كـــآدي
08-28-2022, 10:11 AM
سورة الحجر (الآيات 57 : 60)
قول الله - تعالى ذِكْره -: ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [الحجر: 57 - 60].
"الخَطْب" الشَّأن والأمر الذي يَدْعو إلى مُجاذبة القول وكثرة التَّخاطُب، ويُجْمَع على خطوب.
"والْمُجرم" من "الْجَرْم" وهو قطع ثَمَرِ الشَّجرة قبل النُّضج، ومنه سُمِّي رديء التَّمر "جُرامَةٌ" على بناء "نُفاية"، و"الجريمة" النواة بعد استِئْصال ما عليها من البلح والتَّمر، فتعرَّت، ولم يَبْق فيها خير، والكاسب لأهله من طريق الشرِّ والأذى للغير يُسمَّى "جريمة"، قال أبو خِرَاش الْهُذَلي يصف عُقابًا:
جَرِيمَةَ نَاهِضٍ فِي رَأْسِ نِيقٍ
تَرَى لِعِظَامِ مَا جَمَعَتْ صَلِيبَا
سَمَّى اكتسابَها لِفراخها جرمًا؛ من حيث إنَّها تصيد فراخ غيرها من الطَّير لتأكلها وتطْعم منها فراخها، و"الصليب" الوَدك السَّائل، و"الْجَريم" العظيم الجِسْم، ويُقال: إبِلٌ جريم؛ أيْ: عظيمة الأجسام ضخمة، و"الجريم" أيضًا جهارة الصَّوت وقوته.
فيكون معنى "الْمُجرم" مِن هذا كله: هو الذي يأتي الأعمال البغيضة المَمْقوتة، ويظنُّ - لِغَباوته وغفلته، وغلَبةِ الْهَوى والشَّهوة العمياء على عقله - أنَّها تعود عليه بالمنفعة والخير، وهي تَمْحق كُلَّ الخير من نفسه ومِمَّا حوله، وتُجرِّده من كلِّ حسَنٍ نافع، وتدنِّس نفْسَه في الخيبة والخسران.
"آل لوط" الذين يَؤُولون إلى لوط، ويتَّصلون به بصِلَة الإيمان به وبرِسَالته، وذلك هو معنَى "الآل" في القرآن: أنَّهم الذين ينتمون إلى الْمَنسوبين إليه بِما اختصَّ به وامتاز به عن غيره، فشاركوه فيه من إيمان وعدْلٍ وطاعة، أو كُفْر وفسوق، وظُلْم وبَغْي وعدوان، قال الله تعالى[1]: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 248] وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33] وقال: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 54]، وقال[2]: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سـبأ: 13]، وقال: ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [النمل: 56]، وقال: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ﴾ [القمر: 34].
وأصل "آل" أَول، حُرِّكت الواو الساكنة؛ لانفتاح ما قبلها فقلبت ألِفًا، فصار آل، وفِعْله: آل يؤول، بِمَعنى عاد ورجع، وليس أصله أهل، كما زعم بعضهم خطأً.
قال ابن فارس في "مقاييس اللُّغة": الهمزة والواو واللام: أصلان: ابتداء الأمر وانتهاؤه - إلى أن قال - والأصل الثاني: الأيل، وهو الذَّكَر من الوعول، والجمع أيائل، وإنَّما سُمِّي كذلك؛ لأنَّه يؤول إلى الجبل يتحصَّن به، وقولهم: آل اللَّبَنُ؛ أي: خثر؛ لأنَّه لا يختثر إلاَّ آخر أمره، وآل يؤول؛ أي: رجع، قال يعقوب: يُقال: أولَ الحُكْم إلى أهله؛ أيْ: أرجعه وردَّه إليهم، والإيالة: السِّياسة من هذا الباب؛ لأنَّ مرجع الرعيَّة إلى راعيها، وآلُ الْجَبلِ: أطرافُه ونواحيه، ومن هذا الباب: تأويل الكلام، وهو عاقبته وما يؤول إليه، قال الأعشى:
عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّهَا
يريد مرجعه وعاقبته، وذلك من آل يؤول؛ اهـ بتصرُّف.
