كـــآدي
08-22-2022, 03:11 AM
سورة الحجر (الآيات 51 : 56 )
قول الله - تعالى ذِكْره -: ﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 51 - 60].
"الضيف" أصله: الميل، يُقال: ضفْتُ إلى كذا، وأضَفْت إلى كذا، وضافَتِ الشمس للغروب، وتضيَّفَت، وضاف السَّهْمُ عن الْهَدف: مال، والضَّيف: مَن مال إليك، وأصل "الضَّيف" مصدر؛ ولِذَلك استوى فيه الواحِدُ والجمع في عامَّة كلامهم، وقد يُجمع فيُقال: أضْيَاف وضيوف وضيفان، وكان ضيفُ إبراهيمَ جَماعةً؛ لأنَّ التحدُّث عنهم بضمير الجماعة: "دخلوا" "منكم" "قالوا" "بشَّروه".
روي عن ابن عباس: أنَّهم كانوا اثْنَي عشر ملكًا، وعن السُّديِّ: أحد عشر، وعن الضَّحاك: تسعة، وعن محمد بن كعب القرظى: ثَمانية، وحكى الماورديُّ: أربعة، وعن مقاتل: جبْريل وميكائيل وإسرافيل، والحقُّ أنَّهم كانوا جميعًا من الملائكة، ولا يُعرَف عدَدُهم إلاَّ بِخَبر صادق من الله ورسوله، وليس هناك خبَرٌ بذلك، فالله أعلم بعِدَّتِهم، ومَن هُمْ.
وقد وصفَهم في سورة الذَّاريات بأنَّهم ﴿ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ﴾ [الذاريات: 24]، فالمُكْرم اسم مفعول من الإكرام؛ أيِ: الذين أُعطوا من الصِّفات، والحسن والجمال، والبهجة وحسن السَّمْت، والْهَيبة والجلال: الغاية، قال الراغب: "الكِرَام" لا يُقال إلاَّ في المَحاسن الكبيرة، وكل شيء شرُف في بابه فهو كريم، قال تعالى: ﴿ أَنْبَتْنَا فيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ [الشعراء: 7]، ويعنِي بذلك: أن تكون صفة الشَّرف والكمال فيه أصليَّة عالية، بيِّنة واضحة، ويدلُّ على كرَمِ هؤلاء الضَّيف من الملائكة، وبلوغهم النِّهاية في الحسن والجمال، والبهجة والوقار: حلو حديثهم أوَّلاً مع إبراهيم، ثُم مسارعة قوم لوط إلى دار لوط حين نزلوا به، كما سيأتي بيانُه - إن شاء الله.
قال أبو حيان: وأضيفوا إلى إبراهيم ﴿ ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ ﴾ وإن لَم يكونوا أضيافًا؛ لأنَّهم في صورة مَن كان يَنْزل به من الأضياف؛ إذْ كان لا يَنْزل به أحدٌ إلاَّ ضافه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يكنى أبا الأضياف، وكان لِقَصْره أربعة أبواب، من كل جهة باب؛ لئلاَّ يفوته واحد.
و﴿ سلامًا ﴾ أصله: من السلم، وهو الأمن العامُّ من كلِّ خوف، قال أبو حيان: وانتصب ﴿ سلامًا ﴾ على إضمار الفعل؛ أيْ: سلَّمْنا عليك سلامًا، فسلامًا: قطعه معمولاً للفعل الْمُضمَر المحكيِّ بـ "قالوا"، قال ابن عطيَّة: ويصحُّ أن يكون ﴿ سلامًا ﴾ حكايةً لِمَعنى ما قالوا، لا حكاية للفظهم، قاله السُّدي ومُجاهد؛ ولذلك عمل فيه القول، كما تقول لرجل قال: "لا إله إلا الله"، قلت: "حقًّا وإخلاصًا"؛ اهـ.
والصواب: قول ابن عطية؛ لأن "سلامًا" لفظ عربي، وهم ما كانوا يتكلَّمون العربية، وإنَّما تكلَّموا بلسان إبراهيم كلامًا يؤدِّي معنى السلام.
وفي سورتَيْ هود والذاريات: ﴿ قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ ﴾ [هود: 69]، ما يدلُّ على المَحْذوف هنا، وأنه ردَّ عليهم التحيَّة، وقال: سلام، فقول إبراهيم: "سلام" خبرُ مبتدأٍ مَحذوف؛ أيْ: أمري، أو أمركم سلامٌ، أو مبتدأٌ مَحذوفُ الخبَر؛ أيْ: عليكم سلام، والجملة مَحكيَّة، وإن كان حُذِف منها أحدُ جزأيها، قال أبو حيَّان: وقرأ الأَخَوان "سِلْمٌ"، والسِّلْم: السَّلام، كحِرْم وحَرام، ومنه قول الشاعر:
مَرَرْنَا فَقُلْنَا إِيهِ سِلْمٌ فَسَلَّمَتْ
كَمَا اكْتَلَّ بِالبَرْقِ الغَمَامُ اللَّوَائِحُ
"اكتلَّ" اتَّخذ كليلاً، قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالسِّلم ضد الحرب، تقول: نحن سِلْم لكم؛ اهـ.
ونصب "سلامًا" يدل على التجدُّد، ورفع "سلامٌ" يدل على الثبوت والاستقرار، وقال الراغب: إنَّما رفع الثاني؛ لأنَّ الرفع في باب الدُّعاء أبلغ، فكأنَّه تحرَّى في باب الأدب المأمور به في قول تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا ﴾ [النساء: 86]، ومن قرأ "سِلْمٌ" فلأنَّ السَّلام لَمَّا كان يقتضي السِّلم، وكان إبراهيم - عليه السَّلام - قد أوجس منهم خيفة، فلمَّا رآهم مسلِّمين تصوَّر مِن تسليمهم أنَّهم قد بذلوا له سِلْمًا، فقال في جوابهم: سِلْم؛ تنبيهًا أنَّ ذلك من جِهَتِي لكم، كما حصل من جهتكم لي؛ اهـ.
و"الوَجِل" الخائف الفَزِع من أمر يترقَّبه وقد ظهرَتْ أماراته، قال في "اللِّسان": الوَجَل الفزَع والخوف، وقال الرَّاغب: الوجَل استشعار الخوف؛ اهـ، وقد فُسِّر وجل إبراهيم هنا كما في سورة الذاريات: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾ [الذريات: 24 - 28]، وفي سورة هود: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 69 - 71].
فكان استنكارُه لَهم ووجَلُه منهم؛ لِمَا ظهر له من حالِهم، وهم في صورة الضَّيف من الإنسان، بعد تقديمه لَهم العجل السَّمين المشويَّ على الحجارة المُحماة، وامتناعِهم من الأكل منه، وأنَّهم لم يمدُّوا أيديهم إليه.
قال أبو حيَّان: قرأ الجمهور: "لا تَوْجَل" مَبْنيًّا للفاعل، وقرأ الحسَنُ: بضمِّ التاء مبنيًّا للمفعول، من الإيـجال، وقُرئ "لا تَأْجَل" بإبدال الواو ألِفًا، كما قالوا: تابة في توبة، وقُرئ "لا تواجل" من واجَلَه، بمعنى أوجَلَه؛ اهـ.
وقال في "لسان العرب":
وفي الحديث "وعَظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وَجِلَت منها القلوب"[1]، ووَجِلَت تَوْجَل، وفي لغة: تَيْجَلُ: ويقال: تاجَلُ، قال سيبويه: وَجِلَ ياجَلُ ويِيجَلُ - بكسر الياء - أبدلوا الواو ألِفًا؛ كراهية الواو مع الياء، وقلَبُوها في "ييجل" ياء؛ لِقُربِها من الياء، وكسروا الياء؛ إشعارًا بوجل، وهو شاذ، وقال الجوهريُّ: في المستقبل منه أربع لغات: يَوْجل، وياجَلُ، ويَيْجَل - بفتح الياء - ويِيجَلُ - بكسر الياء - وكذلك فيما أشبه من باب المثال - يعنِي المُعتلَّ الأول - فمن قال: ياجل، جعل الواو ألِفًا؛ لفتحة ما قبلها، ومن قال: يِيجل - بكسر الياء - فهي على لُغَة بني أسد، فإنَّهم يقولون: أنا إِيـجل، ونحن نِيجل، وأنت تِيجل - كلها بالكَسْر - وهم لا يكسرون الياء في "يَعْلم"؛ لاستثقالِهم الكسر على الياء، وإنَّما يكسرون في "ييجل" لِتَقوى إحدى الياءين بالأخرى، ومن قال: يَيْجَل - بفتْح الياء - بناه على هذه اللُّغة، ولكنَّه فتح الياء، كما فتحوها في "يعلم"؛ اهـ.
