دلع
12-11-2021, 06:56 PM
1
وقفت أميرهـ بهيئتها الهزيلة و قامتها القصيرة أمام حاجز عملاق مُذَهّبة نقوشه و أطرافه مُخفياً ما خلفه , هو في الحقيقة ليس سِوى باب مُغلق لسور منزل ؛ أو كما قالت لها صديقتها جوهره أنه قصر أحد الأغنياء ممن يملكون الكثير من المال و الطعام اللذيذ و الملابس الجميلة . و هذا ما شجعها لأول مره على الخروج من عالم تعرفه حق المعرفة لعالم تجهله تماماً . هناك في عالمها حيث أبسط أمانيهم أن يبيتون لليلة بعد أن أشبعوا بطونهم , و أن يرتدوا ملابس جديدة لا شقوق بها تم رقعها . هناك حيث تَخرج والدتها تخدِم في المنازل لتكسب ما يُبقيها و ابنائها أحياء , تاركه لها عُهدة البيت و الاهتمام بالصغار . لكنها باتت تشعُر أن ذلك ليس كافياً بل عليها أن تقدم شيء ذو فائدة أكبر, خصوصاً وهي تلاحظ في الآونة الأخيرة تعب أمها الواضح الذي تفشل في إخفائه عنها على الأقل .
بالأمس إلتقت بجوهره تختال في فستان سَلب لُبّها , و تحمل في يديها قِطع من حلوى ملونه لطالما حَلِمت بتذوقها , في حين تُدرك عجز والدتها عن ابتياعها لها . حاولت أميرهـ أن تكبت حنقها منها طمعاً في إجابة للسؤال الذي لابد منه , من أين لها هذا ؟! , و هي التي تعلم جيداً حالها و أسرتها المشابه لحالهم . عندها اكتشفت الكثير مما تجهله , و لتسعَ من فورها لكسب ودّ الجوهرة لتحظى برفقتها و تبدأ رحلة الكفاح .
وها هي الآن تقف أمام هذا الشيء العملاق اللامع , بسنوات عمرها الأربعة عشر , حافية القدمين مشعثه الرأس , و بملبسها البسيط الذي يكفي أنه يستر جسدها , فقط ملامحها شكلتها كما علمتها جوهره لتبدو أكثر بؤساً و حاجه مما هي عليه . فهكذا منظر كما قالت ما سَيُرقق قلوب الأغنياء ليمنحوها المال و ربما طعام و ملابس , مثل ما يحصل معها .
في الحقيقة فآجأتها عندما أخبرتها هذا الصباح بأنهما ستتجهان لمكان آخر غير الذي حدثتها عنه بالأمس , طامعة بأن تلتقيان بمن سيعطيهما ما تأملان به , لكن أميرهـ أصرت على أن تذهبان لنفس بيت السيدة التي منحتها ذلك الفستان الجميل . اعترضت جوهره في البداية على طلبها , فمن خبرتها أنه يكفي أن يعطيها أحد الأثرياء مره حتى لا يعاود الكره مره أخرى في إعطائها المزيد . و تحت إلحاح أميرهـ رضخت جوهره لطلبها لتأتي بها إلى هنا , و لتعاود تركها وحيدة بعد أن تمللت في انتظار أحد يدخل أو يخرج من باب القصر , و على عكسها هي لم تفقد الأمل مع تزايد مدة الانتظار . تريد أن تُحقق حُلمها الوليد منذ البارحة . .
في أعماقها لم تستطع فهم شعورها و هي تلاحظ الفرق الشاسع بين الحي الفقير الذي تسكن به , و الحي الواسع الشوارع الذي تتواجد فيه حالياً , النظيف و الكثيف الاشجار , تتراص فيه التحف الفنية الضخمة المسماة بمنازل أو فلل أو قصور . حتى الهواء هنا يختلف , و الشمس تبدو أقوى حراره و أكثر سطوعاً .
