مشاهدة النسخة كاملة : ابناءودماء


جروح العمر
03-28-2011, 08:55 PM
http://www.mbc.net/mbc.net/Arabic/Image/Entertainment/26-03-2011/MBC1_capture_13.jpg





"أبناء ودماء".. تحت هذا العنوان أصدرت الأميرة السعودية لمياء بنت ماجد آل سعود أولى روايتها؛ التي تتناول قصة عائلة ثرية تقودها القيم البالية، وتصرفات أفرادها إلى تورطها في جريمة قتل في ظروف غامضة.

وفي مداخلة هاتفية مع "صباح الخير يا عرب" السبت 26 مارس/آذار 2011م، قالت الكاتبة لمياء بنت ماجد: إن الرواية تعتبر الأولى لها، ولكن سبقتها تجارب أخرى لها في الصحافة والكتابة، حيث سبق لها وأن عملت في مطبوعتين عربيتين وثالثة إنجليزية، حتى وصلت إلى إنجاز رواية "دماء وأبناء".

وحول ما إذا كان هناك سقف معين وقفت عنده في الكتابة، أوضحت كاتبة الرواية أن المجال الآن أصبح واسعا، ولا يوجد أي سقف في الكتابة، ولكنها أوضحت في الوقت ذاته أن بعض الكتاب يستغلون تلك الحرية بطريقة خاطئة تثير انتقادات ضدهم في العالم العربي.

وتتضمن الرواية التي جاءت في 223 صفحة من الحجم المتوسط و39 فصلا، شخصيات عربية غير سعودية، وتقول عنها الكاتبة: إنها رواية يمكن أن تحدث في البيت العربي الكبير، على رغم التفاصيل الصغيرة التي تمتاز بها البيئة السعودية.

ونفذت الطبعة الأولى من الرواية التي نشرتها دار الساقي في "بيروت" من الأسواق، خلال شهر واحد فقط من صدورها


همسة/سانقل لكم الروايه بكل اجزائها

جروح العمر
03-28-2011, 08:56 PM
مقدمه عن القصه

وجدت منال جثة هامدة بعد اغتصابها. حفاظا على سمعة العائلة, اتفق كبارها على الادعاء ان الوفاة جاءت نتيجة ارتطام رأسها بأحد الاحجار.

:::::::::

أبوها يعرف انها قتلت. لكنه يعض على الجرح, ويلوذ بالصمت. يعتزل الناس, ويصبح اسير غرفته, ينحت تماثيل تجسد ابنته الراحله.

:::::::::

شقيقتها التوأم, ليال, ساورتها الشكوك, فقررت كشف ملابسات الجريمه, ومعرفة الحقيقه.

:::::::::

وكانت المفاجأة صاعقة عندما فتح البستاني العجوز قلبه, وحكى مارآه ليلة مصرع الفتاة البريئة.



كاتبة الرواية:
لمياء بنت ماجد بن سعود

نظرة الحب
03-28-2011, 09:05 PM
يسلمو قلبي عالطرح الرائع

وربي مايحرمنا منك ولامن تواجدك

وجديدك الراقي والرائع

جروح العمر
03-28-2011, 09:13 PM
نورتي وصوف

يازين طلتك

جروح العمر
03-28-2011, 09:14 PM
.:الجزء الاول (1):.

لم يكن قصر السيد حمد هكذا.
لقد تبدلت ايامه ولياليه منذ وفاة احدى بنات العائله في ظروف غامظه.
ترددت في الجوار اخبار كثيرة تتصل بواقعة موت الفتاة الجميله.
ثم فعل الزمن فعله, ونسي الناس وباتوا يتداولون حكايات اخرى عن تداعي هذه العائلة وغياب كبارها وانكفائهم الواحد تلو الاخر.
كان القصر في ايام عزه قبلة الانظار وملتقى وجهاء العوائل في المنطقه الشرقية بالسعوديه. وكثيرا ماتطلع اليه الناس على انه لوحة معمارية فريده.
وكانت اسواره العاليه مغطاة بالاشجار كأنها لرد صيبة العيون والحسد, او ليبقى المكان بمنأى عن الفضوليين.
نسجت المخيلات اقاويل كثيرة حوله.
قال بعضهم انه بلدة صغيرة داخل بلدة كبيره.
واشاع آخرون انه يتألف من اربعة قصور, سقوفها من القرميد تعلوها قباب قرمزيه, ومبنيين للخدم وتحوطهما حديقة بديعة تتوسطها بحيرة, إضافة الى حدائق خلفية شاسعة تمتد بساطا أخضر متموجا حيث تمرح وترمح الخيول, وازهار ونباتات نادرة منسقة تنسيقا جذابا لم يسبق ان رأتها عين في ذلك الحين.
وقيل ان هناك ستة قصور, تبلغ مساحة كل منها ألفي متر مربع, وخمسة منازل للخدم على أقل تقدير.

الواقع ان المنزل كان مكونا من قصرين كبيرين على الطراز الاندلسي, مساحة الواحد اربعة آلاف وخمسمائة متر, بينهما ممرات من الرخام الاسباني, مطعمه جدرانها بالفسيفساء, وتعكس الفوانيس المزخرفة الروح العربية الجميلة.
قطن السيد حمد وأفراد أسرته في القصر الاول, وامه وشقيقتاه وبعض القريبات في القصر الثاني.
وفي احدى زوايا المنزل, اقيم مبنيان للعمال والخدم.
وتقربا من الله, شاد السيد حمد جامعا قرب المنزل, يتسع لنحو ثلاثمائة مصل, ويغلب على تصميمه الطابع الاندلسي.
وكان الساكنون في الجوار وأهالي البلدة يجتمعون فيه لأداء صلاة الجمعة والاعياد.
ليس السيد حمد رجلا عاديا, بل استثنائي.
هوى اقتناء الجياد وتربية الصقور على غرار معظم الذين تعود جذورهم الى البادية.
فهو من قبيلة نجديه عريقة في المنطقة الوسطى.
وكان جداه ووالده من كبار تجار الاراضي.
ألم إلماما دقيقا بشؤون ذلك النوع من الاعمال, بعدما حل في أحيان كثيرة محل أبيه وساعد إخوته. ثم شق لنفسه طريقا مغايرا لميله الشديد إلى العلم.
سافر الى القاهره, والتحق بإحدى جامعاتها متخصصا في هندسة البترول.
وكان في عداد الطلاب المجتهدين.
بعد التخرج, عاد الى الوطن وبدأ العمل في وزارة البترول.
وسرعان ما تألق حتى بات واحدا من انشط الموظفين.
ومكافأه له, رقي وأوكلت اليه مهمة متابعة مشروعات البترول في المنطقة الشرقيه, وهي اكبر المشروعات القائمه في السعوديه آنذاك.
وللقبول بالمهمه الجديدة, اشترط انتقال شقيقتيه معه كي تكملا الدراسة لإيمانه بأهمية التعليم الذي ينير العقل ويوسع الافاق, علما انهما كانتا في سن الزواج, وبالطبع رافقتهم الأم كي ترعاهما.
عندما رأى السيد حمد ان الوظيفة تلجم طموحه, وتحد من تطلعاته, سعى, من دون ان يتخلى عنها, الى اطلاق مورد رزق جديد في مجال تطوير العقار وتحسينه, فأنشأ قسما للمقاولات بعدما تأكد له ان المنطة تنقصها المباني, وكعادته أكمل الناقص.

جروح العمر
03-28-2011, 09:15 PM
اجمع الذين عرفوه على انه متمتع بشخصية واثقة, وحضور من الصعب تجاهله.
ملامحه عربية, عيناه تتصفان بالقسوة والحنان, وبالذكاء والوداعة, لحيته خفيفه, انفه طويل قليلا, بنيته متوسطة لكنها صلبة, يداه تشيان بالقوة حتى لدى المصافحه. باختصار, كان رجلا حقيقيا وليس واحدا من اشباه الرجال.
كلمته مسموعه, ورأيه محترم.
وكان مقصدا لطالبي المشوره والنصح في مجمل الشؤون, ومحبا لعمل الخير ومساعدة الغريب قبل القريب.
منذ عهد الفتوة, تصالح مع نفسه.
فاعتاد كل صباح الخضوع لجلسة استرخاء وتأمل, تدوم ساعه تقريبا.
فكان صوت المؤذن وتغاريد الطيور المتنوعه والنسمات العليله تطرد من فضاء نفسه الغيوم السود, وتجلب إليها الصحو والصفاء.
وقد ثابر على مواصلة هذا الطقس الصباحي الى ايامه الاخيره.
اتقن ركوب الجياد حتى اصبح من الفرسان المهره.
وكان ميالا الى اكتشاف أنواع اخرى من الرياضة, واذا راقه احدها بعد التجربه, زاوله وبرع فيه.
اما ذوقه الفني فرفيع جدا.
فخلال دراسته في القاهره, شغف بأصوات ام كلثوم وعبدالوهاب وأسمهان وفريد الأطرش وعبد الحليم.
لكنه لم ينجذب كثيرا الى الأخير الذي مثل في اغانيه وأفلامه, العاشق المهزوم اللاهث وراء الحبيبه كي تعود اليه.
وهذا الخنوع لايتفق مع مبادئ السيد حمد المستعد لتحمل ألم الفراق على أن تبقى كرامته فوق كل اعتبار.
لاحقا, احب محمد عبده وطلال المداح, فحفظ عددا من أغانيهما عن ظهر قلب.
عرف ايضا الموسيقى الغربيه, وأهم السيمفونيات, فلم تجتذبه.
تزوج احدى قريباته, وهي شابة فاضلة, مطيعه, تسعى الى اسعاد زوجها بشتى الاساليب. فإن حاول احد الخدم اعداد قهوة زوجها العربية, تثور وتغضب كأنه تعدى حدود مملكتها. واشتهرت بتفننها في الاطباق اللذيذه, فضلا عن الترتيب والنظافة.
لذلك شبه بعض الضيوف بيتها بفندق خمس نجوم.
وقد انجبت ولدين, عادل وتركي.
واستغرب كثيرون اكتفاء رجل ميسور كحمد بولدين ليس غير.
لكنهم لم يعرفوا أنه هو الذي شاء ذلك كي يحسن تربيتهما ورعايتهما.
وعندما تأججت رغبة أم عادل في الانجاب للمرة الثالثه, لم يمانع السيد حمد.
لكن الله لم يستجب.
خضعت الزوجة للأمر الواقع, وراحت تهتم بتنشئة ولديها, وكان خوفها كبيرا عليهما.
فلم يتقبل عادل تلك الرعاية المتشددة, ففي نظره, هو ذلك الرجل الكبير الذي لطالما رأى اباه رجلا خارقا, وتمنى أن يصبح , مثله, نسخة منه, عندما يشب ويكبر.
مرارا حاولت امه ان تقنعه باللعب مع اخيه وبقية الاطفال بدلا من مجالسة ابية ومرافقته الى العمل, وكان جوابه:
- انا رجال مكاني مع ابوي مو مع اخوي.
تقتنع وتسكت على مضض.
استأثرت بتركي تمنحه المزيد من الحب والحنان بل مشاركته في كل كبيرة وصغيرة.
فمثلا اذا أراد شيئا ذهب اليها لا الى ابيه.
وهذا ماكان يغضب السيد حمد فيختلف مع زوجته, وحجته ان التدليل الزائد سيجعل منه اتكاليا انانيا لا يحب الخير الا لنفسه لكنها لم تأخذ كلامه على محمل الجد.
هذا لايعني انها قصرت في حق عادل او فضلت تركي عليه.
في المقابل, لم يلتفت عادل الى مايحدث بين امه واخيه, فقد كان مسحورا بعالم ابيه وعمله وجلساته مع ضيوفه, وبالأحاديث التي تدور على الخيل والصقور ورحلات الصيد او ((المقناص)), التي كان يحلم بها الى ان يحين موسمها.

