طهر الغيم
05-06-2025, 07:52 PM
سُورَةُ الْمَاعُونِ
سُورَةُ (الْمَاعُونِ): سُورَةٌ مَكِيَّةٌ[1]، وَآيُهَا سَبْعُ آياتٍ.
أَسْمَاءُ السُّورَةِ:
وَقَدْ ذُكْرَ مِنْ أَسْمَائِهَا: سُورَةُ (الْمَاعُونِ)، وَسُورَةُ (أَرَأَيْتَ)، وَسُورَةُ (أَرَأَيْتَ الَّذِي)، وَسُورَةُ (الْمَاعُونِ وَالدِّينِ وَأَرَأَيْتَ)، وَسُورَةُ (الدِّينِ)، وَسُورَةُ (التَّكْذِيبِ)، وَسُورَةُ (الْيَتِيمِ)[2].
الْمَقَاصِدُ الْعَامَّةُ لِلسُّورَةِ:
اِحْتَوَتْ هِذِهِ السُّورَةُ عَلَى مَقَاصِدَ عَظِيمَةٍ، مِنْ أَهَّمِهَا[3]:التَّعَجُّبَ مِنْ حَالِ مَنْ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ، وَتَفْظِيعُ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الضَّعِيفِ وَاحْتِقَارِهِ، وَالْإِمْسَاكِ عَنْ إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ.
شَرْحُ الْآيَاتِ:
قَولُهُ: ﴿ أَرَأَيْتَ ﴾ اسْتِفْهامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ[4]، ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين ﴾أي: بِالْجَزاءِ وَالْحِسَابِ[5].
قَولُهُ: ﴿ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم ﴾، أي: يَدْفَعُهُ دَفْعًا عَنِيفًا وَيَزْجُرُهُ، وَلَا يُطْعِمُهُ، وَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ، وَلَا يَرْحَمُهُ[6].
قَولُهُ: ﴿ وَلاَ يَحُضُّ ﴾، أَيْ: وَلَا يَحُثُّ أَهْلَهُ وَغَيْرَهُمْ، ﴿ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين ﴾؛ لِعَدَمِ اعْتِقادِهِ بِالْجَزاءِ؛ وَلِذَلِكَ رَتَّبَ الْجُمْلَةَ عَلى (يُكَذِّبُ) بِالْفَاءِ[7].
قَولُهُ: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون ﴾ أَيْ: غَافِلُونَ مُتَشَاغِلُونَ غَيْرُ مُبالِينَ بِها[8]، "إِمَّا عَنْ فِعْلِهَا بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِمَّا عَنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ لَهَا شَرْعًا، فَيُخْرِجُهَا عَنْ وَقْتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِمَّا عَنْ وَقْتِهَا الْأَوَّلِ فَيُؤَخِّرُونَهَا إِلَى آخِرِهِ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا، وَإِمَّا عَنْ أَدَائِهَا بِأَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِمَّا عَنِ الْخُشُوعِ فِيهَا وَالتَّدَبُّرِ لِمَعانِيهَا، فَاللَّفْظُ يَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ، وَلَكِنْ[9] مَنِ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قِسْطٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنِ اتَّصَفَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ نَصِيبُهُ مِنْهَا، وَكَمُلَ لَهُ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ"[10].
قَولُهُ: ﴿ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُون ﴾، أي: يُحْسِنُونَ الْعَمَلَ وَالْعِبَادَةَ في الظَّاهِرِ؛ لِغَرَضِ كَسْبِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ مِنَ النَّاسِ.
قَولُهُ: ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون ﴾، أي: يَمْنَعُونَ إِعَارَةَ مَا يُنْتَفَعُ بِإِعَارَتِهِ مِنَ الْآنِيَةِ وَغَيْرِها[11].
بَعْضُ الْفَوَائِدِ الْمُسْتَخْلَصَةِ مِنَ الْآيَاتِ:
الْحَثُّ عَلَى رِعَايَةِ الْيَتَامَىْ وَإِطْعَامِ الْمَسَاكِيْنِ.
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين ﴾[سورة الماعون:1-3]: دَلِيلٌ عَلَى شُمُولِيَّةِ هَذَا الدِّينِ وَأَثَرِهِ فِي السُّلُوكِيَّاتِ، وَحَثِّهِ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، وَمِنْ فَوَائِدِ الْآيَةِ:
أولًا: أَنَّ قَهْرَ الْيَتيمِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُكَذِّبينَ بِالدِّينِ.
