جنــــون
10-25-2020, 03:41 AM
1
الربع الأول من سورة الكهف
من الآية 1 إلى الآية 5: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ أي الثناء على اللهِ تعالى بصفاته التي كلُّها كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فهو سبحانه ﴿ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ - محمد صلى الله عليه وسلم - ﴿ الْكِتَابَ ﴾ أي أنزل عليه القرآن ﴿ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾: أي لم يَجعل في القرآن شيئًا مائلاً عن الحق، بل جَعَله كتابًا ﴿ قَيِّمًا ﴾ أي مستقيمًا معتدلاً (لا اختلافَ فيه ولا تناقض، ولا تَشَدُّد ولا تفريط)، وقد أنزله سبحانه ﴿ لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ ﴾: أي ليُنذر الكافرين مِن عذابٍ شديدٍ مِن عنده ﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ﴾ (وهو الجنة) التي يُقيمون في نعيمها، ويَظلونَ ﴿ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ﴾ أي لا يُفارقونه أبدًا، ﴿ وَيُنْذِرَ ﴾ - بصفة خاصة - المُشركين ﴿ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴾ (وكيف ذلك والكُلُّ مِلكُهُ وعَبيدُه، وهم خاضعونَ له، مُسَخَّرونَ تحتَ تدبيره، فكيف يكونُ له منهم ولد؟!).
﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ ﴾: أي ليس عند هؤلاء المشركين شيءٌ من العلم على ما يَنسبونه كذباً للهِ تعالى من اتِّخاذ الولد، وكذلك لم يكن عند آبائهم الذين قلَّدوهم عِلمٌ بذلك، ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً ﴾: أي عَظُمتْ هذه المقالة القبيحة التي ﴿ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ وهي نِسبة الولد للهِ تعالى، ﴿ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ﴾: أي ما يقولونَ إلا قولاً كاذبًا (وَرِثوه عن آباءهم بغير دليل).
الآية 6: ﴿ فَلَعَلَّكَ ﴾ - أيها الرسول - ﴿ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ ﴾ أي مُهْلِك نفسك على أثَر إعراض قومك (يعني بسبب إعراضهم عنك) ﴿ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ أي ستُهلِك نفسك غمًّا وحزنًا إنْ لم يُصَدِّقوا بهذا القرآن ويَعملوا به!
الآية 7، والآية 8: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ ﴾ من المخلوقات ﴿ زِينَةً لَهَا ﴾ أي جَمالا لها، ومَنفعةً لأهلها ﴿ لِنَبْلُوَهُمْ ﴾ أي لنَختبر المُكَلَّفين من الإنس والجن: ﴿ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾: يعني أيُّهم أكثر اتِّباعاً لأمْرنا واجتناباً لنَهْينا وإتقاناً لطاعتنا، وأيُّهم الذي يَعصي ربه من أجل الدنيا، ﴿ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا ﴾: أي سنجعل كل ما على الأرض ترابًا، ﴿ جُرُزًا ﴾ أي لا نباتَ فيه (وذلك عند انتهاء الدنيا)، إذاً فلا تَحزن أيها الرسول على ما تَلقاه مِن أذى قومك وتكذيبهم، فإنّ الدنيا - التي مِن أجلها يُعادونكَ - ستزولُ سريعاً، ثم يُجازيهم اللهُ يوم القيامة على تكذيبهم وعِصيانهم.
من الآية 9 إلى الآية 12: ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ﴾: يعني أم ظننتَ أيها الرسول أنّ قصة أصحاب الكهف - واللوح الحَجَري الذي كُتِبَت فيه أسماؤهم - شيئاً مُنفرداً بالعجب من بين الآيات الأخرى؟! (والاستفهام للنفي) أي لا تظن ذلك، فإنّ خَلْق السماوات والأرض وما فيهما من الآيات أعجب من هذا بكثير.
﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ﴾: أي اذكر أيها الرسول - للسائلينَ عن قصتهم - حين لجأ هؤلاء الشباب إلى الكهف (فِراراً بدينهم، وخوفاً من تعذيب قومهم لهم)، ﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ أي أعطنا مِن عندك رحمةً تُثَبِّتنا بها، وتحفظنا بها من الشر، ﴿ وَهَيِّئْ لَنَا ﴾ أي يَسِّر لنا ﴿ مِنْ أَمْرِنَا ﴾ الصعب الذي نحن فيه - مِن هِجرتنا لأهلنا وبيوتنا - ﴿ رَشَدًا ﴾: أي يَسِّر لنا ما يَصلُحُ به أمْر ديننا ودُنيانا.
♦ فاستجاب اللهُ دعاءهم ورَعَاهم، قال تعالى: ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ﴾: أي فألقينا عليهم النوم العميق في الكهف سنين كثيرة، حتى تغيَّرتْ الأحوال وتَبدَّلت الأجيال، ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ﴾ أي: ثم أيقظناهم مِن نومهم ﴿ لِنَعْلَمَ ﴾ أي لنُظهِر للناس ما عَلِمناه في قديم الأزل، فيَعلموا ﴿ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ﴾: يعني أيُّ الطائفتين المختلفتين في مدة بقاءهم في الكهف أضبَط في حساب هذه المدة؟ (والراجح أنّ الذين اختلفوا فيهم: هم فريقان من الأُمّة التي اكتشفتهم بعد سنين عديدة، واللهُ أعلم).
من الآية 13 إلى الآية 17: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ﴾ أي نتلو عليك خبَرَ أصحاب الكهف بالصِدق واليقين، ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ ﴾: يعني إنهم شبابٌ صَدَّقوا بتوحيد ربهم وامتثلوا أمْره ﴿ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ أي زدناهم إيماناً وثباتًا، وذلك بسبب إيمانهم، كما قال تعالى: ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ﴾، ﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ﴾: أي قوَّينا قلوبهم بالإيمان حين قاموا بين يدي المَلِك الكافر، وهو يَلومُهم على تَرْك عبادة الأصنام، ﴿ فَقَالُوا ﴾ له: ﴿ رَبُّنَا ﴾ الذي نعبده هو ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، و ﴿ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا ﴾: أي لن نَعبد غيره من الآلهة المزعومة كذباً، ﴿ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ﴾: يعني لو قلنا غير هذا، لكُنَّا قائلينَ قولاً ظالماً بعيدًا عن الحق، ثم قالوا له: ﴿ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً ﴾ يَعبدونهم، فـ ﴿ لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ﴾: يعني فهَلاَّ جاءوا بدليلٍ واضح يَدُلّ على استحقاقها للعبادة، ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ ﴾: أي فلا أحد أشد ظلمًا ﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ بأن يَنسبَ إليه شريكاً في عبادته.
♦ ثم بعد أن خرجوا مِن عند هذا المَلِك، قال بعضهم لبعض - وهم يَتناصحونَ ويَتشاورون -: ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ يعني: بما أنكم فارَقتم قومكم بدينكم، وتركتم ما يَعبدونَ من دون الله، لم يَبقَ لكم إلا النجاة مِن شَرِّهم، إذاً ﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴾: أي الجؤوا إلى الكهف الذي في الجبل لعبادة ربكم وحده، وهَرَباً من أعدائكم المشركين، فحينئذٍ ﴿ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾ أي يُنَزِّل عليكم ربكم مِن رحمته ما يُنَجِّيكم به مِمّا فررتم منه ﴿ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ﴾: أي ويُيَسِّر لكم مِن أمْركم ما تنتفعونَ به - من أسباب العيش - في مأواكم الجديد، (فلمَّا قالوا ذلك، وذهبوا إلى الكهف: ألقى اللهُ عليهم النوم وحَفِظهم).
﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ ﴾ يعني: وإذا نظرتَ إليهم - أيها الرسول - لَرأيتَ الشمسَ ﴿ إِذَا طَلَعَتْ ﴾ من المَشرق ﴿ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ﴾: أي تميل وتَتَنَحَّى عن مكانهم إلى جهة اليمين فلا تصيبهم، ﴿ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ أي تتجاوز عنهم إلى جهة اليسار، ﴿ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ﴾: أي وقد أنامهم اللهُ في مُتَسَّع من الكهف حتى لا يَنقطع عنهم الهواء، ﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي فعلناه بهؤلاء الشباب - مِن حِفظهم من حرارة الشمس، وعدم نفاد الهواء عنهم - هو ﴿ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ ﴾ أي من دلائل قدرة اللهِ تعالى، ورحمته ولُطفه بأوليائه.
﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ﴾ يعني: مَن يُوفقه اللهُ للاهتداء بآياته، فهو المُوَفَّق إلى الحق، ﴿ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ﴾ يعني: ومن لم يُوَفِّقه لذلك، فلن تجد له مُعينًا يُرشده لإصابة الحق؛ لأنّ التوفيق والخِذْلان بيد اللهِ وحده، (إذاً فليَطلب العبد من ربه الهداية والثبات، وليَعتصم به من الزَيغ والضَلال).
الآية 18: ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا ﴾ يعني: إذا نظرتَ إليهم - أيها الرسول - لَظننتَ أنهم مستيقظين (لأنّ أعْينهم كانت مُفَتَّحة) ﴿ وَهُمْ ﴾ في الحقيقة ﴿ رُقُودٌ ﴾ أي نائمونَ لا يشعرونَ بأحد، ﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ أي نُقَلِّبهم أثناء نومهم مَرّة للجنب الأيمن ومَرَّة للجنب الأيسر، حتى لا تأكلهم الأرض، ﴿ وَكَلْبُهُمْ ﴾ - الذي أخذوه معهم لحِراستهم - ﴿ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ﴾ أي قد مَدَّ ذراعيه بفناء الكهف (لأنه أصابه من النوم ما أصابهم وقت حِراسته)، ﴿ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا ﴾ أي لو شاهدتهم وهم نائمونَ وأعينهم مُفَتَّحة: لَرجعتَ فارّاً منهم ﴿ وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ﴾ (لأنّ اللهَ قد ألقى الخوف والفزع على مَن يَراهم، حتى لا يدخل عليهم).
