جنــــون
03-15-2020, 01:16 PM
" فلا البعد يعني غياب الوجوه ولا الشوق يعرف قيد الزمن "
- فاروق جويدة
(10)
اخذ نفسا قويا.... ثم اتجه بخطواته مبتعدا عن هذا الطابق حيث الفناء الخلفي للمشفى فقد تكون جيداء متواجده هناك...
جال بنظره ثم وقعت عيونه الملتهبة عليها... وفعلا قد صدق حدسه... حيث كانت تجلس على احد الكراسي الخشبية تشرب كوبا من القهوة شاردة الذهن.. تقدم كقنبلة على وشك الانفجار.. ثم صرخ بأعلى صوته.. و شعر بأن حباله الصوتية قد انقطعت وكأن سكين حاد قد اخذ ينحر اعصاب حنجرته.......
" جيدااااااااااااااااااء.."..
شهقت بقوة وانسكبت القهوة من يدها جراء صرخته التي انطلقت كقنابل نووية اطلقت على وجه الارض... والناس من حولها ينظرون باستغراب.. تقدم لها كرياح هوجاء ستدمرها لا محاله.. ازدردت لعابها بخوف وبتلعثم واضح " ماذا هناك يا رائد؟!"
زفر بقوة ثم رمقها بنظرة قاسية وهو يشد على يده " من دفع تكاليف الطبيب؟!"
اتسعت عيناها وارتعدت اوصالها ثم بعثرت نظرها وقالت محاولة اخفاء ربكتها " لقد قمت اناااا...."
انطلقت من صرخة تعبر عن قهره " كاذبه.." ثم القى بالبطاقة قهرا على الارضيه امام عيونها المذهولة....
صر على اسنانه ثم " و هذه البطاقة؟!"
اطرقت جيداء رأسها وقد تجمعت الدموع في عيونها لا تدري ماذا تقول او تفعل في هذه الحالة التي تشهدها لرائد... ثم شعرت بيده تكبل يدها بألم شديد.. اغلقت عيونها بألم وقد انحدرت بضع دمعات من مقلتيها..
وبحده وبصوت اعلى من ذي سبق " أجيبي..."
" والدي..." اجابته جيداء بألم....
لوى فمه بضيق " اعلم... ولكن أي واحد منهما... ( افلت يدها) هل المحامي ام صاحب الشركات؟!"
ثم اكمل بلهجة ساخرة " مع ان مصدر اموالهما واحد.."
اخذت نفسا عميقا ورفعت رأسها باضطراب والتقت عيونها الحزينة المتأسفه بعيونه العاتبة ثم تسائل بضعف وهو يجلس على المقعد " لماذا يا جيداء..." اخرج تنهيدة وسارت هي وجلست بجانبه بتردد ودموع متزاحمه تود الخروج لذكريات الماضي..
أكمل بعتاب وهو يديرها ناحيته " لماذا تحيكين الامور من دون علمي، لم أعد أريد مساعدته أبداً ألم أقل لك؟ .."
" لأنك لن تستطيع دفع تكاليفها..." جيداء بصوت مختنق
تنهد رائد ثم وضع يده خلف ظهرها واسندت رأسها على كتفه حتى تخفف آلامها
" ولكن الجمعية النسائية ما زالت تدفع للعلاج.."
" الجمعية الخاصه بجدة ريم لن تتكفل جميع التكاليف.. لن تستطيع يا رائد.."
تنهد رائد ثم قال بحنية " لكن ما كان عليك ان تخفي عني مثل هذا الامر.. " صمت قليلا ثم اكمل بألم يعتصر داخله كسموم قاتله انتشرت في كامل الجسد وجعلته يأن ويصرخ " انت تعلمين ما عانيته من قبلهم.. ألا يحق لي..."
قاطعته بحدة " هل تعتقد ان ألمي هين وايسر من ألمك... (ثم بضعف ) انت يتواجد لك عائلة اما انا لا اعلم الى اي عائلة انتمي"
تنهد دافعا ألمه خارجا وفاض على هيئة عبارات " انا فقدت والدي.. مرضت امي من بعده.. قمت بتأجيل دراستي.. عانيت المرض مع امي.... عشت معها آلامها ضعفها.. كلما كانت تتألم أتألم داخلي ملايين المرات..."
