إرتواء نبض
01-11-2023, 10:11 PM
إنَّها الأمُّ
(الخطبة الأولى)
الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مبارَكًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدِّين؛ أما بعد:
فيا عباد الله؛ أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، عباد الله، لا حقَّ على الإنسان أعظمُ وأكبرُ بعد حقِّ الله تعالى وحقِّ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم من حقوق الوالدين، تظاهرتْ بذلك نصوصُ الكِتاب والسُّنَّة، والأُمُّ مُقدَّمةٌ على الأبِ في البِرِّ، ولها من الحقوق على الولد أكثرُ من حقوق أبيه عليه؛ لأنَّ الشَّرْع المطهَّرَ جاء بذلك، ولأنها أضعفُ الوالدين، ولأنها الحاملُ والوالدةُ والمُرضِع: ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ [الأحقاف: 15] يقول ابن كثير رحمه الله: "﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ﴾؛ أي: قاست بسببه في حال حمله مَشقَّةً وتعبًا، من وِحَامٍ وغَشَيانٍ وثِقَـل وكَرْبٍ، إلى غير ذلك مما تنالُ الحواملُ من التعب والمشَقَّة، ﴿ وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ﴾؛ أي: بمشقة أيضًا من الطَّلْق وشِدَّته"[1].
إنها الأم، وصَّى ببرِّها الرحمن، وتحتَ أقدامِها الجِنان، البرُّ بها مفخرةُ الرِّجال، وأفضلُ الخِصال، كمْ حزِنتْ؛ لِتفرَح، وجاعتْ؛ لِتشْبع، وبكتْ؛ لتضْحك، وسَهِرَتْ؛ لتنام، إنها الأم! المخلوقُ الضعيفُ الذي يُعطي ولا يطلُبُ أجْرًا، ويبذُلُ ولا يأمَلُ شُكْرًا، إنها الأم! حملتكَ في بطنها وهنًا على وهن، يقول البغوي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ [لقمان: 14]، قال ابن عباس: شِدةً بعد شدة، وقال الضحاك: ضعفًا على ضعف، قال مجاهد: مشقةً على مشقة، وقال الزَّجَّاج: المرأة إذا حَمَلت توالى عليها الضعفُ والمشقَّة، ويقالُ: الحملُ ضعفٌ، والطلْقُ ضَعفٌ، والوَضعُ ضَعف"[2].
إنها الأم! طعامُك دَرُّها، وبيتُكَ حِجْرُها، ومَرْكبُكَ يداها، صورتُكَ أبْهى عندها من البدر، وصوتُك أعذبُ عندها من تغريد البلابل وغناءِ الأطيار، وريحُك أطيبُ عندها من أجود الأطياب، إنها الأم! صاحبةُ القلبِ الرحيم، واللسانِ الرقيق، واليدِ الحانية، العيشُ في كَنَفِها حياة، والبُعْدُ عنها أسًى وحِرْمان، إنها الأم! طُوبى لمن خَفَضَ لها الجناح، وحرِصَ على خِدْمتها كُلَّما غدا أو راح، وقابَلَها ببشاشةٍ كُلَّ مساءٍ وصباح، أيها الناس، مَنْ أرادَ عظيمَ الأجْرِ والثواب، فليعلمْ أنَّ الأُمَّ بابٌ من أبواب الجنةِ عريضٌ، لا يُفرِّط فيه إلَّا مَن حَرَم نفسَه، وبَخَسَ من الخير حَظَّه، الأمُّ هي مَحلُّ البِرِّ والإكرام، وهي رَمْزُ التَّضحيةِ والفِداءِ والطُّهْرِ والنَّقاءِ، وهي الأصلُ الَّذي يَشرُفُ به الولَدُ، وأحَقُّ النَّاسِ بصُحبتِه، ويَليها الأبُ في حقِّ البرِّ والصُّحبةِ، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: ((أُمُّكَ))، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ((ثُمَّ أُمُّكَ))، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ((ثُمَّ أُمُّكَ))، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ((ثُمَّ أبُوكَ))[3]، إنَّهَا الْأُمُّ، يَا مَنْ تُرِيدُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ وَسَتْرَ الْعُيُوبِ.