الآية 19، والآية 20: ﴿ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ ﴾: يعني وكما أنمناهم وحفظناهم هذه المدة الطويلة، فكذلك أيقظناهم مِن نومهم على هيئتهم دونَ تغيُّر، وذلك ﴿ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ﴾: يعني لكي يَسأل بعضهم بعضًا، فيَزدادوا إيماناً باللهِ تعالى، ويَتيقنوا بحمايته لأوليائه، فـ ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ﴾: ﴿ كَمْ لَبِثْتُمْ ﴾: يعني كم من الوقت بقينا نائمين هنا؟ ﴿ قَالُوا ﴾ أي قال بعضهم: ﴿ لَبِثْنَا ﴾ أي مَكَثنا ﴿ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾، ﴿ قَالُوا ﴾ أي قال آخرونَ قد اختلط عليهم الأمر: فَوِّضوا ذلك إلى اللهِ تعالى، فـ ﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ﴾: أي فرَبُّكم أعلم بالوقت الذي مَكَثتموه.
♦ وقد كانوا جائعينَ فقالوا: ﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ﴾: أي فأرسِلوا أحدكم بنقودكم الفضية هذه إلى مَدِينتنا، ﴿ فَلْيَنْظُرْ ﴾: ﴿ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ﴾: يعني أيَّ أهْل المدينة طعامه حلالاً طيباً ﴿ فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ﴾ لتأكلوه سَدّاً لجوعكم ﴿ وَلْيَتَلَطَّفْ ﴾ في ذهابه وعودته وشرائه مع البائع حتى لا ننكشف، ﴿ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ﴾ أي: ولا يَفعل فِعلاً يؤدى إلى معرفة أحدٍ من قومكم بوجودكم، فـ ﴿ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ﴾ يعني إن يَروكم: ﴿ يَرْجُمُوكُمْ ﴾ بالحجارة، فيقتلوكم ﴿ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ﴾: يعني أو يُرجعوكم إلى دينهم، فتَصيروا مُشركينَ مِثلهم ﴿ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾: أي ولن تفوزوا أبدًا بدخول الجنة والنجاة من النار، إن أطعتموهم فأشركتم بربكم.
الآية 21: ﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ أي جعلنا أهل ذلك الزمان يَعثرون عليهم (وذلك بعد أن كَشَفَ البائع نوع الدراهم القديمة التي جاء بها مَبعوثهم)، وقد جعلنا الناس يَعثرونَ عليهم ﴿ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ ﴾ بالبعث ﴿ حَقٌّ ﴾ لأنّ الذي أنامهم كل هذه المدة ثم أيقظهم، قادرٌ سبحانه على أن يَبعثهم بعد موتهم، ليُحاسبهم ويُجازيهم بأعمالهم، ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا ﴾ يعني: ولِيَعلم الناس أنّ الساعة التي تقوم فيها القيامة آتيةٌ لا شك فيها، ﴿ إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ﴾: يعني إنهم عَثَروا عليهم في وقتٍ كان أهل البلد يَختلفون في أمْر القيامة: (فمِنهم مَن كانَ مؤمناً بها، ومنهم مَن كانَ مُنْكِراً لها)، فلمَّا اطَّلعوا جميعاً على أصحاب الكهف، جعل اللهُ اطّْلاعهم حُجَّةً للمؤمنين على الكافرين في قدرة اللهِ على البَعث والإحياء، وعلى أنّ البعث يكونُ بالأجسام والأرواح معاً وليس بالأرواح فقط.
♦ وبعد أن انكشف أمْرهم ماتوا ﴿ فَقَالُوا ﴾ أي فقال فريقٌ من المُطَّلِعينَ عليهم: ﴿ ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا ﴾: أي ابنوا على باب الكهف بناءً يَحجبهم عن الناس، واتركوهم وشأنهم، فـ ﴿ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ﴾: أي ربهم أعلم بحالهم، و ﴿ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ ﴾ وهم أصحاب الكلمة والنفوذ - الذين يُعرَفون بـ (الحكومة) -: ﴿ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ﴾: أي لَنَتّخِذنَّ على مكانهم مَسجدًا للعبادة، (وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، ولَعَنَ مَن فَعَلَ ذلك، لأن هذا قد يؤدي إلى عبادة مَن فيها).
الآية 22: ﴿ سَيَقُولُونَ ﴾ أي سيقول بعض أهل الكتاب - الذين اختلفوا في عدد أصحاب الكهف -: هم ﴿ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ أي ويقول فريقٌ آخر منهم: هم ﴿ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾، وكلامُ الفريقين كانَ ﴿ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ﴾ أي رَمْياً بالكلام من غير تثبّت، وظناً مِن غير دليل، (فدَلَّ ذلك على بُطلان القولين السابقين) ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ أي وتقول جماعة ثالثة: هم ﴿ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ (وهذا هو الصواب - واللهُ أعلم - لأنّ اللهَ تعالى أبطل القولين السابقين، ولم يُبطِل القول الثالث، فدَلَّ ذلك على صحته).
♦ ولمّا كان هذا من الاختلاف الذي لا فائدة منه، وليس فيه مصلحة للناس (دينية أو دنيوية)، قال تعالى بعدها: ﴿ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ﴾ أي ربي هو الأعلم بعددهم، و ﴿ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾: أي ما يَعلم عددهم إلا قليلٌ من الناس ﴿ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا ﴾: أي فلا تُجادل أهل الكتاب في عددهم إلا جدالاً ظاهرًا لا عُمقَ فيه (وذلك بأن تَذكر لهم ما أخبرك به الوحي فقط، بدون أن تُكَذِّبهم أو تُوافقهم)، ﴿ وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ ﴾ أي لا تسأل في شأن أصحاب الكهف ﴿ مِنْهُمْ ﴾ أي مِن أهل الكتابِ ﴿ أَحَدًا ﴾ لأنهم لا يَعلمونَ ذلك وإنما يقولون بالظن والتخمين، لا بالعلم واليقين، (وفي هذا دليل على المنع مِن سؤال مَن لا يَصلح للفتوى).
الآية 23، والآية 24: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ ﴾ تَعزم على فِعله: ﴿ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ ﴾ الشيء ﴿ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ يعني إلا أن تُعَلِّق قولك بالمشيئة، فتقول: (إن شاء الله)، ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾: يعني وإذا نسيتَ قوْل: (إن شاء الله)، فاذكُره - ولو بعد فترة - لتَخرج به من الحرج (وكلما نسيتَ شيئاً فاذكر الله؛ فإنّ ذِكْرَ اللهِ يُذهِب النسيان).
♦ واعلم أنّ سبب اعتراض هذه الآية للسياق، أنّ المشركينَ لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين، قال لهم: (أُخبِركم بما سألتم عنه غداً)؛ ولم يقل (إن شاء الله)، فانقطع الوحي نصف شهر، ثم نزلتْ سورة الكهف وفيها جواب ما سألوا.
﴿ وَقُلْ ﴾ لهم - بعد قوْل (إن شاء الله) -: ﴿ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾: أي لعل اللهَ أن يُنعِمَ عليّ بشيئٍ أكثر إثباتاً لنبوتي - وأكثر هدايةً للناس - من قصة أصحاب الكهف، التي سألتموني عنها اختباراً لنُبُوّتي.
الآية 25، والآية 26: ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ﴾ أي وبَقى الشُّبابُ نائمين في كَهْفهم ثلاثمائة سَنَة (بالحساب الشمسي)، وثلاثمائة سَنَة وتسع سنين (بالحساب القمري)، ﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ﴾: يعني وإذا سُئلت أيها الرسول عن مدة بقائهم في الكهف - وليس عندك عِلمٌ مِن اللهِ في ذلك - فلا تجتهد فيه بشيء، بل قل: (اللهُ أعلم بمدة بقائهم)، فإنه سبحانه ﴿ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ أي يَعلمُ جميع ما خَفِيَ عن حواس الناس في السماوات والأرض، ﴿ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ﴾: أي تعجَّب مِن كمال بصر ربك وسَمْعه وإحاطته بكل شيء (أو بصيغةٍ أخرى: ما أعظم بَصَرَهُ بخَلقه وما أعظم سَمْعه لأقوالهم، حيث لا يَخفى عليه شيءٌ من أحوالهم)، و ﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ﴾: أي ليس للخَلق أحدٌ غيره يَتولى أمورهم، ﴿ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾: أي وليس له شريكٌ في حُكمه وقضائه وتشريعه (لِغِناه سبحانه عَمّا سواه).
الآية 27: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ﴾: أي اقرأ أيها الرسول ما أوحاه اللهُ إليك من القرآن (تَعَبُّداً به، وتعليماً للمؤمنين بما جاءَ فيه من الهدى، ودعوةً للناس إلى ربهم)، فإنه سبحانه ﴿ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ أي لا مُغيّر لكلماته، لا في ألفاظها ولا في معانيها ولا في أحكامها (ومِن ذلك ما وَعَدَكَ به من النصر على أعدائك)، ﴿ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ أي لن تجد مَلجأً تَميل إليه ليُنجيك من عقاب ربك (إن وافقتهم على شيئٍ من اقتراحاتهم).
الآية 28: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ﴾ أي صَبِّر نفسك أيها النبي، واحبسها - حَبْسَ مُلازَمة - ﴿ مَعَ ﴾ أصحابك مِن فقراء المؤمنين ﴿ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾: أي الذين يَعبدونَ ربهم وحده، ويدعونه في الصباح والمساء، ﴿ يُرِيدُونَ ﴾ بذلك ﴿ وَجْهَهُ ﴾ أي يريدون بأعمالهم الصالحة رضا اللهِ تعالى وَجَنَّتِه، والنظر إلى وجهه الكريم، ﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾: أي ولا تصرف نظرك عنهم إلى غيرهم من الكفار الأغنياء، ﴿ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾؟ يعني: هل تريد مُجالستهم للشرف والفخر لأنهم أصحاب هيئة وزينة، وأصحابك ليس لهم ذلك؟ (وهذا استفهام غرضه النفي والإنكار) أي: لا تفعل هذا، ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾ أي: ولا تُطِعْ مَن جعلنا قلبه غافلاً عَمّا يَجب عليه مِن ذِكرنا وعبادتنا (عقوبةً له)، لأنه عانَدَ وتكَبَّر ﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ ففضَّله على طاعة مَولاه ﴿ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾: أي وصارَ أمْرُهُ في جميع أعماله ضَياعاً وهَلاكًا.