و"البشارة" الخبَر الذي يُؤثِّر على النَّفْس، فتنفعل به انفعالاً يظهر أثَرُه على بشرة الوجه، أصله البشر، وهي أعلى جلد الوجه وظاهره، ويُقال: بشر الأديـم يبشُره - بضم الشِّين - بشرًا، وأبشره: قشر بشرته التي ينبت عليها الشَّعر، وأبشرت الأديم فهو مُبْشَر - بضم الميم وسكون الياء وفتح الشين - إذا أظهَرْت بشرتَه التي تلي اللَّحم، فالبِشارة: الخبر السارُّ، الذي تنبسط له بشرة الوجه؛ وذلك أنَّ النفس إذا سُرَّت في دورتِه نشط الدم، فظهر في بشرة الوجه إشراقًا وبَهْجة.
وجملة ﴿ إِنَّا نُبَشِّرُكَ ﴾ تعليل للأمن وعدم الوجل، يعنون: لماذا توجل، وقد جئناك لِنُبشِّرك بغلام عليم؟ وقد جرَتِ العادة: بأنَّ كلَّ مَن يجيء لخبر سارٍّ وأمر مَحْبوب، لا يكون في مظهره ما يستوجب الخوف والوجَل منه.
و"الغلام" الذَّكَر مِن حين يُولَد، ثم يكون صبيًّا، ثم شابًّا، ثم كهلاً، ثم شيخًا، ويُجمَع "غلام" على: أغلمة، وغلمة، وغلمان.
و"العليم" فعيل من أبنية المبالغة: كثير العلم، ولا يكون ذلك إلاَّ بعد التعلُّم وطول الممارسة، حتَّى يبلغ أن يكون عليمًا، قال ابن جِني: لَمَّا كان العلم يكون الوصف به بعد طول المُزاولة والملابسة، صار كأنَّه غريزة، ولم يكن على أوَّل دخول فيه، ولو كان كذلك، لكان متعلِّمًا لا عالِمًا، فلمَّا خرج بالغريزة إلى باب "فَعُل" بضم العين، صار عالِمٌ في المعنى كعليم، فكُسِّر تكسيرَه اهـ.
والغلام العليم المبشَّر به: هو إسحاق - عليه السَّلام - وقد وصفه الله بذلك في سورة الذاريات: ﴿ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾ [الذريات: 28]؛ وذلك بشارة من الله سبحانه بأنَّ إسحاق سيطول عمرُه، ويُعلِّمه الله من علوم الحقِّ والْهُدى والإيمان ما يكون به عليمًا، كما قال تعالى في بشارة زكريا بيحيَى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 39]، وفي بشارة مريم بعيسى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45] و﴿ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ﴾ [مريم: 19]؛ أيْ: سيعيش ويكون كذلك.
وكانت البشارة بإسحاق بعد أن وهَبَ الله لإبراهيم إسماعيل، الذي وصفه بأنه "حليم"، وكانت مكافأةً ومُجازاة من الله الكريم لإِبْراهيم المُحْسن على إحسانه وصَبْره، حين أمره الله في الرُّؤيا بذبح ولدِه إسماعيل، فصَدَّق الرُّؤيا، وسارع هو وابنه إسماعيل إلى تنفيذ أمر ربِّه، قال الله تعالى: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ في الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ [الصافات: 100 - 113].
﴿ قَالَ ﴾ إبراهيمُ مُجيبًا لرسل ربِّه حين بشَّروه هذه البشرى الكريمة: ﴿ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ [الحجر: 54]؛ يَسْتكثر على نفسه، ويعجب أشدَّ العجب أن يكون الولد من مثله، وقد بلغ به السنُّ هذا المبلغ، الذي يصِفُه بأنه قد مسَّه الكبر بآثاره اللازمة؛ مِن وَهْن العظم، وضعْف القُوى، ويبس الأعضاء، وما يستتبع ذلك ويُلازمه من العلل والأمراض المُحطِّمة، وأكَّد هذا الاستبعاد والتعجُّب، بقوله: ﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ [الحجر: 54]، كأنه يقول: فبأيِّ أُعْجوبة تبشِّروني؟ وعلى أيِّ وجه يكون لي هذا الغلام مع هذا الكِبَر؟ أبِأن أرجع إلى الشباب، أو تكون المعجزة، فيُولَد لي مع هذا الكبر؟ إن رَبِّي على كل شيء قدير.
أو أنه - صلى الله عليه وسلم - قد استطاب البشارة، وطار بِها سرورًا وفرحًا، وحين أخذَتْه نشوة السُّرور سألَهم؛ يريد تأكيد البشارة وتثبيتَها والتعجيل بتحقيقها، ولكن هذا بعد قولِهم في جوابه: ﴿ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ﴾ [الحجر: 55]، فإنَّ هذا يُشير إلى أنَّه كان بِحاجة إلى زيادة تأكيد تُطَمئن قلبه بتحقيق البشارة، كما حكى الله سبحانه عَنْه في سورة البقرة: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]؛ فإن وصف البشارة بأنَّها الحقُّ من ربِّه، إنَّما يُراد به هذا الذي يطلبه إبراهيم؛ ليطمئنَّ قلْبُه، وكذلك قولهم له: ﴿ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ﴾ [الحجر: 55] يدلُّ على هذا.
ولقد كان إبراهيمُ - عليه السَّلام - شديدَ الرَّغبة أن يكون له ولَدٌ من سارة؛ لِمَكانتها في نفسه بِمُسارعتها إلى الإيمان به، دون أبيه وأهله والناس، ثم هِجْرتِها معه، ورِضاها بِمُفارقة الأهل والوطنِ في مرضاة الله ومرضاة رسوله، ثم ما امتُحِنَت هي وهو به من غَيْرتِها من إسماعيل وأُمِّه، مِمَّا جعله الله سببًا كريـمًا لعِمارة الكعبة البيت الحرام، وجَعْله مثابةً للناس وأمْنًا، وقيامًا للناس، ومبارَكًا وهدًى للعالَمين، كل ذلك وغيره جعَلَ إبراهيم يلحُّ على ربِّه أن يرزقه منها ولدًا يرث رسالة إبراهيم وعِلْمَه وهُداه في بلاد الشام، والنَّاس هُناك بحاجة ماسَّة إليه، كما أنَّ إسماعيل يقوم بِهذا العلم والهدى والتوحيد والإيمان في مكَّة البلد الحرام، وكلما كانت الرغبة في الأمر أشدَّ، وتعلُّق القلب به أوثق، احتاج الإنسان إلى كَثْرة الأدلة والآيات على تحققه؛ ليهدأ قلبه القلِق، وتطمئِنَّ نفسُه المتلهِّفة، وهذه طبيعة الإنسان التي يحسُّها كلُّ واحد في نفسه، وخصوصًا مع تلك العوامل النَّفسية التي كانت تجول في نفس إبراهيم، كلما تقدَّمَت به السِّنُّ، ومسَّه مِن نصَبِ الكِبْر وإعيائه، ووَهْنِه وضعفه، ما يدلُّ عليه قولُه المُشعِر بغاية الضراعة: ﴿ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ [الحجر: 54].