لتذهل من إدراكها مدى بؤس عالمها الذي عاشت به , وفي ذات الوقت تسكنها رهبة إن فكرت أنه بإمكانها يوماً مشاهدة أحد هذه القصور من الداخل , فلن تكون النتيجة من مصلحة منزلها و غالب منازل حيها بالتأكيد ...
انتبهت مجفلة من هدير سيارة خلفها , ما إن أزاحت أنظارها عن الباب حتى تتوسع لآخرها لمرأى سيارة لامعة سوداء ضخمة لأول مره تشاهد مثلها .
و لتتبدل مفاهيمها سريعاً - ما إن نزل ذلك الشاب الذي ينافس هندامه سيارته سواداً و لمعاناً - حول جمال الأشياء و مدى جودتها و ملائمتها أو خلافه , مجرد رؤيتها لوجهه و شعره المصَفّف بعناية و ملبسه الأنيق و حذاءه الأملس الامع تستطيع بعد ذلك أن تميز الشخص الغني من الفقير ..
لكن !!! , عيناه أوقفت مسار أفكارها لاتجاه آخر تماماً .
النظرة التي وجهها لها ما إن انتبه لوقوفها بجانب الباب الضخم هي ما شلت حركتها عاجزة عن أي شيء من المفترض عليها أن تقوم به . النظرة و يالشدة أثرها الذي تركته في نفسها , لم تكن سوى نظرة احتقار و اشمئزاز . هناك خطأ ما حصل , أين رقة القلب و نظرة التعاطف و الابتسامة اللطيفة التي توقعتها من حديث جوهره . مجرد نظرة لثانية واحده ليتحرك متجاهلاً إياها و فاتحاً الباب الضخم بسهوله , ليدخل و يغلقه خلفه بسهوله أكبر .
و بصعوبة استعادت أميرهـ أنفاسها , و بصعوبة أكبر تماوجت أفكارها لتتصاعد وتيرتها متلاطمة متكاثفة تنتظر بر ترسو عليه .
انحدر بصرها أسفل في مهمة تقييم لملبسها , بينما إحدى يديها ارتفعت تلامس خصلات شعرها و الأخرى تتفقد ملامحها , و هي تبحث عن سبب نظرة الاحتقار و الاشمئزاز التي وُجِّهت لها .
متسائلة هل هي سيئة و قذرة إلى هذا الحد الذي لا تُدرك ماهيته ؟! . هل بالغت في تعبير البؤس الذي أظهرته أكثر مما هو عليه في الأصل ؟! , أم ربما لأنها لا تملك أب !! .
" لا لا " , نفت سريعاً متذكره حال صديقتها زينة الأسوأ من حالها رغم امتلاكها أب و أم كذلك على قيد الحياة .
لكن نظرة الاحتقار كانت واضحة و لابد لها من تبرير , و للأسف ستهدد ثقتها بذاتها إن أرغمت نفسها على تقبل و قوعها في دائرة الخطأ ..
" آآآهـ " صغيرة أطلقتها أميرهـ و هي تشعر بازدياد حرارة الجو , و رائحة العرق التي تكاد تزكُم أنفها , عليها أن ترحل قبل أن تصاب بضربة شمس , و تحرص لاحقاً على نظافتها جيداً .
" أوهوووو " ما إن استدارت و في نيتها الذهاب حتى أوقفتها صيحة استهجان أطلقها ذات الشاب أعقبت خروجه من الباب العملاق , لتتلقى أعظم صدمات حياتها . ...