جروح العمر
03-28-2011, 09:46 PM
.:الجزء الثاني (2):.

كبر عادل وتركي.
وفيما راح الاول يجتهد ويكد كي يتم المرحلة الثانوية, على امل ان يلتحق بالجامعة ليدرس إدارة الاعمال حتى يصبح على دراية كاملة بكيفية مساعدة ابيه وتطوير اعماله, كان تركي لايولي الدراسة الاهتمام المفترض, مع العلم انه لم يرسب في اي من سنوات الدراسة.
كذلك لم يكن مشغوفا بالعمل ولا ميالا الى الالتحاق بشركة والده.
ولما اجتاز عادل السنة الجامعية الثانية اقترح على والده تكملة السنتين الباقيتين في الخارج حتى يلم بالأساليب الجديدة وبعالم المعدات الحديثه, ويحصل على التوكيلات التجارية.
فهذه العناصر مجتمعة ستمضي بالشركة الى عهد آخر مختلف.
رحب السيد حمد بالاقتراح الذكي شرط ان يتزوج عادل قبل السفر كي يحصنه من الوقوع في الحرام.
وافق عادل على الفور خصوصا عندما علم ان والده اختار عروسا له ابة عمه التي لطالما سمع انها ملكة من ملكات جمال الكون.
وماهي إلا اسابيع قليلة حتى جرى الزفاف, وسافر العروسان الى بيروت حيث امضيا شهر العسل, ومنها طارا الى لندن وأقاما فيها.
بعد خمسة اشهر, ابرق عادل الى والده يبشره بأن زوجته حامل في الشهر الرابع. لم تتسع البسيطة كلها للفرح الذي راود السيد حمد عندما قرأ الخبر السار.
فكان لا يمشي بل يطير سعيدا بدنو ولادة اول حفيد له.
ولدى حلول موعد الانجاب حدث امر ليس متوقعا.
لقد حالت اسباب صحية دون سفر الزوجه بالطائره لتضع مولودها في وطنها, فاستقر الرأي عندئذ على ان تتم الولاده في احد مستشفيات لندن.
لم تكتمل فرحة عادل لأن قلقه وخوفه على زوجته اطفا احساسه بالسعاده.
فأبلغ والديه وبيت عمه القرار المتخذ بناء على نصائح طبية, واتجه الجميع على جناح السرعه الى لندن, لكن ماكتب قد كتب. توفيت الام عقب ولادة احمد. رضي عادل بحكم الله واستوعب المأساة. وبرغم الضبابة الكثيفة التي انتشرت في طريقه, قرر ان لا يترك عاصمة الضباب, إلا بعد اكمال الدراسة وحيازة الشهادة حتى لو حرم من طفله سنة وبضعة اشهر.

جروح العمر
03-28-2011, 09:49 PM
مرت الايام تلو الايام, ونشأت علاقة حب بين عادل وفتاة سورية تدرس الفلسفة في الجامعة نفسها.
شابة جميلة, تنحدر من عائلة كبيرة معروفة, مربوعة القامة, بيضاء, شعرها بني كثيف, عيناها لوزيتان زرقاوان, انفها يشبة سلة السيف, يعكس قوة شخصيتها واعتزازها بنفسها, شفتاها مكتنزتان قليلا تصرخان بأنوثة عذراء تستحي ان يلاحظ خجلها احد.
هكذا وصفها عادل لابيه عندما عاد الى الوطن وكان حائرا مضطربا, خوفا من ان يرفض ابوه ذلك الزواج اذ ليس مألوفا ان يقترن احد من عائلة حمد بأجنبيه, فبنات العائلة اولى برجالها.
لكن السيد حمد لم يعترض, بل بارك الزواج خصوصا بعدما سأل عن الفتاة وتأكد انها ستكون خير زوجة وام.
في الطائرة, وهما متجهان الى دمشق لخطبتها, قال الاب:
- ما استغربت اني وافقتك على هالزواج؟
- بصراحة, لا.
- طيب ما سألت نفسك ليش ؟
- سألت كثير, لكن انا عارف اني ان شاء الله ما حطلب هالطلب, الا وانا متأكد انه نسب يشرفك قبل ما يشرفني.
- ماعندي شك, لكن اهم شيء خلاني اوافق أنها متعلمة.
ومو كذا وبس وفلسفه يعني فاهمة الدنيا, وزيد على هذا انها سافرت تكمل دراستها بالخارج.
تعرف ياولدي اني كنت اتمنى ان امك تكون متعلمة.
هي ونعم الحرمة لكن اللي ناقصها العلم.
وصدقني لو تعلمت كانت اتغيرت اشياء كثير في حياتنا.
واخوك تركي كان طلع افضل من كذا, لكن وش نسوي عاد, هذا الله وهذي حكمته, والله يستر عليه.
كان السيد حمد يتكلم كأنه يرى في تركي شيئا لا يراه غيره.
رد عادل:
- لا الله يحييك, تفاول خير.
اخوي تركي قلبه طيب.
هو بس مدلع شوي.
- الله يحفظه ويهديه ويكفيه شر نفسه.
ذهبا الى منزل العروس, فيلا كبيرة قائمة على ارض خضراء يحيط بها سور تزينه اشجار تضج بزقزقة العصافير معظم ساعات النهار. وعقب التعارف وعبارات المجاملة, طلب الاب يد الفتاه.
وافق اهلها, ولكن اباها اشترط ان تنجز الدراسة قبل حصول الزفاف.

جروح العمر
03-28-2011, 09:51 PM
.:الجزء الثالث (3):.


التحق تركي بالجامعة, قسم ادارة الاعمال, ليس لحبه هذا المجال, بل لأنه يريد ان يحظى بكل ماحظي به اخوه.
حتى انه في عطلة الصيف, وبعد اتمامه السنة الثانية, طلب الى ابيه ان يسمح له بإكمال الدراسة في الخارج, وان يتزوج قبل السفر, تماما على غرار مافعل عادل.
استغرب الاب هذا الطلب لان تركي كان من النوع الذي يصعب تصديق التزامه بفتاة واحدة, لكثرة مغامراته والعدد الهائل من المكالمات التليفونيه التي كانت شغله الشاغل.
اما الام فقالت:
- ان شاء الله يكون ربي هداه.
وافق الاب, لكن المفاجأه ان تركي لم يكن يريد الارتباط بإحدى بنات عمه, بل اختار عروسا بنت احد المسؤولين في الدولة حتى يضمن المال والسلطة معا, ويصبح افضل من اخيه عادل.
لم يمانع الاب وخط له الفتاة.
تم الزفاف بعد فترة وجيزة وسافر تركي وعروسه الى لندن.
فالتحق هو حالا بالجامعة ليكمل الدراسة مؤجلا شهر العسل الى وقت آخر.
عقب سفر تركي, عاد عادل الى الشرقية ليجد ان معالم الشيخوخة بدأت تغزو شباب ابيه الذي ناهز عمره الستين. قبل عادل بالسكن هو واسرته في القصر الاخر بسبب تعلق والديه بابنه احمد, عوضا عن استقلاله في منزل منفصل عن العائلة, خصوصا ان القصر اصبح خاليا بعد زواج اختيه واستقرارهما في الرياض.
كانت فرحة عادل بعودته الى كنف ابيه, او الرجل الخارق كما كان يسميه, فائقة الوصف.
وبدأت عجلة الحياة دورانها, ونقل عادل كل ما تعلمه من اساليب تجارية جديدة الى الشركة واستطاع ان يحرز تقدما واضحا عززه بالحصول على ثلاث توكيلات اجنبية متخصصة في مواد البناء, وهذا ما استدعى إقامة شركة جديدة للاستيراد والتصدير, ومصنعين, فأصبحت الشركة تضم مجموعة شركات كبيرة.
في هذه الاثناء, اقترح السيد حمد ان يكتب لعادل الشركات التي أنشأها اعترافا بنجاحه, وتقديرا لنشاطه المستمر, وخصوصا انها ثمرة جهده.
ويكون هو شريكا صامتا.
رفض عادل وكان رده:
- كله من خيرك, الله يطول بعمرك.
لكن هذا مو حلالي لحالي.
اخوي تركي له نصيب.
ليس مستغربا ان يتخذ عادل موقفا كهذا.
انه واحد من مواقف كثيره سبق ان اتخذها, جعلت اباه يثق به ثقة عمياء.
عاد تركي الى الوطن بعدما نجح بتقدير جيد.
لكنه لم يتمتع بالحماسة نفسها التي تمتع بها اخوه لدى عودته.
عدا ان علاقته بزوجته كانت متوتره. فهي لم تحمل في تلك الفترة.
استشارا اطباء كثرا في لندن لمعرفة السبب, واجمع هؤلاء, بعد الفحوص الضرورية, على استنتاج واحد:
(( لا موانع طبية, ربما أسباب سيكولوجية. يحدث ذلك مع كثيرات. ليس مستبعدا حدوث انجاب بعد حين ))