ابتعد عنها وهو يقف شاعرا بحرارة انفاسه وضيق في صدره واكمل بصوت مختنق " هل تعلمين ما هو اصعب من الفقر... العجز.." صمت .. وبعد ان اخذ نفسا قويا " العجز امام مرض امي.. وامام متطلبات الحياة المعقدة... عدم القدرة على جني المال الكافي لإعالة العائلة..."
" ولكن هذا ليس كما باعني وتخلى عني... لقد حرمني منه لسنين طويلة.." كتمت شهقتها ثم اشارت الى صدرها " ان داخلي يتألم كثيرا يا رائد.. انت لم تصحو يوما وتجد انك في عائلة لا تنتمي اليها.. تتواجد فيها كبضاعه تم شرائها من السوق.. كإنسان يتيم.."
صرخ بها " هذا لا يعني ان تأخذي منه مالا للانتقام.. حتى تشفي حقدك عليه..."
نظرت اليه بذهول ودموعها منطلقه في مسيرها مهاجرة من عيونها ثم اندفعت نحوه صارخة امام مرأى الجميع " هل تعتقد اني طلبت المال من ذلك الحقير الذي يعتبر نفسه والدا بعد سنين.. هل تعتقد انه يمكنني ان أتخلى عن ألمي بمجرد مال اخذه منه..."
" اهدأي يا جيداء.." رائد محاولا ترويضها ولكنها ابتعدت عنه بانفعال شديد ودموعها المنحدرة على وجنتيها " لم اطلب المال من عمك البليد ذاك.. لم اطلب من مَن باعني حتى لا اخذ من الإرث قطرة واحدة.. ولا الذي حرمك من نصيب والدك في الشركة داعيا مصلحتك.. ( ثم بتهالك على المقعد) لم اطلب منه يا رائد..."
جلس بجانبها بضعف شديد يشعر بحرارة تسري سائر جسده.. فلم يكن رائد هو الوحيد الذي عانى من جبروت عمه.. بل ها هي ابنته جيداء قد عانت من قسوته وظلمه..
باعها لأحد معارفه بعد ولادتها.. فأما أمها قد توفت مباشرة بعد ميلادها.. كانت تعاني اثناء فتره الحمل ضعفا بالقلب.. وبعد ولادتها نقلت على اثرها الى العناية المشددة ولكن باغتها الموت تاركة خلفها ابنتها التي لم ترتوي بحنانها وعطفها... وزوجا خلع عنه رداء اللين والطيبة مرتديا قناع القسوة والظلم..
يراها تكفكف دموعها حتى تبدو قوية معتمدة على نفسها.. فمنذ ان علمت بأمر احتضانها لعائله لا تمت لها بصلة اصبحت تلك الفتاة القوية التي تعتمد على نفسها... اكملت اعوامها الدراسية بعد صدمتها .. حيث اضطرت بعدها للمكوث في مدرسة داخلية ترعاها الدولة.. ولكنها ما زالت تشعر بمشاعر المحبة والانتماء للعائلة التي قامت بتربيتها...
تحدث رائد بانزعاج " ولكنه يعمل معه يا جيداء.. يعمل مع عمي!!"
جيداء بضيق كبير " هل تعلم يا رائد.. برغم انه ليس والدي الحقيقي.. ولكنه اشعرني حقا انني ابنته طوال السنين.. لم يبخل علي بشيء ابدا.. حتى بعد دخولي المدرسة الداخلية كان يصر على رؤيتي كثيرا.."
تنهدت ثم اكملت وهي تنظر اليه " انه المحامي الخاص به.. يعمل مع عمك لانه تحت تهديده وسيطرته.. لقد قام بأعمال دنيئة فقط من اجل ان يبقيني معه.."
هز رائد رأسه بقله حيلة وغضب.. فأردفت جيداء " اتصلت صباح اليوم.. عندما رأيتك غير قادر على سداد المبلغ.. فلا مالي يكفي ولا مالك ايضا.. وايضا.."
قاطعها رائد " ولا استطيع ان اقترض من احد اخر..."
" لذلك قمت بالاتصال به.."..
أومأ رائد رأسها متفهما فأكملت جيداء بغصة كبيرة " عندما اخبرته اني بالمشفى قدم فورا.. رأيت الخوف بعيونه.. حالما ينظر الي بعيون مليئه بالمحبة اود ان انسى الماضي.. ( تنهدت ) عندما علم بأمر والدتك.. لم يتقبل في البداية ولكنني شعرت بقسوته اليوم وانه اخذ الصفات السيئه من عمك..."
لوى رائد شفتيه بسخرية وقال " ووالدك البيولوجي ايضا..."
نظرت اليه جيداء وقالت بحسرة وألم " والدي البيولوجي.. الذي باعني..." نفضت رأسها ثم اكملت " عندما علم بحالة والدتك تردد بالمساعده.."
" خوفاً..."
أومأت جيداء رأسها " اجل.. ولكنني قمت باقناعه بطريقه ما ورضخ بالنهاية..."
زفر رائد بحرارة ونظر اليها بوجوم.. انه يحزن عليها اجل.. على حالها.. ولكن هذا لا يعطيها الحق بأن تقوم بخداعه بتلك الطريقة.. انه لا ينكر انها قامت بذلك من اجل مساعدته ولكن... لا يتقبل تلك المساعده.. انها من شركة عمه... عمه الذي تخلى عن الجميع لأجل طمعه وجشعه.. واستولى على أملاك العائلة جميعها...
خرج من تلك الذكريات التي رآها كشريط مصور على جيداء التي قالت بعتاب قبل انصرافها بسرعه " انها المرة الاولى التي اطلب منه المساعدة يا رائد.. وكل هذا لأجلك.."
قال رائد بضعف " جيداء.."... ولكنها لم تستجب.. بل ابتعدت وابتعدت.. ثم احاط رائد رأسه على يديه بتعب شديد..
*********************
ذكرى من عبق الماضي... ♥
في احدى الليالي بقرية صغيرة جنوب فرنسا.. بدأ قدوم فصل الشتاء بثلوجه وعواصفه.. وتدريجيا مع كل يوم يمر خلت الطرقات والحقول واوديتها من العاملين من الطبقة الكادحة... فلزم سكان هذه القرية أكواخهم وبيوتهم البسيطة... يقضون أيامهم بجانب الموقد لعله يدفع فيهم الشعور بالدفء.. وتوالت الايام وانقضى كانون الاول.. وانطوت صفحة السنه التي قبلها.. وبدأ العالم أجمع بعام جديد.. وتزينت الطرقات والبيوت بأشجار الزينة واحتفلوا ببداية عام جديد مع التمنيات الجيدة...
وفي كوخ صغير ينطلق من مدخنته ذلك الرماد ليمتزج مع حبات المطر الساقطة من السماء.. جلست تلك الطفلة بملابسها الصوفية الثقيلة شديدة السواد تحاكي ضفيرة شعرها السوداء التي امتدت على ظهرها النحيل.. بجانب الموقد ممسكة بأقلام التلوين الخاصة بها وأمامها العديد من الدمى المختلفة تحاول بيدها الصغيرة نقل صورتها طبق الاصل على ذلك الدفتر الكبير.. ومعالم وجهها تدل على الاصرار اذ انتقلت الى الصفحة التي تليها عندما اخطأت رسم عين تلك القطة...
قالت بضجر بصوتها الطفولي " لماذا لا استطيع رسمه.." ثم بغضب قذفت ذلك الدفتر جانبا وكتفت يديها ثم قوست فمها دليل على عدم الرضا...
وبعدها بدقائق انطلق صوت من خلفها " ماذا تفعلين؟!"
صرخت باندفاع "أمي..وأخيرا استيقظيتِ؟!"
جلست تلك الامرأة بجانب ابنتها على الارضية ببطء شديد وثم اخذ سعالها يخرج من جوف حلقها بشدة.. واهتز جسدها النحيل كما لو ان زلزالا قد الم بالمنطقة..
نظرت اليها طفلتها بحيرة وشبكت اصابع يدها اليمنى باليسرى.. ابتسمت والدتها ومسحت على شعرها بحنان "أنه منتصف الليل.. لماذا ما زلت مستيقظة؟!"
اجابتها وهي تسقط بين احضانها وكأنها تريد حنانا منها وعطفا " انتظر ابي؟! لقد تأخر.."
ازدردت لعابها لعلها حلقها الجاف كالورق يرتوي " انه يعمل في مكان بعيد.. سيأتي بعد قليل.."
تنهدت الصغيرة ثم ارتعدت بخوف وهي تتشبث بأمها على اثر ذلك الصوت... حيث توارى النور الضئيل في الانحاء وغمرت الظلمة المكان... وبدأت الثلوج تنهمر بغزارة..
مسحت على شعر ابنتها بحنان وانحدرت دمعه من مقلتيها لتقول وهي تشعل بخلايا رئتيها تقتلع من مكانها " هيا الى النوم يا عزي.."