♦ واعلم أنّ هذا التوجيه قد نَزَلَ للرسول صلى الله عليه وسلم عندما عَرَضَ عليه المشركون إبعاد أصحابه الفقراء عنه (كَبِلال وصُهَيْب وغيرهما) ليَجلسوا إليه ويسمعوا منه، فنَهاه ربه عن ذلك، وأمَرَه بملازمة المؤمنين الفقراء الذين لا يريدون بصلاتهم وتسبيحهم ودعائهم عَرَضاً من الدنيا، وإنما يريدون رضا اللهِ عنهم، ومَحبته لهم.
♦ واعلم أنّ الفعل (كان) إذا جاء مع صفة معينة، فإنه يدل على أنّ هذه الصفة مُلازِمة لصاحبها، كقوله تعالى - واصفاً نفسه بالرحمة والمغفرة -: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ أي كانَ سبحانه - أزَلاً وأبداً - غفوراً رحيماً.
الآية 29: ﴿ وَقُلِ ﴾ لهؤلاء الغافلين: ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ يعني: ما جئتكم به - من التوحيد والعمل الصالح - هو الحق من ربكم، ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ﴾: أي فمن أراد منكم أن يُصَدِّق بهذا الحق ويَعمل به، فليَفعل فهو خيرٌ له، ﴿ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾: أي ومَن أراد أن يَجحد فليَفعل، فما ظَلَمَ إلا نفسه، فـ ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ ﴾ أي للمُشركين، لأنَّ اللهَ تعالى قال: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾، فأولئك قد أعَدَّ اللهُ لهم ﴿ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ أي أحاطت بهم جُدرانها المُحرِقة، ﴿ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا ﴾ - بطَلَب الماء مِن شدة العطش - فإنهم ﴿ يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ﴾: أي يُؤتَ لهم بماءٍ يُشبه الزيت العَكِر - شديد الحرارة - ﴿ يَشْوِي الْوُجُوهَ ﴾: يعني إذا قرّبوه مِن وجوههم ليَشربوا: شَوَى جلودهم ووجوههم، فإذا شربوه: قطَّعَ أمعاءهم، ﴿ بِئْسَ الشَّرَابُ ﴾: أي قَبُح هذا الشراب الذي لا يَروي ظمأهم بل يَزيده، ﴿ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾: أي وقَبُحَتْ النار مَنزلاً لهم ومُستقَرَّاً، (وفي هذا وعيدٌ شديد لمن أعرض عن الحق، فلم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ الأمر في قوله تعالى: (فليَكفر) هو للتهديد والوعيد، بدليل ذِكر العذاب الذي سيُصيبه إنْ كَفَر).
الآية 30، والآية 31: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ لهم أعظم الثواب، فـ ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ أي لا نُضيع أجورهم على إيمانهم وإحسان أعمالهم، ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ أي لهم جنات الخلود التي يُقيمون فيها ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ﴾ أي تجري الأنهار مِن تحت قصورهم، ﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ﴾: أي يَلبسونَ فيها أساور من ذهب ﴿ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا ﴾ أي ثياباً ذات لون أخضر، قد نُسِجَت ﴿ مِنْ سُنْدُسٍ ﴾ وهو الحرير الرقيق ﴿ وَإِسْتَبْرَقٍ ﴾ وهو الحرير الغليظ، ﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ﴾ (والأرائك جمع أرِيكة، وهي السرير المُزَيّن بالستائر الجميلة)، ﴿ نِعْمَ الثَّوَابُ ﴾ ثوابهم، ﴿ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ﴾: أي وحَسُنتِ الجنة مَنزلا ومكانًا لهم.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
تفسير الربع الثاني من سورة الكهف
الآية 32، والآية 33: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا ﴾ أي اجعل أيها الرسول مَثلاً - للمتكبرين الذين يُنكِرونَ البَعث - بـ ﴿ رَجُلَيْنِ ﴾ من الأمم السابقة، أحدهما مؤمن فقير، والآخر كافر غني، وقد ﴿ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا ﴾ (وهو الكافر)، جعلنا له ﴿ جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ ﴾ أي حديقتين من أعناب، ﴿ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ ﴾: يعني وأحَطناهما بنخلٍ كثير، ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا ﴾: أي وأنبتنا بين العنب والنخل: ﴿ زَرْعًا ﴾ أي زروعًا مختلفة، و ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا ﴾: يعني كل واحدة من الحديقتين قد أثمرتْ ثمارها ﴿ وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾: أي لم تُنْقِص مِن ثمارها شيئًا - بسبب مرضٍ أصاب الثمار أو غير ذلك - بل أثمَرَتْه كاملاً وافياً ﴿ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾: أي شَققنا بين أشجار الحديقتين نهرًا جارياً ليَسقيهما بسهولة.
الآية 34، والآية 35، والآية 36: ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ﴾: يعني وكان لصاحب الحديقتين ثمر وأموال أخرى (لأنّ كلمة ثَمَر جاءت في قراءة أخرى بضم الميم (ثُمُر) ومعناها أموال)، ﴿ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ ﴾ المؤمن، ﴿ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ﴾ في الحديث: ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا ﴾ ﴿ وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ أي أعزُّ منك أنصارًا وأعوانًا، وأولاداً وعشيرة (وقد قال هذا فخراً وتعاظُماً)، ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ﴾ أي ودخل الكافر حديقته ﴿ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ﴾ أي مُعَرِّضُها لسخط اللهِ وعذابه، بسبب غروره وتكَبُّره.
♦ وعندما أعجبته ثمار حديقته: ﴿ قَالَ ﴾ لصاحبه المؤمن: ﴿ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾: أي ما أعتقد أن تَهْلك هذه الحديقة أبداً، ﴿ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ﴾: يعني وما أعتقد أنّ القيامة واقعة، ﴿ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي ﴾: يعني وإنْ فرضْنا وقوع القيامة - كما تزعم أيها المؤمن - ورُجِعتُ إلى ربي: ﴿ لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾: أي لأَجدنَّ عنده مكاناً أفضل من هذه الحديقة، وذلك لكرامتي ومنزلتي عنده.
من الآية 37 إلى الآية 42: ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ ﴾ المؤمن ﴿ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ﴾ في الحديث: ﴿ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ﴾ يعني هل كفرتَ بقدرة اللهِ على البعث، وقد خَلَقَ أباكَ آدم مِن تراب ﴿ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ﴾ أي: ثم خلقك أنت مِن مَنِيٍّ ﴿ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴾ أي:ثم سَوَّاك بشرًا مُعتدل القامة والخَلْق؟! (فالذي ابتدأ خَلْقك قادرٌ على إعادتك بعد الموت)، ﴿ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ﴾: يعني لكنْ أنا أقول: المُنعِم هو اللهُ ربي وحده، (فلم تَحصل لك الدنيا بحَولك وقوتك، بل بفضل اللهِ تعالى عليك)، ﴿ وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ في عبادتي له، ولا أجحد نعمته عليّ، ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ﴾: يعني وهَلاَّ حينَ دخَلْتَ حديقتك فأعجبتك: ﴿ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾: أي هذا هو ما شاءَ اللهُ لي، لا قوة لي على تحصيله إلا بالله، هذا ﴿ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ﴾: يعني إن كنتَ تراني أقل منك مالاً وأولادًا، (ولهذا ينبغي لكل مَن أعجبه شيئٌ يَخُصُّهُ - أو يَخُصُّ غيره - أن يقول: (مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه)).
♦ وقال المؤمن: ﴿ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ ﴾: يعني فأرجو مِن ربي أن يُعطيني أفضل من حديقتك ﴿ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا ﴾ أي على حديقتك ﴿ حُسْبَانًا ﴾ أي عذابا ﴿ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ ﴿ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ﴾: أي فتصبح أرضًا مَلساء (لا تَثبُت عليها قدم، ولا يَنبُت فيها نبات) ﴿ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا ﴾: يعني أو يصير ماؤها (الذي تُسقَى منه) غائرًا في أعماق الأرض ﴿ فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ﴾: أي فحينئذٍ لن تقدر على إخراجه.
♦ واستجاب اللهُ لِمَا قاله المؤمن ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ﴾: أي وَوَقع الدمار بحديقة الكافر، فهَلَكَ كل ما فيها، ﴿ فَأَصْبَحَ ﴾ الكافر ﴿ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ﴾ حسرةً وندامةً ﴿ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا ﴾ مِن جهدٍ كبير ومالٍ كثير ﴿ وَهِيَ خَاوِيَةٌ ﴾ أي فارغة مِمّا كانَ فيها، وقد تَهدَّمَتْ مَبانِيها وسقطتْ حِيطانُها وجُدرانها ﴿ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾: أي على سُقوفِ بيوتِها ﴿ وَيَقُولُ ﴾: ﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ (فعُلِمَ مِن هذه الجملة أنه كان مُشركاً باللهِ تعالى، ولذلك قال له المؤمن: (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)).
الآية 43، والآية 44: ﴿ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾: يعني ولم تكن له جماعة - مِمّن افتخر بهم - يَمنعونه مِن عقاب اللهِ حينَ نَزَلَ به ﴿ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ﴾: يعني وما كانَ مُمتنعًا بنفسه وقوّته (لأنّ مَن خَذَله اللهُ فلا ناصرَ له).
♦ ثم قال تعالى في نهاية هذه القصة: ﴿ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ﴾ أي في مِثل هذه الشدائد - حينَ نزل العذاب بصاحب الجنتين - تكون النُصرة للهِ المعبود الحق (لا لغيره من المعبودات الباطلة التي لم تدفع عن عابدِيها شيئاً من العذاب).
♦ فمَن كان مؤمناً تقيّاً، كان سبحانه له وَلِيَّاً، فيَنصره ويدفع عنه الشرور والبلاء، ويوم القيامة يُعطيه أحسن الجزاء، فـ ﴿ هُوَ ﴾ سبحانه ﴿ خَيْرٌ ثَوَابًا ﴾: أي خيرُ مَن يُثيب على الإيمان والعمل الصالح، ﴿ وَخَيْرٌ عُقْبًا ﴾ أي خيرُ مَن يَجزي بحُسن العاقبة لمن رَجَاهُ وآمَنَ به.