ثانيًا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم ﴾ [سورة الماعون:2]: تَجْعَلُ الرَّاعِينَ لِلْيَتَامَىْ عَلَىْ حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنْ دَعِّهِمْ، وَهُوَ دَفْعُهُمْ وَقَهْرُهُمْ؛ فَالْقُرْآنُ بِهَذَا الزَّجْرِ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ يَسْتَضْعِفُ الْيَتيمَ لِعَدَمِ وُجُودِ مُدَافِعٍ عَنْهُ، فَاللهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى الدِّفَاعَ عَنْهُ، ﴿ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ﴾ [سورة النساء:45].
ثالثًا: أنَّ الْإِيمَانَ بِيَوْمِ الدِّينِ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلى إِطْعَامِ الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [سورة الإنسان:8].
رابعًا: عِنَايَةُ اللهِ تَعَالَى الْعَظِيمَةُ بِالْيَتَامَى، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَرَنَ الْإِحْسَانَ لِلْيَتِيمِ وَبِرَّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ بِتَوْحِيدِهِ سبحانه وتعالى؛ فَقَالَ: ﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ﴾ [سورة النساء:36].
خامسًا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَأَنَّ دِينَهُ دِينُ الْكَمالِ وَالْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، فَحَرِيٌّ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْمَدَ اللهَ تَعَالَى وَيُسَبِّحَهُ وَيُكَبِّرَهُ وَيُهَلِّلَهُ؛ تَعْظِيمًا لَهُ وَإِذْعَانًا لِأَمْرِهِ، وَالْتِزَامًا بِشَرِيعَتِهِ وَعَمَلًا بِكِتَابِهِ، وَأَدَاءً لِلْحُقُوقِ الَّتِي عَلَيْهِ، الَّتِي مِنْهَا حَقُّ الْيَتِيمِ، حَتَّى يَلْقَى اللهَ تَعَالَى بِإِيمَانٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ.
التَّرْهيبُ مِنَ السَّهْوِ عَنِ الصَّلَاةِ وَإِضَاعَتِهَا:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين ﴾: أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون ﴾، وَلَمْ يَقُلْ: (فِي صَلَاتِهِمْ)؛ لِأَنَّ السَّهْوَ فِي الصَّلَاةِ أَمْرٌ طَبِيعيٌّ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَقَدْ وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْقَائِلُ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي»[12]، كَمَا في حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ وَلِهَذَا قَالَ عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ: «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: ﴿ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون ﴾، وَلَمْ يَقِلْ: فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ»[13].
وَفِي ذَلِكَ: التَّحْذِيرُ الشَّدِيدُ مِنَ السَّهْوِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ إِضَاعَتُهَا مَعَ الْعِلْمِ وَالْقَصْدِ، وَعَادَةً مَا تَصْدُرُ عَنْ نِفَاقٍ وَقِلَّةِ رَغْبَةٍ في أَدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظيمَةِ، وَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ تَعَالَى الَّذِينَ يَتَكَاسَلُونَ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وَيَتَهَاوَنُونَ فِيهَا، وَيَتَغَافَلُونَ عَنْهَا، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [سورة مريم:59].
خَطَرُ الرِّيَاءِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُون ﴾ [سورة الماعون:6]: التَّحْذِيرُ مِنَ الرِّيَاءِ بَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الشِّرْكِ، كَمَا جَاءَ في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[14].
وَلِعَظيمِ خَطَرِهِ، وَبَالِغِ ضَرَرِهِ، وَكَثْرَةِ الاِبْتِلَاءِ بِهِ: خَافَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّتِهِ، وَبَالَغَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْهُ، فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ»[15]، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَعْلِيقًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: "وَإِنَّمَا كَانَ الرِّيَاءُ كَذَلِكَ لِخَفَائِهِ وَقُوَّةِ الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَعُسْرِ التَّخَلُّصِ مِنْهُ؛ لِمَا يُزَيِّنُهُ الشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ في قَلْبِ صَاحِبِهِ"[16].
بَذْلُ الْمَعْرُوفِ ومَشْرُوعِيَّةُ الْعَارِيَةِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون ﴾: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنينَ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَإِعَانَةُ الْمُحْتَاجِينَ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ، وَإِنَ كَانَ قَلِيلًا، كَإِعَارَةِ الْأَوَانِي وَغَيْرِهَا مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون ﴾ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَارِيَةِ، وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهَا[17]، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: «وَالْعَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ... »[18] الحَدِيثُ، وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرَاعًا، فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ»[19].
