خواطر عاشق
09-17-2025, 12:18 PM
حقوق الجيران (3)
د. أمير بن محمد المدري
عبد الله أيها المسلم:اعلم أن من حق جارك عليك، إن مرض عدته، وإن مات شيعته وإن استقرضك وأنت قادر أقرضته، وإن أعوز سترته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا ترفع بناءك على بنائه تؤذيه.
وإذا رأيته على منكر نهيته، وإذا رأيته على معروف أعنته، فلربما تعلق برقبتك يوم القيامة، يقول: يا رب رآني على منكر فلم يأمرني ولم ينهني.
وواجب المسلم تجاه جاره أن يتحسس حاله، فإن رآه على خير أعانه، وإن رآه معوجاً أقامه. كما عليه أن يتفقد حاله ومعاشه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما آمن من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهم يعلم» [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (751) بلفظ "من آمن بي..."].
وليتق الله عز وجل كل جار بينه وبين جاره قطيعة وضغينة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» [متفق عليه].
وليتق الله عز وجل أهل الدور والزروع لا يعتدي بعضهم على بعض، وليرعوا حق الجيرة.
روى الإمام أحمد: عن أبي مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعظم الغلول عند الله عز وجل ذراع من الأرض تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً».
وقال صلى الله عليه وسلم: « من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة» [رواه البخاري في كتاب المظالم. قال - باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض].
وإن المطلوب من أهل الحي أن يتزاوروا فيما بينهم؛ ليتعارفوا وتتآلف قلوبهم. وخير مكان يلتقون فيه وتزداد محبتهم المسجد بيت الله.
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» [رواه مسلم].
ومن الآداب الإسلامية: تبادل الهدية، والعطية، فإنها ترقق القلوب، وتذهب الغل.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تهادوا تحابوا» [أخرجه البخاري في الأدب المفرد (594)]، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك».
وها هو حاتم الطائي يقول:
إذا كان لي شيئان يا أم مالك
فان لجاري منهما ما تخيرا
وعلى الجار أن يتصف بالعفو والتسامح مع جيرانه، ويسعى إلى نفعهم، وكف الأذى عنهم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره».
والجار المسلم يبادل جاره الصبر والاحتساب قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يحب ثلاثة: وذكر منهم رجل كان له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت» [رواه أحمد ]. و ليس حسن الجوار ترك الأذى، ولكنه الصبر على الأذى. كم نرى ونسمع في مخالفات لهذا الحق بين الجيران، فكم من الناس من هو كثيرُ الخصومة والملاحاةِ مع جيرانه، يشاجرُ على كل صغيرة وكبيرة، وربما وصل الأمر إلى الاشتباك بالأيدي، أو تطوّرَ إلى الشُرطِ والمحاكم، وعلى أمور لا تستدعي. وكم من جيران تهاجرُوا وتقاطعُوا عند أسباب تافهة أو ظنون سيئة، أو لخلافات يسيرة، لا تستدعي ما وصلت إليه. لذلك وجد في الإسلام من أهل حفظ الجار أناس كثير، أذكر على سبيل المثال: أبو حنيفة، عالم الأمة، كان من أعبد عباد الله وأزهدهم، كان له جار يؤذيه.
كان أبو حنيفة يأتي بعد صلاة العشاء يريد أن يسبح الله، ويصلي ويبكي ويدعو ويقرأ القرآن، لكن هذا الجار عزوبي ليس عنده إلا طبل يضرب عليه ويرقص.
وفي رواية عود ويقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
فكان أبو حنيفة لا يستطيع أن ينام ولا يستطيع أن يقرأ، ولا أن يصلي، فيصبر ويحتسب، وفي ليلة من الليالي الطويلة ما سمع أبو حنيفة الصوت، انتظر هل يسمع صوتاً، ما سمع الرقص ولا سمع ضرب الطبل، فعجب! طرق على باب الدار فما أجابه أحد، سأل الجيران: أين فلان؟
قالوا: أخذته شرطة السلطان، قال: سبحان الله! جاري يأخذونه ولا يخبرونني! ثم ذهب في الليل فركب بغلته ولبس ثيابه، فاستأذن على السلطان وسط الليل.