الآية 45: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي اجعل - أيها الرسول - للناس مَثلاً لسرعة زوال الدنيا التي اغترُّوا بها ﴿ كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ ﴿ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ﴾: أي فنَبَتَ بهذا المطر أنواع كثيرة من النبات، الذي نَمَا وازدهر حتى اشتبك بعضه ببعض، وأثمَرَ الكثير من مُختلَف الحبوب والثمار، وما هي إلا مدة يسيرة: ﴿ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ﴾: أي حتى صار هذا النبات يابسًا مُتكَسِّراً تنسفه الرياح ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ أي قادراً كامل القدرة، لا يُعجِزه شيء.
الآية 46: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي هم قوةٌ وجَمالٌ في هذه الدنيا الفانية، إذ يَتجمل بهما الإنسان فترة قصيرة، ثم يَذهبان ولا يَدخلان معه قبره (إذاً فلا يَجعلهم همَّه في هذه الحياة، ولا يُشغِلاه عن طاعة مَولاه)، ﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾: يعني والأعمال الصالحة -وخاصةً التسبيحُ والتحميد والتكبير والتهليل -: ﴿ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا ﴾ من الأموال والأولاد، ﴿ وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾: يعني وهذه الأعمال الصالحة هي أفضل ما يَرجو الإنسان من الثواب عند ربه، إذ يَحصل بها في الآخرة على ما كان يَأمله ويَتمناه في الدنيا (وزيادةٌ على ذلك مما لم تَرَ عينه، ولم تَسمع أذنه، ولم يَخطر على قلبه).
الآية 47، والآية 48: ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ﴾: أي واذكر لهم يوم نَقتلع الجبال فنُزيلها عن أماكنها، ثم نَجعلها هباءً منثوراً (ما أعظمك يارب)، ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ﴾ أي ظاهرة، ليس عليها شيئٌ من المخلوقات، ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ ﴾ أي وجَمَعنا الأولين والآخِرين مِن قبورهم للحساب والجزاء ﴿ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾: أي فلم نترك منهم أحدًا، ﴿ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا ﴾ أي مُصطَفِّينَ لا يَخفى على اللهِ منهم أحد، وقال اللهُ لهم - توبيخاً -: ﴿ لَقَدْ جِئْتُمُونَا ﴾: أي لقد بَعثناكم، وجئتم إلينا بمُفردكم، فليس معَ أحدِكم مالٌ ولا ولد، بل جئتم حُفاةً عُراةً ﴿ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ ﴿ بَلْ زَعَمْتُمْ ﴾ يا مُنكِري البعث والجزاء ﴿ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ﴾ نَبعثكم فيه ونُجازيكم.
الآية 49: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ ﴾: أي وَوُضِعَ كتاب أعمال كل واحدٍ في يمينه أو في شماله، ﴿ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ ﴾ في ذلك الوقت ﴿ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ﴾ أي خائفينَ مِمّا في الكتاب، بسبب ما قدَّموه مِن جرائمهم، ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ - ندماً وتحسُّراً - حينَ يقرؤونه: ﴿ يَا وَيْلَتَنَا ﴾ يعني يا هَلاكنا (والمقصود أنهم يَدعون على أنفسهم بالهلاك والموت، لمُشاهدتهم لعظائم الأهوال وما يَنتظرهم من أصناف العذاب)، ويقولونَ: ﴿ مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ﴾ أي لم يَترك صغيرةً مِن أفعالنا ولا كبيرةً إلا أثبَتَها؟! ﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ﴾ أي مُثبَتًا ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾.
الآية 50، والآية 51: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ ﴾ أي واذكر- أيها الرسول - حين قلنا للملائكة: ﴿ اسْجُدُوا لِآَدَمَ ﴾ (سجود تحيةٍ وتكريم، وليس سجود عبادةٍ وخضوع)، ﴿ فَسَجَدُوا ﴾ جميعًا ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ الذي ﴿ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ﴾ لم يَسجد لآدم كِبرًا وحسدًا ﴿ فَفَسَقَ ﴾ بذلك ﴿ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾: أي خرج بذلك عن طاعة ربه، ﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ﴾: يعني أفتجعلونه - أيها الناس - هو وذريته أعوانًا لكم تطيعونهم وتتركون طاعتي، وهم أشدّ أعدائكم؟ ﴿ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾: أي قَبُحَتْ طاعة الظالمين للشيطان، بدلاً عن طاعة الرحمن.
♦ ثم يُخبر سبحانه بأنه المنفرد بالخلق والتدبير، وبأنه وحده المستحق للعبادة، فيقول: ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾: يعني ما أحضرتُ إبليس وذريته - الذين أطعتموهم - ليَشهدوا خَلْقَ السموات والأرض، حتى أستعين بهم على خلقهما، ﴿ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ﴾: يعني ولا أشهدتُ بعضهم على خَلْق بعض، بل تفرَّدتُ بخَلق جميع المخلوقات بغير مُعين، ﴿ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ﴾: يعني وما كنتُ مُتَّخذ أحداً من شياطين الإنس والجن أعوانًا لي في الخلق والتدبير.
الآية 52، والآية 53: ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ﴾: أي واذكر أيها الرسول يوم يقول اللهُ للمشركين يوم القيامة: نادوا مَن زعمتم أنهم شركاء لي في العبادة؛ ليَنصروكم اليوم مِنِّي، ﴿ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ﴾: أي فاستغاثَ المشركون بهم فلم يُغيثوهم، ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ﴾: أي وجعلنا بين المشركين ومَعبوديهم حاجزاً في أرض المَحشر يَفصل بينهم، ثم لمَّا يَدخلوا النار: نَجعل لهم مكاناً في جهنم يَهلكون فيه جميعًا، ﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ﴾ يوم القيامة ﴿ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ﴾: أي فأيقنوا أنهم واقعونَ فيها، (إذ يُطلَق الظن ويُراد به اليقين، وهو كثيرٌ في القرآن الكريم)، ﴿ وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ﴾: أي لم يَجدوا مكاناً يَنصرفونَ إليه ليَنجوا من عذابها.
الآية 54: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ﴾ أي وضَّحنا ونوَّعنا ﴿ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ﴾ يعني أنواعًا كثيرة من الأمثال والأدلة لِنُقيم عليهم الحُجّة، وليَتعظوا بها ويؤمنوا، ولكنّ المتكبرين منهم قابلوا ذلك بالجحود والجدال مِن بعد ما تَبَيَّنَ لهم الحق ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ أي هو أكثر المخلوقات جِدالاً (يعني أكثر من الجن)، وذلك حتى لا يَتخلى عن شهواته وأهوائه ويَنقاد للحق (إلا مَن عَصَمَه الله، وأعانه على مخالفة نفسه وهواه).
الآية 55: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ﴾: يعني وما مَنَعَ الكفارَ من الإيمان والتوبة والاستغفار حينَ جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن ﴿ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾: يعني إلا إنهم اشترطوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم لن يؤمنوا به حتى يُنَزِّل عليهم عذاباً مِثل عذاب السابقين - ليكون دليلاً لهم على نُبُوّته - ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ﴾: يعني أو يأتيهم عذاب يوم القيامة مُقابلةً أمام أعينهم، (وهذا مِن جَهْلهم وعنادهم) لأنهم حينئذٍ لن يَنفعهم الإيمان.
الآية 56: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ إلى الناس ﴿ إِلَّا ﴾ ليكونوا ﴿ مُبَشِّرِينَ ﴾ بالجنة لأهل الإيمان والعمل الصالح، ﴿ وَمُنْذِرِينَ ﴾ بالنار لأهل الكفر والعصيان (فلم نُرسِلهم عَبَثاً، ولم نُكَلِّفهم بهداية الناس أجمعين)، ورغم وضوح الحق: ﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ رُسُلهم ﴿ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾ أي ليُحاولوا إزالة الحق بباطلهم، ولن يَقبل اللهُ تعالى إلا أن يُتِمَّ نوره ولو كَرِهَ الكافرون، ﴿ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ﴾: يعني إنهم استهزؤوابدلائل توحيدي وتخويف الرُسُل لهم مِن عذابي.
الآية 57: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾: أي لا أحد أشد ظلمًا ﴿ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ﴾ الواضحة ﴿ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ﴾ وانصرف إلى الباطل ﴿ وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ من الذنوب ولم يَتُب منها.
♦ ثم ذَكَرَ تعالى سبب ظُلمهم وإعراضهم ونِسيانهم، فقال: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ﴾ أي جعلنا على قلوبهم أغطية، حتى لا يَفهموا القرآن، ﴿ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾: أي وجعلنا في آذانهم ما يُشبِه الصَّمَم، حتى لا يَسمعوا القرآن سماعَ تدبر وانتفاع، (وهذا كله عقوبة مِن الله تعالى لهم، بسبب إيذائهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وبسبب تَوَغُّلهم في الشر والفساد، فحَرَمهم اللهُ من الهداية)، ولهذا قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ﴾، وذلك لأنهم عرفوا طريق الحق فتركوه، وعرفوا طريق الضَلال فسلكوه، فاستحقوا بذلك العقاب والحِرمان (نسأل اللهَ العافية).
الآية 58: ﴿ وَرَبُّكَ الْغفُورُ ﴾ لذنوب عباده إذا تابوا، وهو سبحانه ﴿ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ بهم، إذ ﴿ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا ﴾: يعني لو يُعاقب هؤلاء المُعرِضين عن آياته بما كَسَبوا من الشرك والذنوب: ﴿ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ﴾ ولكنه تعالى حليمٌ لا يُعاجل بالعقوبة، ﴿ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ ﴾ يُجازيهم فيه بأعمالهم، و ﴿ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ﴾ أي لن يَجدوا مَلجأً يَحميهم من اللهِ تعالى إذا جاءهم هذا المَوعد (ويُحتمَل أن يكون المقصود بالمَوعد: يوم بدر، لأنّ السياق كان في الظَلَمة المُعاندين المحرومين من الهِداية، كأبي جهل وعُقبة ابن أبي مُعَيط والأخنس بن شريق، واللهُ أعلم).
الآية 59: ﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى ﴾ القريبة منهم - مِثل قُرَى قوم هود وصالح ولوط وشعيب - ﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ﴾: يعني أهلكناها حين ظلم أهلها أنفسهم بالكفر والمعاصي، ﴿ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ﴾: أي جعلنا لهلاكهم وقتاً مُحدداً، فلمَّا بلغوه: جاءهم عذابنا فأهلكناهم به (فكذلك هؤلاء المجرمون من قريش، حيثُ أهلكهم الله ببدر ولعنهم إلى الأبد).