وقبل ان تكمل جملتها بصوتها الواهن وقد تخلل كلماتها السعال من جديد.. انطلقت صرخة من هذه الصغيرة اثر سماعها صوت العاصفة وكأنها تطلق صفيرا قويا ثم تسارعت بقوة ملعلعة بصوتها من اعالي الجبال فترتعش لهولها الاشجار وتنتفض منها القلوب مرتعبه..
احتضنت طفلتها الصغيرة التي تنتحب من خوفها وذعرها تشبثت بوالدتها تختبئ بين أضلعها كأنها الحصن المانع من تلك العاصفة.. احتمت في دفء قلبها الابيض وكأنها الآمان الذي سينجيها من هول تلك العاصفة.. فالأم هي مصدر الحنان والعطاء بلا مقابل.. هي الجندي المجهول الذي يرعى ضعفنا.. ويحاول بما يستطيع ان يبعد الآلام التي زرعها الزمن بداخلها.. فهي صمام الامان.. هي العطف.. وهي منبع العطاء هي الحب الحقيقي....
وفي لحظة ما هدأت تلك العاصفة وكأن السماء عانت من ألم ما فأطلقت أنينها على هيئة صرخاتها المدوية في تلك الليلة.. الى ان خف ذلك الألم بعد أن مر الوقت واكتست البقاع كعروس تزينت بذلك الرداء الأبيض تعانق الأرض كعناق المشتاق لحبيبه.. تجمعت قطرات الثوب المتجمدة وتشابكت لتصبح كالبلورات الماسية منها ما غطت الطرقات والبيوت..ومنها من زينت الأشجار والبساتين... وظلت الارض على حالها مكتسية ثوب الوقار الى ما بعد يومين...
أنت أنينا خفيفا وتلوّت ذات اليمين وذات الشمال... امام صديقه والدتها وهي تمشط خصلات شعرها.. حيث شبهتها تقتلع شعرها من جذورها كآلة حصاد القمح... وضعت قمر يدها على رأسها وقالت " انه يؤلم.."
صديقة والدتها والاستياء بادٍ على تقاسيم وجهها " ولكن خصلات شعرك متشابكة.. تحملي قليلا.."
قوست فمها وبريق الحزن في عيونها العسلية الصغيرة وبصوت واهن قالت والدتها من خلف تلك الكمامه " لا تتعبي خالتك يا قمر.."
اذعنت قمر لوالدتها المريضة ثم بدأت بالعبث في أقلام التلوين كعادتها حتى تتناسى ذلك الألم..
وبعد ان شعرت قمر بأن صديقه والدتها انتهت من شعرها ابتعدت قليلا عنها وبدأت برسم صفحة اخرى.. ثم سمعتها تسأل والدتها " متى سيعود زوجك يا رؤى.. لقد اطال المدة في العاصمة.."
أجابتها رؤى بصوتها الضعيف " لقد اتصل بي.." ثم اخذت نفسا عميقا و " بسبب العاصفة الثل..."
وقاطع عبارتها سعالها القوي من جديد.. نظرت قمر الى والدتها بضعف سرعان ما صرخت بحماس شديد ورمت ما بيدها أرضا بعد سماعها رنين جرس المنزل " أبييييي... لقد عااد.."
قالت رؤى بضعف بعد اختفاء قمرها " اشعر اني قاربت على فراق الحياة.."
امسكت صديقتها بيدها " لا تقولي هكذا يا رؤى.."
أحنت رؤى رأسها وتجمعت الدموع في عيونها " ألا تتذكرين ما قاله الطبيب.." صمت قليلا ثم عضت على شفتيها ألما بعد سماعها ضحكاتهم الآتية من الخارج وأكملت بضعف شديد " التهاب رئوي حاد.."
" ربما ستجدي الأدوية نفعا وتشفين.. ثم بعد ذلك.."
قاطعتها رؤى بخيبة أمل " صدقيني لقد تأزم وضعي كثيراً.. ليس لي نجاة من هذا المرض.."
وما كان من الأخرى الا ان زفرت بعمق ثم وجهت نظرها حيث النافذه " ولكن قمر ما زالت صغيرة..."
وجهت رؤى انظارها حيث النافذة هي الاخرى ورأت قمر تلهو وتلعب مع والدها بسعادة كبيرة وبصوت متحشرج " انها تحتاج الى رعاية كبيرة.." صمتت قليلا حتى تلتقط انفاسها ثم أكملت بغصة ودموع عالقه بين جفونها " وانا لم تعد لدي المقدرة على رعايتها.."