قال الجنود للسلطان: أبو حنيفة إمام الدنيا يريد مقابلتك، فقام السلطان من نومه والتقى به عند الباب يعانقه، قال له: يا أبا حنيفة لماذا ما أرسلت إلينا؟ نحن نأتيك لا أن تأتينا، قال: كيف أخذتم جاري وما أخبرتموني به؟
قالوا: إنه فعل وفعل وفعل، قال: ردوا عليّ جاري، قالوا: لو طلبت الدنيا لأعطيناك الدنيا، فركب جاره معه على البغلة وأخذ جاره يبكي.
قال أبو حنيفة: ما لك؟ قال: آذيتك كل هذه الأيام والأعوام والسنوات وما تركتك تنام ولا تصلي ولا تقرأ، ولما فقدتني ليلة أتيت تتشفع فيّ، أشهد الله ثم أشهدك أنني تائب إلى الله.
لقد كانوا يدعون الناس بأخلاقهم وبتعاملهم.
وهذا يهودي سكن بجانب عبد الله بن المبارك رحمه الله أحد العلماء الصالحين- فكان عبد الله بن المبارك إذا اشترى لحماً من السوق بدأ بأولاد الجار اليهودي، نحن لا نقول: نبدأ بأولاد اليهود لكن بأولاد المسلمين، ونحن لا نقول: أعطوا الناس لحماً أو اكسوا أبناء الناس، لكن نكف أذانا فقط، نعم.
عبد الله بن المبارك كان إذا اشترى لحماً أعطى أبناء الجيران، وإذا اكتسى كسا أبناء جيرانه، وإذا أخذ فاكهة بدأ بهم، فأتى أناس من التجار يشترون دار اليهودي، فقال: داري ثمنها ألفا درهم، أما الألف الأولى فقيمة الدار، وأما الثانية فقيمة جوار عبد الله بن المبارك، فسمع عبد الله بن المبارك، وقال: والله لا تبيعها، هذا ألف درهم وابق عندي جاراً لي، ثم قال عبد الله بن المبارك اللهم اهده إلى الإسلام، فما أصبح اليوم الثاني إلا وقد أسلم لله رب العالمين.
ولا شك أن الإحسان إلى الجار من أفضل الأعمال والقربات، كيف لا وهو سبب من أسباب نيل محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «إن أحببتم أن يحبكم الله ورسوله فأدوا إذا ائتمنتم واصدقوا إذا حدثتم وأحسنوا جوار من جاوركم» [( حسن) انظر حديث رقم: 1409 في صحيح الجامع].
ويعظم ويتأكد حق الجار إن كان الجار مسكيناً أو يتيماً أو مسناً أو أرملة لا عائل لها، والنبي صلى الله عليه وسلم يجيب من سأله أي الذنب أعظم؟ فيقول: «أن تزاني حليلة جارك» [متفق عليه]. وعن المقداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقولون في الزنا؟» قالوا: حرام حرّمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره» قال: فقال صلى الله عليه وسلم: «ما تقولون في السرقة؟» قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام، قال: « لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره» [أخرجه أحمد وصححه الألباني].
فاتقوا الله وصونوا حرمات جيرانكم كما تصونوا حرمات أمهاتكم وأخواتكم، تفقدوا جيرانكم وتعاهدوهم بالصلة والسؤال، واتقوا الله فيهم ولا تؤذوهم، فليس بمؤمن من آذى جاره، وإن من أذية الجار أن يرفع المرء صوت المذياع أو المسجل بالموسيقى التي تغضب الله وتؤذي الجار المسلم.
ومن الأذية رمي القاذورات أمام بيت الجار وهو أمر كان يفعله المشركون مع نبينا صلى الله عليه وسلم، كذلك من الأذية تجمع الصبية والشباب مع أصحابهم أما بيت الجار، مع ما يصحب ذلك من ضجيج وإزعاج وربما كلمات نابية قذرة وهيئات وأشكال مزرية قبيحة تؤذي أعين الناظر إليها فضلاً عن أذية الجيران، ومن الأذية كذلك خروج النساء سواء كن ربات البيوت أو الخادمات من البيوت وهن متبرجات متهتكات، فذلك أيضاً يؤذي المؤمنين ويغضب الله رب العالمين، فاستروا بناتكم وزوجاتكم والخادمات اللاتي تحت أيديكم، ولا تؤذوا جيرانكم وعباد الله بمناظرهن، ولا تجعلوهن عرضة لأذية الفساق، والله تعالى يقول: ï´؟ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ï´¾ [الأحزاب: 59].