ولذلك فإنَّه حين أجابه رسلُ ربِّه بهذا الجواب، الذي أَرْسى قلبَه على شاطئ الاطمئنان والْهُدوء، عاد إليه سريعًا ثَباتُه، ويقينه بِرَحْمة ربِّه، وواسع فضْلِه، ﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56]، لسْتُ - بِحَمد الله وحُسْن هدايته وتوفيقِه - من الذين عَمُوا عن آيات الله وحكمته ورَحْمته، فسلكوا بِعَماهم طريق الْهَلع والجزع، وذهبوا يخبطون في ظلمات الضَّلال والحيرة، لا تَهْدأ نفوسهم، ولا تطمئنُّ قلوبهم، فهم في شقاء دائم، ونكد مستمر؛ لأنَّ سُنَن الله ورحْمَتَه ليست تحت أمرهم، ولا طوع إرادتهم؛ وإنَّما تجري بالحكمة البالغة، وتسلك الصراط المستقيم في كل الشُّؤون، فلا تكون إلاَّ بالحقِّ والخير، والمصلحةِ الَّتي يَعْلمها ربُّنا اللطيف الخبير، إنه بعباده خبير بصير، وإنِّي على ذلك لصابر شاكر، وإنَّ رحْمَة ربِّي قريبٌ من المُحسنين، وإنَّ ربنا سبحانه لَيُؤتينا من هذه القصصِ العِبْرةَ الصَّادقة، ويؤدِّبنا بذلك الأدب العالي الذي به نَسْعد، ونَحيا الحياة الطيبة: ﴿ لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111].
نعم، فكثيرًا مَا تتعلَّق نفس الإنسان بالشَّيء، يعتقد أنَّ فيه له الْخَير كلَّ الخير، والمصلحةَ كل المصلحة، ولا يزال ينمو هذا الاعتقاد، ويزداد هذا التعلُّق، ويشتدُّ الحرص عليه، والرغبة فيه، حتَّى يكون شغله الشاغل له عن كلِّ شيء، حتَّى لعله يشغله عن كثير مِن مصالحه الحاضرة، فيضيعها بما غلَبه من التفكير في هذا الأمر المرتقب، والشيطان من ورائه جالسٌ يتحيَّن منه الفُرَص، ويتربَّص به الدوائر، ويتسقَّط منه الزلاَّت وثغرات الضَّعف، فما يزال يُغْريه ويَدْفعه، ويُزيِّن له ويوسوس، حتَّى يوقِعَه في إساءة الظنِّ بربِّه، واليأس والقنوط من رحمة الله وقدرتِه، فيكون من الهالكين، فارجع إلى نفسك واستعرض شُؤونَك وحاجتك، وما تَعْلق به نفسك من عافية من مرض، أو غنًى من فقر، أو زوجة تلمُّ شَعثَك، أو ولدٍ يكون قرَّة لعينك، أو مركز في المُجتمع مادِّي أو معنوي، أو غير ذلك مِمَّا ستَجِد منه كثيرًا جدًّا تضرب به نفْسَك، ويتعلَّق به قلْبُك، وأنت عجولٌ، هَلُوع جزوع، تَخْدع نفسك بأنَّك العليم بِمَصلحتك، الخبير بما ينفعك، القدير على جلْبِ الخير لك، الفطِنُ الخبير بمداخل السبيل إلى ما تحبُّ ومَخارجه، غافلاً عن حكمة العليم الحكيم، متناسيًا حُسْنَ تدبير القويِّ العزيز اللطيف الخبير، متجاهِلاً سنن الله التي لا تتبدَّل، فتذهب ظَلومًا جهولاً مندفِعًا مع هواك وظلمك وجهلك، وتَجْري مع أمانيك ورغباتك في عجزك الطبيعيِّ وضعفك، والأمر يَجْري بِحِكمة الله وسُنَّتِه على غير ما تتمنَّى: ﴿ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى ﴾ [النجم: 25] ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21]، فهو يجري بقدر موزون، وفي وقت معلوم، بما يُدبِّره اللطيف الخبير، فيُلقي الشيطانُ في أمنيتك ما يُلقي من الاستبطاء، ثُمَّ من إهْمال الله لك من شغله عنك بغيرك مَن تراهم قد أوتوا ما لم تُؤْت، ثم لا يزال يتمادى بك الأمرُ في الهلع والجزع وإساءة الظنِّ، حتَّى يكون الهلاك والشَّقاء بأنواع الحقد والحسد، والتسخُّط على الله وعلى حكمته ورحمته، والاحتقار لنِعَمِه وفضله، ثم التَّرامي في أحضان الشِّرك والوثنيَّة بالذُّل والاستخذاء والعبادة للإنسان حيًّا وميتًا، تخصُّه بالرجاء والخوف، والمسارعة إلى ما تعتقده يرضيه أو يحبُّه، ولو كان فيه لك الْمَتالف.
فشفاؤك الذي لا شِفاء لك غيره من كلِّ هذا الدَّاء العضال أن تجعل دائمًا نُصْبَ عينك العبرةَ بسيرة خيرة الله وصفوته من خلقه، وأحبِّهم إليه وأعلاهم عنده مَنْزلة: أولئك المُصْطفَوْن الأخيار من أنبيائه ورسُلِه - عليهم السَّلام -: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، وبالأخَصِّ هو إمامهم وخاتَمُهم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الذي نصَحَك أصدق نصيحة فيما روى البخاريُّ وغيره عن جابر: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّمنا الاستخارة في الأمر كلِّه: ((اللَّهم إنِّي أستخيرُك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألُك مِن فضلك العظيم؛ فإنَّك تَقْدر ولا أقدر، وتعلم ولا أَعْلم، وأنت علاَّم الغيوب...))؛ الحديث[2]، إنْ هُدِيت لذلك سعِدْتَ كلَّ السعادة، وأفلحت كلَّ الفلاح، ورُزِقت بأطيب عيشٍ وأهنَئه في الدُّنيا، وأنعَمِ عيش وأرضاه في جنات النعيم، وفَّقنِي الله وإيَّاك لذلك بِمَنِّه وكرمه، وفضله ورحمته.
وأنقل لك هنا كلمةً لابن القيِّم - رَحِمه الله - في تفسير هذا القصص من سورة الذَّاريات في كتاب "جلاء الأفهام في الصَّلاة على خير الأنام"، قال - رَحِمه الله -:
والمقصود: أنَّ إبراهيم - عليه السَّلام - هو أبونا الثَّالث، وهو إمامُ الْحُنفاء، ويُسَمِّيه أهلُ الكتاب: عمودَ العالَم، وجَميع أهل الْمِلَل متَّفِقة على تعظيمه وتولِّيه ومَحبَّته، وكان خيْرُ بنيه سيِّدُ ولَدِ آدم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يجلُّه ويعظِّمه، ويبجِّلُه ويَحترمه، ففي "الصَّحيحين" من حديث المختار بن فُلْفُلٍ عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال: جاء رجلٌ إلى النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا خَيْر البريَّة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ذاك إبراهيم - عليه السَّلام -))[3]، وسمَّاه شيخَه، فإنَّه حين دخل الكعبة لِيُطهِّرها مِمَّا كان المشركون وضعوه فيها من الأوثان، وجد صورة إبرهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فقال: ((قاتلهم الله، لقد عَلِموا أنَّ شيخنا لم يكن يستقسم بالأزلام))[4].
وثبت في "صحيح البخاري" من حديث سعيد بن جُبَير عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّكم مَحْشورون حُفاة عراة غرلاً))، ثم قرأ: ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 104] ((وأوَّل من يُكْسَى يوم القيامة إبراهيم))[5].
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشْبَه الخلق به، كما في "الصحيحين" عنه أنَّه قال: ((رأيتُ إبراهيم، فإذا أقْرَبُ الناس شَبهًا به صاحِبُكم))؛ يعني نفْسَه - صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ آخَر: ((فانظروا إلى صاحبِكم))[6].
وكان - صلى الله عليه وسلم - يُعوِّذ أولادَ ابنتِه الحسَن والْحُسين بتعويذ إبراهيم لإِسْماعيل وإسحاق، ففي "صحيح البخاري" عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعوِّذ الحسن والحسين، ويقول: ((إنَّ أباكُما كان يعوِّذ بِها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامَّة، من كل شيطان وهامَّة، ومن كل عينٍ لامَّة))[7].