جروح العمر
03-28-2011, 09:52 PM
لم يشأ تركي ان يطلقها كي لايخسر نفوذ والدها.
وبعد العودة ببضعة اشهر, حدث الحمل ورزقا مولودا سمياه زياد.
كان المولود الجديد يشبه امه التي لم تنجب سواه, ربما من جراء سوء معاملة زوجها لها وطبعه الفظ.
فقد كان السيد تركي عصبيا, عابسا على الدوام, متأففا, تحيط قلبه غمامه قاتمه من فرط انانيته, وكان كذلك مدعيا مغرورا كأنه وحده الذي يفهم وجميع الناس حمقى واغبياء.
لم يكن صائبا قرار مشاركته اخاه في المنزل بناء على رفضه ان يستقل هو واسرته في منزل خاص. فقد سبق ان عرض والده عليه ان يبني له قصرا مطابقا تماما لذلك الذي يسكنه عادل, في احدى حدائق المنزل الكبيره.
وبعدما تعددت الخلافات لكونهما مقيمين في المكان نفسه, اقترح الاب على عادل الاقامه معه, وترك المنزل لاخيه.
اجابه عادل بشيء من الفطنه التي ورثها منه:
- لا الله يحييك. اعرض على تركي الاول.
لو قال لا, وقتها انا اجي.
ما ابيه يحس انك مفضلني عليه, وانك تبيني معك, وهو لا.
- الله يرضى عليك ويرضيك ياولدي.
فضل تركي البقاء في المنزل ارضاء لرغبة زوجته, بحسب زعمه.
لكن ذلك لم يكن صحيحا.
فهو دوما ينكر وجود مشاكل بينه وبينها.
فالصورة التي يرسمها للناس لايمكن خدشها, وهي تدل على انهما ثنائي غارق في الحب تماما كحال اخيه وزوجته.
لذا احب ان يأخذ راحته في الشجار معها من دون علم احد, وفي الوقت نفسه, يصبح في مكان خاص به, اي في وضع افضل من وضع عادل المقيم في منزل ابيه.
قبل مغادرة عادل المنزل بأيام, تشاجر تركي وزوجته, وسرعان ما خرج عن طوره ومد يده عليها.
ففرت, فتحت الباب, ركضت مستنجدة بزوجة عادل, وتركي يعدو وراءها, شاتما الساعه التي عرفها فيها, وعيناه تقدحان غضبا. وصودف وصول عادل, فلم يعره اهتماما, واكمل مطاردا زوجته المرتعبة.
فأوقفه عادل:
- الله يهديك ياتركي, ايش صار لكل هذا؟
- شيء مايعنيك, حرمتي وانا حر فيها.
- قبل ماتصير حرمتك, هذي بنت ناس وما في رجال محترم يمد يده على حرمه.
انت ماتربيت على كذا, ولاتزودها واقصر الشر.
- اتربيت مثل ماتربيت.
وانت اللي اقصر الشر ولا تدخل نفسك في شي مايخصك.
وبنبرة حادة عدائية قال تركي بعدما دفع عادل دفعا قويا كي يفتح له الطريق:
"وخر عني".
فما كان من عادل إلا ان ثبته من الكتفين, ورد بنبرة لم يسمعها تركي من قبل اشعرته للمرة الاولى بالخوف من اخيه الاكبر:
- اسمع.
لو مانت عارف تحترم اللي اكبر منك, انا اعرف اخليك تحترمني غصب.
الحين بتدخل وتعتذر على مد اليد, وإلا قسم بالله مايردني إلا ابوك.
نزل تركي على رغبة اخيه واعتذر الى زوجته.
لكن مافي داخله لم يتغير, بل ازداد كرهه لها, وحقد عليه.

جروح العمر
03-28-2011, 09:53 PM
.:الجزء الرابع (4):.


عرفت الشيخوخة طريقها الى السيد حمد, فتلاشت عافيته مع استفحال المرض شيئا فشيئا.
وفي الاخير, اجمع الاطباء على ضرورة نقله الى لندن لكي يحظى بأفضل علاج.
سافر السيد حمد يرافقه ولداه وزوجته.
حالما تأكد للجميع ان العلاج سيستغرق وقتا طويلا, وتقتضي دواعي العمل ذهاب احد الولدين لمتابعة سير ادارة الشركات طلب عادل الى اخيه العودة مغتنما المناسبة كي يثبت له انه محل ثقته وثقة ابيهما.
عاد تركي وتولى ادارة الشركة.
لكنه لم يكن على دراية كافية بمجريات العمل, فبدأ المديرون يتململون, واضطر بعضهم الى الاتصال هاتفيا بعادل لإبلاغه ان ثمة قرارات اتخذت قد تضر بالعمل ماديا ومعنويا, وان اخاه يرتكب هفوات كثيرة, وهو يدير الاذن الطرشاء الى كل ناصح ومرشد من ذوي الخبرة.
وكان عادل يجيب دوما:
- هذي اول مرة يستلم فيها شغلنا, فما فيها شي لو اخطأ.
كان تركي ينفي وجود مشكلات في الشركة, ويردد متى سأله اخوه عن حال العمل:
- لاتقلق.
تراني متخرج من نفس الجامعه ياخوي.
توكل على الله بس.
لم يشأ المديرون نقل الحقيقة كاملة الى عادل.
فقد كان تركي يطبق أساليب ملتوية خلافا للقواعد التى ارساها السيد حمد, والتي كانت اساس ثروته ونجاحه, واهمها الصدق والاستقامة واحترام القوانين.
وتفجر الخلاف حين رفض تركي ان تصرف الشركة حوافز الموظفين السنوية, المنصوص عليها في عقود العمل.
واعلن بالفم الملآن:
- كفاية عليهم النسبة, اما الحوافز لايحلمون فيها.
ثار العمال واحتجوا مناشدين المسؤولين عنهم التدخل والسعي الى وقف الإجحاف.
وهددوا بالإضراب, وارسلوا مذكرة اعتراض بالبريد الى السيد عادل, وهم واثقون بأنه لا هو ولا السيد حمد يرضيان بأن تهضم حقوقهم.
ومنعا للمفاجآت غير السارة, كان لابد من سفر عادل اسبوعا لمعالجة الوضع, خصوصا ان مدير مكتبه في الشركة اعلمه ان الامر بات بالغ التعقيد.
لكن اطباء تمنوا عليه البقاء, فأبوه في وضع صحي دقيق, وقد يفارق الحياة بين لحظة واخرى.
ثم ليس مستحسنا ان يترك والدته بمفردها تواجه واقعا كهذا, خصوصا ان صحتها هي ايضا ليست مستقرة.
وكان الحل الوحيد ان يصرف حوافز الموظفين بموجب قرار منه على رغم أنف اخيه.
هذا الموقف اشعل الضغينة داخل تركي, وبدأ حقده يأخذ شكل اعنف حيال اخيه.
اما عادل فلم يضمر شرا له, وهو لم يتعمد احراجه وسط العمال والموظفين.
لقد اراد انهاء المسأله سريعا كي يلتفت الى ابيه.
لم يشعر بالذنب لحظه واحدة, لأنه قبل اتخاذ القرار, هاتف اخاه وطلب منه صرف الحوافز المستحقه, وتكرر رفض تركي:
- هذا هدر للمال والعمال يأخذون حقهم وزيادة.
مافي داعي للدلع الزايد.
ذات ليلة, تدهورت فجأة صحة السيد حمد, واجتاحته غيبوبة عميقة.
اخفق فريق الاطباء في انقاذه, ففارق الحياة.
لم تزل كلماته الأخيره تموج في وجدان عادل:
- اسمع يا ولدي, لا اوصيك على تركي, لا تفارقه في شغل او في بيت لكن في نفس الوقت انتبه منه, وانتبه على بيتك وعيالك.
وامانة انك تلم شمل العيلة وتحافظ على اسمها.
وانصف حتى لو الحق على رقبتك.
وحط امك على راسك وخلي ربك دايم بين عيونك.
وان شاء الله اني ماقصرت في شي معاكم.

جروح العمر
03-28-2011, 09:54 PM
ولم يمض شهران على رحيلة حتى توفيت زوجته.
كأنها رفضت ان تعيش بعد غيابة.
عبرت السنون متسارعة, واطلت على دنيا عادل طفلة جميلة سماها سارة.
كبر الصغار والتحقوا بالمدارس ثم بالجامعات.
اتصف زياد بشخصية ضعيفة, وقد اعتاد الهروب من والده, في حين كانت امه لاتكترث إلا لنفسها وجمالها وتلبية دعوات العشاء التي تستمر إلى آخر الليل, كأنها يئست من إصلاح علاقتها بتركي, فقررت أن تعيش حياتها غير عابئه بما يحدث.
ارتاد احمد وزياد المدرسة عينها.
تخرج الأول قبل الثاني بسنتين, والتحق بكلية الهندسة.
ثم لحق به زياد الى الكلية نفسها ملبيا رغبة ابيه لا رغبته هو الميال الى التاريخ والآثار.
ولما وصل احمد الى السنة الثالثة, وكان مشغوفا بالهندسة الاوروبية, وحالماً بإكمال الدراسة في بلد اوروبي, طرح على ابيه فكرة السفر, فرفض عادل ليس لأنه غير محب للعلم بل لأنه يريد بقاء ابنه قريب منه.
ثم وافق وسافر احمد لكن ليس بمفرده.
فقد اضطر الى ان ينتظر ابن عمه زياد ريثما يتم اجراءات السفر كي ينطلقا معا.
انبهر احمد بهندسة المباني والشوارع في لندن.
كان يسير كأنه في حلم, فالساعات تمر سريعة وهو يتجول.
لم يترك متحفا او مزارا تاريخيا إلا قصده.
وسعى ايضا الى تنمية هوايته التي كانت السر الاكبر في حياته وهي النحت, والتي هي في نظر ابيه "حرام وما يجوز".
كان يومه مقسما مابين الجامعة ودرس النحت ثم الذهاب الى المنزل.
في ايام العطله, تطيب له مجالسة زملاء في مقهى او مشاهدة احد الافلام.
لم يكن احمد يطلع زياد على شؤونه الخاصه لعلمه الاكيد انه ينقل كل شيء حرفيا الى والده.
كان احمد فتى الأحلام لغالبية بنات الجامعة.
فهو طويل, بشرته حنطيه, عيناه تشيان بذكاء خارق.
وقد درج في الاجازة الصيفية على ان يسافر ووالديه واخته سارة الى بلد مختلف, فالسيد عادل كان يرغب في ان يرى واسرته العالم كله.
وفي خاتمة الرحلة تكون سوريا آخر محطة, كي تزور الزوجة عائلتها.
هناك تعرف احمد الى نوارة, إحدى قريبات زوجة ابيه.
وكانت أجمل فتاة رآها في حياته.
فبدأت بينهما قصة حب استمرت عاما, وتكللت بالزواج, وبات احمد يحسد نفسه على النعيم الذي يعيش تحت ظلاله, زوجة جميلة تحلو الحياة معها, وعائلة محبة متفهمه, ومركز مرموق في انتظاره حتى يترجم احلامه مشاريع واقعيه.
واقام قرب منزل ابيه في منزل جديد بني خصيصا له, وهكذا يظل شمل العائلة مجتمعا وفق وصية الراحل الكبير السيد حمد.
لم يكن ذلك المنزل هو الشيء الجديد الوحيد في المكان, بل هناك ايضا الشلال الحجري الضخم والمتصل ببركة للسباحة واسعة أنشئت محل البحيرة.
وبهذا المشهد أكمل عادل الناقص تيمنا بأسلوب والده.
أما زياد فتزوج على طريقة زواج والده.
ورزق صبيا اطلق عليه اسم جاسر, لكنه توفي في حادث سير قبل ان ينعم برؤية ابنه يكبر ويشب تحت جناحي ابوته.
لم تحتمل الجدة هول الفاجعة فماتت بعد وفاة حفيدها زياد بأيام معدودة.
وكان طبيعيا ان تقيم زوجة الفقيد وابنها جاسر في منزل مستقل تقيدا بالعادات والتقاليد.
وفي غمرة التقلبات العائلية, انجزت سارة الدراسة الجامعية, ثم تزوجت بموظف ذي منصب رفيع في وزارة الخارجية, وانجبت بسام.
وقد انعم الله على أخيها غير الشقيق احمد طفلتين توأمين سماهما ليال ومنال.

جروح العمر
03-28-2011, 09:56 PM
.:الجزء الخامس (5):.