وقال الإمام ابن القيِّم - رَحِمَه الله - في "جلاء الأفهام": قيل أصل "آل" أهل، وهذا القول ضعيف من وجوه:
أحدها: أنَّه لا دليل عليه.
الثاني: أنه يلزم منه القلب الشاذُّ من غير موجب، مع مُخالفة الأصل.
الثالث: أن "أهل" تُضاف إلى العاقل وغير العاقل، و"آل" لا تُضاف إلاَّ إلى العاقل.
الرابع: أن "أهل" تُضاف إلى العَلَم والنكرة، و"آل" لا تضاف إلاَّ إلى معظَّمٍ من شأنِه أن يؤول إليه غيرُه.
الخامس: أن: "أهل" تُضاف إلى الظَّاهر والمُضْمَر، و"آل" من النُّحاة من منَع إضافته إلى المُضْمر، ومَن جوَّزها فهي شاذَّة قليلة.
السادس: أن الرَّجل حيث أضيف إليه آلُه دخل هو فيهم، كقوله تعالى: ﴿ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب ﴾ [غافر: 46]، وقولِه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33]، وقوله: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ﴾ [القمر: 34]، وقول النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم صلِّ على آل أبي أوفَى))[3]، و"أهل" بخلاف ذلك، فإذا قُلْتَ: جاء أهل زيد، لم يَدخُل فيهم.
وقيل: أصله "أول"، وذكَره صاحب "الصِّحاح" في باب الْهَمزة واللاَّم، فآلُ الرَّجل: أهله وعياله، وآله أيضًا: أتباعه.
وهو عند هؤلاء مشتقٌّ من آل يؤول، إذا رجع، فآلُ الرَّجل: هم الذين يرجعون إليه، ويُضافون إليه، ويَؤُولُهم؛ أيْ: يَسُوسهم، فيكون مآلُهم ومرجِعُهم إليه، ومِنْه الإيالة، وهي السِّياسة، فآل الرجل: هم الذين يسوسهم ويؤولهم، ونفسه أحقُّ بذلك من غيره، فهو أحق بالدُّخول في آله، ولكن لا يُقال: هو مُختصٌّ بآله، بل هو داخل فيهم، وهذه المادَّة موضوعة لأصل الشيء وحقيقته؛ ولِهَذا تُسمَّى حقيقة الشيء تأويلَه؛ لأنَّها حقيقته التي يرجع إليها، ومنه قوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 53]، فتأويل ما أنذرَتْ به الرُّسل: هو مَجِيء حقيقته، ووقوعُها ورؤيتها عيانًا، ومنه تأويل الرُّؤيا، وهو العبور إلى حقيقتها التي ضُرِبت للرَّائي في عالَم المِثال، ومنه: التأويل بمعنى العاقبة، كما في قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [النساء: 59]؛ أيْ: أحسن عاقبة ومرجعًا - يعني للخروج من شرِّ الخلاف وما يُوقع من فساد - فإنَّ عواقب الأمور: هي حقائقها التي تؤول وترجع إليها، ومنه: تأويل الكلام بمعنَى تفسيره؛ لأنَّ تفسير الكلام هو بيان معناه وحقيقته التي أرادها المتكلِّم؛ اهـ المراد منه.
فآلُ لوط الذين آلوا إليه، ورجَعُوا عن دين الآباء والشُّيوخ، دين الضَّلال والتقليد الأعمى والوثنيَّة، إلى دين الحقِّ والْهُدى، والعلم والإيمان بالله وآياته وسُنَنه، الذي جاءَتْهم به رسالة لوط - عليه السَّلام - فكانوا تابعين له ومتشرِّفين بالانتساب إليه - عليه وعلى نبيِّنا الصَّلاة والسلام.