وكان - صلى الله عليه وسلم - أوَّل من قرى الضيف، وأوَّل من اختتَنَ، وأوَّل من رأى الشيب فقال: "ما هذا يا رب؟ قال: وقارٌ، وقال: "ربِّ زدْنِي وقارًا"[8].
وتأمَّل ثناء الله سبحانه عليه في إكرامه ضيفَه الملائكةَ، حيث يقول سبحانه: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا * قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ﴾ [الذريات: 24 - 27]، ففي هذا ثناء على إبراهيم من وجوه متعدِّدة:
أحدها: أنه وصف ضيفه بأنَّهم مُكْرَمون، وهذا على أحد القولين: أنَّه إكرامُ إبراهيم لهم، أنَّهم مُكْرَمون عند لله، ولا تنافِيَ بين القولين؛ فالآية تدلُّ على المعنيين.
الثاني: قوله تعالى: ﴿ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ﴾، فلم يَذْكر استِئْذانَهم، ففي هذا دليلٌ على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد عُرِفَ بإكرام الضِّيفان واعتياد قِرَاهم، فبقي مَنْزِلُه مضيفة مطروقًا لِمَن وردَه، لا يحتاج إلى الاستئذان، بل استئذان الدَّاخل دخولُه، وهذا غاية ما يكون من الكَرَم.
الثالث: قوله: ﴿ سَلامٌ ﴾ بالرفع، وهم سلَّموا عليه بالنَّصْب، والسَّلام بالرَّفع أكْمَل؛ فإنَّه يدلُّ على الجملة الاسْميَّة الدالَّة على الثُّبوت والتجدُّد، والمنصوب يدلُّ على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد، فإبراهيم حيَّاهم بتحيَّةٍ أحسن من تحيَّتهم، فإنَّ قولَهم: ﴿ سَلاَمًا ﴾ يدلُّ على أنهم سلَّموا سلامًا، وقوله: ﴿ سَلاَمٌ ﴾؛ أيْ: سلامٌ عليكم.
الرابع: أنه حذف المبتدأ من قوله: ﴿ قومٌ منكَرون ﴾، فإنه لَمَّا أنكرَهم، ولَم يعرِفْهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفر الضَّيف لو قال: أنتم قوم منكَرون، فحَذْفُ المبتدأ هنا مِن ألطَفِ الكلام.
الخامس: أنه بنَى الفعل للمفعول، وحذف فاعِلَه، فقال: "منكَرون"، ولم يقل: إنِّي أُنْكِركم، وهو أحسن في هذا الْمَقام وأبعد من التنفير، والمواجهةِ بالخشونة.
السادس: أنه راغ إلى أهله لِيَجيئهم بِنُزُلِهم، والرَّوَغان هو الذَّهاب في اختفاء، بحيث لا يكاد يُشْعَر به، وهذا من كرم ربِّ المَنْزل المُضيف؛ أن يَذْهب في اختفاء بحيث لا يَشْعر به الضَّيفُ فيشق عليه ويستَحِي، فلا يشعر به إلاَّ وقد جاءه بالطَّعام، بِخِلاف مَن يسمع ضيفه، ويقول له أو لِمَن حضر: مكانَكم حتَّى آتِيَكم بالطَّعام، ونحو ذلك مِمَّا يوجب حياء الضَّيف واحتشامه.
السابع: أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضِّيافة، فدلَّ على أنَّ ذلك كان مُعدًّا عندهم، مُهيَّئًا للضِّيفان، ولم يَحْتج أن يذهب إلى غيرهم مِن جيرانه أو غيرهم، فيشتَرِيه أو يستقرضه.
الثامن قوله: ﴿ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴾ دلَّ على خدمته للضَّيف بنفسه، ولم يَقُل: فأَمَر لَهم، بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه، ولَم يبعَثْه مع خادمه، وهذا أبلغ في إكرام الضيف.
التاسع: أنه جاء بعجْل كامل، ولَم يأتِ ببضعة منه، وهذا من تَمام كرمه - صلَّى الله عليه وسلَّم.
العاشر: أنه سمين لا هزيل، ومعلوم أنَّ ذلك من أفْخَر أموالِهم، ومِثْلُه يُتَّخَذ للاقتناء والتربية، فآثر به ضيفانه.
الحادي عشر: أنه قرَّبَه إليهم بنفسه، ولَم يأمر خادمه بذلك.
الثاني عشر: أنه قرَّبه إليهم ولم يُقرِّبْهم إليه، وهذا أبْلَغُ في الكرامة؛ أن تُجْلِس الضَّيف، ثُمَّ تقرِّب الطعام إلى حضرته، ولا تضع الطعام في ناحية ثُم تأمر ضيفك بأن يتقرَّب إليه.
الثالث عشر: أنه قال: ﴿ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴾، وهذا عرْض وتلطُّف في القول، وهو أحسن من قوله: كُلوا، أو مدُّوا أيدِيَكم ونَحْوهما، وهذا مِمَّا يَعلم الناس بعقولِهم حُسْنَه ولطفه؛ ولِهَذا يقولون: بسم الله، أو ألاَ تتصدَّق، أو ألا تَجْبر، ونحو ذلك.
الرابع عشر: أنه إنَّما عرَضَ عليهم الأكل؛ لأنَّه رآهم لا يأكلون، ولم يكن ضيوفُه يَحْتاجون معه إلى الإذن في الأكل، بل كان إذا قَدَّم إليهم الطَّعام أكَلُوا، وهؤلاء الضُّيوف لَمَّا امتنعوا من الأكل قال لَهم: ألاَ تأكلون؛ ولِهَذا أوجس منهم خيفة؛ أيْ: أحسَّها وأضمَرَها في نفسه، ولَم يُبْدِها لَهم، وهو الوجه.
الخامس عشر: فإنَّهم لَمَّا امتنعوا من الأكل لطعامه، خاف منهم ولم يُظْهِر لَهم، فلمَّا عَلِم الملائكة منه ذلك قالوا: لا تخف، وبشَّروه بالغلام.
فقد جَمَعت هذه الآيةُ آدابَ الضِّيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلُّفات التي هي تخلُّف وتكلُّف إنَّما هي من أوضاع الناس وعوائدهم، وكفى بِهَذه الآداب شرفًا وفخرًا.
فصلَّى الله وسلم على نبيِّنا وعلى إبراهيم وعلى آلِهِما وسائر النبيِّين"[9] [10].
[1] صحيح: أخرجه أبو داود برقم [4607] وصحَّحه الألبانِيُّ.
[2] أخرجه البخاري برقم [1109].
[3] أخرجه مسلم برقم [2369].
[4] صحيح: أخرجه أحمد برقم [2508] من حديث ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل البيت وجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم، فقال: ((أمَّا هم فقد سَمِعوا، إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة، هذا إبراهيم مصوَّرًا، فما باله يستقسم؟)) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه ابن حبان في صحيحه برقم [5858]، وصحَّحه الأرناؤوط.
[5] أخرجه البخاري برقم [1371].
[6] أخرجه البخاري برقم [3254]، ومسلم برقم [172].
[7] أخرجه البخاري برقم [3191].
[8] لا أصل له: أخرجه الخطيب في "الجامع" عن أنس وفيه عبدالرحمن بن حبيب عن بقيَّة، قال في "الميزان" عن يحيى: ليس بشيء، وعن ابن حبان: لعلَّه وضع أكثر من خَمْسمائة حديث، ثم أورد له هذا الخبر ثم قال: قال ابن حبَّان: لا أصل له، ثم أعاده في ترجمة يعقوب بن إسحاق الواسطي، وقال: إنَّه هو المتَّهَم بوضْع هذا، وحكاه عنه المؤلِّفُ في "مختصر الموضوعات" وأقرَّه؛ "فيض القدير"، ج2 ص529.
[9] انتهى النَّقل من كتاب "جلاء الأفهام"، لابن القيِّم، ص271.