صباح كل يوم جمعة كان أشبه بأيام العيد, إذ يجتمع الأولاد والأحفاد في المنزل الرحب, ليلعبوا ويسبحوا ويلهوا في جو من السعادة والمرح.
كان ذلك تقليدا أقامه الجد الأكبر وحافظت عليه أجيال العائلة.
لم يتغيب الشقيقان عادل وتركي يوما عن هذا التجمع الأسبوعي إلا نادرا.
كانت سيدات المنزل يعتنين بالطعام والبرنامج الترفيهي للأطفال, والخدم والطهاة والعمال الآخرون يتلقون الأوامر ويطبقون التعليمات.
أما رجال العائلة فكانوا معنيين بالتأكيد أن جميع المدعوين سيحضرون.
وكانت السيدة نوارة زوجة احمد مبدعة دوما في تهيئة طفلتيها لهذه المناسبة, فتدربهما على عزف البيانو, وعلى أداء أغنية معبرة غالبا هي للسيدة فيروز.
ويروح الصغار يتبارون متحمسين هاتفين عندما يفوز احدهم في مسابقة السباحة أو في ركوب الخيل.
وحده جاسر كان لا يشاركهم في اللعب, بل يبقى مع جده على الدوام.
لم يتفق جاسر كثيرا مع أولاد اعمامه.
كان سليط اللسان, شرسا, طويل اليد, لا يتمتع بأي ميزة غير أنه يملك من الألعاب والصلاحيات ما لا يملكه أي طفل في مثل عمره.
لذا أعجب به الكثيرون ممن هم أصغر منه سنا, إلا بسام الذي كان يراه متعجرفا متكبرا, ويتفادى الاحتكاك به مفضلا قضاء معظم الوقت مع أولاد أنسبائه الآخرين, وخصوصا منال التي هي أقربهم إليه.
كان بسام ومنال منذ الصغر شديدي الارتباط أحدهما بالآخر.
وكانت السيدتان نوارة وسارة تتبادلان الدعابات عندما تريان الصغيرين منهمكين باللعب معا, في الحديقة, فتقول نوارة لسارة:
- هالشي مابيصير.
لازم تتقدموا رسمي وتخطبوها.
ترد سارة:
لاياحبيبتي, ولدي بكرا البنات بتركض وراه.
وتنتهي الدعابة بضحكة مشتركة.
لكن الذي في داخل كل من بسام ومنال كان أصدق من تلك الضحكة.
كانت ليال على عكس أختها, فمسألة الإعجاب بأحدهم لم تكن أهم ما يشغلها.
فاللعب وتحدي الأطفال وركوب الخيل والسباحة محور اهتمامها.
منذ الصغر تحلت بشخصية قوية.
لم تمش يوما ناظرة إلى الأسفل حياء.
مثل بقية الأطفال.
فدوما كان رأسها مرفوعا, تنظر إلى من يحادثها, ترد على من لا يعجبها كلامه, من دون أن تتجاوز حدود الأدب.
لذا كان السيد احمد يتباهى:
- بنتي ماينخاف عليها لو إنحطت بين مليون رجال.
فليال تكبر منال بعشر دقائق وتفوقها حدة وجرأة, حتى شعرها المتموج يترجم حماستها الدائمة واندفاعها الملحوظ, فهي الثائرة المتقنة لكل ماتحب.
وإذا لم يعجبها أمر ما فلا تنفذه إلى أن تقتنع.
أما منال فكانت هادئة ذات ملامح ملائكية ونطرات بريئة, وكان شعرها الناعم يعكس رقة طبعها.
ومن فرط حيائها, كانت منال في معظم الأحيان, الحاضرة الغائبة, وليال المتحدثة والمجيبة عن نفسها وعن أختها.
وعُرف السيد أحمد بأنه لين الطباع, مهذب, حنون, يحترم نفسه والآخرين, وهو محل تقدير لدى عارفيه وأصدقائه.
وكان ارتباطه بوالده ارتباط الروح بالجسد.
فلم يخذله يوما.
وكانت زوجته السيدة نوارة فائقة الجمال, طولها ينافس قوام عارضات الأزياء, شعرها أسود منسدل كشعر الحصان, عيناها عسليتان تشبهان عيون النمور في حدتها.
وهي الحب الأول والأخير لأحمد, والمثال الأعلى لطفلتيها في الأناقة وحسن التصرف.
وعلى الرغم من وجود مربية للفتاتين التوأمين هي حميدة, فضلا عن خدمات للتنظيف وللشؤون المنزلية الأخرى, لم تسمح لأحد بأخذ مكانها أو القيام بأي دور يجب أن تقوم به سيدة المنزل.
فهي التي تطعمهما, وتصحبهما إلى المدرسة في أول أيام الدراسة.
وهي التي تراجع معهما دروسهما.
ورابع المستحيلات أن تشاهد الطفلتان أي فلم قبل أن تراه الأم أولا حتى تتأكد أنه خال من مناظر مبتذلة أو من كلمات قد تخدش نقاء ابنتيها.
وإن مرضت إحداهما كانت تلازمها إلى أن تتعافى.
حتى إن ليال ومنال كانتا مقتنعتين تماما بأنهما إذا وضعتا رأسيهما على حضنها, فستستريحان حتما, أو إذا لمست يداها مكان الألم فسيزول من شدة حبها وحنانها.

جروح العمر
03-28-2011, 09:57 PM
دفؤها الأمومي الذي رافق ابنتيها, وكان كالدرع التي تقيهما صقيع الطفولة وعواصف المجهول, لم يجعلها تقصر في بث دفء أنوثتها في أيام زوجها ولياليه.
فلم يحدث أن استقبلت السيد أحمد إلا كانت في منتهى الأناقة, فيبدو الاثنان في تلك اللحظه, كأنهما في عز شهر العسل.
فهي دوما مبتسمة, متفائلة, لايعكر صفوها ويقلقها إلا شيء واحد, هو الشلال.
فكلما سمعت خرير مياهه أو مرت بالقرب منه, أو نظرت إليه, انفطر قلبها من البكاء الصامت.
وكانت تبرر ذلك بقولها:
- أنا ما بحب الشلال ولا بطيقه.
الله يكفينا شره.
لم يعرف احد قط تفسيرا لذلك!
كان يوم عائلة أحمد يمر كالآتي:
تستيقظ الخدامات أولا, ينظفن غرفة المعيشة الكائنة بجوار جناح السيد أحمد وزوجته, والتي يتناولان فيها طعام الفطور, طوال أيام الأسبوع ما عدا الجمعة, اليوم الذي تلتقي فيه العائلة كلها في الحديقة.
ثم تستيقظ السيدة نوارة للتأكد أن كل شيء يسير على ما يرام, وتوقظ زوجها بقبلة على جبينه, والوردة بيدها.
وفيما هو يهم بالدخول إلى الحمام, توقظ هي الفتاتين لتذهبا إلى المدرسة, وتساعدهما حميدة في ارتداء المريول, وتوصلهما إلى غرفة المعيشة.
لم تسمح نوارة للمربية أو للخادمات بالمساعدة في إعداد الفطور, فقد كانت حريصة على أداء دورها كاملا مع أفراد أسرتها.
ولدى الانتهاء من تناول الفطور, وذهاب كل منهن في طريقه, تبدأ هي بمراجعة قائمة الطعام للتأكد أنه صحي.
وبعد أن تتفقد نظافة المنزل, تستحم, وتجلس في كرسيها المفضل وتبدأ بالقراءة.
كانت تقرأ في علم النفس وتربية الأطفال والغذاء الصحي.
ولاتتخلى عن الكتاب إلا حين تعود ليال ومنال من المدرسة, لتجداها في انتظارهما أمام المدخل فاتحة ذراعيها وهي تقول لهما همسا:
"اشتقتلكن حبيباتي".
وتقودهما إلى المائدة.
بعد الانتهاء من الغداء, تقص أحيانا الطفلتان لأمهما ماحدث معهما في المدرسة, وأحيانا أخرى تمدهما الأم ببعض المعلومات التي قرأتها في أحد الكتب.
ثم نذهب الصغيرتان الى القيلولة التى لا تدوم أكثر من ساعة ونصف الساعة.
في هذه الأثناء, يحل موعد قهوة المغرب والزيارات النسائية, فإما تستقبل السيدة نوارة إحدى صديقاتها أو تلبي هي دعوة إحداهن.
وعندما تستيقظ الطفلتان تسترجع معهما واجباتهما المدرسية بعد أن تأكلا شيئا من الفاكهة. وفي الساعة السابعة, يصل الزوج برفقة والده الذي يتناول الطعام معه في أحيان كثيرة, ثم يعود إلى عائلته, وفي أحيان أخرى تنضم السيدة نوارة إليهما, ثم تعود وزوجها إلى المنزل حيث تكون ليال ومنال قد أنهتا المذاكرة, وذهبتا إلى الحديقة للعب مع بقية الأطفال.
وفي الساعة الثامنة تعودان إلى المنزل, وتجلسان مع والدهما ووالدتهما قرابة نصف ساعة ثم تغتسلان وتمضيان إلى غرفة النوم.
ذات يوم, اتصلت والدة جاسر بالسيدة نوارة وقالت إنها في الطريق إليها, لأمر مهم.
عندما وصلت كانت منهارة تعبة:
- الحقيني يا أم ليال, العم تركي جاني البيت يخانقني, وقال لي إنه بيحرمني من جاسر أكثر ما هو حارمني منه, وهو معاي.
- ليه شو صار؟
- أنا متقدم لي عريس.
وبصراحة ماني لاقية فايدة من جلستي مع جاسر.
العم تركي يتدخل في كل شي, حتى في اللي بيني وبين ولدي, وحرمته اللي المفروض أنها توقف معي في عالم ثاني, فقلت لنفسي ليه ما أتزوج.
لكن أنه يحرمني منه وما عاد أشوفه, هذا شي ما أقدر عليه.
- هدي بالك.
إن شاء الله خير, يمكن زعلان لأنك بدك تتزوجي غير زياد.
- لا والله أنا اعرفه زين, هو كل أمله أنه يخلص مني.
أنا متأكدة أنه يبي يكره جاسر فيني عشان يصير مرتبط فيه لحاله.
- مو معقول.
أكيد هيدا كله لحظة غضب وبتروح لحالها, ليه مابتحكي مع العم عادل وتخليه هو يلي يحكي مع العم تركي؟
اقتنعت أم جاسر بما قالته نوارة وانتظرت حتى عاد السيد عادل, وروت له ماحدث.
ووعدها بأنه سيفعل أقصى ما يستطيع, فهاتف أخاه ودعاه إلى العشاء وفاتحه في الموضوع.
لكن الرد جاء أقسى من المتوقع:
- ما حتشوف جاسر لكن لو هو اللي يبي يشوفها, ذاك الوقت يصير خير.
ونادى السيد تركي جاسر, وقال له على مرأى من الجميع:
- أمك بتتزوج وتخليك ولو تبي تروح معها روح, بس أنا بشيل يدي منك.
ولو تبي تقعد معاي, مافي شيء في الدنيا بينقص عليك.
وكان الرد الطبيعي لجاسر:
- أنا ماني برايح محل, أنا معاك يا بوي.
وهي الله معها.
لقد غرس تركي في جاسر كل الحقد الذي في داخله, وأقنعه بأن والدته استغنت عنه ورمته, وأنها لا تريده لأنها فضلت الزواج, وهو في العاشرة من العمر.