وَلَا شَكَّ أَنَّ بَذْلَ الْعَارِيَةِ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا قُرْبَةٌ عَظِيمَةٌ، يَنَالُ بِهَا الْمُعِيرُ ثَوَابًا جَزِيلًا؛ لِأَنَّها تَدْخُلُ في عُمُومِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [سورة المائدة:2]، وَفي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَصلى الله عليه وسلم: «وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»[20].
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْعَارِيَةَ وَاجِبَةٌ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله: "وَالصَّحِيحُ: وُجُوبُ بَذْلِ ذَلِكَ مَجَّانًا إذَا كَانَ صَاحِبُهَا مُسْتَغْنِيًا عَنْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَعِوَضِهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُون * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون ﴾[سورة الماعون:4-7]"[21]، وَهُوَ قَوْلٌ لِأَحْمَدَ، وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ[22]؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى ذَمَّ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعَارَتِهِ.
وَقَدْ عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الْعَارِيَةَ فَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ رحمه الله مَا نَصُّهُ: "الْعُارِيَةُ هِيَ: الْعَيْنُ الْمُعَارَةُ، وَالْإِعَارَةُ: إِبَاحَةُ نَفْعِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهِيَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهَا مُنْتَفَعًا بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا، وَتَنْعَقِدُ بِكُلِّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَدَلُّ عَلَيْهَا كَقَولِهِ: أَعَرْتُكَ هَذَا أَوْ أَبَحْتُكَ الاِنْتِفَاعَ بِهِ، أَوْ يَقُولُ الْمُسْتَعيرُ: أَعِرْنِي هَذَا، أَوْ أَعْطِنِيهِ أَرْكَبُهُ أَوْ أَحْمِلُ عَلَيْهِ، فَيُسَلِّمُهُ إِلَيْهِ، وَنَحْوه، وَيُعْتَبَرُ كَوْنُ الْمُعِيرِ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ شَرْعًا، وَأَهْلِيَّةُ مُسْتَعيرٍ لِلتَّبَرُّعِ لَهَا
سُورَةُ (الْمَاعُونِ): سُورَةٌ مَكِيَّةٌ[1]، وَآيُهَا سَبْعُ آياتٍ.
أَسْمَاءُ السُّورَةِ:
وَقَدْ ذُكْرَ مِنْ أَسْمَائِهَا: سُورَةُ (الْمَاعُونِ)، وَسُورَةُ (أَرَأَيْتَ)، وَسُورَةُ (أَرَأَيْتَ الَّذِي)، وَسُورَةُ (الْمَاعُونِ وَالدِّينِ وَأَرَأَيْتَ)، وَسُورَةُ (الدِّينِ)، وَسُورَةُ (التَّكْذِيبِ)، وَسُورَةُ (الْيَتِيمِ)[2].
الْمَقَاصِدُ الْعَامَّةُ لِلسُّورَةِ:
اِحْتَوَتْ هِذِهِ السُّورَةُ عَلَى مَقَاصِدَ عَظِيمَةٍ، مِنْ أَهَّمِهَا[3]:التَّعَجُّبَ مِنْ حَالِ مَنْ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ، وَتَفْظِيعُ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الضَّعِيفِ وَاحْتِقَارِهِ، وَالْإِمْسَاكِ عَنْ إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ.
شَرْحُ الْآيَاتِ:
قَولُهُ: ﴿ أَرَأَيْتَ ﴾ اسْتِفْهامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ[4]، ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين ﴾أي: بِالْجَزاءِ وَالْحِسَابِ[5].
قَولُهُ: ﴿ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم ﴾، أي: يَدْفَعُهُ دَفْعًا عَنِيفًا وَيَزْجُرُهُ، وَلَا يُطْعِمُهُ، وَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ، وَلَا يَرْحَمُهُ[6].
قَولُهُ: ﴿ وَلاَ يَحُضُّ ﴾، أَيْ: وَلَا يَحُثُّ أَهْلَهُ وَغَيْرَهُمْ، ﴿ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين ﴾؛ لِعَدَمِ اعْتِقادِهِ بِالْجَزاءِ؛ وَلِذَلِكَ رَتَّبَ الْجُمْلَةَ عَلى (يُكَذِّبُ) بِالْفَاءِ[7].