روى عبدُاللهِ بنُ عُمرَ رضيَ الله عنهما أنَّ رجلًا أتَى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي أصَبتُ ذنبًا عظيمًا، فَهَل لي مِن تَوبةٍ؟ قالَ: ((هل لَكَ مِن أمٍّ؟))، قالَ: لا، قالَ: ((هل لَكَ من خالةٍ؟))، قالَ: نعَم، قالَ: ((فبِرَّها))[4]، فالخالةُ بمنزلةِ الأم، والْإِحْسَانُ إِلَى الْأُمِّ سَبَبٌ لِلْبَرَكَةِ فِي الرِّزْقِ وَطُولِ الْعُمُرِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، أوْ يُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ))[5]، وَأَعْظَمُ الصِّلَةِ صِلَةُ الْوَالِدَيْنِ، وَأَتَمُّ الْإِحْسَانِ، الْإِحْسَانُ إِلَى الْأُمِّ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ - رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ- أَنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدُّعَاءِ، وَكَانَ مِنْ أَبَرِّ النَّاسِ بِوَالِدَتِهِ.
عباد الله؛ الْبِرُّ بِالْأُمِّ مَفْخَرَةُ الرِّجَالِ، وَشِيمَةُ الشُّرَفَاءِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ: هُوَ خُلُقٌ مِنْ خُلُقِ الْأَنْبِيَاءِ؛ قَالَ تَعَالَى عَنْ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ [مريم: 14]، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 32]، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14] بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد للهِ الخلَّاقِ العليم، الرؤوفِ الرحيم؛ قذَفَ الرحمةَ في قلوب الأُمَّهات، حتى إن الدابَّةَ العَجماءَ لَترْفعُ حافرَها عن ولدِها؛ خشيةَ أنْ تطأهُ رحمةً به، نَحْمَدُهُ على هدايته، ونشْكُرُهُ على رِعايته، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، شرَعَ الدينَ لعباده، وقَسَمَ الحقوقَ بينَهم، فأعطى كُلَّ ذي حقٍّ حقَّه ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النساء: 176]، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه؛ زَارَ قبرَ أُمِّه، فبكى وأبْكَى مَنْ حولَه، فقال: ((اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي في أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ في أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي))[6]، وما فعَلَ ذلك إلا قيامًا بحقِّها، وبِرًّا بها، وحُسنَ صُحبةٍ لها، صلى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ عليهِ وعلى آله وأصحابِه وأتباعِه إلى يومِ الدِّين؛ أما بعد:
فيا عبادَ الله؛ أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى والبِرِّ بأمَّهاتِنا وآبائِنا، واعلموا أنَّ الْبِرَّ بِالْأُمِّ يَتَأَكَّدُ إِذَا تَقَضَّى شَبَابُهَا، وَعَلَا مَشِيبُهَا، وَرَقَّ عَظْمُهَا، وَاحْدَوْدَبَ ظَهْرُهَا، وَارْتَعَشَتْ أَطْرَافُهَا، وَزَارَتْهَا أَسْقَامُهَا، فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الْعُمُرِ، لَا تَنْتَظِرُ صَاحِبَةُ الْمَعْرُوفِ وَالْجَمِيلِ مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا قَلْبًا رَحِيمًا، وَلِسَانًا رَقِيقًا، وَيَدًا حَانِيَةً، فَطُوبَى لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَى أُمِّهِ فِي كِبَرِهَا! طُوبَى لِمَنْ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدِ الْجِدِّ فِي رِضَاهَا، يَا أَيُّهَا الْبَارُّ بِأُمِّهِ تَمَثَّلْ قَوْلَ الْمَوْلَى عز وجل: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ [الإسراء: 24]، تَخَلَّقْ بِالذُّلِّ بَيْنَ يَدَيْهَا بِقَوْلِكَ وَفِعْلِكَ، لَا تناديها بِاسْمِهَا؛ بَلْ نَادِهَا بِلَفْظِ الْأُمِّ؛ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى قَلْبِهَا، لَا تَجْلِسْ قَبْلَهَا، وَلَا تَمْشِ أَمَامَهَا، قَابِلْهَا بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَابْتِسَامَةٍ وَبَشَاشَةٍ، تَشَرَّفْ بِخِدْمَتِهَا، وَتَحَسَّسْ حَاجَاتِهَا، إِنْ طَلَبْتَ فَبَادِرْ أَمْرَهَا، وَإِنْ سَقِمَتْ فَقُمْ عِنْدَ رَأْسِهَا، أَبْهِجْ خَاطِرَهَا بِكَثْرَةِ الدُّعَاءِ لَهَا، لَا تَفْتَأُ أَنْ تُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَى قَلْبِهَا، قَدِّمْ لَهَا الْهَدِيَّةَ، وَزُفَّ إِلَيْهَا الْبَشَائِرَ، وإن كنت بعيدًا عنها فأكثِرْ من الاتصال بها وأبْلِغْها بشوقكَ إلى لُقْياها، ولا ترْفعْ صوتَكَ عليها وأنتَ تُخاطِبُها، عباد الله، وتجبُ صِلَةُ الأُمِّ وبِرُّها، وحُسنُ صُحْبتِها، ولو كانتْ كافرة، مع عدَمِ طاعتِها في المعصية ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]، فاتقوا الله عباد الله وصلُّوا وسلِّموا على محمدٍ رسولِ الله، فقد قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا))، اللهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بمَنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجعل لنا من كل هَمٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل عُسرٍ يُسرًا، ومن كل بلاءٍ عافية، اللهم احْقِن دماءنا، واحفظ بلادنا، وألِّفْ بين قلوبنا؛ ومَنْ أرادنا أو أراد بلادنا بسوء أو مكروه فرُدَّ كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه، اللهُمَّ وفِّقْ وليَّ أمرنا لما تُحبُّ وترضى وهيِّئ له البِطانة الصالحة التي تُعينه على الحقِّ يا رب العالمين، اللهُمَّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين، اللهُمَّ وفِّقْ جنودنا ورجال أمننا لكل خير، وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201] عبادَ الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91]، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولَذِكْرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
[1] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: 4/ 169.
[2] البغوي، معالم التنزيل: 6/ 287.
[3] أخرجه البخاري (5971)، ومسلم (2548).
[4] صحيح الترمذي، رقم: 1904.
[5] أخرجه البخاري (2067)، ومسلم (2557) باختلاف يسير.
[6] صحيح مسلم، رقم: 976.
(الخطبة الأولى)
الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مبارَكًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدِّين؛ أما بعد:
فيا عباد الله؛ أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، عباد الله، لا حقَّ على الإنسان أعظمُ وأكبرُ بعد حقِّ الله تعالى وحقِّ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم من حقوق الوالدين، تظاهرتْ بذلك نصوصُ الكِتاب والسُّنَّة، والأُمُّ مُقدَّمةٌ على الأبِ في البِرِّ، ولها من الحقوق على الولد أكثرُ من حقوق أبيه عليه؛ لأنَّ الشَّرْع المطهَّرَ جاء بذلك، ولأنها أضعفُ الوالدين، ولأنها الحاملُ والوالدةُ والمُرضِع: ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ [الأحقاف: 15] يقول ابن كثير رحمه الله: "﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ﴾؛ أي: قاست بسببه في حال حمله مَشقَّةً وتعبًا، من وِحَامٍ وغَشَيانٍ وثِقَـل وكَرْبٍ، إلى غير ذلك مما تنالُ الحواملُ من التعب والمشَقَّة، ﴿ وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ﴾؛ أي: بمشقة أيضًا من الطَّلْق وشِدَّته"[1].
إنها الأم، وصَّى ببرِّها الرحمن، وتحتَ أقدامِها الجِنان، البرُّ بها مفخرةُ الرِّجال، وأفضلُ الخِصال، كمْ حزِنتْ؛ لِتفرَح، وجاعتْ؛ لِتشْبع، وبكتْ؛ لتضْحك، وسَهِرَتْ؛ لتنام، إنها الأم! المخلوقُ الضعيفُ الذي يُعطي ولا يطلُبُ أجْرًا، ويبذُلُ ولا يأمَلُ شُكْرًا، إنها الأم! حملتكَ في بطنها وهنًا على وهن، يقول البغوي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ [لقمان: 14]، قال ابن عباس: شِدةً بعد شدة، وقال الضحاك: ضعفًا على ضعف، قال مجاهد: مشقةً على مشقة، وقال الزَّجَّاج: المرأة إذا حَمَلت توالى عليها الضعفُ والمشقَّة، ويقالُ: الحملُ ضعفٌ، والطلْقُ ضَعفٌ، والوَضعُ ضَعف"[2].