(1) وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم باسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
• واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
يتبع
الربع الأول من سورة الكهف
من الآية 1 إلى الآية 5: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ أي الثناء على اللهِ تعالى بصفاته التي كلُّها كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فهو سبحانه ﴿ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ - محمد صلى الله عليه وسلم - ﴿ الْكِتَابَ ﴾ أي أنزل عليه القرآن ﴿ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾: أي لم يَجعل في القرآن شيئًا مائلاً عن الحق، بل جَعَله كتابًا ﴿ قَيِّمًا ﴾ أي مستقيمًا معتدلاً (لا اختلافَ فيه ولا تناقض، ولا تَشَدُّد ولا تفريط)، وقد أنزله سبحانه ﴿ لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ ﴾: أي ليُنذر الكافرين مِن عذابٍ شديدٍ مِن عنده ﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ﴾ (وهو الجنة) التي يُقيمون في نعيمها، ويَظلونَ ﴿ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ﴾ أي لا يُفارقونه أبدًا، ﴿ وَيُنْذِرَ ﴾ - بصفة خاصة - المُشركين ﴿ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴾ (وكيف ذلك والكُلُّ مِلكُهُ وعَبيدُه، وهم خاضعونَ له، مُسَخَّرونَ تحتَ تدبيره، فكيف يكونُ له منهم ولد؟!).
﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ ﴾: أي ليس عند هؤلاء المشركين شيءٌ من العلم على ما يَنسبونه كذباً للهِ تعالى من اتِّخاذ الولد، وكذلك لم يكن عند آبائهم الذين قلَّدوهم عِلمٌ بذلك، ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً ﴾: أي عَظُمتْ هذه المقالة القبيحة التي ﴿ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ وهي نِسبة الولد للهِ تعالى، ﴿ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ﴾: أي ما يقولونَ إلا قولاً كاذبًا (وَرِثوه عن آباءهم بغير دليل).
الآية 6: ﴿ فَلَعَلَّكَ ﴾ - أيها الرسول - ﴿ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ ﴾ أي مُهْلِك نفسك على أثَر إعراض قومك (يعني بسبب إعراضهم عنك) ﴿ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ أي ستُهلِك نفسك غمًّا وحزنًا إنْ لم يُصَدِّقوا بهذا القرآن ويَعملوا به!
الآية 7، والآية 8: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ ﴾ من المخلوقات ﴿ زِينَةً لَهَا ﴾ أي جَمالا لها، ومَنفعةً لأهلها ﴿ لِنَبْلُوَهُمْ ﴾ أي لنَختبر المُكَلَّفين من الإنس والجن: ﴿ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾: يعني أيُّهم أكثر اتِّباعاً لأمْرنا واجتناباً لنَهْينا وإتقاناً لطاعتنا، وأيُّهم الذي يَعصي ربه من أجل الدنيا، ﴿ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا ﴾: أي سنجعل كل ما على الأرض ترابًا، ﴿ جُرُزًا ﴾ أي لا نباتَ فيه (وذلك عند انتهاء الدنيا)، إذاً فلا تَحزن أيها الرسول على ما تَلقاه مِن أذى قومك وتكذيبهم، فإنّ الدنيا - التي مِن أجلها يُعادونكَ - ستزولُ سريعاً، ثم يُجازيهم اللهُ يوم القيامة على تكذيبهم وعِصيانهم.
من الآية 9 إلى الآية 12: ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ﴾: يعني أم ظننتَ أيها الرسول أنّ قصة أصحاب الكهف - واللوح الحَجَري الذي كُتِبَت فيه أسماؤهم - شيئاً مُنفرداً بالعجب من بين الآيات الأخرى؟! (والاستفهام للنفي) أي لا تظن ذلك، فإنّ خَلْق السماوات والأرض وما فيهما من الآيات أعجب من هذا بكثير.
﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ﴾: أي اذكر أيها الرسول - للسائلينَ عن قصتهم - حين لجأ هؤلاء الشباب إلى الكهف (فِراراً بدينهم، وخوفاً من تعذيب قومهم لهم)، ﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ أي أعطنا مِن عندك رحمةً تُثَبِّتنا بها، وتحفظنا بها من الشر، ﴿ وَهَيِّئْ لَنَا ﴾ أي يَسِّر لنا ﴿ مِنْ أَمْرِنَا ﴾ الصعب الذي نحن فيه - مِن هِجرتنا لأهلنا وبيوتنا - ﴿ رَشَدًا ﴾: أي يَسِّر لنا ما يَصلُحُ به أمْر ديننا ودُنيانا.
♦ فاستجاب اللهُ دعاءهم ورَعَاهم، قال تعالى: ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ﴾: أي فألقينا عليهم النوم العميق في الكهف سنين كثيرة، حتى تغيَّرتْ الأحوال وتَبدَّلت الأجيال، ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ﴾ أي: ثم أيقظناهم مِن نومهم ﴿ لِنَعْلَمَ ﴾ أي لنُظهِر للناس ما عَلِمناه في قديم الأزل، فيَعلموا ﴿ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ﴾: يعني أيُّ الطائفتين المختلفتين في مدة بقاءهم في الكهف أضبَط في حساب هذه المدة؟ (والراجح أنّ الذين اختلفوا فيهم: هم فريقان من الأُمّة التي اكتشفتهم بعد سنين عديدة، واللهُ أعلم).
من الآية 13 إلى الآية 17: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ﴾ أي نتلو عليك خبَرَ أصحاب الكهف بالصِدق واليقين، ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ ﴾: يعني إنهم شبابٌ صَدَّقوا بتوحيد ربهم وامتثلوا أمْره ﴿ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ أي زدناهم إيماناً وثباتًا، وذلك بسبب إيمانهم، كما قال تعالى: ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ﴾، ﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ﴾: أي قوَّينا قلوبهم بالإيمان حين قاموا بين يدي المَلِك الكافر، وهو يَلومُهم على تَرْك عبادة الأصنام، ﴿ فَقَالُوا ﴾ له: ﴿ رَبُّنَا ﴾ الذي نعبده هو ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، و ﴿ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا ﴾: أي لن نَعبد غيره من الآلهة المزعومة كذباً، ﴿ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ﴾: يعني لو قلنا غير هذا، لكُنَّا قائلينَ قولاً ظالماً بعيدًا عن الحق، ثم قالوا له: ﴿ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً ﴾ يَعبدونهم، فـ ﴿ لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ﴾: يعني فهَلاَّ جاءوا بدليلٍ واضح يَدُلّ على استحقاقها للعبادة، ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ ﴾: أي فلا أحد أشد ظلمًا ﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ بأن يَنسبَ إليه شريكاً في عبادته.
♦ ثم بعد أن خرجوا مِن عند هذا المَلِك، قال بعضهم لبعض - وهم يَتناصحونَ ويَتشاورون -: ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ يعني: بما أنكم فارَقتم قومكم بدينكم، وتركتم ما يَعبدونَ من دون الله، لم يَبقَ لكم إلا النجاة مِن شَرِّهم، إذاً ﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴾: أي الجؤوا إلى الكهف الذي في الجبل لعبادة ربكم وحده، وهَرَباً من أعدائكم المشركين، فحينئذٍ ﴿ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ﴾ أي يُنَزِّل عليكم ربكم مِن رحمته ما يُنَجِّيكم به مِمّا فررتم منه ﴿ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ﴾: أي ويُيَسِّر لكم مِن أمْركم ما تنتفعونَ به - من أسباب العيش - في مأواكم الجديد، (فلمَّا قالوا ذلك، وذهبوا إلى الكهف: ألقى اللهُ عليهم النوم وحَفِظهم).
﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ ﴾ يعني: وإذا نظرتَ إليهم - أيها الرسول - لَرأيتَ الشمسَ ﴿ إِذَا طَلَعَتْ ﴾ من المَشرق ﴿ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ﴾: أي تميل وتَتَنَحَّى عن مكانهم إلى جهة اليمين فلا تصيبهم، ﴿ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ أي تتجاوز عنهم إلى جهة اليسار، ﴿ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ﴾: أي وقد أنامهم اللهُ في مُتَسَّع من الكهف حتى لا يَنقطع عنهم الهواء، ﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي فعلناه بهؤلاء الشباب - مِن حِفظهم من حرارة الشمس، وعدم نفاد الهواء عنهم - هو ﴿ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ ﴾ أي من دلائل قدرة اللهِ تعالى، ورحمته ولُطفه بأوليائه.
﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ﴾ يعني: مَن يُوفقه اللهُ للاهتداء بآياته، فهو المُوَفَّق إلى الحق، ﴿ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ﴾ يعني: ومن لم يُوَفِّقه لذلك، فلن تجد له مُعينًا يُرشده لإصابة الحق؛ لأنّ التوفيق والخِذْلان بيد اللهِ وحده، (إذاً فليَطلب العبد من ربه الهداية والثبات، وليَعتصم به من الزَيغ والضَلال).
الآية 18: ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا ﴾ يعني: إذا نظرتَ إليهم - أيها الرسول - لَظننتَ أنهم مستيقظين (لأنّ أعْينهم كانت مُفَتَّحة) ﴿ وَهُمْ ﴾ في الحقيقة ﴿ رُقُودٌ ﴾ أي نائمونَ لا يشعرونَ بأحد، ﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ أي نُقَلِّبهم أثناء نومهم مَرّة للجنب الأيمن ومَرَّة للجنب الأيسر، حتى لا تأكلهم الأرض، ﴿ وَكَلْبُهُمْ ﴾ - الذي أخذوه معهم لحِراستهم - ﴿ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ﴾ أي قد مَدَّ ذراعيه بفناء الكهف (لأنه أصابه من النوم ما أصابهم وقت حِراسته)، ﴿ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا ﴾ أي لو شاهدتهم وهم نائمونَ وأعينهم مُفَتَّحة: لَرجعتَ فارّاً منهم ﴿ وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ﴾ (لأنّ اللهَ قد ألقى الخوف والفزع على مَن يَراهم، حتى لا يدخل عليهم).