[10] "مجلة الهَدْي النبوي"، شوال (1368) العدد العاشر.
قول الله - تعالى ذِكْره -: ﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 51 - 60].
"الضيف" أصله: الميل، يُقال: ضفْتُ إلى كذا، وأضَفْت إلى كذا، وضافَتِ الشمس للغروب، وتضيَّفَت، وضاف السَّهْمُ عن الْهَدف: مال، والضَّيف: مَن مال إليك، وأصل "الضَّيف" مصدر؛ ولِذَلك استوى فيه الواحِدُ والجمع في عامَّة كلامهم، وقد يُجمع فيُقال: أضْيَاف وضيوف وضيفان، وكان ضيفُ إبراهيمَ جَماعةً؛ لأنَّ التحدُّث عنهم بضمير الجماعة: "دخلوا" "منكم" "قالوا" "بشَّروه".
روي عن ابن عباس: أنَّهم كانوا اثْنَي عشر ملكًا، وعن السُّديِّ: أحد عشر، وعن الضَّحاك: تسعة، وعن محمد بن كعب القرظى: ثَمانية، وحكى الماورديُّ: أربعة، وعن مقاتل: جبْريل وميكائيل وإسرافيل، والحقُّ أنَّهم كانوا جميعًا من الملائكة، ولا يُعرَف عدَدُهم إلاَّ بِخَبر صادق من الله ورسوله، وليس هناك خبَرٌ بذلك، فالله أعلم بعِدَّتِهم، ومَن هُمْ.
وقد وصفَهم في سورة الذَّاريات بأنَّهم ﴿ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ﴾ [الذاريات: 24]، فالمُكْرم اسم مفعول من الإكرام؛ أيِ: الذين أُعطوا من الصِّفات، والحسن والجمال، والبهجة وحسن السَّمْت، والْهَيبة والجلال: الغاية، قال الراغب: "الكِرَام" لا يُقال إلاَّ في المَحاسن الكبيرة، وكل شيء شرُف في بابه فهو كريم، قال تعالى: ﴿ أَنْبَتْنَا فيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ [الشعراء: 7]، ويعنِي بذلك: أن تكون صفة الشَّرف والكمال فيه أصليَّة عالية، بيِّنة واضحة، ويدلُّ على كرَمِ هؤلاء الضَّيف من الملائكة، وبلوغهم النِّهاية في الحسن والجمال، والبهجة والوقار: حلو حديثهم أوَّلاً مع إبراهيم، ثُم مسارعة قوم لوط إلى دار لوط حين نزلوا به، كما سيأتي بيانُه - إن شاء الله.
قال أبو حيان: وأضيفوا إلى إبراهيم ﴿ ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ ﴾ وإن لَم يكونوا أضيافًا؛ لأنَّهم في صورة مَن كان يَنْزل به من الأضياف؛ إذْ كان لا يَنْزل به أحدٌ إلاَّ ضافه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يكنى أبا الأضياف، وكان لِقَصْره أربعة أبواب، من كل جهة باب؛ لئلاَّ يفوته واحد.
و﴿ سلامًا ﴾ أصله: من السلم، وهو الأمن العامُّ من كلِّ خوف، قال أبو حيان: وانتصب ﴿ سلامًا ﴾ على إضمار الفعل؛ أيْ: سلَّمْنا عليك سلامًا، فسلامًا: قطعه معمولاً للفعل الْمُضمَر المحكيِّ بـ "قالوا"، قال ابن عطيَّة: ويصحُّ أن يكون ﴿ سلامًا ﴾ حكايةً لِمَعنى ما قالوا، لا حكاية للفظهم، قاله السُّدي ومُجاهد؛ ولذلك عمل فيه القول، كما تقول لرجل قال: "لا إله إلا الله"، قلت: "حقًّا وإخلاصًا"؛ اهـ.
والصواب: قول ابن عطية؛ لأن "سلامًا" لفظ عربي، وهم ما كانوا يتكلَّمون العربية، وإنَّما تكلَّموا بلسان إبراهيم كلامًا يؤدِّي معنى السلام.
وفي سورتَيْ هود والذاريات: ﴿ قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ ﴾ [هود: 69]، ما يدلُّ على المَحْذوف هنا، وأنه ردَّ عليهم التحيَّة، وقال: سلام، فقول إبراهيم: "سلام" خبرُ مبتدأٍ مَحذوف؛ أيْ: أمري، أو أمركم سلامٌ، أو مبتدأٌ مَحذوفُ الخبَر؛ أيْ: عليكم سلام، والجملة مَحكيَّة، وإن كان حُذِف منها أحدُ جزأيها، قال أبو حيَّان: وقرأ الأَخَوان "سِلْمٌ"، والسِّلْم: السَّلام، كحِرْم وحَرام، ومنه قول الشاعر:
مَرَرْنَا فَقُلْنَا إِيهِ سِلْمٌ فَسَلَّمَتْ
كَمَا اكْتَلَّ بِالبَرْقِ الغَمَامُ اللَّوَائِحُ
"اكتلَّ" اتَّخذ كليلاً، قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالسِّلم ضد الحرب، تقول: نحن سِلْم لكم؛ اهـ.
ونصب "سلامًا" يدل على التجدُّد، ورفع "سلامٌ" يدل على الثبوت والاستقرار، وقال الراغب: إنَّما رفع الثاني؛ لأنَّ الرفع في باب الدُّعاء أبلغ، فكأنَّه تحرَّى في باب الأدب المأمور به في قول تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا ﴾ [النساء: 86]، ومن قرأ "سِلْمٌ" فلأنَّ السَّلام لَمَّا كان يقتضي السِّلم، وكان إبراهيم - عليه السَّلام - قد أوجس منهم خيفة، فلمَّا رآهم مسلِّمين تصوَّر مِن تسليمهم أنَّهم قد بذلوا له سِلْمًا، فقال في جوابهم: سِلْم؛ تنبيهًا أنَّ ذلك من جِهَتِي لكم، كما حصل من جهتكم لي؛ اهـ.
و"الوَجِل" الخائف الفَزِع من أمر يترقَّبه وقد ظهرَتْ أماراته، قال في "اللِّسان": الوَجَل الفزَع والخوف، وقال الرَّاغب: الوجَل استشعار الخوف؛ اهـ، وقد فُسِّر وجل إبراهيم هنا كما في سورة الذاريات: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾ [الذريات: 24 - 28]، وفي سورة هود: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 69 - 71].
فكان استنكارُه لَهم ووجَلُه منهم؛ لِمَا ظهر له من حالِهم، وهم في صورة الضَّيف من الإنسان، بعد تقديمه لَهم العجل السَّمين المشويَّ على الحجارة المُحماة، وامتناعِهم من الأكل منه، وأنَّهم لم يمدُّوا أيديهم إليه.
قال أبو حيَّان: قرأ الجمهور: "لا تَوْجَل" مَبْنيًّا للفاعل، وقرأ الحسَنُ: بضمِّ التاء مبنيًّا للمفعول، من الإيـجال، وقُرئ "لا تَأْجَل" بإبدال الواو ألِفًا، كما قالوا: تابة في توبة، وقُرئ "لا تواجل" من واجَلَه، بمعنى أوجَلَه؛ اهـ.
وقال في "لسان العرب":
وفي الحديث "وعَظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وَجِلَت منها القلوب"[1]، ووَجِلَت تَوْجَل، وفي لغة: تَيْجَلُ: ويقال: تاجَلُ، قال سيبويه: وَجِلَ ياجَلُ ويِيجَلُ - بكسر الياء - أبدلوا الواو ألِفًا؛ كراهية الواو مع الياء، وقلَبُوها في "ييجل" ياء؛ لِقُربِها من الياء، وكسروا الياء؛ إشعارًا بوجل، وهو شاذ، وقال الجوهريُّ: في المستقبل منه أربع لغات: يَوْجل، وياجَلُ، ويَيْجَل - بفتح الياء - ويِيجَلُ - بكسر الياء - وكذلك فيما أشبه من باب المثال - يعنِي المُعتلَّ الأول - فمن قال: ياجل، جعل الواو ألِفًا؛ لفتحة ما قبلها، ومن قال: يِيجل - بكسر الياء - فهي على لُغَة بني أسد، فإنَّهم يقولون: أنا إِيـجل، ونحن نِيجل، وأنت تِيجل - كلها بالكَسْر - وهم لا يكسرون الياء في "يَعْلم"؛ لاستثقالِهم الكسر على الياء، وإنَّما يكسرون في "ييجل" لِتَقوى إحدى الياءين بالأخرى، ومن قال: يَيْجَل - بفتْح الياء - بناه على هذه اللُّغة، ولكنَّه فتح الياء، كما فتحوها في "يعلم"؛ اهـ.