عـــودالليل
03-28-2011, 10:50 PM
300


من متابعيك وسآكون كذلك باذن الله
قد لا أوفيك حقك بالرد
فأتمنى قبوله

http://m002.maktoob.com/alfrasha/up/965606661833153094.gif (http://forum.al-mzon.com/t44020.html)
يعطيك العافيه


دووم هالتميز ماشاء الله عليك
ربي يحفظك

http://s25.photobucket.com/albums/c88/fuyu_034/i%20like/th_200128708445076319.gif

جروح العمر
03-28-2011, 11:06 PM
عود الليل

اشكرك على تواجدك

وماتقصر

جروح العمر
03-28-2011, 11:07 PM
.:الجزء السادس (6):.

لم تكن منال و ليال كأي توأمين.
فإحساس إحداهما بالأخرى تعدى حدود المعقول.
ففي غرفة النوم, أصرت الأم على أن يكون لكل منهما فراش منفصل.
لكن هذه الرغبة لم تتحقق.
إذ كانت تستيقظ كل يوم فتجدهما في سرير واحد.
كان الجو العام في كلا القصرين سعيدا إلى حد ما, فمنزل عادل كان الأكثر اكتظاظا بالأولاد.
أما منزل تركي فلا يقطنه إلا هو وزوجته وحفيدهما وعدد من الخدم.
كان الأطفال يلهون دوما في الحديقة.
لكنهم لم يحبوا جاسر كثيرا إذ كان لا يختلف عن السيد تركي في علو صوته وعصبيته وقلة احترامه للآخرين صغارا كانوا أو كبارا, حتى إنه كان يتلذذ بمضايقة الأطفال وضربهم.
وحين انهالت شكاوى الأمهات على السيد عادل, مطالبات بوقف جاسر عند حده, اقترح على أخيه أن يعرض جاسر على طبيب نفسي خاص بالأطفال.
رد تركي:
- وش تقول ياخوي؟
اذكر الله, ولدي عقله يوزن بلد, هو بس طبعه شديد وينفعل لما يلعب مع الصغار, لا تشغل بالك فيه.
كأنه يقول له بمعنى آخر:
- لاتتدخل في ما لا يعنيك.
برغم مرور نحو عامين, لم يتغير سلوك جاسر مع أطفال العائلة, فازداد كرههم له, بعدما أضحى أكثر عنفا وتهورا.
في ذلك الحين فكر السيد تركي مليا في مسألة عرضه على طبيب مختص, وبخاصة بعد وقوع بضعة حوادث متتالية, أبرزها ضرب أكثر من طفل وكسر أنف أحدهم.
وهذا ماحصل.
صحب جاسر بدون علم أحد إلى الطبيب الذي استنتج عقب المعاينة, أن الفتى يعاني ميولا عدوانية شديدة لعدم إحساسه بالأمان, والسبب أنه فقد والده وهو صغير, وكبر يتيما, ووالدته تزوجت وفضلت رجلا آخر عليه.
وذات يوم جمعة, كان الأطفال كالعادة يمرحون ويتسابقون, وتردد أصداء صخبهم البريء في رحاب المكان.
فــجــأة ركضت ليال لتسأل والدتها:
- ماما وين منال ماني لاقيتها.
كنا نلعب وبعدين اختفت.
ردت الأم في ذعر:
- كنتو بتلعبوا حد الشلال؟
فأجابت ليال وصوتها يرتجف خوفا:
- مــا أدري ... مــا أدري.
نهضت الأم مسرعة تبحث عن ابنتها بجوار الشلال ودموعها منهمرة.
وهب الجميع للبحث عن الملاك الصغير, إلا جاسر الذي رأته ليال ينسحب نحو منزله على رؤوس اصابعه, كأنه أراد ألا يلحظه أحد.
لم تعره اهتماما, وتابعت البحث عن أختها حتى قادتها قدماها إلى غرفة والديها لتسمع أنينا وبكاء مصدرهما خزانة الملابس الخاصة بأبيها.
ففتحتها لتجد منال مختبئة مرتعبة, فسألتها:
- وش فيك, ليش تبكين؟
غمرت منال أختها وألقت رأسها على كتفها كأنها تحتمي بين ذراعيها, وقالت:
- ما تخليني.
احضنيني بقوة.
أنا خايفة.
- خايفة من أيش؟
عمرك ما تخافي وأنا جنبك علميني وش صار؟
- جاسر قليل أدب ما يستحي.
كنا نلعب وبعدها قال لي تعالي بوريك شي.
ولما صرنا لحالنا قال لي أنتي لي أنا, وأنه يحبني.
ولما قلت له يبعد ويخليني أروح وأني ما أحبه, بدا يشد شعري ويضربني, ويقول لي أنا رجال الحين.
وما أدري كان شكله غريب.
وكان كله يصب عرق.
الحمدلله إني قدرت أهرب منه وركضت على هنا, المكان الوحيد اللي ما حيقدر يدخله هو غرفة نوم أبوي وأمي.
طمأنتها ليال وأخذتها حتى تغسل وجهها, وهاتفت والديها كي يطمئنا.
لم تنتظر أن تحكي ما حدث لوالدها بل ذهبت إلى منزل السيد تركي, ودخلت عليه غير مبالية برد فعله وغطرسته:
- عم تركي أنت تحبنا؟
بدا باردا وهو يسمع السؤال, وجوابه يفوقه برودة:
- جايتني الحين عشان تسأليني أحبكم.
إيه أحبكم.
في سؤال ثاني؟
- وتقبل إن أحد يغلط على بنات أخوك؟
- هذا الي ناقص بعد.
- وإذا عرفت بتوقف معنا؟
- أكيد طبعا.
- عشان كذا انا جيتك لأني أعرف انك ماترضى الغلط حتى ما رحت لجدي أو أبوي.
- أحكي وش صار؟
- جاسر ضرب منال, وقال لها حكي عيب يقوله أحد من عائلة حمد.
مابالك وأنت اللي مربيه ياعمي.
المفروض يكون هو اللي يعلمنا الأدب.
بذكاء مبطن, قدمت ليال إليه الإساءة والتوبيخ على طبق الكلام المعسول.
وقد استوعب تركي ماجرى, وقرر أن يتخذ موقفا قويا عندما يقابل شقيقه عادل ووالد منال, وهكذا كان.
فقد أقر بأن جاسر يعالج لدى طبيب نفسي, وهو يعاني بعض الاضطرابات النفسية لفقدانه والده ووالدته.
وسيتعافى بعد خضوعه لبعض جلسات.
ولم يكتف بذلك التوضيح, بل أجبر جاسر على الاعتذار إلى منال ووالدتها.
لكن توضيح السيد تركي لم يتضمن الحقيقة كاملة.
فجاسر كان يعاني مشكلات نفسية معقدة تستدعي جولات علاج طويلة لاجلسات معدودة.
في ذلك الحين, كان جاسر قد أتم الثالثة عشرة والفتاتان التوأمان الأحد عشر عاما.

جروح العمر
03-28-2011, 11:12 PM
مرت الأيام, وبدأ جاسر يبدي اهتمامه الشديد بمنال, فكان يلاحقها إلى كل مكان تذهب وأختها إليه وصولا إلى مكانهما السري في إحدى باكات الخيل غير المستعملة في الإسطبل, وهي الملاذ الذي تهربان إليه كل يوم تقريبا, لتكتبا في دفتر صغير تفاصيل يومياتهما.
كان جاسر يظهر كالجني الذي لا تردعه حواجز.
لم تكن منال تبادله المشاعر نفسها التي يكنها لها.
كانت تتحدث كثيرا عن ابن عمتها بسام.
وكانت الدنيا لا تتسع لفرحها عندما تعرف أنها سترافق أهلها لزيارة العمة وابنها, أو أن اللأخرين سيزورانهم.
وكانت تبذل قصارى جهدها لتظهر في أحلى حالاتها لدى مجيء بسام.
لم يعجب جاسر مايحدث بين منال وبسام.
فكان يتعمد على مسمع هذا الأخير, التباهي بما يملك, وبأنه يستطيع أن يحصل على أي شيء يريده من جده.
لم تكترث الفتاتان له, إذ لم تكن عينا منال تفارقان بسام.
أما ليال فكانت منهمكة بالمسابقات الرياضية والخيل.
وكانت مولعة بالكمبيوتر ولعا كاد يوصل والديها إلى حد الجنون.
فهي لا تستعمل هذا الجهاز مثلما يستعمله أي شخص, بل تفككه وتعيد تركيبه.
فشلت مرات عدة لدى إعادة جمع قطعه, لكن عشقها للتحدي, جعلها تثابر إلى أن أتقنت التركيب جيدا.
حل موسم الصيف, ونجح الأطفال في المدارس, إلا جاسر الذي رسب في مادتين.
لم يعاقبه جده بل راح يقنعه ويقنع نفسه بأن العيب في المعلمين, لأنهم فشلوا في توصيل المعلومات إلى عقله, فلم يستوعب, وجاء الرسوب نتيجة منطقية.
ليس هذا فحسب بل حاول الجد رفع معنوياته بهدية ثمينة لم يقدمها إليه إلا في الحفلة التي تقام في نهاية كل عام دراسي لأطفال العائلة, توزع فيها الهدايا مكافأة لمن نجح.
وكل هدية على قدر درجات شهادة صاحبها.
وفي المناسبة المنتظرة, التي أضحت تقليدا سنويا, وزعت الهدايا على المستحقين والمستحقات.
لكن أحدا لم يذكر اسم جاسر. وفي اللحظات الأخيرة, كان عداد التوتر لدى جاسر بلغ الذروة, فقرر التنفيس عن نفسه.
ذهب إلى حيث يجلس البستاني عبده, وهو كهل نشأ وترعرع في منزل العائلة وأعاله المرحوم السيد حمد حتى كبر فزوجه, ورزق ولدين.
انهال جاسر على الثلاثة بالسباب والضرب زاعما أن أحدهم سخر منه لأنه راسب.
غضب عبده وأخذ ولديه وعاد إلى منزله محاولا تهدئتهما وهو على يقين أنه لن يستطيع أن يشكو جاسر إلى جده.
فقد سبق أن حدث موقف مشابه وكان رد تركي على شكوى عبده:
- اسمع, أنا ولدي مايغلط ولا تفكر تحط راس أولادك براسه.
الظاهر أن أبوي كان غلطان أنه خلاك في البيت.
ولو مو عاجبك الباب يفوت جمل.
وقبل انتهاء الحفلة, سمع الأطفال صوت بوق سيارة, فإذا بتركي يقودها, وهي "بورش", وقال بصوت عال:
- جاسر, هذي هديتك.
مو لشي غير انك أذكى وأقوى ولد من عيال عيلة حمد.
عندئذ, أحس جاسر بأنه ملك متوج.
فهو لم يتجاوز الرابعة عشرة وبات يملك هذه السيارة الفخمة.
عندما ذهب ليراها نظر إلى منال كأنه يعرض عليها ما لا تستطيع رفضه, وقال:
- مين قدك. أنتي الوحيدة اللي ممكن أخليها تركب معي السيارة.
فردت بلامبالاة:
- لا شكرا.
اغتنم بسام تلك اللحظات, وقدم إليها سلسالا منقوشة عليه آية "الكرسي" وقلدها إياه:
- هذا عشان ربي يحميك ويبعد عنك أي شر.
لمعت عينا منال وطغى الخجل على وجنتيها فاحمرتا.
نظرت إليه وردت برقة:
- ويخليك.
كان هذا أول اعتراف بحبهما يترجم إلى كلمات مسموعة ظلت أشهرا صامتة في قلبيهما.
ركضت منال لتري ليال هدية بسام, وجاسر يراقبها كالذئب.
وقبل أن تبدأ بالكلام مع أختها, فاجأهما جاسر:
- على فكرة, هذا السلسال ما هو مصنوع لك لحالك.
تراه ينباع في المحلات.
لكن هديتي أنا ما لحقت أجيبها اليوم لأنها تتصنع لك مخصوص, حتى الألماس اللي فيها مو سهل ينجاب.
فأجابته على الفور:
- شكرا يا جاسر.
لكن الهدية مو بثمنها, قيمتها عندي وكيف اتقدمت.
على كل حال كأنك جبتها يا ولد عمي.
جاء وقت السفر إلى منزل العائلة في مونت كارلو بجنوب فرنسا.
كالعادة قضى بسام ومنال أجمل الأوقات.
أما ليال فتعلمت الغوص المائي الذي كان هدفها في تلك الرحلة.
فهي من ذلك النوع الذي ما إن يضع لنفسه هدفا حتى يحوله واقعا.
انتهت الإجازة وعاد الجميع إلى الشرقية استعدادا لدخول المدارس.
لكن السنة الدراسية لم تبدأ هادئة, بل بخبر هز كيان منال وكاد يوصلها إلى حد الاكتئاب.
فوالد بسام يعمل في السلك الدبلوماسي وقد رقي إلى رتبة قنصل المملكة في إحدى الدول الأوروبية, وسيتسلم مهماته بعد ستة أشهر. هذا يعني أنه سيغادر وعائلته البلاد.
بكت منال كثيرا.
حاولت أختها إقناعها بأن بسام سيأتي في الإجازات, وقالت معزية:
- وش فيك أنتي؟
أجل لو ما كان في نت وجوالات وش كان صار فيك؟
متى ماوحشك تقدرين تسمعين صوته وتشوفيه.
وإن كانت الرومانسية عندك إنك تكتبي له إحساسك, يا أختي أرسلي له إيميل كل دقيقة ... طفشتيني تراك.