وقوله تعالى: ﴿ قدَرْنا ﴾، قال الرَّاغبُ: التقدير تَبْيِين كمِّية الشَّيء، يُقال: قَدَرتُه وقَدَّرْته وقَدَّرَه - بفتح القاف والدال، وبتشديد الدال - أعطاه القُدْرة، فتقدير اللهِ الأشياءَ على وجهين:
أحَدُهُما: بإعطاء القُدْرة، والثَّاني: بأن يَجْعلها على مقدار مَخْصوص ووجه مخصوص حسبَما اقتضت الحكمة؛ وذلك أنَّ فِعْل الله تعالى ضَرْبان - إلى أن قال - الضَّرب الثاني: ما جَعل أصوله موجودة بالفِعْل، وأجزاءَه بالقوَّة، وقدَّره على وجه لا يتأتَّى منه غير ما قدَّره فيه، كتَقْديره في النواة أن ينبت منها النَّخل، دون التُّفاح والزَّيتون، وتقدير مَنِيِّ الإنسان: أن يكون منه الإنسانُ دون سائر الحيوان؛ اهـ.
وقال في "اللِّسان": ويُقال: قدرت لأَمْرِ كذا، أَقْدِرُ له، وأَقْدُر - من بابَيْ عَلِم ونَصَر - قدرًا: إذا نظرتَ فيه ودبَّرته وقايستَه، ومنه قول عائشة - رضي الله عنها: "فاقْدُروا قدْرَ الجارية الحديثة السنِّ المستهيئة للنَّظر"؛ أيْ: قَدِّروا وقايسوا وانظروه، وافْكِروا فيه، ويُقال: قدرت؛ أيْ: هيَّأت، وقدر القومُ أمرهم: دبَّروه؛ اهـ.
"وقدرنا" مَحْكي عن الملائكة الذين يتحدَّثون مع إبراهيم، ويُخْبِرونه بما أرسلَهم الله له من إِنْجاء لوط ومَن آمن معه، وإهلاك المُجرمين من قومِهم، الأمر المقدر المُبْرم، وهم خاصَّة الرَّب سبحانه، المختصُّون بتلقِّي أوامره الكونيَّة وتنفيذها، صحَّ منهم "قدرنا" كما يقول خاصَّة الملك: دبَّرْنا كذا، وأمرنا بكذا، يَعْنون تنفيذ تدبير الملك وأمره.
و"الغابر" الماكث بعد مُضيِّ ما هو معه، قال الله تعالى: ﴿ إِلَّا عَجُوزًا في الْغَابِرِينَ ﴾ [الشعراء: 171]؛ يعنِي: فيمن طالت أعمارهم، قيل: فيمن بَقِي ولم يَسْر مع لوط، وقيل: فيمن بقي بعد العذاب، وفي آية أخرى: ﴿ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [العنكبوت: 33]، ومنه الغَبْرة - بفتح الغين وسكون الباء - البقيَّة في الضَّرْع من اللَّبَن وجَمْعه أغبار، وغبر الحيض وغبر اللَّيل: ما بقي منه، والغبار: ما يبقى من التُّراب الْمُثار، ويُقال للماضي: غابر، تصوُّرًا بِمُضيِّ الغبار عن الأرض، ويقال للباقي: غابر، تصوُّرًا بتخلُّف الغبار عن الذي يعدو فيخلفه، ومن الغبار: اشتُقَّ الغبرة، وهو ما يَعْلق بالشيء من الغبار وما كان على لونه؛ اهـ من "مفردات الراغب".
وقال في "لسان العرب": الغابر الباقي والماضي، وهو من الأضداد، قال الأزهريُّ: والمعروف في كلام العرب: أن الغابر الباقي، وقال غيرُ واحد من أئمَّة اللُّغة: إنَّ الغبر يكون بمعنى الماضي؛ اهـ.