الآية 19، والآية 20: ﴿ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ ﴾: يعني وكما أنمناهم وحفظناهم هذه المدة الطويلة، فكذلك أيقظناهم مِن نومهم على هيئتهم دونَ تغيُّر، وذلك ﴿ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ﴾: يعني لكي يَسأل بعضهم بعضًا، فيَزدادوا إيماناً باللهِ تعالى، ويَتيقنوا بحمايته لأوليائه، فـ ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ﴾: ﴿ كَمْ لَبِثْتُمْ ﴾: يعني كم من الوقت بقينا نائمين هنا؟ ﴿ قَالُوا ﴾ أي قال بعضهم: ﴿ لَبِثْنَا ﴾ أي مَكَثنا ﴿ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾، ﴿ قَالُوا ﴾ أي قال آخرونَ قد اختلط عليهم الأمر: فَوِّضوا ذلك إلى اللهِ تعالى، فـ ﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ﴾: أي فرَبُّكم أعلم بالوقت الذي مَكَثتموه.
♦ وقد كانوا جائعينَ فقالوا: ﴿ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ﴾: أي فأرسِلوا أحدكم بنقودكم الفضية هذه إلى مَدِينتنا، ﴿ فَلْيَنْظُرْ ﴾: ﴿ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ﴾: يعني أيَّ أهْل المدينة طعامه حلالاً طيباً ﴿ فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ﴾ لتأكلوه سَدّاً لجوعكم ﴿ وَلْيَتَلَطَّفْ ﴾ في ذهابه وعودته وشرائه مع البائع حتى لا ننكشف، ﴿ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ﴾ أي: ولا يَفعل فِعلاً يؤدى إلى معرفة أحدٍ من قومكم بوجودكم، فـ ﴿ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ﴾ يعني إن يَروكم: ﴿ يَرْجُمُوكُمْ ﴾ بالحجارة، فيقتلوكم ﴿ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ﴾: يعني أو يُرجعوكم إلى دينهم، فتَصيروا مُشركينَ مِثلهم ﴿ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾: أي ولن تفوزوا أبدًا بدخول الجنة والنجاة من النار، إن أطعتموهم فأشركتم بربكم.
الآية 21: ﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ أي جعلنا أهل ذلك الزمان يَعثرون عليهم (وذلك بعد أن كَشَفَ البائع نوع الدراهم القديمة التي جاء بها مَبعوثهم)، وقد جعلنا الناس يَعثرونَ عليهم ﴿ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ ﴾ بالبعث ﴿ حَقٌّ ﴾ لأنّ الذي أنامهم كل هذه المدة ثم أيقظهم، قادرٌ سبحانه على أن يَبعثهم بعد موتهم، ليُحاسبهم ويُجازيهم بأعمالهم، ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا ﴾ يعني: ولِيَعلم الناس أنّ الساعة التي تقوم فيها القيامة آتيةٌ لا شك فيها، ﴿ إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ﴾: يعني إنهم عَثَروا عليهم في وقتٍ كان أهل البلد يَختلفون في أمْر القيامة: (فمِنهم مَن كانَ مؤمناً بها، ومنهم مَن كانَ مُنْكِراً لها)، فلمَّا اطَّلعوا جميعاً على أصحاب الكهف، جعل اللهُ اطّْلاعهم حُجَّةً للمؤمنين على الكافرين في قدرة اللهِ على البَعث والإحياء، وعلى أنّ البعث يكونُ بالأجسام والأرواح معاً وليس بالأرواح فقط.
♦ وبعد أن انكشف أمْرهم ماتوا ﴿ فَقَالُوا ﴾ أي فقال فريقٌ من المُطَّلِعينَ عليهم: ﴿ ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا ﴾: أي ابنوا على باب الكهف بناءً يَحجبهم عن الناس، واتركوهم وشأنهم، فـ ﴿ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ﴾: أي ربهم أعلم بحالهم، و ﴿ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ ﴾ وهم أصحاب الكلمة والنفوذ - الذين يُعرَفون بـ (الحكومة) -: ﴿ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ﴾: أي لَنَتّخِذنَّ على مكانهم مَسجدًا للعبادة، (وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، ولَعَنَ مَن فَعَلَ ذلك، لأن هذا قد يؤدي إلى عبادة مَن فيها).
الآية 22: ﴿ سَيَقُولُونَ ﴾ أي سيقول بعض أهل الكتاب - الذين اختلفوا في عدد أصحاب الكهف -: هم ﴿ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ أي ويقول فريقٌ آخر منهم: هم ﴿ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾، وكلامُ الفريقين كانَ ﴿ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ﴾ أي رَمْياً بالكلام من غير تثبّت، وظناً مِن غير دليل، (فدَلَّ ذلك على بُطلان القولين السابقين) ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ أي وتقول جماعة ثالثة: هم ﴿ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ (وهذا هو الصواب - واللهُ أعلم - لأنّ اللهَ تعالى أبطل القولين السابقين، ولم يُبطِل القول الثالث، فدَلَّ ذلك على صحته).
♦ ولمّا كان هذا من الاختلاف الذي لا فائدة منه، وليس فيه مصلحة للناس (دينية أو دنيوية)، قال تعالى بعدها: ﴿ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ﴾ أي ربي هو الأعلم بعددهم، و ﴿ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾: أي ما يَعلم عددهم إلا قليلٌ من الناس ﴿ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا ﴾: أي فلا تُجادل أهل الكتاب في عددهم إلا جدالاً ظاهرًا لا عُمقَ فيه (وذلك بأن تَذكر لهم ما أخبرك به الوحي فقط، بدون أن تُكَذِّبهم أو تُوافقهم)، ﴿ وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ ﴾ أي لا تسأل في شأن أصحاب الكهف ﴿ مِنْهُمْ ﴾ أي مِن أهل الكتابِ ﴿ أَحَدًا ﴾ لأنهم لا يَعلمونَ ذلك وإنما يقولون بالظن والتخمين، لا بالعلم واليقين، (وفي هذا دليل على المنع مِن سؤال مَن لا يَصلح للفتوى).
الآية 23، والآية 24: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ ﴾ تَعزم على فِعله: ﴿ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ ﴾ الشيء ﴿ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ يعني إلا أن تُعَلِّق قولك بالمشيئة، فتقول: (إن شاء الله)، ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾: يعني وإذا نسيتَ قوْل: (إن شاء الله)، فاذكُره - ولو بعد فترة - لتَخرج به من الحرج (وكلما نسيتَ شيئاً فاذكر الله؛ فإنّ ذِكْرَ اللهِ يُذهِب النسيان).
♦ واعلم أنّ سبب اعتراض هذه الآية للسياق، أنّ المشركينَ لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين، قال لهم: (أُخبِركم بما سألتم عنه غداً)؛ ولم يقل (إن شاء الله)، فانقطع الوحي نصف شهر، ثم نزلتْ سورة الكهف وفيها جواب ما سألوا.
﴿ وَقُلْ ﴾ لهم - بعد قوْل (إن شاء الله) -: ﴿ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾: أي لعل اللهَ أن يُنعِمَ عليّ بشيئٍ أكثر إثباتاً لنبوتي - وأكثر هدايةً للناس - من قصة أصحاب الكهف، التي سألتموني عنها اختباراً لنُبُوّتي.
الآية 25، والآية 26: ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ﴾ أي وبَقى الشُّبابُ نائمين في كَهْفهم ثلاثمائة سَنَة (بالحساب الشمسي)، وثلاثمائة سَنَة وتسع سنين (بالحساب القمري)، ﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ﴾: يعني وإذا سُئلت أيها الرسول عن مدة بقائهم في الكهف - وليس عندك عِلمٌ مِن اللهِ في ذلك - فلا تجتهد فيه بشيء، بل قل: (اللهُ أعلم بمدة بقائهم)، فإنه سبحانه ﴿ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ أي يَعلمُ جميع ما خَفِيَ عن حواس الناس في السماوات والأرض، ﴿ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ﴾: أي تعجَّب مِن كمال بصر ربك وسَمْعه وإحاطته بكل شيء (أو بصيغةٍ أخرى: ما أعظم بَصَرَهُ بخَلقه وما أعظم سَمْعه لأقوالهم، حيث لا يَخفى عليه شيءٌ من أحوالهم)، و ﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ﴾: أي ليس للخَلق أحدٌ غيره يَتولى أمورهم، ﴿ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ﴾: أي وليس له شريكٌ في حُكمه وقضائه وتشريعه (لِغِناه سبحانه عَمّا سواه).
الآية 27: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ﴾: أي اقرأ أيها الرسول ما أوحاه اللهُ إليك من القرآن (تَعَبُّداً به، وتعليماً للمؤمنين بما جاءَ فيه من الهدى، ودعوةً للناس إلى ربهم)، فإنه سبحانه ﴿ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ أي لا مُغيّر لكلماته، لا في ألفاظها ولا في معانيها ولا في أحكامها (ومِن ذلك ما وَعَدَكَ به من النصر على أعدائك)، ﴿ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ أي لن تجد مَلجأً تَميل إليه ليُنجيك من عقاب ربك (إن وافقتهم على شيئٍ من اقتراحاتهم).
الآية 28: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ﴾ أي صَبِّر نفسك أيها النبي، واحبسها - حَبْسَ مُلازَمة - ﴿ مَعَ ﴾ أصحابك مِن فقراء المؤمنين ﴿ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾: أي الذين يَعبدونَ ربهم وحده، ويدعونه في الصباح والمساء، ﴿ يُرِيدُونَ ﴾ بذلك ﴿ وَجْهَهُ ﴾ أي يريدون بأعمالهم الصالحة رضا اللهِ تعالى وَجَنَّتِه، والنظر إلى وجهه الكريم، ﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾: أي ولا تصرف نظرك عنهم إلى غيرهم من الكفار الأغنياء، ﴿ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾؟ يعني: هل تريد مُجالستهم للشرف والفخر لأنهم أصحاب هيئة وزينة، وأصحابك ليس لهم ذلك؟ (وهذا استفهام غرضه النفي والإنكار) أي: لا تفعل هذا، ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾ أي: ولا تُطِعْ مَن جعلنا قلبه غافلاً عَمّا يَجب عليه مِن ذِكرنا وعبادتنا (عقوبةً له)، لأنه عانَدَ وتكَبَّر ﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ ففضَّله على طاعة مَولاه ﴿ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾: أي وصارَ أمْرُهُ في جميع أعماله ضَياعاً وهَلاكًا.