إن كانت تأثرت بنظرة الاحتقار فلم تعد شيئاً يُذكر أمام كلماته التي ضربتها كلسعات كهربائية زلزلت أعماقها , و يرددها الصدى ببجاحه :
" لقد ذقنا ذرعاً بكم ايها المتشردين , أقللتم راحتنا و تنافسونا على اللقمة , نحن نتعب و نعمل و أنتم تتسولون بحثاً عن الجاهز . أليس لديكم كرامة ؟! ما هذا التذلل ؟! , بدل أن تمدوا أيديكم إلى أعناقنا اعملوا . أُفّ حتى عند منازلنا تلاحقونا , هل علينا أن نضع حواجز و نقاط دخول و خروج لأحيائنا التي نسكنهاااا ـ ـ ـ ـ ـ " .
لتتوقف حروفه السامة بتذمر مفسحة المجال لتنهيدته العميقة منهيةً الساحة من وجوده , و متجهاً بعدها صوب سيارته مغادراً المشهد الذي بدأته مفتتحه لينهيه بأبشع نهاية .
و لم تملك حينها أميرهـ سوى ملاحقة أشلاء كرامتها و هي تتعلم متأخرة معنى إهدار الكرامة و جلب الذل للنفس .
تساؤل صغير معترض تسلل هامساً من بين شفتيها : " هل كان عليه أن يقول ما قال ؟! , أنا لأول مره آتي إلى هنا , ظننت أنني أكافح لا أتسول !! , كان يكفي أن يقول أنه لن يُعطيني شيئاً و يطلب مني الرحيل و سأفهم , مؤكد سأفهم و أرحل بلا عوده " .
و المؤكد أيضاً أن هذا الشاب الغني غَفِلْ عن قوله تعالى : { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ } ..
لتسير كذلك أميرهـ مبتعدة و متظاهرة كأنها آخر فرد يخرج من مسرح عرض مسرحية فاشلة متجنباً التدافع مع الوفود المغادرة .
على الأقل هكذا أفضل حتى لا تشعر بخيبة أمل لموت حُلمِها الوليد .
انتبهت لعدم عودة أمها بعد عند دخولها لمنزلهم , لتبدأ سريعاً بنفض دور لم يكن يلائمها و عائدة إلى دورها الذي تُتقنه منذ وعت لطبيعة حياتها التي تعيشها . تهتم بشؤون البيت و شؤون إخوتها الثلاث سيد و مهره و غاليه , الذين لم تتجاوز أعمارهم العشر سنوات ...
يوم جديد يبدأ مشابه لما قبله , نفس الروتين و الأحداث مع اختلاف محتوى الهامش بحدث أو حدثين . لكن يبدو أن ما سيكون على رأس جدولة أيامها القادمة , تلك الساعات التي تقضيها في وقوفها محدقة بهذا البَاب المُذَهّب الذي أتت إليه سابقاً .
أسبوع مرّ على ذات المنوال دون أن تأتي بأي حركه أخرى , لا تعلم لما ؟!! وحتى تجد تفسير مُقنع لنفسها ستعاود القدوم كل يوم . شيء واحد تعلمه أن قدومها إلى هنا ليس لطلب مال أو طعام أو ملابس كما أول مره .
وهذا تماماً التفسير الذي يظنه أصحاب هذا القصر , بدءاً بنفس الشاب الذي عرفت صدفةً أن اسمه أميـر , مروراً بأمه السيدة ثريا و أخته جميلة . سألتها ذات مره السيدة عندما لم ترفع يدها لاستلام بضعة نقود اخرجتها من حقيبتها : " هل تريدين شيئاً ما ؟! هل أستطيع مساعدتك ؟! " , دون إجابه تُذكر صادرة منها , التساؤل نفسه نطقت به أيضاً جميلة مضيفه : " ما اسمك ؟! أين تسكنين ؟! " , و حتى أميـر نفسه قدم عرضه لمساعدتها و تلبية طلباتها ما إن تطلبها .
و دون أن تكلف أميرهـ نفسها عناء النظر إليهم , أجادت دور ثانوي كصماء بكماء تنظر فقط لباب قصرهم .