جروح العمر
03-28-2011, 11:16 PM
.:الجزء السابع (7):.


اجتمعت العائلة على جاري العادة ذات يوم جمعة صباحا.
والتقى معظم شبابها, بينهم منال وليال وبسام وجاسر, وراحوا يتبادلو الأحاديث. قال بسام لليال:
- أوعديني انك بتنتبهي على منول لين ما ارجع وأنا أنتبه عليها.
- لا بالله خذها معك من الحين, أنا ما عندي وقت انتبه على أحد.
وإذا بمنال تتمتم:
- ياليت.
فقال بسام:
- ممكن في حالة وحده, إني اتزوجها وأخذها معي.
- وليه لا, روح لأبوي ترى هو يحبك ومو برافض لك طلب.
دار هذا الحديث في جو لم يخل من المرح والدعابة.
لكن جاسر أخذه على محمل الجد, فرد باندفاع ممزوج بشيء من الغضب:
- ماحد بيوافق يزوجكم!!
أنتم أطفال!
بلا حكي فاضي.
أجابته ليال متعمدة إغاظته:
- مين قال كذا.
أبوك وأبوي أتزوجوا في نفس السن ويمكن أصغر.
فرد بلهجة هجومية وصوت مرتفع:
- وأنتي يامنال ليه ماتردي, كيف بتكملين دراستك؟
وأنتي ياشاطرة تقدرين تبعدين عن أختك؟
ولا هو بس حكي وخلاص.
ضحك الجميع على رد فعل جاسر الذي بدا متذمرا حانقا.

جروح العمر
03-28-2011, 11:18 PM
.:الجزء الثامن (8):.


بدأت أيام الدراسة.
وكانت ملامح الأنوثة تظهر واضحة على منال وليال, قامة فارعة, شعر طويل منسدل, عينان سوداوان تشيان بالذكاء والرصانة, مشية واثقة على شيء من الإغواء اللطيف ... وكان كل من لا يعرفهما يخطئ في تخمين سنهما, فيعطيهما عمرا أكبر من عمرهما الحقيقي.
كانت منال تحسب كل يوم يمر دقيقة دقيقة, وتحاول أن تقضي بضع ساعات منه مع حبيبها بسام, خصوصا أنه سيسافر قريبا.
قبل سفره بأسبوعين, كان موعد التجمع, وصودف أن الجو كان غائما كئيبا.
لم تغمض عينا ليال ولو لحظة, كأن قلبها قد سجن في ظلمة بين ضلوعها.
كانت تعانق منال طوال الليل حتى إن الأخيرة أفاقت عليها مرارا كي تطمئن إلى أن أختها لا تزال بجوارها.
أتى الصباح, وكانت ليال في قرارة نفسها تتوسل إلى أشعة الشمس ألا تسطع كي تظل شقيقتها قربها.
استيقظت منال فإذا بليال واعية تنظر إليها وتلمس خصلات شعرها وتتفحصها, كما لو أنها تدرس كل جزء من ملامحها.
فقالت:
- خير ليال.
وش فيك؟
- ما أدري بس أبي أناظرك وأحضنك.
- ليه لهالدرجة وحشتك, ولا يا خوفي تكونين قررتي تهربين وما عاد تشوفيني.
لم تتمالك ليال فبكت:
- لا, الله لا يحرمني منك ولا يفرقنا دنيا ولا آخره.
أوقفتها منال عن الكلام واضعة كفها على فمها:
- أعوذ بالله استغفري ربك, الله يعطيك العمر والسعادة أكثر مني مليون مرة.
ليال أوعديني.
- أوعدك بأيش؟
- أبيك دايم قوية, وما تخافين إلا من ربك ولا تسمحي لأحد يستهين فيك وفي ذكائك.
واحرصي على قلبك الأبيض ولا تخلي الأيام تغيره.
فأقسمت أختها على التزام الوعد.

جروح العمر
03-29-2011, 12:17 AM
.:الجزء التاسع (9):.


تأنقت منال وبدت في منتهى الجمال حتى إن والديها نظرا إليها, وقالا:
- ماشاء الله تبارك الله طالعة قمر اليوم.
وهي همست لليال:
- يارب بسام يشوفني مثلهم.
فردت:
- لا والله أحلى من القمر.
بسم الله عليك.
نزلتا إلى الحديقة.
لم يختلف اثنان في ذلك اليوم على حسن منال.
وعندما رآها بسام لم يسعفه الكلام للتعبير عن إعجابه بها, فقبل يدها وأفصح لها:
- ماكنت أعرف أن الملايكة تمشي على الأرض.
فعلا كان هذا هو الوصف الصائب.
كان جاسر هو أيضا يريد أن يعبر عما تراه عيناه من جمال, لكن عيني منال لم تفارقا بسام.
خلال الغداء, نادت السيدة نوارة ابنتيها.
وإذا بالجد عادل يقول لحفيدته منال:
- تعالي جنبي.
أنتي اليوم ملكة.
أنا بأكلك بيدي.
لبت منال رغبته, وكانت تتصبب عرقا من الحياء.
فهي في الرابعة عشرة من العمر ويطعمها جدها كأنها طفلة في الرابعة.
وفيما الجميع يأكلون ويتبادلون الأحاديث القصيرة والتعليقات العابرة, وجه زوج السيدة سارة الكلام إلى السيد عادل:
- وش ذا الدلع كله يا عمي؟
ترى بديت أغار منها, وليه ماتقعد بسام الجهة الثانية وتأكلهم هم الاثنين؟
ضحك الجد وقال:
- ما أعتقد بسام غاير.
أحب ما على قلبه أني أدلع منول, مو صح يا بسام؟
بدا ما جرى كأنه موافقة جماعية على حب منال وبسام.
عندئذ أيقن جاسر أن منال ضاعت من يده, فانسحب وراحت غيوم الثأر تتلبد في صدره.
انضم السيد أحمد إلى المجلس متأخرا لانهماكه بإنهاء صفقة مهمة.
وما إن وصل حتى لاحظ اختفاء جاسر, فسأل عنه فأجابه السيد تركي بأنه مريض منذ الصباح, وقد ذهب ليأخذ قسطا من الراحة.
لكن جاسر كان كالصقر يتابع فريسته من نافذة غرفته.
وعندما حان موعد المغادرة همت السيدة سارة بالدخول إلى المنزل لتلقي التحية على والدها.
في هذه الأثناء, تمنت منال على ليال أن تذهب إلى المنزل, وهي سترافق بسام إلى سيارته ثم تلحق بها.
رفضت ليال, لكنها بعد إلحاح شقيقتها, خضعت لرغبتها وغادرت وهي تخطو خطوات متألمة كأنها تسير على الشوك.
تمشي قليلا وتقف.
ظل يدور في رأسها أن هناك شيئا نسيته, وأن عليها العودة إلى حيث أختها, لكنها أحست أنها تختلق الأعذار, فذهبت إلى المنزل وبقيت جالسة قرب النافذة منتظرة عودتها, وقلبها يدق كأنها ركضت عشرة كيلومترات خلال عشر ثوان.
في الجانب الآخر, كانت منال تودع بسام:
- أبي أطلب منك طلب.
- سمي.
- أحلف أنك بتوقف دايم جنب ليال وبتعقلها إذا انجنت كثير.
أنت عارفها طيبة لكن متسرعة وعصبية.
- وليه, أنتي غسلتي يدك منها خلاص؟
- لا والله صدق أحلف ريحني يا بسام.
فحلف وقبل رأسها, وقال الكلمة التي ذهبت بها إلى البعيد:
- أحبك يا منول.
لم ترد من شدة الحياء ووقع المفاجأة, لكن عينيها كانتا تصرخان أنها هي أيضا متيمة به.
في طريق العودة, أحست أن قلبها يرقص من شدة الفرح.
كان منظر الشلال والأنوار المضيئة أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع.
وقفت تتأمل المشهد البديع.
لم تشعر أن أحدا واقف خلفها يتأمل جسدها, كأنه يلتهمه بعينيه, أو يهيء نفسه للانقضاض عليه.
وإذا بصوت خافت يهمس "منال".
كانت متأكدة أن هذا الصوت صوت أختها, فأحبت أن تلعب.
فهرولت إلى الجهة الأخرى من الشلال, منادية "ليال".
وفوجئت بجاسر يقف قبالتها وعيناه تقدحان شهوة حارقة, وقال بنبرة هي مزيج من الود المفتعل والمكر الخفي:
- مانتي لحد في هالدنيا غيري.
ولو فكرتي تكونين لغيري فموتك أهون.
نظرت منال إليه وهي ترتعد خوفا:
- بسم الله, أنت وش جابك هنا؟
أيش تبي مني؟
خليني أروح البيت واتعوذ من إبليس.
- إبليس هو اللي يتعوذ مني الحين, ما حتكونين لبسام.
فيكون بكيفك أحسن ما يكون غصب عنك.
ما إن سمعت التهديد المباشر حتى رفعت يدها وصفعته:
- غصب عني!
أنت مجنون ... مجنون وخر عن طريقي.
لم يرحمها جاسر, فحاول معانقتها وتقبيلها مدفوعا بالرغبة التي كانت تموج في عينيه الحمراوين وجسده.