قَولُهُ: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون ﴾ أَيْ: غَافِلُونَ مُتَشَاغِلُونَ غَيْرُ مُبالِينَ بِها[8]، "إِمَّا عَنْ فِعْلِهَا بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِمَّا عَنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ لَهَا شَرْعًا، فَيُخْرِجُهَا عَنْ وَقْتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِمَّا عَنْ وَقْتِهَا الْأَوَّلِ فَيُؤَخِّرُونَهَا إِلَى آخِرِهِ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا، وَإِمَّا عَنْ أَدَائِهَا بِأَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِمَّا عَنِ الْخُشُوعِ فِيهَا وَالتَّدَبُّرِ لِمَعانِيهَا، فَاللَّفْظُ يَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ، وَلَكِنْ[9] مَنِ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قِسْطٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنِ اتَّصَفَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ نَصِيبُهُ مِنْهَا، وَكَمُلَ لَهُ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ"[10].
قَولُهُ: ﴿ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُون ﴾، أي: يُحْسِنُونَ الْعَمَلَ وَالْعِبَادَةَ في الظَّاهِرِ؛ لِغَرَضِ كَسْبِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ مِنَ النَّاسِ.
قَولُهُ: ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون ﴾، أي: يَمْنَعُونَ إِعَارَةَ مَا يُنْتَفَعُ بِإِعَارَتِهِ مِنَ الْآنِيَةِ وَغَيْرِها[11].
بَعْضُ الْفَوَائِدِ الْمُسْتَخْلَصَةِ مِنَ الْآيَاتِ:
الْحَثُّ عَلَى رِعَايَةِ الْيَتَامَىْ وَإِطْعَامِ الْمَسَاكِيْنِ.
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين ﴾[سورة الماعون:1-3]: دَلِيلٌ عَلَى شُمُولِيَّةِ هَذَا الدِّينِ وَأَثَرِهِ فِي السُّلُوكِيَّاتِ، وَحَثِّهِ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، وَمِنْ فَوَائِدِ الْآيَةِ:
أولًا: أَنَّ قَهْرَ الْيَتيمِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُكَذِّبينَ بِالدِّينِ.
ثانيًا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم ﴾ [سورة الماعون:2]: تَجْعَلُ الرَّاعِينَ لِلْيَتَامَىْ عَلَىْ حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنْ دَعِّهِمْ، وَهُوَ دَفْعُهُمْ وَقَهْرُهُمْ؛ فَالْقُرْآنُ بِهَذَا الزَّجْرِ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ يَسْتَضْعِفُ الْيَتيمَ لِعَدَمِ وُجُودِ مُدَافِعٍ عَنْهُ، فَاللهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى الدِّفَاعَ عَنْهُ، ﴿ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ﴾ [سورة النساء:45].
ثالثًا: أنَّ الْإِيمَانَ بِيَوْمِ الدِّينِ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلى إِطْعَامِ الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [سورة الإنسان:8].
رابعًا: عِنَايَةُ اللهِ تَعَالَى الْعَظِيمَةُ بِالْيَتَامَى، فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَرَنَ الْإِحْسَانَ لِلْيَتِيمِ وَبِرَّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ بِتَوْحِيدِهِ سبحانه وتعالى؛ فَقَالَ: ﴿ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ﴾ [سورة النساء:36].
خامسًا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَأَنَّ دِينَهُ دِينُ الْكَمالِ وَالْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ، فَحَرِيٌّ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْمَدَ اللهَ تَعَالَى وَيُسَبِّحَهُ وَيُكَبِّرَهُ وَيُهَلِّلَهُ؛ تَعْظِيمًا لَهُ وَإِذْعَانًا لِأَمْرِهِ، وَالْتِزَامًا بِشَرِيعَتِهِ وَعَمَلًا بِكِتَابِهِ، وَأَدَاءً لِلْحُقُوقِ الَّتِي عَلَيْهِ، الَّتِي مِنْهَا حَقُّ الْيَتِيمِ، حَتَّى يَلْقَى اللهَ تَعَالَى بِإِيمَانٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ.