إنها الأم! طعامُك دَرُّها، وبيتُكَ حِجْرُها، ومَرْكبُكَ يداها، صورتُكَ أبْهى عندها من البدر، وصوتُك أعذبُ عندها من تغريد البلابل وغناءِ الأطيار، وريحُك أطيبُ عندها من أجود الأطياب، إنها الأم! صاحبةُ القلبِ الرحيم، واللسانِ الرقيق، واليدِ الحانية، العيشُ في كَنَفِها حياة، والبُعْدُ عنها أسًى وحِرْمان، إنها الأم! طُوبى لمن خَفَضَ لها الجناح، وحرِصَ على خِدْمتها كُلَّما غدا أو راح، وقابَلَها ببشاشةٍ كُلَّ مساءٍ وصباح، أيها الناس، مَنْ أرادَ عظيمَ الأجْرِ والثواب، فليعلمْ أنَّ الأُمَّ بابٌ من أبواب الجنةِ عريضٌ، لا يُفرِّط فيه إلَّا مَن حَرَم نفسَه، وبَخَسَ من الخير حَظَّه، الأمُّ هي مَحلُّ البِرِّ والإكرام، وهي رَمْزُ التَّضحيةِ والفِداءِ والطُّهْرِ والنَّقاءِ، وهي الأصلُ الَّذي يَشرُفُ به الولَدُ، وأحَقُّ النَّاسِ بصُحبتِه، ويَليها الأبُ في حقِّ البرِّ والصُّحبةِ، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: ((أُمُّكَ))، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ((ثُمَّ أُمُّكَ))، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ((ثُمَّ أُمُّكَ))، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ((ثُمَّ أبُوكَ))[3]، إنَّهَا الْأُمُّ، يَا مَنْ تُرِيدُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ وَسَتْرَ الْعُيُوبِ.
روى عبدُاللهِ بنُ عُمرَ رضيَ الله عنهما أنَّ رجلًا أتَى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي أصَبتُ ذنبًا عظيمًا، فَهَل لي مِن تَوبةٍ؟ قالَ: ((هل لَكَ مِن أمٍّ؟))، قالَ: لا، قالَ: ((هل لَكَ من خالةٍ؟))، قالَ: نعَم، قالَ: ((فبِرَّها))[4]، فالخالةُ بمنزلةِ الأم، والْإِحْسَانُ إِلَى الْأُمِّ سَبَبٌ لِلْبَرَكَةِ فِي الرِّزْقِ وَطُولِ الْعُمُرِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، أوْ يُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ))[5]، وَأَعْظَمُ الصِّلَةِ صِلَةُ الْوَالِدَيْنِ، وَأَتَمُّ الْإِحْسَانِ، الْإِحْسَانُ إِلَى الْأُمِّ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ - رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ- أَنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدُّعَاءِ، وَكَانَ مِنْ أَبَرِّ النَّاسِ بِوَالِدَتِهِ.