فالْمَعنى: أن ربَّنا سبحانه قد هيَّأ ودبَّر وأعدَّ الهلاك والعذاب للمُجرمين من قوم لوط أَجْمعين، لن ينجو منهم أحدٌ، إلاَّ لوط ومن يَؤُول إليه إلاَّ امرأته، فإنَّه سبحانه قد هيَّأ وقدر ودبَّر لها الهلاك مع المُجْرمين؛ لأنَّها كانت كافرة مُجْرمة معهم، فبَقِيَت لم تَذْهب مهاجِرَة مع زوجها لوط من بيئة المعذَّبين، وغبرت هالكة مع الهالكين الماضين من الدُّنيا إلى عذاب الآخرة، وقد ذكر الله في سورة التَّحريم الإشارةَ إلى بعض إجرامها، حين ضرَب بِها وبامرأة نوحٍ الْمَثَل للَّذين كفروا، فقال: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ [التحريم: 10]؛ وذلك أنَّهما كانتا تَخُونان نوحًا ولوطًا، بأنْ كانتَا عينَيْن للمُجْرِمين من قومهما عليهما، ثم كانتا تشوِّهان عند قومهما سيرةَ زوجَيْهما، في حين كانتا تُظْهِران لزوجَيْهِما الرِّضا والمَحبَّة، فكانتا مُنافقتين، والخائن: إنَّما يخون بإِظْهار الأمانة والوفاء، وإبطان الغدر والنكث.
وفي ذلك عِبْرة: أنَّها لم ينفعها زواجُها للوط، ولم يُغْنِها من العذاب شيئًا؛ لأنَّها كانت خائنة لِهذه الزوجيَّة، غير وفيَّة بِحُقوقها من المودَّة والرَّحْمة والمعاونة لِزَوجها، ونسأل الله العافية والمعافاة والنَّجاة من عذابه وغضبه، وصلَّى الله على محمد وآله وسلَّم[4].
[1] ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ [البقرة: 49 - 50] ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [آل عمران: 11] ﴿ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [الأعراف: 141] ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 52] ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنفال: 54] ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 6] ﴿ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾ [إبراهيم: 45 - 46] ﴿ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 41 - 42].
[2] ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 6].
[3] أخرجه البخاري في كتاب الْمَغازي، باب غزوة الحديبية برقم [3933].
[4] "مجلة الهَدْي النبوي"، ذو الحجة (1368) العدد الثاني عشر.
قول الله - تعالى ذِكْره -: ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [الحجر: 57 - 60].
"الخَطْب" الشَّأن والأمر الذي يَدْعو إلى مُجاذبة القول وكثرة التَّخاطُب، ويُجْمَع على خطوب.
"والْمُجرم" من "الْجَرْم" وهو قطع ثَمَرِ الشَّجرة قبل النُّضج، ومنه سُمِّي رديء التَّمر "جُرامَةٌ" على بناء "نُفاية"، و"الجريمة" النواة بعد استِئْصال ما عليها من البلح والتَّمر، فتعرَّت، ولم يَبْق فيها خير، والكاسب لأهله من طريق الشرِّ والأذى للغير يُسمَّى "جريمة"، قال أبو خِرَاش الْهُذَلي يصف عُقابًا:
جَرِيمَةَ نَاهِضٍ فِي رَأْسِ نِيقٍ
تَرَى لِعِظَامِ مَا جَمَعَتْ صَلِيبَا
سَمَّى اكتسابَها لِفراخها جرمًا؛ من حيث إنَّها تصيد فراخ غيرها من الطَّير لتأكلها وتطْعم منها فراخها، و"الصليب" الوَدك السَّائل، و"الْجَريم" العظيم الجِسْم، ويُقال: إبِلٌ جريم؛ أيْ: عظيمة الأجسام ضخمة، و"الجريم" أيضًا جهارة الصَّوت وقوته.
فيكون معنى "الْمُجرم" مِن هذا كله: هو الذي يأتي الأعمال البغيضة المَمْقوتة، ويظنُّ - لِغَباوته وغفلته، وغلَبةِ الْهَوى والشَّهوة العمياء على عقله - أنَّها تعود عليه بالمنفعة والخير، وهي تَمْحق كُلَّ الخير من نفسه ومِمَّا حوله، وتُجرِّده من كلِّ حسَنٍ نافع، وتدنِّس نفْسَه في الخيبة والخسران.
