بين عباده بالكرم والرحمة، والتجاوز والصفح، والجود والنائل، وصلة العيش وبذل مادة الحياة وما يصاب به روح الكفاية؛ وحرمان المؤمل من الرئيس ككفران النعمة من التابع ورحى الحرب في هذا الموضع راكدة، والقراع عليه قائم، والخطابة في دفعه وإثباته واسعة، والتمويه مع ذلك معترض، والإعتذار مردود، والتأويل كثير، والتنزيل قليل.
ولقد رأيت الجرجائي - وكان في عداد الوزراء وجلة الرؤساء، وإنما قتله ابن بقية لأنه نعم له بالوزارة - يقول للحاتمي أبي علي، وهو من أدهياء الناس:
إنما تحرم لأنك تشتم
فقال الحاتمي: وإنما أشتم لأني أحرم.
فأعاد الجرجائي قوله.
فأعاد الحاتمي جوابه.
فقال ثم ماذا؟ قال الحاتمي: دع الدست قائمة، وإن شئت عملناها على الواضحة.
قال: قل! قال الحاتمي: يقطع هذا أن لا يسمعوا مدائحهم، ولا يكترثوا بمراتبهم؛ وأن يعترفوا لنا بمزية الأدب وفضل العلم وشرف الحكمة، كما خذينا لهم بعظمة الولاية، وفضل العمل، وبسط اليد، وعرض الجاه، والاستبداد بالتنعم والطاق والرواق، والأمر والنهي، والحجاب والبواب؛ وأن يكتبوا على أبواب دورهم وقصورهم: يا بني الرجاء! ابعدوا عنا، ويا أصحاب الأمل! اقطعوا أطماعكم عن خيرنا وميرنا، وأحمرنا وأصفرنا، ووفروا علينا أموالنا، فلسنا نرتاح انثركم في رسالة تحبرونها، ولا لنظمكم في قصيدة تتخيرونها، ولا نعتد بملازمتكم لمجالسنا، وترددكم إلى أبوابنا، وصبركم على ذل حجابنا، ولا نهش لمدحكم وقريضكم، ولا لثنائكم وتقريظكم؛ ومن فعل ما زجرناه عنه ثم ندم فلا يلومن إلا نفسه، ولا يقلعن إلا ضرسه، ولا يخمشن إلا وجهه، ولا يشقن إلا ثوبه، وإن من طمع في موائدنا يجب أن يصبر على أوابدنا، ومن رغب في فوائدنا نشب في مكايدنا. فأما إذا استخدمونا في مجالسهم بوصف محاسنهم، وستر مساويهم، والاحتجاج عنهم، والكذب لهم؛ وأن نكون ألسنة نفاحة عنهم فليثيبوا على العمل، فإن في توفية العمال أجورهم قوام الدنيا، وحياة الأحياء والموتى؛ فإن قصرنا بعد ذلك في إعادة الشكر وإبدائه، وتنميق الثناء وإفشائه، فإنهم من منعنا في حل، ومن الإساءة إلينا في سعة.
فرأيت الجرجائي - حين سمع هذا الكلام النقي، وهذه الحجة البالغة - وجم ساعة ثم قال: لعمري إذا جئنا إلى الحق، ونظرنا فيه بعين لا قذى بها، ونفس لا لؤم فيها، فإن العطاء أولى من المنع، والتنويل أولى من الحرمان، والخطأ في الجود أسلم من الصواب في البخل، لأن الصواب في البخل خفي جدا، وقل من يعرفه، والخطأ في الجود حلو جدا، وقل من يكرهه.
وأنا أقول: قد صدق هذا الرجل الجليل في هذا الحرف صدقا لا تماري فيه.
ولقد جرى بيني وبين أبي علي مسكويه شيء هذا موضعه.
قال مرة: أما ترى إلى خطأ صاحبنا - وهو يعني ابن العميد - في إعطائه فلانا ألف دينار ضربة واحدة؟ لقد أضاع هذا المال الخطير فيمن لا يستحق.

فقلت له - بعد ما أطال الحديث وتقطع بالأسف: أيها الشيخ! أسألك عن شيء واحد واصدق، فإنه لا مدب للكذب بيني وبينك، ولا هبوب لريح التمويه علينا؛ لو غلط صاحبك فيك بهذا العطاء وبأضعافه وأضعاف أضعافه، أ كنت تتخيله في نفسك مخطئا ومبذرا ومفسدا وجاهلا بحق المال؟ أو كنت تقول: ما أحسن ما فعل! وليته أربى عليه؟ فإن كان ما تسمع على حقيقته، فاعلم أن الذي بدد مالك، وردد مقالك إنما هو الحسد أو شيء آخر من جنسه، فأنت تدعي الحكمة، وتتكلم في الأخلاق وتزيف منها الزائف، وتختار منها المختار. فافطن لأمرك، واطلع على سرك وشرك.
هذا ذكرته - أبقاك الله - لتتبين أن الخطأ في العطاء مقبول، والنفس تغضي عليه، والصواب في المنع مردود، والنفس تقلق منه؛ ولذلك قال المأمون وهو سيد كريم، وملك عظيم، وسائس معروف: " لأن أخطئ باذلا أحب إلي من أن أصيب مانعا "