جروح العمر
03-29-2011, 12:27 AM
لم تستطع الإفلات من بين يديه القويتين, لكنها لم ترضخ, واستمرت في الممانعة.
وعندما عصيت عليه, طرحها أرضا, فأحست عندئذ, أن صوتها احتبس في صدرها, وبدأت حبيبات عرقها الغزير تغسل جسدها الذي أرغم على الاستسلام.
شعرت أن مطرقة تدق على بطنها, وأن سكينا حادا يشق أحشاءها.
وما هي إلا لحظات حتى ساد المشهد لون أحمر اختلط بمياه الشلال.
كان كل شيء يتحرك تحركا قويا, والظلام يجري في عينيها, فتتعذر عليها الرؤية, والشلال يتدفق غامرا يدها اليسرى المتدلية إلى مجراه, كأنه يحاول جذبها إليه لاستكمال مهمة ذلك الوغد.
تجمد جسدها الضعيف في مكانه, وظلت عيناها معلقتين بالسماء, ولبث الهواء يداعب فستانها الأبيض الممزق, ووجنتيها الشاحبتين إلى أن استعادت الوعي متأوهة بصوت خافت:
- وخر عني ... وخر عني يا حيوان.
خاف الجبان وفر هاربا إلى منزله وهو يحاول إنزال ثوبه, فاصطدم بجده الذي صرخ به:
- من سوى كذا بثوبك؟
وش ذا الدم؟
أنت وش سويت؟
- سويت اللي أنت قلت لي عليه.
- وش اللي قلت لك عليه؟
- أخذت من منال اللي أبيه.
قال عبارته الأخيرة, وهو يشير نحو الشلال مستكملا لملمة ثوبه ومعاودة الفرار.
لحق به الجد وأمسك بذراعيه وأخذ يهزه كي يفيق, وأمره:
- أطلع غرفتك.
أنت نايم من أكثر من ساعتين.
فهمت.
وأتحمم ولا تخلي أحد من الشغالين يشوفك.
وغير ثوبك ولا تخليهم يغسلوه.
ركض تركي صوب الشلال وهو يمشط المنطقة بعينيه كي يتأكد أن المكان خال وآمن.
رأى منال ملقاة أرضا والدماء تنساب حولها, وسمع تمتمتها:
- "جاسر ... جاسر".
ثم بدأ صوتها يعلو شيئا فشيئا.
عندما دنا منها, لفتته حركة مريبة في الحديقة, أو هكذا خيل إليه, فحدق جيدا فلم ير شيئا.
وفيما يضع يده على فمها ويردد: "اسكتي ما هو بجاسر", وعاود استطلاع المكان بعينين حذرتين جاحظتين لعل أحدا رأى أو قد يرى وقائع الاعتداء الخسيس.
كان متيقظا, ومضطربا, كما لو أنه يضمر أمرا, أو رغبة, أو شرا.
وعندما سكتت تماما, انتبه إلى أنها لم تعد تتحرك, فأخذ يهزها من كتفيها, وينادي:
- منال ... منال .
ردي علي.
ثم أفلتها, فهوت.
استطلع المكان مجددا ثم أسرع إلى البيت, كأنه لم ير شيئا.
لم يعرف شيئا.
لم يفعل شيئا.
هذا كله حدث, وليال تنتظر منذ أكثر من ساعة, عودة منال, والقلق يساورها, وألم شديد يجتاح بطنها.
كانت تتطلع من النافذة نحو الحديقة عندما جاءت أمها, وسألتها:
- حبيبتي وينها منال؟
فاستدارت والدموع على خديها:
- ما أدري.
راحت توصل بسام من ساعة ولسه ما رجعت.
انقبض قلب الأم وهرولت إلى الخارج تنادي زوجها:
- إلحق منال يا أحمد, إلحق منال.
ركض الأب وراءها:
- وش فيها منال؟
لكنها لم ترد, وأخذت تجري مسرعة ويلحق بها أحمد وليال, حتى وصلت إلى حيث ابنتها مسجاة والدماء على ساقيها, فجلست إلى جوارها واحتضنتها:
- منال ... منال.
ردي علي.
مين اللي عمل فيك هيك؟
وأخذت تبكي وتولول وتسأل زوجها:
- ليش ماعم ترد علي.
كان أحمد قد أمسك بيد منال, فإذا هي باردة ثم جس رقبتها حتى يتحسس النبض.
حين تأكد له أنها فارقت الحياة, غمر ابنته وزوجته معا.
لم تصدق ليال ما يجري.
ظنت أنها في كابوس.
فكيف ستمضي بقية العمر وحيدة, بعد غياب نصف روحها, وشقيقتها التوأم؟
راحت تتحسس أختها, وتصرخ:
- منال, منال ردي علي.
أنا ليال.
نظرت أمها إليها وقالت:
- اسكتي.
منال ما حترد علينا بقى.
منال ماتت.
مالت الأخت المفجوعة إلى أبيها, وقالت:
- قول لي إنه مو صحيح.
قول لي إنها تعبانة وبتطيب.
لم ينطق الأب بكلمة.
لقد أفقدته الصدمة القدرة على الكلام.
علا النحيب وملأ أرجاء الحديقة وساد الحزن والدموع في مشهد جنائزي مفجع.

جروح العمر
03-29-2011, 12:29 AM
.:الجزء العاشر (10):.


خلف رحيل منال جروحا في أيام العائلة كلها, وأسرعها ظهورا وفاة زوجة عادل التي قضت فور تلقيها خبر الفاجعة.
كان تركي متيقنا أن أحدا لم ير ما حصل في تلك الليلة المشؤومة.
لكن عبده رأى كل التفاصيل.
لم يتقصد ذلك.
المصادفة قادته إلى جوار الشلال, وذهل مما كان يحصل, وعندما حاول أن يتوارى بين الأشجار تعثر فصدر صوت؛ هو ذات الصوت الذي لفت انتباه تركي عندما كان قرب الضحية.
لكنه لم يكتشف مصدره.
وهذا من حسن حظ عبده الذي ما إن هرب السيد تركي, حتى جرى هو كالمجنون إلى منزله واحتضن ولديه خوفا عليهما مما سيحل بهما إن هو أفصح عما رآه.
رعبه من بطش تركي كان أقوى من عذاب ضميره, فآثر الصمت والتكتم.
لكنه عاهد نفسه على أن يكون ظل ليال وأن يحميها من كل أذى.
ألزم نفسه بذلك كأنه يكفر عن صمته, مع أن ضميره غير راض عن هذا القرار الصعب.
فقد كان عذابه أشد من عذاب القاتل, لإيمانه بأن "الساكت عن الحق شيطان أخرس".
استدعي طبيب العائلة على عجل, فعاين الجثة.
انفرد عادل به وأمره أن يذكر في التقرير الطبي أن الوفاة طبيعية نتيجة ارتطام رأس الفقيدة بأحد أحجار الشلال, وهو ما اتفق مع رغبة الأب في أن تدفن ابنته بدون الخوض في التفاصيل.
وكان يجيب كل من استفسر عن سبب الوفاة, بأن قدميها انزلقتا أثناء عودتها إلى المنزل فارتطم رأسها بالحجر وتوفاها الله فورا.
رفض السيد أحمد أن يقر بما حدث حتى لنفسه, حرصا على شرف العائلة, وخوفا من الفضيحة.
فألسنة الناس لاترحم, فقد تختلق روايات وتلفق أقاويل توصم بالشبهة عائلة حمد كلها.
لذا رفض حتى أن يعرف هل توفيت ابنته عذراء أم لا.
استغرقت ليال في غيبوبة نفسية, وانتابت الأم حالة من الصمت, كأنها حاضرة وغائبة في الوقت نفسه, مثلها مثل "الإنسان الآلي".
لاترد على أحد ولا تنطق بكلمة.
كانت تدخل يوميا مرتين إلى غرفة ليال فتطمئن إليها من حميدة والممرضة الملازمة لها.
حتى أيام العزاء, كانت تتوسط مجلس النساء مذهولة لا تدري ما يدور في المكان, والدموع لم تفارق خديها, ولا المنديل يديها.
وفي نهاية اليوم تذهب إلى غرفتها بعد الاطمئنان إلى ابنتها.
وعندما يحاول السيد أحمد أن يواسيها, تكتفي برفع كفيها ملوحة له بالابتعاد عنها, وتقول:
- الله يسامحك, مابردتلي ناري.
لم تعد تطيق رؤيته أو وجوده معها, فأصبحت تنام وحدها في غرفة مستقلة.
بعد مضي أسبوعين, بدأت ليال تستعيد وعيها, وتنظر إلى من حولها, والاحمرار يحيط بعينيها من فرط البكاء, مترددة أن تطرح السؤال الذي جهدت طويلا لتتجنب مواجهة الجواب عنه.
وعندما وقع نظرها على حميدة أشارت بيدها أن تقترب منها, وهمست في أذنها بصوت مخنوق كأنها خائفة أن تسمع حميدة السؤال, ومرتعبة أيضا من الإجابة:
- أنا كنت أحلم صح؟
منال موجودة؟
طأطأت حميدة رأسها وهي تحاول أن تخفي انكسارها, واجابت:
- "لا".
كتمت ليال فمها بالوسادة وراحت تبكي وتئن أنينا مكبوتا.
لم تقاطعها حميدة بل تركتها تبكي ومنعت كل من يسعى إلى تهدئتها, لعل هذا ينفس عما في داخلها.
بعد قليل, عاودت ليال السؤال:
- كيف!
كيف صار؟
- اللي سمعته إن منال كانت مع بسام يتمشوا في الجنينة, ووصلته للسيارة عند الباب الوراتي.
وبيقولو وهي راجعة وقعت عند الشلال وراسها أتخبطت في الحجر.