♦ واعلم أنّ هذا التوجيه قد نَزَلَ للرسول صلى الله عليه وسلم عندما عَرَضَ عليه المشركون إبعاد أصحابه الفقراء عنه (كَبِلال وصُهَيْب وغيرهما) ليَجلسوا إليه ويسمعوا منه، فنَهاه ربه عن ذلك، وأمَرَه بملازمة المؤمنين الفقراء الذين لا يريدون بصلاتهم وتسبيحهم ودعائهم عَرَضاً من الدنيا، وإنما يريدون رضا اللهِ عنهم، ومَحبته لهم.
♦ واعلم أنّ الفعل (كان) إذا جاء مع صفة معينة، فإنه يدل على أنّ هذه الصفة مُلازِمة لصاحبها، كقوله تعالى - واصفاً نفسه بالرحمة والمغفرة -: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ أي كانَ سبحانه - أزَلاً وأبداً - غفوراً رحيماً.
الآية 29: ﴿ وَقُلِ ﴾ لهؤلاء الغافلين: ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ يعني: ما جئتكم به - من التوحيد والعمل الصالح - هو الحق من ربكم، ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ﴾: أي فمن أراد منكم أن يُصَدِّق بهذا الحق ويَعمل به، فليَفعل فهو خيرٌ له، ﴿ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾: أي ومَن أراد أن يَجحد فليَفعل، فما ظَلَمَ إلا نفسه، فـ ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ ﴾ أي للمُشركين، لأنَّ اللهَ تعالى قال: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾، فأولئك قد أعَدَّ اللهُ لهم ﴿ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ أي أحاطت بهم جُدرانها المُحرِقة، ﴿ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا ﴾ - بطَلَب الماء مِن شدة العطش - فإنهم ﴿ يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ﴾: أي يُؤتَ لهم بماءٍ يُشبه الزيت العَكِر - شديد الحرارة - ﴿ يَشْوِي الْوُجُوهَ ﴾: يعني إذا قرّبوه مِن وجوههم ليَشربوا: شَوَى جلودهم ووجوههم، فإذا شربوه: قطَّعَ أمعاءهم، ﴿ بِئْسَ الشَّرَابُ ﴾: أي قَبُح هذا الشراب الذي لا يَروي ظمأهم بل يَزيده، ﴿ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾: أي وقَبُحَتْ النار مَنزلاً لهم ومُستقَرَّاً، (وفي هذا وعيدٌ شديد لمن أعرض عن الحق، فلم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ الأمر في قوله تعالى: (فليَكفر) هو للتهديد والوعيد، بدليل ذِكر العذاب الذي سيُصيبه إنْ كَفَر).
الآية 30، والآية 31: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ لهم أعظم الثواب، فـ ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ أي لا نُضيع أجورهم على إيمانهم وإحسان أعمالهم، ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ أي لهم جنات الخلود التي يُقيمون فيها ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ﴾ أي تجري الأنهار مِن تحت قصورهم، ﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ﴾: أي يَلبسونَ فيها أساور من ذهب ﴿ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا ﴾ أي ثياباً ذات لون أخضر، قد نُسِجَت ﴿ مِنْ سُنْدُسٍ ﴾ وهو الحرير الرقيق ﴿ وَإِسْتَبْرَقٍ ﴾ وهو الحرير الغليظ، ﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ﴾ (والأرائك جمع أرِيكة، وهي السرير المُزَيّن بالستائر الجميلة)، ﴿ نِعْمَ الثَّوَابُ ﴾ ثوابهم، ﴿ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ﴾: أي وحَسُنتِ الجنة مَنزلا ومكانًا لهم.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
تفسير الربع الثاني من سورة الكهف
الآية 32، والآية 33: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا ﴾ أي اجعل أيها الرسول مَثلاً - للمتكبرين الذين يُنكِرونَ البَعث - بـ ﴿ رَجُلَيْنِ ﴾ من الأمم السابقة، أحدهما مؤمن فقير، والآخر كافر غني، وقد ﴿ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا ﴾ (وهو الكافر)، جعلنا له ﴿ جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ ﴾ أي حديقتين من أعناب، ﴿ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ ﴾: يعني وأحَطناهما بنخلٍ كثير، ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا ﴾: أي وأنبتنا بين العنب والنخل: ﴿ زَرْعًا ﴾ أي زروعًا مختلفة، و ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا ﴾: يعني كل واحدة من الحديقتين قد أثمرتْ ثمارها ﴿ وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾: أي لم تُنْقِص مِن ثمارها شيئًا - بسبب مرضٍ أصاب الثمار أو غير ذلك - بل أثمَرَتْه كاملاً وافياً ﴿ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾: أي شَققنا بين أشجار الحديقتين نهرًا جارياً ليَسقيهما بسهولة.
الآية 34، والآية 35، والآية 36: ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ﴾: يعني وكان لصاحب الحديقتين ثمر وأموال أخرى (لأنّ كلمة ثَمَر جاءت في قراءة أخرى بضم الميم (ثُمُر) ومعناها أموال)، ﴿ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ ﴾ المؤمن، ﴿ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ﴾ في الحديث: ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا ﴾ ﴿ وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ أي أعزُّ منك أنصارًا وأعوانًا، وأولاداً وعشيرة (وقد قال هذا فخراً وتعاظُماً)، ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ﴾ أي ودخل الكافر حديقته ﴿ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ﴾ أي مُعَرِّضُها لسخط اللهِ وعذابه، بسبب غروره وتكَبُّره.
♦ وعندما أعجبته ثمار حديقته: ﴿ قَالَ ﴾ لصاحبه المؤمن: ﴿ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾: أي ما أعتقد أن تَهْلك هذه الحديقة أبداً، ﴿ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ﴾: يعني وما أعتقد أنّ القيامة واقعة، ﴿ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي ﴾: يعني وإنْ فرضْنا وقوع القيامة - كما تزعم أيها المؤمن - ورُجِعتُ إلى ربي: ﴿ لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ﴾: أي لأَجدنَّ عنده مكاناً أفضل من هذه الحديقة، وذلك لكرامتي ومنزلتي عنده.
من الآية 37 إلى الآية 42: ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ ﴾ المؤمن ﴿ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ﴾ في الحديث: ﴿ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ﴾ يعني هل كفرتَ بقدرة اللهِ على البعث، وقد خَلَقَ أباكَ آدم مِن تراب ﴿ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ﴾ أي: ثم خلقك أنت مِن مَنِيٍّ ﴿ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴾ أي:ثم سَوَّاك بشرًا مُعتدل القامة والخَلْق؟! (فالذي ابتدأ خَلْقك قادرٌ على إعادتك بعد الموت)، ﴿ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ﴾: يعني لكنْ أنا أقول: المُنعِم هو اللهُ ربي وحده، (فلم تَحصل لك الدنيا بحَولك وقوتك، بل بفضل اللهِ تعالى عليك)، ﴿ وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ في عبادتي له، ولا أجحد نعمته عليّ، ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ﴾: يعني وهَلاَّ حينَ دخَلْتَ حديقتك فأعجبتك: ﴿ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾: أي هذا هو ما شاءَ اللهُ لي، لا قوة لي على تحصيله إلا بالله، هذا ﴿ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ﴾: يعني إن كنتَ تراني أقل منك مالاً وأولادًا، (ولهذا ينبغي لكل مَن أعجبه شيئٌ يَخُصُّهُ - أو يَخُصُّ غيره - أن يقول: (مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه)).
♦ وقال المؤمن: ﴿ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ ﴾: يعني فأرجو مِن ربي أن يُعطيني أفضل من حديقتك ﴿ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا ﴾ أي على حديقتك ﴿ حُسْبَانًا ﴾ أي عذابا ﴿ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ ﴿ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ﴾: أي فتصبح أرضًا مَلساء (لا تَثبُت عليها قدم، ولا يَنبُت فيها نبات) ﴿ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا ﴾: يعني أو يصير ماؤها (الذي تُسقَى منه) غائرًا في أعماق الأرض ﴿ فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ﴾: أي فحينئذٍ لن تقدر على إخراجه.
♦ واستجاب اللهُ لِمَا قاله المؤمن ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ﴾: أي وَوَقع الدمار بحديقة الكافر، فهَلَكَ كل ما فيها، ﴿ فَأَصْبَحَ ﴾ الكافر ﴿ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ﴾ حسرةً وندامةً ﴿ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا ﴾ مِن جهدٍ كبير ومالٍ كثير ﴿ وَهِيَ خَاوِيَةٌ ﴾ أي فارغة مِمّا كانَ فيها، وقد تَهدَّمَتْ مَبانِيها وسقطتْ حِيطانُها وجُدرانها ﴿ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾: أي على سُقوفِ بيوتِها ﴿ وَيَقُولُ ﴾: ﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ (فعُلِمَ مِن هذه الجملة أنه كان مُشركاً باللهِ تعالى، ولذلك قال له المؤمن: (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)).
الآية 43، والآية 44: ﴿ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾: يعني ولم تكن له جماعة - مِمّن افتخر بهم - يَمنعونه مِن عقاب اللهِ حينَ نَزَلَ به ﴿ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ﴾: يعني وما كانَ مُمتنعًا بنفسه وقوّته (لأنّ مَن خَذَله اللهُ فلا ناصرَ له).
♦ ثم قال تعالى في نهاية هذه القصة: ﴿ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ﴾ أي في مِثل هذه الشدائد - حينَ نزل العذاب بصاحب الجنتين - تكون النُصرة للهِ المعبود الحق (لا لغيره من المعبودات الباطلة التي لم تدفع عن عابدِيها شيئاً من العذاب).
♦ فمَن كان مؤمناً تقيّاً، كان سبحانه له وَلِيَّاً، فيَنصره ويدفع عنه الشرور والبلاء، ويوم القيامة يُعطيه أحسن الجزاء، فـ ﴿ هُوَ ﴾ سبحانه ﴿ خَيْرٌ ثَوَابًا ﴾: أي خيرُ مَن يُثيب على الإيمان والعمل الصالح، ﴿ وَخَيْرٌ عُقْبًا ﴾ أي خيرُ مَن يَجزي بحُسن العاقبة لمن رَجَاهُ وآمَنَ به.