التَّرْهيبُ مِنَ السَّهْوِ عَنِ الصَّلَاةِ وَإِضَاعَتِهَا:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين ﴾: أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون ﴾، وَلَمْ يَقُلْ: (فِي صَلَاتِهِمْ)؛ لِأَنَّ السَّهْوَ فِي الصَّلَاةِ أَمْرٌ طَبِيعيٌّ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَقَدْ وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْقَائِلُ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي»[12]، كَمَا في حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ وَلِهَذَا قَالَ عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ: «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: ﴿ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون ﴾، وَلَمْ يَقِلْ: فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ»[13].
وَفِي ذَلِكَ: التَّحْذِيرُ الشَّدِيدُ مِنَ السَّهْوِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ إِضَاعَتُهَا مَعَ الْعِلْمِ وَالْقَصْدِ، وَعَادَةً مَا تَصْدُرُ عَنْ نِفَاقٍ وَقِلَّةِ رَغْبَةٍ في أَدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظيمَةِ، وَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ تَعَالَى الَّذِينَ يَتَكَاسَلُونَ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وَيَتَهَاوَنُونَ فِيهَا، وَيَتَغَافَلُونَ عَنْهَا، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [سورة مريم:59].
خَطَرُ الرِّيَاءِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُون ﴾ [سورة الماعون:6]: التَّحْذِيرُ مِنَ الرِّيَاءِ بَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الشِّرْكِ، كَمَا جَاءَ في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[14].
وَلِعَظيمِ خَطَرِهِ، وَبَالِغِ ضَرَرِهِ، وَكَثْرَةِ الاِبْتِلَاءِ بِهِ: خَافَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّتِهِ، وَبَالَغَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْهُ، فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ»[15]، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَعْلِيقًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: "وَإِنَّمَا كَانَ الرِّيَاءُ كَذَلِكَ لِخَفَائِهِ وَقُوَّةِ الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَعُسْرِ التَّخَلُّصِ مِنْهُ؛ لِمَا يُزَيِّنُهُ الشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ في قَلْبِ صَاحِبِهِ"[16].
بَذْلُ الْمَعْرُوفِ ومَشْرُوعِيَّةُ الْعَارِيَةِ:
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون ﴾: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنينَ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَإِعَانَةُ الْمُحْتَاجِينَ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ، وَإِنَ كَانَ قَلِيلًا، كَإِعَارَةِ الْأَوَانِي وَغَيْرِهَا مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون ﴾ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَارِيَةِ، وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهَا[17]، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: «وَالْعَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ... »[18] الحَدِيثُ، وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرَاعًا، فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ»[19].
وَلَا شَكَّ أَنَّ بَذْلَ الْعَارِيَةِ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا قُرْبَةٌ عَظِيمَةٌ، يَنَالُ بِهَا الْمُعِيرُ ثَوَابًا جَزِيلًا؛ لِأَنَّها تَدْخُلُ في عُمُومِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [سورة المائدة:2]، وَفي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَصلى الله عليه وسلم: «وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»[20].
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْعَارِيَةَ وَاجِبَةٌ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله: "وَالصَّحِيحُ: وُجُوبُ بَذْلِ ذَلِكَ مَجَّانًا إذَا كَانَ صَاحِبُهَا مُسْتَغْنِيًا عَنْ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَعِوَضِهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُون * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُون * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون ﴾[سورة الماعون:4-7]"[21]، وَهُوَ قَوْلٌ لِأَحْمَدَ، وَقَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ[22]؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى ذَمَّ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعَارَتِهِ.
وَقَدْ عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الْعَارِيَةَ فَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ رحمه الله مَا نَصُّهُ: "الْعُارِيَةُ هِيَ: الْعَيْنُ الْمُعَارَةُ، وَالْإِعَارَةُ: إِبَاحَةُ نَفْعِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهِيَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهَا مُنْتَفَعًا بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا، وَتَنْعَقِدُ بِكُلِّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يَدَلُّ عَلَيْهَا كَقَولِهِ: أَعَرْتُكَ هَذَا أَوْ أَبَحْتُكَ الاِنْتِفَاعَ بِهِ، أَوْ يَقُولُ الْمُسْتَعيرُ: أَعِرْنِي هَذَا، أَوْ أَعْطِنِيهِ أَرْكَبُهُ أَوْ أَحْمِلُ عَلَيْهِ، فَيُسَلِّمُهُ إِلَيْهِ، وَنَحْوه، وَيُعْتَبَرُ كَوْنُ الْمُعِيرِ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ شَرْعًا، وَأَهْلِيَّةُ مُسْتَعيرٍ لِلتَّبَرُّعِ لَهَا