"آل لوط" الذين يَؤُولون إلى لوط، ويتَّصلون به بصِلَة الإيمان به وبرِسَالته، وذلك هو معنَى "الآل" في القرآن: أنَّهم الذين ينتمون إلى الْمَنسوبين إليه بِما اختصَّ به وامتاز به عن غيره، فشاركوه فيه من إيمان وعدْلٍ وطاعة، أو كُفْر وفسوق، وظُلْم وبَغْي وعدوان، قال الله تعالى[1]: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 248] وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33] وقال: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 54]، وقال[2]: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سـبأ: 13]، وقال: ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [النمل: 56]، وقال: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ﴾ [القمر: 34].
وأصل "آل" أَول، حُرِّكت الواو الساكنة؛ لانفتاح ما قبلها فقلبت ألِفًا، فصار آل، وفِعْله: آل يؤول، بِمَعنى عاد ورجع، وليس أصله أهل، كما زعم بعضهم خطأً.
قال ابن فارس في "مقاييس اللُّغة": الهمزة والواو واللام: أصلان: ابتداء الأمر وانتهاؤه - إلى أن قال - والأصل الثاني: الأيل، وهو الذَّكَر من الوعول، والجمع أيائل، وإنَّما سُمِّي كذلك؛ لأنَّه يؤول إلى الجبل يتحصَّن به، وقولهم: آل اللَّبَنُ؛ أي: خثر؛ لأنَّه لا يختثر إلاَّ آخر أمره، وآل يؤول؛ أي: رجع، قال يعقوب: يُقال: أولَ الحُكْم إلى أهله؛ أيْ: أرجعه وردَّه إليهم، والإيالة: السِّياسة من هذا الباب؛ لأنَّ مرجع الرعيَّة إلى راعيها، وآلُ الْجَبلِ: أطرافُه ونواحيه، ومن هذا الباب: تأويل الكلام، وهو عاقبته وما يؤول إليه، قال الأعشى:
عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّهَا
يريد مرجعه وعاقبته، وذلك من آل يؤول؛ اهـ بتصرُّف.
وقال الإمام ابن القيِّم - رَحِمَه الله - في "جلاء الأفهام": قيل أصل "آل" أهل، وهذا القول ضعيف من وجوه:
أحدها: أنَّه لا دليل عليه.
الثاني: أنه يلزم منه القلب الشاذُّ من غير موجب، مع مُخالفة الأصل.
الثالث: أن "أهل" تُضاف إلى العاقل وغير العاقل، و"آل" لا تُضاف إلاَّ إلى العاقل.
الرابع: أن "أهل" تُضاف إلى العَلَم والنكرة، و"آل" لا تضاف إلاَّ إلى معظَّمٍ من شأنِه أن يؤول إليه غيرُه.
الخامس: أن: "أهل" تُضاف إلى الظَّاهر والمُضْمَر، و"آل" من النُّحاة من منَع إضافته إلى المُضْمر، ومَن جوَّزها فهي شاذَّة قليلة.
السادس: أن الرَّجل حيث أضيف إليه آلُه دخل هو فيهم، كقوله تعالى: ﴿ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب ﴾ [غافر: 46]، وقولِه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33]، وقوله: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ﴾ [القمر: 34]، وقول النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم صلِّ على آل أبي أوفَى))[3]، و"أهل" بخلاف ذلك، فإذا قُلْتَ: جاء أهل زيد، لم يَدخُل فيهم.
وقيل: أصله "أول"، وذكَره صاحب "الصِّحاح" في باب الْهَمزة واللاَّم، فآلُ الرَّجل: أهله وعياله، وآله أيضًا: أتباعه.