و"البشارة" الخبَر الذي يُؤثِّر على النَّفْس، فتنفعل به انفعالاً يظهر أثَرُه على بشرة الوجه، أصله البشر، وهي أعلى جلد الوجه وظاهره، ويُقال: بشر الأديـم يبشُره - بضم الشِّين - بشرًا، وأبشره: قشر بشرته التي ينبت عليها الشَّعر، وأبشرت الأديم فهو مُبْشَر - بضم الميم وسكون الياء وفتح الشين - إذا أظهَرْت بشرتَه التي تلي اللَّحم، فالبِشارة: الخبر السارُّ، الذي تنبسط له بشرة الوجه؛ وذلك أنَّ النفس إذا سُرَّت في دورتِه نشط الدم، فظهر في بشرة الوجه إشراقًا وبَهْجة.
وجملة ﴿ إِنَّا نُبَشِّرُكَ ﴾ تعليل للأمن وعدم الوجل، يعنون: لماذا توجل، وقد جئناك لِنُبشِّرك بغلام عليم؟ وقد جرَتِ العادة: بأنَّ كلَّ مَن يجيء لخبر سارٍّ وأمر مَحْبوب، لا يكون في مظهره ما يستوجب الخوف والوجَل منه.
و"الغلام" الذَّكَر مِن حين يُولَد، ثم يكون صبيًّا، ثم شابًّا، ثم كهلاً، ثم شيخًا، ويُجمَع "غلام" على: أغلمة، وغلمة، وغلمان.
و"العليم" فعيل من أبنية المبالغة: كثير العلم، ولا يكون ذلك إلاَّ بعد التعلُّم وطول الممارسة، حتَّى يبلغ أن يكون عليمًا، قال ابن جِني: لَمَّا كان العلم يكون الوصف به بعد طول المُزاولة والملابسة، صار كأنَّه غريزة، ولم يكن على أوَّل دخول فيه، ولو كان كذلك، لكان متعلِّمًا لا عالِمًا، فلمَّا خرج بالغريزة إلى باب "فَعُل" بضم العين، صار عالِمٌ في المعنى كعليم، فكُسِّر تكسيرَه اهـ.
والغلام العليم المبشَّر به: هو إسحاق - عليه السَّلام - وقد وصفه الله بذلك في سورة الذاريات: ﴿ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾ [الذريات: 28]؛ وذلك بشارة من الله سبحانه بأنَّ إسحاق سيطول عمرُه، ويُعلِّمه الله من علوم الحقِّ والْهُدى والإيمان ما يكون به عليمًا، كما قال تعالى في بشارة زكريا بيحيَى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 39]، وفي بشارة مريم بعيسى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45] و﴿ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ﴾ [مريم: 19]؛ أيْ: سيعيش ويكون كذلك.
وكانت البشارة بإسحاق بعد أن وهَبَ الله لإبراهيم إسماعيل، الذي وصفه بأنه "حليم"، وكانت مكافأةً ومُجازاة من الله الكريم لإِبْراهيم المُحْسن على إحسانه وصَبْره، حين أمره الله في الرُّؤيا بذبح ولدِه إسماعيل، فصَدَّق الرُّؤيا، وسارع هو وابنه إسماعيل إلى تنفيذ أمر ربِّه، قال الله تعالى: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ في الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ [الصافات: 100 - 113].
﴿ قَالَ ﴾ إبراهيمُ مُجيبًا لرسل ربِّه حين بشَّروه هذه البشرى الكريمة: ﴿ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ [الحجر: 54]؛ يَسْتكثر على نفسه، ويعجب أشدَّ العجب أن يكون الولد من مثله، وقد بلغ به السنُّ هذا المبلغ، الذي يصِفُه بأنه قد مسَّه الكبر بآثاره اللازمة؛ مِن وَهْن العظم، وضعْف القُوى، ويبس الأعضاء، وما يستتبع ذلك ويُلازمه من العلل والأمراض المُحطِّمة، وأكَّد هذا الاستبعاد والتعجُّب، بقوله: ﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ [الحجر: 54]، كأنه يقول: فبأيِّ أُعْجوبة تبشِّروني؟ وعلى أيِّ وجه يكون لي هذا الغلام مع هذا الكِبَر؟ أبِأن أرجع إلى الشباب، أو تكون المعجزة، فيُولَد لي مع هذا الكبر؟ إن رَبِّي على كل شيء قدير.
أو أنه - صلى الله عليه وسلم - قد استطاب البشارة، وطار بِها سرورًا وفرحًا، وحين أخذَتْه نشوة السُّرور سألَهم؛ يريد تأكيد البشارة وتثبيتَها والتعجيل بتحقيقها، ولكن هذا بعد قولِهم في جوابه: ﴿ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ﴾ [الحجر: 55]، فإنَّ هذا يُشير إلى أنَّه كان بِحاجة إلى زيادة تأكيد تُطَمئن قلبه بتحقيق البشارة، كما حكى الله سبحانه عَنْه في سورة البقرة: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]؛ فإن وصف البشارة بأنَّها الحقُّ من ربِّه، إنَّما يُراد به هذا الذي يطلبه إبراهيم؛ ليطمئنَّ قلْبُه، وكذلك قولهم له: ﴿ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ﴾ [الحجر: 55] يدلُّ على هذا.
ولقد كان إبراهيمُ - عليه السَّلام - شديدَ الرَّغبة أن يكون له ولَدٌ من سارة؛ لِمَكانتها في نفسه بِمُسارعتها إلى الإيمان به، دون أبيه وأهله والناس، ثم هِجْرتِها معه، ورِضاها بِمُفارقة الأهل والوطنِ في مرضاة الله ومرضاة رسوله، ثم ما امتُحِنَت هي وهو به من غَيْرتِها من إسماعيل وأُمِّه، مِمَّا جعله الله سببًا كريـمًا لعِمارة الكعبة البيت الحرام، وجَعْله مثابةً للناس وأمْنًا، وقيامًا للناس، ومبارَكًا وهدًى للعالَمين، كل ذلك وغيره جعَلَ إبراهيم يلحُّ على ربِّه أن يرزقه منها ولدًا يرث رسالة إبراهيم وعِلْمَه وهُداه في بلاد الشام، والنَّاس هُناك بحاجة ماسَّة إليه، كما أنَّ إسماعيل يقوم بِهذا العلم والهدى والتوحيد والإيمان في مكَّة البلد الحرام، وكلما كانت الرغبة في الأمر أشدَّ، وتعلُّق القلب به أوثق، احتاج الإنسان إلى كَثْرة الأدلة والآيات على تحققه؛ ليهدأ قلبه القلِق، وتطمئِنَّ نفسُه المتلهِّفة، وهذه طبيعة الإنسان التي يحسُّها كلُّ واحد في نفسه، وخصوصًا مع تلك العوامل النَّفسية التي كانت تجول في نفس إبراهيم، كلما تقدَّمَت به السِّنُّ، ومسَّه مِن نصَبِ الكِبْر وإعيائه، ووَهْنِه وضعفه، ما يدلُّ عليه قولُه المُشعِر بغاية الضراعة: ﴿ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ [الحجر: 54].