الآية 45: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي اجعل - أيها الرسول - للناس مَثلاً لسرعة زوال الدنيا التي اغترُّوا بها ﴿ كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ ﴿ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ﴾: أي فنَبَتَ بهذا المطر أنواع كثيرة من النبات، الذي نَمَا وازدهر حتى اشتبك بعضه ببعض، وأثمَرَ الكثير من مُختلَف الحبوب والثمار، وما هي إلا مدة يسيرة: ﴿ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ﴾: أي حتى صار هذا النبات يابسًا مُتكَسِّراً تنسفه الرياح ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ أي قادراً كامل القدرة، لا يُعجِزه شيء.
الآية 46: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي هم قوةٌ وجَمالٌ في هذه الدنيا الفانية، إذ يَتجمل بهما الإنسان فترة قصيرة، ثم يَذهبان ولا يَدخلان معه قبره (إذاً فلا يَجعلهم همَّه في هذه الحياة، ولا يُشغِلاه عن طاعة مَولاه)، ﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾: يعني والأعمال الصالحة -وخاصةً التسبيحُ والتحميد والتكبير والتهليل -: ﴿ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا ﴾ من الأموال والأولاد، ﴿ وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾: يعني وهذه الأعمال الصالحة هي أفضل ما يَرجو الإنسان من الثواب عند ربه، إذ يَحصل بها في الآخرة على ما كان يَأمله ويَتمناه في الدنيا (وزيادةٌ على ذلك مما لم تَرَ عينه، ولم تَسمع أذنه، ولم يَخطر على قلبه).
الآية 47، والآية 48: ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ﴾: أي واذكر لهم يوم نَقتلع الجبال فنُزيلها عن أماكنها، ثم نَجعلها هباءً منثوراً (ما أعظمك يارب)، ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ﴾ أي ظاهرة، ليس عليها شيئٌ من المخلوقات، ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ ﴾ أي وجَمَعنا الأولين والآخِرين مِن قبورهم للحساب والجزاء ﴿ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾: أي فلم نترك منهم أحدًا، ﴿ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا ﴾ أي مُصطَفِّينَ لا يَخفى على اللهِ منهم أحد، وقال اللهُ لهم - توبيخاً -: ﴿ لَقَدْ جِئْتُمُونَا ﴾: أي لقد بَعثناكم، وجئتم إلينا بمُفردكم، فليس معَ أحدِكم مالٌ ولا ولد، بل جئتم حُفاةً عُراةً ﴿ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ ﴿ بَلْ زَعَمْتُمْ ﴾ يا مُنكِري البعث والجزاء ﴿ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ﴾ نَبعثكم فيه ونُجازيكم.
الآية 49: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ ﴾: أي وَوُضِعَ كتاب أعمال كل واحدٍ في يمينه أو في شماله، ﴿ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ ﴾ في ذلك الوقت ﴿ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ﴾ أي خائفينَ مِمّا في الكتاب، بسبب ما قدَّموه مِن جرائمهم، ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ - ندماً وتحسُّراً - حينَ يقرؤونه: ﴿ يَا وَيْلَتَنَا ﴾ يعني يا هَلاكنا (والمقصود أنهم يَدعون على أنفسهم بالهلاك والموت، لمُشاهدتهم لعظائم الأهوال وما يَنتظرهم من أصناف العذاب)، ويقولونَ: ﴿ مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ﴾ أي لم يَترك صغيرةً مِن أفعالنا ولا كبيرةً إلا أثبَتَها؟! ﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ﴾ أي مُثبَتًا ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾.
الآية 50، والآية 51: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ ﴾ أي واذكر- أيها الرسول - حين قلنا للملائكة: ﴿ اسْجُدُوا لِآَدَمَ ﴾ (سجود تحيةٍ وتكريم، وليس سجود عبادةٍ وخضوع)، ﴿ فَسَجَدُوا ﴾ جميعًا ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ الذي ﴿ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ﴾ لم يَسجد لآدم كِبرًا وحسدًا ﴿ فَفَسَقَ ﴾ بذلك ﴿ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾: أي خرج بذلك عن طاعة ربه، ﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ﴾: يعني أفتجعلونه - أيها الناس - هو وذريته أعوانًا لكم تطيعونهم وتتركون طاعتي، وهم أشدّ أعدائكم؟ ﴿ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾: أي قَبُحَتْ طاعة الظالمين للشيطان، بدلاً عن طاعة الرحمن.
♦ ثم يُخبر سبحانه بأنه المنفرد بالخلق والتدبير، وبأنه وحده المستحق للعبادة، فيقول: ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾: يعني ما أحضرتُ إبليس وذريته - الذين أطعتموهم - ليَشهدوا خَلْقَ السموات والأرض، حتى أستعين بهم على خلقهما، ﴿ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ﴾: يعني ولا أشهدتُ بعضهم على خَلْق بعض، بل تفرَّدتُ بخَلق جميع المخلوقات بغير مُعين، ﴿ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ﴾: يعني وما كنتُ مُتَّخذ أحداً من شياطين الإنس والجن أعوانًا لي في الخلق والتدبير.
الآية 52، والآية 53: ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ﴾: أي واذكر أيها الرسول يوم يقول اللهُ للمشركين يوم القيامة: نادوا مَن زعمتم أنهم شركاء لي في العبادة؛ ليَنصروكم اليوم مِنِّي، ﴿ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ﴾: أي فاستغاثَ المشركون بهم فلم يُغيثوهم، ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ﴾: أي وجعلنا بين المشركين ومَعبوديهم حاجزاً في أرض المَحشر يَفصل بينهم، ثم لمَّا يَدخلوا النار: نَجعل لهم مكاناً في جهنم يَهلكون فيه جميعًا، ﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ﴾ يوم القيامة ﴿ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ﴾: أي فأيقنوا أنهم واقعونَ فيها، (إذ يُطلَق الظن ويُراد به اليقين، وهو كثيرٌ في القرآن الكريم)، ﴿ وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ﴾: أي لم يَجدوا مكاناً يَنصرفونَ إليه ليَنجوا من عذابها.
الآية 54: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ﴾ أي وضَّحنا ونوَّعنا ﴿ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ﴾ يعني أنواعًا كثيرة من الأمثال والأدلة لِنُقيم عليهم الحُجّة، وليَتعظوا بها ويؤمنوا، ولكنّ المتكبرين منهم قابلوا ذلك بالجحود والجدال مِن بعد ما تَبَيَّنَ لهم الحق ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ أي هو أكثر المخلوقات جِدالاً (يعني أكثر من الجن)، وذلك حتى لا يَتخلى عن شهواته وأهوائه ويَنقاد للحق (إلا مَن عَصَمَه الله، وأعانه على مخالفة نفسه وهواه).
الآية 55: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ﴾: يعني وما مَنَعَ الكفارَ من الإيمان والتوبة والاستغفار حينَ جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن ﴿ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾: يعني إلا إنهم اشترطوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم لن يؤمنوا به حتى يُنَزِّل عليهم عذاباً مِثل عذاب السابقين - ليكون دليلاً لهم على نُبُوّته - ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ﴾: يعني أو يأتيهم عذاب يوم القيامة مُقابلةً أمام أعينهم، (وهذا مِن جَهْلهم وعنادهم) لأنهم حينئذٍ لن يَنفعهم الإيمان.
الآية 56: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ إلى الناس ﴿ إِلَّا ﴾ ليكونوا ﴿ مُبَشِّرِينَ ﴾ بالجنة لأهل الإيمان والعمل الصالح، ﴿ وَمُنْذِرِينَ ﴾ بالنار لأهل الكفر والعصيان (فلم نُرسِلهم عَبَثاً، ولم نُكَلِّفهم بهداية الناس أجمعين)، ورغم وضوح الحق: ﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ رُسُلهم ﴿ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾ أي ليُحاولوا إزالة الحق بباطلهم، ولن يَقبل اللهُ تعالى إلا أن يُتِمَّ نوره ولو كَرِهَ الكافرون، ﴿ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ﴾: يعني إنهم استهزؤوابدلائل توحيدي وتخويف الرُسُل لهم مِن عذابي.
الآية 57: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾: أي لا أحد أشد ظلمًا ﴿ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ﴾ الواضحة ﴿ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ﴾ وانصرف إلى الباطل ﴿ وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ من الذنوب ولم يَتُب منها.
♦ ثم ذَكَرَ تعالى سبب ظُلمهم وإعراضهم ونِسيانهم، فقال: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ﴾ أي جعلنا على قلوبهم أغطية، حتى لا يَفهموا القرآن، ﴿ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾: أي وجعلنا في آذانهم ما يُشبِه الصَّمَم، حتى لا يَسمعوا القرآن سماعَ تدبر وانتفاع، (وهذا كله عقوبة مِن الله تعالى لهم، بسبب إيذائهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وبسبب تَوَغُّلهم في الشر والفساد، فحَرَمهم اللهُ من الهداية)، ولهذا قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ﴾، وذلك لأنهم عرفوا طريق الحق فتركوه، وعرفوا طريق الضَلال فسلكوه، فاستحقوا بذلك العقاب والحِرمان (نسأل اللهَ العافية).
الآية 58: ﴿ وَرَبُّكَ الْغفُورُ ﴾ لذنوب عباده إذا تابوا، وهو سبحانه ﴿ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ بهم، إذ ﴿ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا ﴾: يعني لو يُعاقب هؤلاء المُعرِضين عن آياته بما كَسَبوا من الشرك والذنوب: ﴿ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ﴾ ولكنه تعالى حليمٌ لا يُعاجل بالعقوبة، ﴿ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ ﴾ يُجازيهم فيه بأعمالهم، و ﴿ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ﴾ أي لن يَجدوا مَلجأً يَحميهم من اللهِ تعالى إذا جاءهم هذا المَوعد (ويُحتمَل أن يكون المقصود بالمَوعد: يوم بدر، لأنّ السياق كان في الظَلَمة المُعاندين المحرومين من الهِداية، كأبي جهل وعُقبة ابن أبي مُعَيط والأخنس بن شريق، واللهُ أعلم).
الآية 59: ﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى ﴾ القريبة منهم - مِثل قُرَى قوم هود وصالح ولوط وشعيب - ﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ﴾: يعني أهلكناها حين ظلم أهلها أنفسهم بالكفر والمعاصي، ﴿ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ﴾: أي جعلنا لهلاكهم وقتاً مُحدداً، فلمَّا بلغوه: جاءهم عذابنا فأهلكناهم به (فكذلك هؤلاء المجرمون من قريش، حيثُ أهلكهم الله ببدر ولعنهم إلى الأبد).
(1) وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم باسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
• واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
يتبع