والمسلم يعرف نفسه إذا كان قد أحسن إلى جيرانه أو أساء إليهم ففي الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل لرسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنت، فقد أحسنت وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت، فقد أسأت» [رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح].
إن المسلم ليتألم عندما يلاحظ في المجتمع الإسلامي كثرة المشاكل والتدهور في العلاقات بين الجيران، فتجد جارا يكيد بجاره المكائد والمصائب، وآخر لا يتكلم مع جاره لأيام طويلة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار إلا أن يتداركه الله برحمته» [رواه الطبراني ورواته رواة الصحيح وقال الألباني: حسن لغيره].
أي: ثلاث ليال، وآخر لا يعرف أن جاره يمر بمناسبة سعيدة فيهنيه أو حزينة فيواسيه ويعزيه، وأخطر من ذلك أن تجد جيراناً يعيشون في عمارة واحدة ولا يتعارفون، وإن سألت أحدهم عن أقرب الجيران منه لا يعرفه، وربما لا يلتقون إلا على باب المبنى، فأين هؤلاء من الاقتداء برسول الله في معاملته مع جيرانه؟!
كان للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة جار يهودي يؤذيه، وكان صلى الله عليه وسلم يصبر ويحتسب، فلما مرض اليهودي زاره، فدخل الرعب في قلب اليهودي ظناً منه أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء لينتقم منه مستغلاً مرضه، وإذا به يفاجأ بأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليواسيه ويسأل عن حاله ويقدّم له العون إن لزم الأمر، عندئذٍ طأطأ اليهودي رأسه اعترافاً له بالجميل وأعلن الشهادة وأصبح من المسلمين.
أسأل الله أن يوفقني لما يحب ويرضى، وأن يهدنا لصالح الأقوال والأعمال والنيات، ولما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. أمير بن محمد المدري
عبد الله أيها المسلم:اعلم أن من حق جارك عليك، إن مرض عدته، وإن مات شيعته وإن استقرضك وأنت قادر أقرضته، وإن أعوز سترته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا ترفع بناءك على بنائه تؤذيه.
وإذا رأيته على منكر نهيته، وإذا رأيته على معروف أعنته، فلربما تعلق برقبتك يوم القيامة، يقول: يا رب رآني على منكر فلم يأمرني ولم ينهني.
وواجب المسلم تجاه جاره أن يتحسس حاله، فإن رآه على خير أعانه، وإن رآه معوجاً أقامه. كما عليه أن يتفقد حاله ومعاشه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما آمن من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهم يعلم» [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (751) بلفظ "من آمن بي..."].
وليتق الله عز وجل كل جار بينه وبين جاره قطيعة وضغينة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» [متفق عليه].
وليتق الله عز وجل أهل الدور والزروع لا يعتدي بعضهم على بعض، وليرعوا حق الجيرة.
روى الإمام أحمد: عن أبي مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعظم الغلول عند الله عز وجل ذراع من الأرض تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً».
وقال صلى الله عليه وسلم: « من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة» [رواه البخاري في كتاب المظالم. قال - باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض].
وإن المطلوب من أهل الحي أن يتزاوروا فيما بينهم؛ ليتعارفوا وتتآلف قلوبهم. وخير مكان يلتقون فيه وتزداد محبتهم المسجد بيت الله.
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» [رواه مسلم].
ومن الآداب الإسلامية: تبادل الهدية، والعطية، فإنها ترقق القلوب، وتذهب الغل.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تهادوا تحابوا» [أخرجه البخاري في الأدب المفرد (594)]، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك».
وها هو حاتم الطائي يقول:
إذا كان لي شيئان يا أم مالك
فان لجاري منهما ما تخيرا
وعلى الجار أن يتصف بالعفو والتسامح مع جيرانه، ويسعى إلى نفعهم، وكف الأذى عنهم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره».