ولذلك فإنَّه حين أجابه رسلُ ربِّه بهذا الجواب، الذي أَرْسى قلبَه على شاطئ الاطمئنان والْهُدوء، عاد إليه سريعًا ثَباتُه، ويقينه بِرَحْمة ربِّه، وواسع فضْلِه، ﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56]، لسْتُ - بِحَمد الله وحُسْن هدايته وتوفيقِه - من الذين عَمُوا عن آيات الله وحكمته ورَحْمته، فسلكوا بِعَماهم طريق الْهَلع والجزع، وذهبوا يخبطون في ظلمات الضَّلال والحيرة، لا تَهْدأ نفوسهم، ولا تطمئنُّ قلوبهم، فهم في شقاء دائم، ونكد مستمر؛ لأنَّ سُنَن الله ورحْمَتَه ليست تحت أمرهم، ولا طوع إرادتهم؛ وإنَّما تجري بالحكمة البالغة، وتسلك الصراط المستقيم في كل الشُّؤون، فلا تكون إلاَّ بالحقِّ والخير، والمصلحةِ الَّتي يَعْلمها ربُّنا اللطيف الخبير، إنه بعباده خبير بصير، وإنِّي على ذلك لصابر شاكر، وإنَّ رحْمَة ربِّي قريبٌ من المُحسنين، وإنَّ ربنا سبحانه لَيُؤتينا من هذه القصصِ العِبْرةَ الصَّادقة، ويؤدِّبنا بذلك الأدب العالي الذي به نَسْعد، ونَحيا الحياة الطيبة: ﴿ لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111].
نعم، فكثيرًا مَا تتعلَّق نفس الإنسان بالشَّيء، يعتقد أنَّ فيه له الْخَير كلَّ الخير، والمصلحةَ كل المصلحة، ولا يزال ينمو هذا الاعتقاد، ويزداد هذا التعلُّق، ويشتدُّ الحرص عليه، والرغبة فيه، حتَّى يكون شغله الشاغل له عن كلِّ شيء، حتَّى لعله يشغله عن كثير مِن مصالحه الحاضرة، فيضيعها بما غلَبه من التفكير في هذا الأمر المرتقب، والشيطان من ورائه جالسٌ يتحيَّن منه الفُرَص، ويتربَّص به الدوائر، ويتسقَّط منه الزلاَّت وثغرات الضَّعف، فما يزال يُغْريه ويَدْفعه، ويُزيِّن له ويوسوس، حتَّى يوقِعَه في إساءة الظنِّ بربِّه، واليأس والقنوط من رحمة الله وقدرتِه، فيكون من الهالكين، فارجع إلى نفسك واستعرض شُؤونَك وحاجتك، وما تَعْلق به نفسك من عافية من مرض، أو غنًى من فقر، أو زوجة تلمُّ شَعثَك، أو ولدٍ يكون قرَّة لعينك، أو مركز في المُجتمع مادِّي أو معنوي، أو غير ذلك مِمَّا ستَجِد منه كثيرًا جدًّا تضرب به نفْسَك، ويتعلَّق به قلْبُك، وأنت عجولٌ، هَلُوع جزوع، تَخْدع نفسك بأنَّك العليم بِمَصلحتك، الخبير بما ينفعك، القدير على جلْبِ الخير لك، الفطِنُ الخبير بمداخل السبيل إلى ما تحبُّ ومَخارجه، غافلاً عن حكمة العليم الحكيم، متناسيًا حُسْنَ تدبير القويِّ العزيز اللطيف الخبير، متجاهِلاً سنن الله التي لا تتبدَّل، فتذهب ظَلومًا جهولاً مندفِعًا مع هواك وظلمك وجهلك، وتَجْري مع أمانيك ورغباتك في عجزك الطبيعيِّ وضعفك، والأمر يَجْري بِحِكمة الله وسُنَّتِه على غير ما تتمنَّى: ﴿ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى ﴾ [النجم: 25] ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21]، فهو يجري بقدر موزون، وفي وقت معلوم، بما يُدبِّره اللطيف الخبير، فيُلقي الشيطانُ في أمنيتك ما يُلقي من الاستبطاء، ثُمَّ من إهْمال الله لك من شغله عنك بغيرك مَن تراهم قد أوتوا ما لم تُؤْت، ثم لا يزال يتمادى بك الأمرُ في الهلع والجزع وإساءة الظنِّ، حتَّى يكون الهلاك والشَّقاء بأنواع الحقد والحسد، والتسخُّط على الله وعلى حكمته ورحمته، والاحتقار لنِعَمِه وفضله، ثم التَّرامي في أحضان الشِّرك والوثنيَّة بالذُّل والاستخذاء والعبادة للإنسان حيًّا وميتًا، تخصُّه بالرجاء والخوف، والمسارعة إلى ما تعتقده يرضيه أو يحبُّه، ولو كان فيه لك الْمَتالف.
فشفاؤك الذي لا شِفاء لك غيره من كلِّ هذا الدَّاء العضال أن تجعل دائمًا نُصْبَ عينك العبرةَ بسيرة خيرة الله وصفوته من خلقه، وأحبِّهم إليه وأعلاهم عنده مَنْزلة: أولئك المُصْطفَوْن الأخيار من أنبيائه ورسُلِه - عليهم السَّلام -: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، وبالأخَصِّ هو إمامهم وخاتَمُهم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الذي نصَحَك أصدق نصيحة فيما روى البخاريُّ وغيره عن جابر: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّمنا الاستخارة في الأمر كلِّه: ((اللَّهم إنِّي أستخيرُك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألُك مِن فضلك العظيم؛ فإنَّك تَقْدر ولا أقدر، وتعلم ولا أَعْلم، وأنت علاَّم الغيوب...))؛ الحديث[2]، إنْ هُدِيت لذلك سعِدْتَ كلَّ السعادة، وأفلحت كلَّ الفلاح، ورُزِقت بأطيب عيشٍ وأهنَئه في الدُّنيا، وأنعَمِ عيش وأرضاه في جنات النعيم، وفَّقنِي الله وإيَّاك لذلك بِمَنِّه وكرمه، وفضله ورحمته.
وأنقل لك هنا كلمةً لابن القيِّم - رَحِمه الله - في تفسير هذا القصص من سورة الذَّاريات في كتاب "جلاء الأفهام في الصَّلاة على خير الأنام"، قال - رَحِمه الله -:
والمقصود: أنَّ إبراهيم - عليه السَّلام - هو أبونا الثَّالث، وهو إمامُ الْحُنفاء، ويُسَمِّيه أهلُ الكتاب: عمودَ العالَم، وجَميع أهل الْمِلَل متَّفِقة على تعظيمه وتولِّيه ومَحبَّته، وكان خيْرُ بنيه سيِّدُ ولَدِ آدم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يجلُّه ويعظِّمه، ويبجِّلُه ويَحترمه، ففي "الصَّحيحين" من حديث المختار بن فُلْفُلٍ عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال: جاء رجلٌ إلى النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا خَيْر البريَّة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ذاك إبراهيم - عليه السَّلام -))[3]، وسمَّاه شيخَه، فإنَّه حين دخل الكعبة لِيُطهِّرها مِمَّا كان المشركون وضعوه فيها من الأوثان، وجد صورة إبرهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فقال: ((قاتلهم الله، لقد عَلِموا أنَّ شيخنا لم يكن يستقسم بالأزلام))[4].
وثبت في "صحيح البخاري" من حديث سعيد بن جُبَير عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّكم مَحْشورون حُفاة عراة غرلاً))، ثم قرأ: ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 104] ((وأوَّل من يُكْسَى يوم القيامة إبراهيم))[5].
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشْبَه الخلق به، كما في "الصحيحين" عنه أنَّه قال: ((رأيتُ إبراهيم، فإذا أقْرَبُ الناس شَبهًا به صاحِبُكم))؛ يعني نفْسَه - صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ آخَر: ((فانظروا إلى صاحبِكم))[6].
وكان - صلى الله عليه وسلم - يُعوِّذ أولادَ ابنتِه الحسَن والْحُسين بتعويذ إبراهيم لإِسْماعيل وإسحاق، ففي "صحيح البخاري" عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعوِّذ الحسن والحسين، ويقول: ((إنَّ أباكُما كان يعوِّذ بِها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامَّة، من كل شيطان وهامَّة، ومن كل عينٍ لامَّة))[7].