وهو عند هؤلاء مشتقٌّ من آل يؤول، إذا رجع، فآلُ الرَّجل: هم الذين يرجعون إليه، ويُضافون إليه، ويَؤُولُهم؛ أيْ: يَسُوسهم، فيكون مآلُهم ومرجِعُهم إليه، ومِنْه الإيالة، وهي السِّياسة، فآل الرجل: هم الذين يسوسهم ويؤولهم، ونفسه أحقُّ بذلك من غيره، فهو أحق بالدُّخول في آله، ولكن لا يُقال: هو مُختصٌّ بآله، بل هو داخل فيهم، وهذه المادَّة موضوعة لأصل الشيء وحقيقته؛ ولِهَذا تُسمَّى حقيقة الشيء تأويلَه؛ لأنَّها حقيقته التي يرجع إليها، ومنه قوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 53]، فتأويل ما أنذرَتْ به الرُّسل: هو مَجِيء حقيقته، ووقوعُها ورؤيتها عيانًا، ومنه تأويل الرُّؤيا، وهو العبور إلى حقيقتها التي ضُرِبت للرَّائي في عالَم المِثال، ومنه: التأويل بمعنى العاقبة، كما في قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [النساء: 59]؛ أيْ: أحسن عاقبة ومرجعًا - يعني للخروج من شرِّ الخلاف وما يُوقع من فساد - فإنَّ عواقب الأمور: هي حقائقها التي تؤول وترجع إليها، ومنه: تأويل الكلام بمعنَى تفسيره؛ لأنَّ تفسير الكلام هو بيان معناه وحقيقته التي أرادها المتكلِّم؛ اهـ المراد منه.
فآلُ لوط الذين آلوا إليه، ورجَعُوا عن دين الآباء والشُّيوخ، دين الضَّلال والتقليد الأعمى والوثنيَّة، إلى دين الحقِّ والْهُدى، والعلم والإيمان بالله وآياته وسُنَنه، الذي جاءَتْهم به رسالة لوط - عليه السَّلام - فكانوا تابعين له ومتشرِّفين بالانتساب إليه - عليه وعلى نبيِّنا الصَّلاة والسلام.
وقوله تعالى: ﴿ قدَرْنا ﴾، قال الرَّاغبُ: التقدير تَبْيِين كمِّية الشَّيء، يُقال: قَدَرتُه وقَدَّرْته وقَدَّرَه - بفتح القاف والدال، وبتشديد الدال - أعطاه القُدْرة، فتقدير اللهِ الأشياءَ على وجهين:
أحَدُهُما: بإعطاء القُدْرة، والثَّاني: بأن يَجْعلها على مقدار مَخْصوص ووجه مخصوص حسبَما اقتضت الحكمة؛ وذلك أنَّ فِعْل الله تعالى ضَرْبان - إلى أن قال - الضَّرب الثاني: ما جَعل أصوله موجودة بالفِعْل، وأجزاءَه بالقوَّة، وقدَّره على وجه لا يتأتَّى منه غير ما قدَّره فيه، كتَقْديره في النواة أن ينبت منها النَّخل، دون التُّفاح والزَّيتون، وتقدير مَنِيِّ الإنسان: أن يكون منه الإنسانُ دون سائر الحيوان؛ اهـ.
وقال في "اللِّسان": ويُقال: قدرت لأَمْرِ كذا، أَقْدِرُ له، وأَقْدُر - من بابَيْ عَلِم ونَصَر - قدرًا: إذا نظرتَ فيه ودبَّرته وقايستَه، ومنه قول عائشة - رضي الله عنها: "فاقْدُروا قدْرَ الجارية الحديثة السنِّ المستهيئة للنَّظر"؛ أيْ: قَدِّروا وقايسوا وانظروه، وافْكِروا فيه، ويُقال: قدرت؛ أيْ: هيَّأت، وقدر القومُ أمرهم: دبَّروه؛ اهـ.
"وقدرنا" مَحْكي عن الملائكة الذين يتحدَّثون مع إبراهيم، ويُخْبِرونه بما أرسلَهم الله له من إِنْجاء لوط ومَن آمن معه، وإهلاك المُجرمين من قومِهم، الأمر المقدر المُبْرم، وهم خاصَّة الرَّب سبحانه، المختصُّون بتلقِّي أوامره الكونيَّة وتنفيذها، صحَّ منهم "قدرنا" كما يقول خاصَّة الملك: دبَّرْنا كذا، وأمرنا بكذا، يَعْنون تنفيذ تدبير الملك وأمره.