بالأمس كادت تفسد أداء دورها الصامت عندما قدمت لها السيدة ثريا فستان جميل ؛ بل بالغ الجمال حبس أنفاسها ما إن لمحته يُخرج من الكيس الذي تحمله , كادت تقفز فرحاً مُنتشله إياه من بين يديها , كان كما حَلُمت يوماً أبيض رقيق تزينه ورود صغيره من أعلاه لأسفله , و لأنه حُلْم و هي تعلمت بالطريقة الصعبة أن الأحلام يستحيل تحققها , لذا أحجمت ردة فعلها بأعجوبة . خصوصاً مع إصرار السيدة عليها لقبوله و إغرائها بأنها ما اشترته إلا لها .
لكنها لم تَعُد تطمح لشيء سوى أن يكفوا عن استفساراتهم و عروضهم المغرية و يدعوها لشأنها . بعد أسبوع آخر أدركت نظراتهم المرتابة نحوها , فما تفعله كونها لا تكف عن القدوم و الوقوف كالبلهاء محدقة بالباب غير منطقي , و عوضاً عن إثارة ريبتهم بها أكثر , أصبحت تأتي دون الاقتراب من مدى نظر أهل القصر أو غيرهم , تقف بعيداً حيث يمكنها مشاهدة الباب دون أن تُشاهد ...
في إحدى الأمسيات الهادئة في منزل أميرهـ , باغتت نفسها و والدتها التي تخيط بعض الملابس بما أرَّقَ لياليها قائلة : " أمي . ذلك اليوم أخبرتني جوهره بكلام عجيب , عندما كانت تسأل شخص غني مال , نَهرها و وصفها بأنها متسولة و من المتشردين الذين لا يعملون و يطلبون حق غيرهم " .
في الحقيقة هي من هُزِّأت و لن تحتمل تهزيئ آخر قد يصدر من والدتها , التي ردت عليها : " آهـ . تلك المسكينة وهل باستطاعتها فِعل شيء آخر غير السؤآل ؟! إنه عديم ذوق كيف يُطلق عليها وصف المتسولة وهو لا يعلم ظروفها التي أجبرتها على القيام بشيء كهذا حتماً لا تريده ؟!! " .
قطبت أميرهـ جبينها لتردف : " هل السؤآل و طلب المال خطأ ام صواب " ,
ابتسمت والدتها ابتسامتها المتسامحة تجيبها : " نعم يا ابنتي خطأ , العمل أفضل وهذا ما أمرنا به نبينا محمد صلى الله عليه و سلم , سؤآل الناس يُريق ماء الوجه إن امتهنه صاحبه دون أن يكلف نفسه بالبحث عن الرزق الطيب الحلال . لا بأس بطلب المساعدة بالمال عند العجز التام أو في لحظات ضيق ذات اليد التي قد يمر بها أي إنسان , أما طلب المساعدة التي تكفيه عن السؤآل كتوجيهه لعمل ما أو إقراضه ما يعينه على الكسب بيده لا أرى فيه ما يعيب . في ديننا يا أميرتي على الغني أن يبذل من ماله للفقير كحق فرضه الله عليه , و على الفقير أن لا يعتمد على الصدقات بل يسعى بما يستطيع ليعيش كريماً , و الإحسان و التعاون باستطاعة الغني و الفقير تقديمه بأي صورة كانت , حتى يتحقق مفهوم المجتمع الإسلامي مُتراص البناء " .
لتعيد بعد ذلك السيدة لُجين نظرها لسير الإبرة المجهدة على سترة سيد - مُصلحه تمزق عند الكوع - مكتفيه بما قالت بعد التألق الذي رأته بعيني ابنتها كدلاله لاستيعابها . في حين أن التألق مرجعه لقب أميرتي الذي مرّ في ثنايا حديث الأم , أما الاستيعاب فالأيام كفيله بتأكيده .
و تهمس أميرهـ بتأثر : " أتمنى ألا أخذلك أمي الحبيبة " ,
يكفيها أميرتي لترفعها للسماء ...