جروح العمر
03-29-2011, 12:33 AM
عادت ليال إلى صمتها, وفي بالها عشرات الأسئلة التي لم تجد إجابة عن أي منها.
ومن شدة هول المصيبة, وعدم فهم ما حدث, ألقت اللوم على نفسها إذ لم تجد أحدا تلومه.
تذكرت أنها لم تقل لأختها:
"أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه"
قبل أن تتركها في الحديقة.
وهذه أول مرة تفترقان بدون أن ترددا تلك العبارة.
ظنت أن هذا السبب هو وراء ما حصل.
لكن عقلها لم يقبل بهذا الاستنتاج.
كانت متأكدة أن هنالك لغزا ما, لا بد من أن تكتشفه ذات يوم.
فالحقيقة يتأخر ظهورها, لكنها في الأخير, ستظهر.
تكاتف الجميع محاولين بلسمة جروح عائلة أحمد, وأولهم والده الذي كان يوميا يتفقد أحواله, ويقضي وقتا طويلا يتلو بصوت خفيض آيات من القرآن على زوجته, ثم يتجه إلى غرفة ابنته ويفعل الأمر نفسه.
كل ما كان يريده هو مؤازرتهم في هذه المحنة ومواساتهم.
ذات يوم, أفاقت ليال على صوت عمتها سارة التي كانت تحاول أن توقظها, لكي تذهبا معا إلى منزل السيد عادل حيث كانت العائلة مجتمعة, من أجل أن ترى أباها قبل السفر.
نهضت ليال من الفراش وغادرت غرفتها, فإذا بأبيها يقف في وجهها مبتسما فاتحا ذراعيه كي يضمها, ويقول:
- الحمدلله على سلامتك يا بعد عمري.
لكنها نظرت إليه نظرة قاسية وأكملت إلى غرفة أمها, قبلت يدها ورأسها ثم قصدت جدها ودخلت المجلس دخول فرس رافضة أن تقر بجرحها, ومتفحصة عيون الحاضرين بغضب وكبرياء حتى وصلت إليه.
قبلته, وأجلسها بجواره.
واحتضنها ومال اليها, وهمس:
- كيفك الحين حبيبتي؟
إن شاء الله أحسن؟
ابتسمت ابتسامة شاحبة وأشاحت بوجهها عنه, فسألها:
- بتتعشين معنا اليوم ليال ؟
- الغريب أنكم قادرين تاكلون وتشربون, ومنال ما هي موجودة.
وأنا حاسة بالذنب إني قادرة أتنفس وهي تحت التراب.
دهش الحاضرون من رد ابنة الرابعة عشرة عاما, فهبت العمة واقفة وهي تبكي, وضمتها:
- لا ياحبيبتي, ما أحد نسى منال ولا عمرنا بننساها.
لكن إحنا نحاول نهون عليك.
ودنا نشوفك طيبة وبخير.
تماسكت ليال وردت بدون أن تذرف دمعة واحدة:
- بخير؟
أي خير ياعمة, والله ما أرتاح لين ما أعرف وش اللي صار.
ومنعا للاسترسال الذي قد يفتح أبوابا مغلقة, تدخل الأب مهدئا خاطر ابنته:
- هذا قضاء الله يا بنتي.
ادعي لها بالرحمة.
- أنا مو محتاجة أحد يقول لي ادعي لها, لكن المدارس اللي دخلتونا فيها, والدين اللي علمتونا إياه, يقول إن ربي بيأمرنا إن اللي له حق يدور عليه.
صح ولا عندك رأي ثاني.
استغرب فظاظة ابنته وتمتم:
- الله يهديك.
- وليه ربي ماهداك وقدرت تنقذها.
وعندما سمع ردها الصاعق, اغتاظ ورفع صوته:
- أنتي انجنيتي.
روحي على البيت.
لكنها لم تتراجع, فأجابت:
- أنا عند جدي لو قال لي أطلعي طلعت.
وكي لا يتفاقم الوضع, قال الجد وهو يملس شعرها:
- لا يا ليال وأنا أبوك, كلنا عارفين إنه أنتي أكثر وحدة تعبانه فينا, وأنه صعب عليك.
بس مو لدرجة أنك تحكين مع أبوك بهالطريقة, أنا ما ربيتك كذا, الله يصلحك.
اعتذري لأبوك ولا عاد تغلطي عليه.
دقائق, ونهضت مهرولة نحو الباب, ثم ركضت إلى المنزل.
ومن حيث لاتدري, وجدت نفسها بجوار الشلال, واستلقت في المكان نفسه حيث ودعت شقيقتها, وراحت تبكي وتتحسس الأرض والأحجار كأنها تطلب منها البوح بما رأت, وأغمضت عينيها بقوة, وهي تردد:
- وش صار يا منال؟
قولي لي.
كان البستاني عبده يراقبها من بعيد.
لم تغب عن ناظريه ثانية واحدة منذ خروجها من المنزل.
كان ينفذ العهد الذي قطعه على نفسه, وقلبه يعتصر من الألم لعجزه عن إلقاء طوق النجاة لهذه الفتاة الجريح التي تكاد تذبل أمام عينيه, وليس بمقدوره أن يفعل شيئا سوى التحسر والترصد والصلاة.

جروح العمر
03-29-2011, 12:38 AM
.:الجزء الحادي عشر (11):.


عادت ليال إلى المدرسة بعد غياب دام أسابيع.
لم يكن اليوم الأول صعبا فحسب بل مؤلما.
فهي لم تتقبل أية نظرة شفقة من القريب, فكيف تتقبلها من الغريب.
كل من حاول أن يؤاسيها أو يتودد إليها كانت ترمقه بنظرة معناها ألا يقترب من جرحها أو أن يعزيها.
وخلال الفسحة تتنحى جانبا, تتخيل أختها تارة تمشي بين الفتيات, وتارة أخرى جالسة إلى جوارها, أو ذاهبة لتأتي بالسندويتشات من مقصف المدرسة كي تأكلا معا كعادتهما.
وفيما هي مسترسلة في التفكير, إذا بالمديرة تجلس بجوارها وتربت كتفها:
- حبيبتي, الله يهون عليك.
ترى إحنا كلنا أهلك, وزميلاتك كلهم مثل خواتك.
قابلت ليال هذه العاطفة اللافتة بمثلها:
- شكرا يا أستاذة.
لكن لو اجتمعت الدنيا ماتعوضني عن تراب رجول أختي, وعلى فكره هي معي ما راحت.
لكن شكرا على اهتمامك.
لم تستطع ليال التركيز لا على الدراسة ولا على الرياضة.
كانت منال وحادثة موتها مهيمنتين على تفكيرها.
ذات ليلة, رأت في المنام أختها مرتدية الفستان الأبيض الذي كانت عليه في الواقع.
أقبلت ليال عليها وأمسكت بيدها وراحتا تتمشيان في أرجاء حديقة المنزل.
كانت منال توصيها بالحرص على نفسها:
- ليال, دراستك ومستقبلك قبل أي شي, وأهم من أي شي.
الحين لازم تدرسين وتنجحين.
فجأة تحول الحلم كابوسا أسود غائما إذ تعثرت منال وسقطت في بئر عميقة.
حاولت ليال إنقاذها بشتى الطرق.
فكانت كلما مدت يدها إلى داخل البئر لتلتقط يد أختها, قالت منال:
- ماني قادرة أمسك يدك ليال.
أنا خايفة ... عشان خاطري روحي الحين بس ارجعي لي وطلعيني.
استفاقت ليال مضطربة خائفة, وهي تردد:
- أطلعي يا منال أطلعي.
صودف وصول حميدة التي راحت تسمي عليها:
- بسم الله الرحمن الرحيم, ليال, ده كابوس قومي بسرعة اشربي ميه.

جروح العمر
03-29-2011, 12:40 AM
شربت ليال وأخذت تتمعن في وجه حميدة الخمري وعينيها الصغيرتين اللتين ينبعث منهما الحنان والدفء.
هذه السيدة النوبية الأصل كانت هي العرين الذي تختبئ فيه لتظهر ضعفها كاملا بلا خجل.
وها هي ترتمي في حضنها تشهق بصوت متحشرج:
- ليش يادادة ليش؟
طمأنتها حميدة وهي تمسح دموعها كي لا تراها ليال باكية:
- ده الله ودي حكمته.
محدش يعرف الخير فين يا بنتي, أكيد الأحسن إنها تكون جنب ربنا لأنها ملاك ومكانها في السما مش في الأرض, وكأنها بنت موت سبحان الله.
فزعت ليال من تشبيه حميدة وقالت:
- ليه يادادة بنت موت؟
- يعني الإنسان الطيب الحنين الصادق اللي زي منال, الله يرحمها, ما ينفعش يفضل في الدنيا.
لازم يكون في مكان يعرف يعيش فيه والأرض مش المكان ده!
- يعني هي مرتاحة؟
- سبحان الله, لكن أكيد ما دام عند الله وتوفت في حادث تكون إن شاء الله شهيدة والشهدا بيكونوا في الجنة فأكيد مرتاحة.
- يارب تكون مرتاحة ومبسوطة.
وروت ليال لها مشاهد من الحلم, وماذا جرى بينها وبين منال.
فابتسمت حميدة, وقالت:
- الحمد لله ربنا بيطمنك عليها, مهو لما تشوفي المتوفي بحال أفضل من اللي كان عليه معناه إنه كويس.
أما باقي الحلم الله أعلم يا بنتي معرفش افسرهولك.
بس عموما لازم تتصدقي عن أختك كل ما تشوفيها.
أيقنت ليال أن حميدة لم تشأ تفسير الحلم كاملا برغم وضوحه لما تضمنه من دلالات.
لكنها أدركت أن هذا الحلم رسالة واضحة من منال, أو كأن أختها تبعث إليها بخيط نور رفيع قد يصل بها إلى الحقيقة.
عادت ليال تدريجيا إلى الاهتمام بالدراسة متطلعة إلى أن تنال أعلى الدرجات تطبيقا للتوصية التي أبدتها منال في الحلم.
كذلك عاودت ركوب الخيل.
ولم يمر يوم من دون أن تزور أحب الأمكنة إليها, وهو المكان السري الذي كثيرا ما لاذت به هي ومنال.
وتماما مثلما كان يحصل في الماضي, دونت ليال ما حدث خلال اليوم.
وفي نهاية الصفحة التي تمثل يوما من عمرها, كتبت:
- أنا حاسة إنك معاي!
ماقلتي لي وش رأيك في اللي صار اليوم؟
ذات غروب وهي تكتب إحدى يومياتها, نظرت إلى الأعلى, فوجدت شيئا معلقا بلاصق على الحائط, فنهضت وانتزعته.
وإذا به رسالة بخط منال, هذا نصها:




حبيبتي ليال

ما أدري أنا ليش قاعدة أكتب الورقة هذي أو ليه حاسة أنك حتقريها لحالك.


يمكن أكون أتزوجت أو ماأدري أيش بيصير! لكن أنا بقول لك على أشياء نفسي


فيها يمكن تجيبي لي إياها في عيد ميلادي! أمزح بس ما أدري ليه نفسي نربي


كلب, ونفسي ربي يرزقك بأحد يحبك وتحبيه مثلي أنا وبسام. ونفسي نسافر


ندرس بأمريكا ونفسي أكون جريئه مثلك. ونفسي أشوفك متفوقة في حياتك أو


يمكن بطلة رياضية. ما أدري ليش حاسة أنه فيه دور في حياتك راح يعتمد عليه

حياة ناس ثانين. وش اللي أنا قاعدة أكتبه هذا؟ ما علينا. اسمعي, انتبهي على

ماما ما حد في الدنيا بيحبنا مثل أمنا وأبونا ودادة حميدة, لكن أنا أحبك أكثر منهم






قرأت ليال الرسالة مرارا, وانهارت من فرط البكاء والتنهد والحزن.
لكنها أيقنت أن منال موجودة معها.
ففي كل مكان تثبت منال لها أنها مازالت حاضرة.
لكن العبارة التي علقت في ذهنها هي :
"دور في حياتك بيعتمد عليه حياة ناس ثانين".
مثلت هذه الكلمات هدفا عزيزا على قلبها وقد وضعته نصب عينيها, مقررة أن تبلغه, مهما تكن المشقات.

اخـــراحساس
03-29-2011, 07:19 AM
الله يعطيك العافيه
اختيار راائع وموفق
ماننحرم من جديدك المميز
http://up.7cc.com/upfiles/KON92568.gif

جنــــون
03-29-2011, 12:20 PM
يسلمك ربي غلاتي
وعساك ع القوه

جروح العمر
03-29-2011, 06:19 PM
نورتم بطلتكم

هلا فيكم