وكان - صلى الله عليه وسلم - أوَّل من قرى الضيف، وأوَّل من اختتَنَ، وأوَّل من رأى الشيب فقال: "ما هذا يا رب؟ قال: وقارٌ، وقال: "ربِّ زدْنِي وقارًا"[8].
وتأمَّل ثناء الله سبحانه عليه في إكرامه ضيفَه الملائكةَ، حيث يقول سبحانه: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا * قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ﴾ [الذريات: 24 - 27]، ففي هذا ثناء على إبراهيم من وجوه متعدِّدة:
أحدها: أنه وصف ضيفه بأنَّهم مُكْرَمون، وهذا على أحد القولين: أنَّه إكرامُ إبراهيم لهم، أنَّهم مُكْرَمون عند لله، ولا تنافِيَ بين القولين؛ فالآية تدلُّ على المعنيين.
الثاني: قوله تعالى: ﴿ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ﴾، فلم يَذْكر استِئْذانَهم، ففي هذا دليلٌ على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد عُرِفَ بإكرام الضِّيفان واعتياد قِرَاهم، فبقي مَنْزِلُه مضيفة مطروقًا لِمَن وردَه، لا يحتاج إلى الاستئذان، بل استئذان الدَّاخل دخولُه، وهذا غاية ما يكون من الكَرَم.
الثالث: قوله: ﴿ سَلامٌ ﴾ بالرفع، وهم سلَّموا عليه بالنَّصْب، والسَّلام بالرَّفع أكْمَل؛ فإنَّه يدلُّ على الجملة الاسْميَّة الدالَّة على الثُّبوت والتجدُّد، والمنصوب يدلُّ على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد، فإبراهيم حيَّاهم بتحيَّةٍ أحسن من تحيَّتهم، فإنَّ قولَهم: ﴿ سَلاَمًا ﴾ يدلُّ على أنهم سلَّموا سلامًا، وقوله: ﴿ سَلاَمٌ ﴾؛ أيْ: سلامٌ عليكم.
الرابع: أنه حذف المبتدأ من قوله: ﴿ قومٌ منكَرون ﴾، فإنه لَمَّا أنكرَهم، ولَم يعرِفْهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفر الضَّيف لو قال: أنتم قوم منكَرون، فحَذْفُ المبتدأ هنا مِن ألطَفِ الكلام.
الخامس: أنه بنَى الفعل للمفعول، وحذف فاعِلَه، فقال: "منكَرون"، ولم يقل: إنِّي أُنْكِركم، وهو أحسن في هذا الْمَقام وأبعد من التنفير، والمواجهةِ بالخشونة.
السادس: أنه راغ إلى أهله لِيَجيئهم بِنُزُلِهم، والرَّوَغان هو الذَّهاب في اختفاء، بحيث لا يكاد يُشْعَر به، وهذا من كرم ربِّ المَنْزل المُضيف؛ أن يَذْهب في اختفاء بحيث لا يَشْعر به الضَّيفُ فيشق عليه ويستَحِي، فلا يشعر به إلاَّ وقد جاءه بالطَّعام، بِخِلاف مَن يسمع ضيفه، ويقول له أو لِمَن حضر: مكانَكم حتَّى آتِيَكم بالطَّعام، ونحو ذلك مِمَّا يوجب حياء الضَّيف واحتشامه.
السابع: أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضِّيافة، فدلَّ على أنَّ ذلك كان مُعدًّا عندهم، مُهيَّئًا للضِّيفان، ولم يَحْتج أن يذهب إلى غيرهم مِن جيرانه أو غيرهم، فيشتَرِيه أو يستقرضه.
الثامن قوله: ﴿ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴾ دلَّ على خدمته للضَّيف بنفسه، ولم يَقُل: فأَمَر لَهم، بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه، ولَم يبعَثْه مع خادمه، وهذا أبلغ في إكرام الضيف.
التاسع: أنه جاء بعجْل كامل، ولَم يأتِ ببضعة منه، وهذا من تَمام كرمه - صلَّى الله عليه وسلَّم.
العاشر: أنه سمين لا هزيل، ومعلوم أنَّ ذلك من أفْخَر أموالِهم، ومِثْلُه يُتَّخَذ للاقتناء والتربية، فآثر به ضيفانه.
الحادي عشر: أنه قرَّبَه إليهم بنفسه، ولَم يأمر خادمه بذلك.
الثاني عشر: أنه قرَّبه إليهم ولم يُقرِّبْهم إليه، وهذا أبْلَغُ في الكرامة؛ أن تُجْلِس الضَّيف، ثُمَّ تقرِّب الطعام إلى حضرته، ولا تضع الطعام في ناحية ثُم تأمر ضيفك بأن يتقرَّب إليه.
الثالث عشر: أنه قال: ﴿ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴾، وهذا عرْض وتلطُّف في القول، وهو أحسن من قوله: كُلوا، أو مدُّوا أيدِيَكم ونَحْوهما، وهذا مِمَّا يَعلم الناس بعقولِهم حُسْنَه ولطفه؛ ولِهَذا يقولون: بسم الله، أو ألاَ تتصدَّق، أو ألا تَجْبر، ونحو ذلك.
الرابع عشر: أنه إنَّما عرَضَ عليهم الأكل؛ لأنَّه رآهم لا يأكلون، ولم يكن ضيوفُه يَحْتاجون معه إلى الإذن في الأكل، بل كان إذا قَدَّم إليهم الطَّعام أكَلُوا، وهؤلاء الضُّيوف لَمَّا امتنعوا من الأكل قال لَهم: ألاَ تأكلون؛ ولِهَذا أوجس منهم خيفة؛ أيْ: أحسَّها وأضمَرَها في نفسه، ولَم يُبْدِها لَهم، وهو الوجه.
الخامس عشر: فإنَّهم لَمَّا امتنعوا من الأكل لطعامه، خاف منهم ولم يُظْهِر لَهم، فلمَّا عَلِم الملائكة منه ذلك قالوا: لا تخف، وبشَّروه بالغلام.
فقد جَمَعت هذه الآيةُ آدابَ الضِّيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلُّفات التي هي تخلُّف وتكلُّف إنَّما هي من أوضاع الناس وعوائدهم، وكفى بِهَذه الآداب شرفًا وفخرًا.
فصلَّى الله وسلم على نبيِّنا وعلى إبراهيم وعلى آلِهِما وسائر النبيِّين"[9] [10].
[1] صحيح: أخرجه أبو داود برقم [4607] وصحَّحه الألبانِيُّ.
[2] أخرجه البخاري برقم [1109].
[3] أخرجه مسلم برقم [2369].
[4] صحيح: أخرجه أحمد برقم [2508] من حديث ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل البيت وجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم، فقال: ((أمَّا هم فقد سَمِعوا، إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة، هذا إبراهيم مصوَّرًا، فما باله يستقسم؟)) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه ابن حبان في صحيحه برقم [5858]، وصحَّحه الأرناؤوط.
[5] أخرجه البخاري برقم [1371].
[6] أخرجه البخاري برقم [3254]، ومسلم برقم [172].
[7] أخرجه البخاري برقم [3191].
[8] لا أصل له: أخرجه الخطيب في "الجامع" عن أنس وفيه عبدالرحمن بن حبيب عن بقيَّة، قال في "الميزان" عن يحيى: ليس بشيء، وعن ابن حبان: لعلَّه وضع أكثر من خَمْسمائة حديث، ثم أورد له هذا الخبر ثم قال: قال ابن حبَّان: لا أصل له، ثم أعاده في ترجمة يعقوب بن إسحاق الواسطي، وقال: إنَّه هو المتَّهَم بوضْع هذا، وحكاه عنه المؤلِّفُ في "مختصر الموضوعات" وأقرَّه؛ "فيض القدير"، ج2 ص529.
[9] انتهى النَّقل من كتاب "جلاء الأفهام"، لابن القيِّم، ص271.
[10] "مجلة الهَدْي النبوي"، شوال (1368) العدد العاشر.