وقفت أميرهـ بهيئتها الهزيلة و قامتها القصيرة أمام حاجز عملاق مُذَهّبة نقوشه و أطرافه مُخفياً ما خلفه , هو في الحقيقة ليس سِوى باب مُغلق لسور منزل ؛ أو كما قالت لها صديقتها جوهره أنه قصر أحد الأغنياء ممن يملكون الكثير من المال و الطعام اللذيذ و الملابس الجميلة . و هذا ما شجعها لأول مره على الخروج من عالم تعرفه حق المعرفة لعالم تجهله تماماً . هناك في عالمها حيث أبسط أمانيهم أن يبيتون لليلة بعد أن أشبعوا بطونهم , و أن يرتدوا ملابس جديدة لا شقوق بها تم رقعها . هناك حيث تَخرج والدتها تخدِم في المنازل لتكسب ما يُبقيها و ابنائها أحياء , تاركه لها عُهدة البيت و الاهتمام بالصغار . لكنها باتت تشعُر أن ذلك ليس كافياً بل عليها أن تقدم شيء ذو فائدة أكبر, خصوصاً وهي تلاحظ في الآونة الأخيرة تعب أمها الواضح الذي تفشل في إخفائه عنها على الأقل .
بالأمس إلتقت بجوهره تختال في فستان سَلب لُبّها , و تحمل في يديها قِطع من حلوى ملونه لطالما حَلِمت بتذوقها , في حين تُدرك عجز والدتها عن ابتياعها لها . حاولت أميرهـ أن تكبت حنقها منها طمعاً في إجابة للسؤال الذي لابد منه , من أين لها هذا ؟! , و هي التي تعلم جيداً حالها و أسرتها المشابه لحالهم . عندها اكتشفت الكثير مما تجهله , و لتسعَ من فورها لكسب ودّ الجوهرة لتحظى برفقتها و تبدأ رحلة الكفاح .
وها هي الآن تقف أمام هذا الشيء العملاق اللامع , بسنوات عمرها الأربعة عشر , حافية القدمين مشعثه الرأس , و بملبسها البسيط الذي يكفي أنه يستر جسدها , فقط ملامحها شكلتها كما علمتها جوهره لتبدو أكثر بؤساً و حاجه مما هي عليه . فهكذا منظر كما قالت ما سَيُرقق قلوب الأغنياء ليمنحوها المال و ربما طعام و ملابس , مثل ما يحصل معها .
في الحقيقة فآجأتها عندما أخبرتها هذا الصباح بأنهما ستتجهان لمكان آخر غير الذي حدثتها عنه بالأمس , طامعة بأن تلتقيان بمن سيعطيهما ما تأملان به , لكن أميرهـ أصرت على أن تذهبان لنفس بيت السيدة التي منحتها ذلك الفستان الجميل . اعترضت جوهره في البداية على طلبها , فمن خبرتها أنه يكفي أن يعطيها أحد الأثرياء مره حتى لا يعاود الكره مره أخرى في إعطائها المزيد . و تحت إلحاح أميرهـ رضخت جوهره لطلبها لتأتي بها إلى هنا , و لتعاود تركها وحيدة بعد أن تمللت في انتظار أحد يدخل أو يخرج من باب القصر , و على عكسها هي لم تفقد الأمل مع تزايد مدة الانتظار . تريد أن تُحقق حُلمها الوليد منذ البارحة . .
في أعماقها لم تستطع فهم شعورها و هي تلاحظ الفرق الشاسع بين الحي الفقير الذي تسكن به , و الحي الواسع الشوارع الذي تتواجد فيه حالياً , النظيف و الكثيف الاشجار , تتراص فيه التحف الفنية الضخمة المسماة بمنازل أو فلل أو قصور . حتى الهواء هنا يختلف , و الشمس تبدو أقوى حراره و أكثر سطوعاً .