والجار المسلم يبادل جاره الصبر والاحتساب قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يحب ثلاثة: وذكر منهم رجل كان له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت» [رواه أحمد ]. و ليس حسن الجوار ترك الأذى، ولكنه الصبر على الأذى. كم نرى ونسمع في مخالفات لهذا الحق بين الجيران، فكم من الناس من هو كثيرُ الخصومة والملاحاةِ مع جيرانه، يشاجرُ على كل صغيرة وكبيرة، وربما وصل الأمر إلى الاشتباك بالأيدي، أو تطوّرَ إلى الشُرطِ والمحاكم، وعلى أمور لا تستدعي. وكم من جيران تهاجرُوا وتقاطعُوا عند أسباب تافهة أو ظنون سيئة، أو لخلافات يسيرة، لا تستدعي ما وصلت إليه. لذلك وجد في الإسلام من أهل حفظ الجار أناس كثير، أذكر على سبيل المثال: أبو حنيفة، عالم الأمة، كان من أعبد عباد الله وأزهدهم، كان له جار يؤذيه.
كان أبو حنيفة يأتي بعد صلاة العشاء يريد أن يسبح الله، ويصلي ويبكي ويدعو ويقرأ القرآن، لكن هذا الجار عزوبي ليس عنده إلا طبل يضرب عليه ويرقص.
وفي رواية عود ويقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
فكان أبو حنيفة لا يستطيع أن ينام ولا يستطيع أن يقرأ، ولا أن يصلي، فيصبر ويحتسب، وفي ليلة من الليالي الطويلة ما سمع أبو حنيفة الصوت، انتظر هل يسمع صوتاً، ما سمع الرقص ولا سمع ضرب الطبل، فعجب! طرق على باب الدار فما أجابه أحد، سأل الجيران: أين فلان؟
قالوا: أخذته شرطة السلطان، قال: سبحان الله! جاري يأخذونه ولا يخبرونني! ثم ذهب في الليل فركب بغلته ولبس ثيابه، فاستأذن على السلطان وسط الليل.
قال الجنود للسلطان: أبو حنيفة إمام الدنيا يريد مقابلتك، فقام السلطان من نومه والتقى به عند الباب يعانقه، قال له: يا أبا حنيفة لماذا ما أرسلت إلينا؟ نحن نأتيك لا أن تأتينا، قال: كيف أخذتم جاري وما أخبرتموني به؟
قالوا: إنه فعل وفعل وفعل، قال: ردوا عليّ جاري، قالوا: لو طلبت الدنيا لأعطيناك الدنيا، فركب جاره معه على البغلة وأخذ جاره يبكي.
قال أبو حنيفة: ما لك؟ قال: آذيتك كل هذه الأيام والأعوام والسنوات وما تركتك تنام ولا تصلي ولا تقرأ، ولما فقدتني ليلة أتيت تتشفع فيّ، أشهد الله ثم أشهدك أنني تائب إلى الله.
لقد كانوا يدعون الناس بأخلاقهم وبتعاملهم.
وهذا يهودي سكن بجانب عبد الله بن المبارك رحمه الله أحد العلماء الصالحين- فكان عبد الله بن المبارك إذا اشترى لحماً من السوق بدأ بأولاد الجار اليهودي، نحن لا نقول: نبدأ بأولاد اليهود لكن بأولاد المسلمين، ونحن لا نقول: أعطوا الناس لحماً أو اكسوا أبناء الناس، لكن نكف أذانا فقط، نعم.
عبد الله بن المبارك كان إذا اشترى لحماً أعطى أبناء الجيران، وإذا اكتسى كسا أبناء جيرانه، وإذا أخذ فاكهة بدأ بهم، فأتى أناس من التجار يشترون دار اليهودي، فقال: داري ثمنها ألفا درهم، أما الألف الأولى فقيمة الدار، وأما الثانية فقيمة جوار عبد الله بن المبارك، فسمع عبد الله بن المبارك، وقال: والله لا تبيعها، هذا ألف درهم وابق عندي جاراً لي، ثم قال عبد الله بن المبارك اللهم اهده إلى الإسلام، فما أصبح اليوم الثاني إلا وقد أسلم لله رب العالمين.