عباد الله؛ الْبِرُّ بِالْأُمِّ مَفْخَرَةُ الرِّجَالِ، وَشِيمَةُ الشُّرَفَاءِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ: هُوَ خُلُقٌ مِنْ خُلُقِ الْأَنْبِيَاءِ؛ قَالَ تَعَالَى عَنْ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ [مريم: 14]، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 32]، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14] بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد للهِ الخلَّاقِ العليم، الرؤوفِ الرحيم؛ قذَفَ الرحمةَ في قلوب الأُمَّهات، حتى إن الدابَّةَ العَجماءَ لَترْفعُ حافرَها عن ولدِها؛ خشيةَ أنْ تطأهُ رحمةً به، نَحْمَدُهُ على هدايته، ونشْكُرُهُ على رِعايته، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، شرَعَ الدينَ لعباده، وقَسَمَ الحقوقَ بينَهم، فأعطى كُلَّ ذي حقٍّ حقَّه ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النساء: 176]، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه؛ زَارَ قبرَ أُمِّه، فبكى وأبْكَى مَنْ حولَه، فقال: ((اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي في أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ في أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي))[6]، وما فعَلَ ذلك إلا قيامًا بحقِّها، وبِرًّا بها، وحُسنَ صُحبةٍ لها، صلى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ عليهِ وعلى آله وأصحابِه وأتباعِه إلى يومِ الدِّين؛ أما بعد:
فيا عبادَ الله؛ أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى والبِرِّ بأمَّهاتِنا وآبائِنا، واعلموا أنَّ الْبِرَّ بِالْأُمِّ يَتَأَكَّدُ إِذَا تَقَضَّى شَبَابُهَا، وَعَلَا مَشِيبُهَا، وَرَقَّ عَظْمُهَا، وَاحْدَوْدَبَ ظَهْرُهَا، وَارْتَعَشَتْ أَطْرَافُهَا، وَزَارَتْهَا أَسْقَامُهَا، فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الْعُمُرِ، لَا تَنْتَظِرُ صَاحِبَةُ الْمَعْرُوفِ وَالْجَمِيلِ مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا قَلْبًا رَحِيمًا، وَلِسَانًا رَقِيقًا، وَيَدًا حَانِيَةً، فَطُوبَى لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَى أُمِّهِ فِي كِبَرِهَا! طُوبَى لِمَنْ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدِ الْجِدِّ فِي رِضَاهَا، يَا أَيُّهَا الْبَارُّ بِأُمِّهِ تَمَثَّلْ قَوْلَ الْمَوْلَى عز وجل: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ [الإسراء: 24]، تَخَلَّقْ بِالذُّلِّ بَيْنَ يَدَيْهَا بِقَوْلِكَ وَفِعْلِكَ، لَا تناديها بِاسْمِهَا؛ بَلْ نَادِهَا بِلَفْظِ الْأُمِّ؛ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى قَلْبِهَا، لَا تَجْلِسْ قَبْلَهَا، وَلَا تَمْشِ أَمَامَهَا، قَابِلْهَا بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَابْتِسَامَةٍ وَبَشَاشَةٍ، تَشَرَّفْ بِخِدْمَتِهَا، وَتَحَسَّسْ حَاجَاتِهَا، إِنْ طَلَبْتَ فَبَادِرْ أَمْرَهَا، وَإِنْ سَقِمَتْ فَقُمْ عِنْدَ رَأْسِهَا، أَبْهِجْ خَاطِرَهَا بِكَثْرَةِ الدُّعَاءِ لَهَا، لَا تَفْتَأُ أَنْ تُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَى قَلْبِهَا، قَدِّمْ لَهَا الْهَدِيَّةَ، وَزُفَّ إِلَيْهَا الْبَشَائِرَ، وإن كنت بعيدًا عنها فأكثِرْ من الاتصال بها وأبْلِغْها بشوقكَ إلى لُقْياها، ولا ترْفعْ صوتَكَ عليها وأنتَ تُخاطِبُها، عباد الله، وتجبُ صِلَةُ الأُمِّ وبِرُّها، وحُسنُ صُحْبتِها، ولو كانتْ كافرة، مع عدَمِ طاعتِها في المعصية ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]، فاتقوا الله عباد الله وصلُّوا وسلِّموا على محمدٍ رسولِ الله، فقد قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا))، اللهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بمَنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجعل لنا من كل هَمٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل عُسرٍ يُسرًا، ومن كل بلاءٍ عافية، اللهم احْقِن دماءنا، واحفظ بلادنا، وألِّفْ بين قلوبنا؛ ومَنْ أرادنا أو أراد بلادنا بسوء أو مكروه فرُدَّ كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه، اللهُمَّ وفِّقْ وليَّ أمرنا لما تُحبُّ وترضى وهيِّئ له البِطانة الصالحة التي تُعينه على الحقِّ يا رب العالمين، اللهُمَّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين، اللهُمَّ وفِّقْ جنودنا ورجال أمننا لكل خير، وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201] عبادَ الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91]، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولَذِكْرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
[1] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: 4/ 169.
[2] البغوي، معالم التنزيل: 6/ 287.
[3] أخرجه البخاري (5971)، ومسلم (2548).
[4] صحيح الترمذي، رقم: 1904.
[5] أخرجه البخاري (2067)، ومسلم (2557) باختلاف يسير.
[6] صحيح مسلم، رقم: 976.