لتذهل من إدراكها مدى بؤس عالمها الذي عاشت به , وفي ذات الوقت تسكنها رهبة إن فكرت أنه بإمكانها يوماً مشاهدة أحد هذه القصور من الداخل , فلن تكون النتيجة من مصلحة منزلها و غالب منازل حيها بالتأكيد ...
انتبهت مجفلة من هدير سيارة خلفها , ما إن أزاحت أنظارها عن الباب حتى تتوسع لآخرها لمرأى سيارة لامعة سوداء ضخمة لأول مره تشاهد مثلها .
و لتتبدل مفاهيمها سريعاً - ما إن نزل ذلك الشاب الذي ينافس هندامه سيارته سواداً و لمعاناً - حول جمال الأشياء و مدى جودتها و ملائمتها أو خلافه , مجرد رؤيتها لوجهه و شعره المصَفّف بعناية و ملبسه الأنيق و حذاءه الأملس الامع تستطيع بعد ذلك أن تميز الشخص الغني من الفقير ..
لكن !!! , عيناه أوقفت مسار أفكارها لاتجاه آخر تماماً .
النظرة التي وجهها لها ما إن انتبه لوقوفها بجانب الباب الضخم هي ما شلت حركتها عاجزة عن أي شيء من المفترض عليها أن تقوم به . النظرة و يالشدة أثرها الذي تركته في نفسها , لم تكن سوى نظرة احتقار و اشمئزاز . هناك خطأ ما حصل , أين رقة القلب و نظرة التعاطف و الابتسامة اللطيفة التي توقعتها من حديث جوهره . مجرد نظرة لثانية واحده ليتحرك متجاهلاً إياها و فاتحاً الباب الضخم بسهوله , ليدخل و يغلقه خلفه بسهوله أكبر .
و بصعوبة استعادت أميرهـ أنفاسها , و بصعوبة أكبر تماوجت أفكارها لتتصاعد وتيرتها متلاطمة متكاثفة تنتظر بر ترسو عليه .
انحدر بصرها أسفل في مهمة تقييم لملبسها , بينما إحدى يديها ارتفعت تلامس خصلات شعرها و الأخرى تتفقد ملامحها , و هي تبحث عن سبب نظرة الاحتقار و الاشمئزاز التي وُجِّهت لها .
متسائلة هل هي سيئة و قذرة إلى هذا الحد الذي لا تُدرك ماهيته ؟! . هل بالغت في تعبير البؤس الذي أظهرته أكثر مما هو عليه في الأصل ؟! , أم ربما لأنها لا تملك أب !! .
" لا لا " , نفت سريعاً متذكره حال صديقتها زينة الأسوأ من حالها رغم امتلاكها أب و أم كذلك على قيد الحياة .
لكن نظرة الاحتقار كانت واضحة و لابد لها من تبرير , و للأسف ستهدد ثقتها بذاتها إن أرغمت نفسها على تقبل و قوعها في دائرة الخطأ ..
" آآآهـ " صغيرة أطلقتها أميرهـ و هي تشعر بازدياد حرارة الجو , و رائحة العرق التي تكاد تزكُم أنفها , عليها أن ترحل قبل أن تصاب بضربة شمس , و تحرص لاحقاً على نظافتها جيداً .
" أوهوووو " ما إن استدارت و في نيتها الذهاب حتى أوقفتها صيحة استهجان أطلقها ذات الشاب أعقبت خروجه من الباب العملاق , لتتلقى أعظم صدمات حياتها . ...
إن كانت تأثرت بنظرة الاحتقار فلم تعد شيئاً يُذكر أمام كلماته التي ضربتها كلسعات كهربائية زلزلت أعماقها , و يرددها الصدى ببجاحه :
" لقد ذقنا ذرعاً بكم ايها المتشردين , أقللتم راحتنا و تنافسونا على اللقمة , نحن نتعب و نعمل و أنتم تتسولون بحثاً عن الجاهز . أليس لديكم كرامة ؟! ما هذا التذلل ؟! , بدل أن تمدوا أيديكم إلى أعناقنا اعملوا . أُفّ حتى عند منازلنا تلاحقونا , هل علينا أن نضع حواجز و نقاط دخول و خروج لأحيائنا التي نسكنهاااا ـ ـ ـ ـ ـ " .