و"الغابر" الماكث بعد مُضيِّ ما هو معه، قال الله تعالى: ﴿ إِلَّا عَجُوزًا في الْغَابِرِينَ ﴾ [الشعراء: 171]؛ يعنِي: فيمن طالت أعمارهم، قيل: فيمن بَقِي ولم يَسْر مع لوط، وقيل: فيمن بقي بعد العذاب، وفي آية أخرى: ﴿ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [العنكبوت: 33]، ومنه الغَبْرة - بفتح الغين وسكون الباء - البقيَّة في الضَّرْع من اللَّبَن وجَمْعه أغبار، وغبر الحيض وغبر اللَّيل: ما بقي منه، والغبار: ما يبقى من التُّراب الْمُثار، ويُقال للماضي: غابر، تصوُّرًا بِمُضيِّ الغبار عن الأرض، ويقال للباقي: غابر، تصوُّرًا بتخلُّف الغبار عن الذي يعدو فيخلفه، ومن الغبار: اشتُقَّ الغبرة، وهو ما يَعْلق بالشيء من الغبار وما كان على لونه؛ اهـ من "مفردات الراغب".
وقال في "لسان العرب": الغابر الباقي والماضي، وهو من الأضداد، قال الأزهريُّ: والمعروف في كلام العرب: أن الغابر الباقي، وقال غيرُ واحد من أئمَّة اللُّغة: إنَّ الغبر يكون بمعنى الماضي؛ اهـ.
فالْمَعنى: أن ربَّنا سبحانه قد هيَّأ ودبَّر وأعدَّ الهلاك والعذاب للمُجرمين من قوم لوط أَجْمعين، لن ينجو منهم أحدٌ، إلاَّ لوط ومن يَؤُول إليه إلاَّ امرأته، فإنَّه سبحانه قد هيَّأ وقدر ودبَّر لها الهلاك مع المُجْرمين؛ لأنَّها كانت كافرة مُجْرمة معهم، فبَقِيَت لم تَذْهب مهاجِرَة مع زوجها لوط من بيئة المعذَّبين، وغبرت هالكة مع الهالكين الماضين من الدُّنيا إلى عذاب الآخرة، وقد ذكر الله في سورة التَّحريم الإشارةَ إلى بعض إجرامها، حين ضرَب بِها وبامرأة نوحٍ الْمَثَل للَّذين كفروا، فقال: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ [التحريم: 10]؛ وذلك أنَّهما كانتا تَخُونان نوحًا ولوطًا، بأنْ كانتَا عينَيْن للمُجْرِمين من قومهما عليهما، ثم كانتا تشوِّهان عند قومهما سيرةَ زوجَيْهما، في حين كانتا تُظْهِران لزوجَيْهِما الرِّضا والمَحبَّة، فكانتا مُنافقتين، والخائن: إنَّما يخون بإِظْهار الأمانة والوفاء، وإبطان الغدر والنكث.
وفي ذلك عِبْرة: أنَّها لم ينفعها زواجُها للوط، ولم يُغْنِها من العذاب شيئًا؛ لأنَّها كانت خائنة لِهذه الزوجيَّة، غير وفيَّة بِحُقوقها من المودَّة والرَّحْمة والمعاونة لِزَوجها، ونسأل الله العافية والمعافاة والنَّجاة من عذابه وغضبه، وصلَّى الله على محمد وآله وسلَّم[4].
[1] ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ [البقرة: 49 - 50] ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [آل عمران: 11] ﴿ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [الأعراف: 141] ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 52] ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنفال: 54] ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 6] ﴿ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾ [إبراهيم: 45 - 46] ﴿ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 41 - 42].
[2] ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 6].
[3] أخرجه البخاري في كتاب الْمَغازي، باب غزوة الحديبية برقم [3933].
[4] "مجلة الهَدْي النبوي"، ذو الحجة (1368) العدد الثاني عشر.