ولا شك أن الإحسان إلى الجار من أفضل الأعمال والقربات، كيف لا وهو سبب من أسباب نيل محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «إن أحببتم أن يحبكم الله ورسوله فأدوا إذا ائتمنتم واصدقوا إذا حدثتم وأحسنوا جوار من جاوركم» [( حسن) انظر حديث رقم: 1409 في صحيح الجامع].
ويعظم ويتأكد حق الجار إن كان الجار مسكيناً أو يتيماً أو مسناً أو أرملة لا عائل لها، والنبي صلى الله عليه وسلم يجيب من سأله أي الذنب أعظم؟ فيقول: «أن تزاني حليلة جارك» [متفق عليه]. وعن المقداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقولون في الزنا؟» قالوا: حرام حرّمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره» قال: فقال صلى الله عليه وسلم: «ما تقولون في السرقة؟» قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام، قال: « لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره» [أخرجه أحمد وصححه الألباني].
فاتقوا الله وصونوا حرمات جيرانكم كما تصونوا حرمات أمهاتكم وأخواتكم، تفقدوا جيرانكم وتعاهدوهم بالصلة والسؤال، واتقوا الله فيهم ولا تؤذوهم، فليس بمؤمن من آذى جاره، وإن من أذية الجار أن يرفع المرء صوت المذياع أو المسجل بالموسيقى التي تغضب الله وتؤذي الجار المسلم.
ومن الأذية رمي القاذورات أمام بيت الجار وهو أمر كان يفعله المشركون مع نبينا صلى الله عليه وسلم، كذلك من الأذية تجمع الصبية والشباب مع أصحابهم أما بيت الجار، مع ما يصحب ذلك من ضجيج وإزعاج وربما كلمات نابية قذرة وهيئات وأشكال مزرية قبيحة تؤذي أعين الناظر إليها فضلاً عن أذية الجيران، ومن الأذية كذلك خروج النساء سواء كن ربات البيوت أو الخادمات من البيوت وهن متبرجات متهتكات، فذلك أيضاً يؤذي المؤمنين ويغضب الله رب العالمين، فاستروا بناتكم وزوجاتكم والخادمات اللاتي تحت أيديكم، ولا تؤذوا جيرانكم وعباد الله بمناظرهن، ولا تجعلوهن عرضة لأذية الفساق، والله تعالى يقول: ï´؟ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ï´¾ [الأحزاب: 59].
والمسلم يعرف نفسه إذا كان قد أحسن إلى جيرانه أو أساء إليهم ففي الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل لرسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنت، فقد أحسنت وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت، فقد أسأت» [رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح].
إن المسلم ليتألم عندما يلاحظ في المجتمع الإسلامي كثرة المشاكل والتدهور في العلاقات بين الجيران، فتجد جارا يكيد بجاره المكائد والمصائب، وآخر لا يتكلم مع جاره لأيام طويلة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار إلا أن يتداركه الله برحمته» [رواه الطبراني ورواته رواة الصحيح وقال الألباني: حسن لغيره].
أي: ثلاث ليال، وآخر لا يعرف أن جاره يمر بمناسبة سعيدة فيهنيه أو حزينة فيواسيه ويعزيه، وأخطر من ذلك أن تجد جيراناً يعيشون في عمارة واحدة ولا يتعارفون، وإن سألت أحدهم عن أقرب الجيران منه لا يعرفه، وربما لا يلتقون إلا على باب المبنى، فأين هؤلاء من الاقتداء برسول الله في معاملته مع جيرانه؟!
كان للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة جار يهودي يؤذيه، وكان صلى الله عليه وسلم يصبر ويحتسب، فلما مرض اليهودي زاره، فدخل الرعب في قلب اليهودي ظناً منه أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء لينتقم منه مستغلاً مرضه، وإذا به يفاجأ بأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليواسيه ويسأل عن حاله ويقدّم له العون إن لزم الأمر، عندئذٍ طأطأ اليهودي رأسه اعترافاً له بالجميل وأعلن الشهادة وأصبح من المسلمين.
أسأل الله أن يوفقني لما يحب ويرضى، وأن يهدنا لصالح الأقوال والأعمال والنيات، ولما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.