لتتوقف حروفه السامة بتذمر مفسحة المجال لتنهيدته العميقة منهيةً الساحة من وجوده , و متجهاً بعدها صوب سيارته مغادراً المشهد الذي بدأته مفتتحه لينهيه بأبشع نهاية .
و لم تملك حينها أميرهـ سوى ملاحقة أشلاء كرامتها و هي تتعلم متأخرة معنى إهدار الكرامة و جلب الذل للنفس .
تساؤل صغير معترض تسلل هامساً من بين شفتيها : " هل كان عليه أن يقول ما قال ؟! , أنا لأول مره آتي إلى هنا , ظننت أنني أكافح لا أتسول !! , كان يكفي أن يقول أنه لن يُعطيني شيئاً و يطلب مني الرحيل و سأفهم , مؤكد سأفهم و أرحل بلا عوده " .
و المؤكد أيضاً أن هذا الشاب الغني غَفِلْ عن قوله تعالى : { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ } ..
لتسير كذلك أميرهـ مبتعدة و متظاهرة كأنها آخر فرد يخرج من مسرح عرض مسرحية فاشلة متجنباً التدافع مع الوفود المغادرة .
على الأقل هكذا أفضل حتى لا تشعر بخيبة أمل لموت حُلمِها الوليد .
انتبهت لعدم عودة أمها بعد عند دخولها لمنزلهم , لتبدأ سريعاً بنفض دور لم يكن يلائمها و عائدة إلى دورها الذي تُتقنه منذ وعت لطبيعة حياتها التي تعيشها . تهتم بشؤون البيت و شؤون إخوتها الثلاث سيد و مهره و غاليه , الذين لم تتجاوز أعمارهم العشر سنوات ...
يوم جديد يبدأ مشابه لما قبله , نفس الروتين و الأحداث مع اختلاف محتوى الهامش بحدث أو حدثين . لكن يبدو أن ما سيكون على رأس جدولة أيامها القادمة , تلك الساعات التي تقضيها في وقوفها محدقة بهذا البَاب المُذَهّب الذي أتت إليه سابقاً .
أسبوع مرّ على ذات المنوال دون أن تأتي بأي حركه أخرى , لا تعلم لما ؟!! وحتى تجد تفسير مُقنع لنفسها ستعاود القدوم كل يوم . شيء واحد تعلمه أن قدومها إلى هنا ليس لطلب مال أو طعام أو ملابس كما أول مره .
وهذا تماماً التفسير الذي يظنه أصحاب هذا القصر , بدءاً بنفس الشاب الذي عرفت صدفةً أن اسمه أميـر , مروراً بأمه السيدة ثريا و أخته جميلة . سألتها ذات مره السيدة عندما لم ترفع يدها لاستلام بضعة نقود اخرجتها من حقيبتها : " هل تريدين شيئاً ما ؟! هل أستطيع مساعدتك ؟! " , دون إجابه تُذكر صادرة منها , التساؤل نفسه نطقت به أيضاً جميلة مضيفه : " ما اسمك ؟! أين تسكنين ؟! " , و حتى أميـر نفسه قدم عرضه لمساعدتها و تلبية طلباتها ما إن تطلبها .
و دون أن تكلف أميرهـ نفسها عناء النظر إليهم , أجادت دور ثانوي كصماء بكماء تنظر فقط لباب قصرهم .
بالأمس كادت تفسد أداء دورها الصامت عندما قدمت لها السيدة ثريا فستان جميل ؛ بل بالغ الجمال حبس أنفاسها ما إن لمحته يُخرج من الكيس الذي تحمله , كادت تقفز فرحاً مُنتشله إياه من بين يديها , كان كما حَلُمت يوماً أبيض رقيق تزينه ورود صغيره من أعلاه لأسفله , و لأنه حُلْم و هي تعلمت بالطريقة الصعبة أن الأحلام يستحيل تحققها , لذا أحجمت ردة فعلها بأعجوبة . خصوصاً مع إصرار السيدة عليها لقبوله و إغرائها بأنها ما اشترته إلا لها .
لكنها لم تَعُد تطمح لشيء سوى أن يكفوا عن استفساراتهم و عروضهم المغرية و يدعوها لشأنها . بعد أسبوع آخر أدركت نظراتهم المرتابة نحوها , فما تفعله كونها لا تكف عن القدوم و الوقوف كالبلهاء محدقة بالباب غير منطقي , و عوضاً عن إثارة ريبتهم بها أكثر , أصبحت تأتي دون الاقتراب من مدى نظر أهل القصر أو غيرهم , تقف بعيداً حيث يمكنها مشاهدة الباب دون أن تُشاهد ...
في إحدى الأمسيات الهادئة في منزل أميرهـ , باغتت نفسها و والدتها التي تخيط بعض الملابس بما أرَّقَ لياليها قائلة : " أمي . ذلك اليوم أخبرتني جوهره بكلام عجيب , عندما كانت تسأل شخص غني مال , نَهرها و وصفها بأنها متسولة و من المتشردين الذين لا يعملون و يطلبون حق غيرهم " .
في الحقيقة هي من هُزِّأت و لن تحتمل تهزيئ آخر قد يصدر من والدتها , التي ردت عليها : " آهـ . تلك المسكينة وهل باستطاعتها فِعل شيء آخر غير السؤآل ؟! إنه عديم ذوق كيف يُطلق عليها وصف المتسولة وهو لا يعلم ظروفها التي أجبرتها على القيام بشيء كهذا حتماً لا تريده ؟!! " .
قطبت أميرهـ جبينها لتردف : " هل السؤآل و طلب المال خطأ ام صواب " ,
ابتسمت والدتها ابتسامتها المتسامحة تجيبها : " نعم يا ابنتي خطأ , العمل أفضل وهذا ما أمرنا به نبينا محمد صلى الله عليه و سلم , سؤآل الناس يُريق ماء الوجه إن امتهنه صاحبه دون أن يكلف نفسه بالبحث عن الرزق الطيب الحلال . لا بأس بطلب المساعدة بالمال عند العجز التام أو في لحظات ضيق ذات اليد التي قد يمر بها أي إنسان , أما طلب المساعدة التي تكفيه عن السؤآل كتوجيهه لعمل ما أو إقراضه ما يعينه على الكسب بيده لا أرى فيه ما يعيب . في ديننا يا أميرتي على الغني أن يبذل من ماله للفقير كحق فرضه الله عليه , و على الفقير أن لا يعتمد على الصدقات بل يسعى بما يستطيع ليعيش كريماً , و الإحسان و التعاون باستطاعة الغني و الفقير تقديمه بأي صورة كانت , حتى يتحقق مفهوم المجتمع الإسلامي مُتراص البناء " .
لتعيد بعد ذلك السيدة لُجين نظرها لسير الإبرة المجهدة على سترة سيد - مُصلحه تمزق عند الكوع - مكتفيه بما قالت بعد التألق الذي رأته بعيني ابنتها كدلاله لاستيعابها . في حين أن التألق مرجعه لقب أميرتي الذي مرّ في ثنايا حديث الأم , أما الاستيعاب فالأيام كفيله بتأكيده .
و تهمس أميرهـ بتأثر : " أتمنى ألا أخذلك أمي الحبيبة " ,
يكفيها أميرتي لترفعها للسماء ...