نظرت اليها صديقتها واكتفت بالصمت امام السعال الذي انتابها على حين غرة.. ثم نظرت ناحية زوج رؤى تنهدت ثم اعادت بصرها الى رؤى..
" ان وجودك بجانبي يزيح عن قلبي الهم.." رؤى بابتسامه خافته صمتت قليلا وابتسمت صديقتها وكلها امل ان تصل الى مسامعها الكلمات التي ستحقق مرادها بالمستقبل..
اردفت رؤى بعد صمت عندما شاهدت صغيرتها تنفض عن ملابسها بلورات الثلج " حيث تكون قمر تحت جناح رعايتك.. اشعر انها بأمان.."
ابتسمت رؤى بألم وفي جعبتها حديث تحاول في داخلها تركيب حروفه.. وهي في هذه الحاله من الارتياب والألم.. كانت صديقتها متلهفة لسماع تلك الكلمات التي ستخرجها من مستنقعها مستقبلا بعد موت رؤى... ثم اقتربت يد رؤى الهزيلة المرتجفة وقالت بقلب محترق اصبح رمادا بعد هذه السنين " واتمنى ان تبقى تحت رعايتك بعد موتي..."
ابتسمت داخلها ولكن قالت بأسف " أحب علي ان اقوم برعايتها.. ولكن زوجك ألن...."
قاطعتها رؤى " انه مطلبي الوحيد فقط من اجل قمر.. ثم..." سعلت فجأة وبعد ان هدات نوبه السعال أكملت بوهن " لا تقلقي بشأنه.."
وقبل ان تعبر صديقتها الوهميه عن مشاعر مزيفه كعلاقتها مع رؤى.. دخلت قمر باندفاع غير ابهة بشعرها المليء بقطرات الماء وبعض ذرات الثلج العالقه به... جثت على ركبتيها بعد وصولها حيث والدتها ورفعت ذلك الكيس البلاستيكي الشفاف اما انظارها المتألمه " انظري ماذا احضر لي ابي.." ثم التفتت الى والدها الذي دلف من بعدها " لقد نسيت اسمه.."
ابتسم لها بحنان واقترب منهم " اسمه بينوكيو.."
أومأت رأسها " أجل.." ثم نظرت الى دميتها الجديدة و اخذت تعد على اصابعها احرفه.." ب..ي..ن..ي.." هزت رأسها نفيا ثم عادت من جديد " بينو.. ك..يا.."
وبعدها باستياء " كيف يلفظ اسمه..."
ابتسمت صديقه رؤى فقد وصلت الى مبتغاها وأي شيء يعبر عن حالتها الان فقط ستصبر الى ان يئول برؤى الموت..
نهضت من مكانها فاسحة لزوجها المستقبلي ( والد قمر) المجال للجلوس بجانب زوجته وقالت لقمر " انه بينوكيو..."
مطت قمر شفتيها اللتان بلون التوت " ولكنه صعب.."
قال ولدها " هيا اجلسي بجانبي ولنتفق ان نطلق عليه اسما يليق بمقامه وبلسانك.."
ابتسمت قمر ثم نهضت مسرعه وجلست بجانب والدها بفرح كبير.. ثم بدأ نقاش الأب مع ابنته حول ذلك اللقب الجديد لدميتها امام انظار رؤى الحزينة ودموع قلبها بدأت بالنزيف منذ ان علمت بأمر مرضها حتى ذلك الوقت.. وغيمة من مشاعر احاطت بها تخفيها بين اضلعها.. ثم ادارت وجهها لتلك الصديقة المزعومة المطرقة رأسها وكلها ثقة بانها ستكون الآمان لابنتها من بعدها....
ولكن رؤى لم تدرك تلك المشاعر المخفية في قلب المدعوة صديقتها واكتفت بمشاعر ظاهرة وهمية .. حيث ابتسمت بانتصار من داخلها وكلها رغبة بالقيام بشيء مختلف يناسب مزاجها ومكرها.. لذلك..
" اين الكاميرا.."
نظر اليها والد قمر بعدم فهم ثم من بعده رؤى..
اكملت " اريد ان التقط لكم صورة.. ( وبمكر) للذكرى.."
ابتسمت رؤى بألم واشارت الى احد الاركان... واتخذ ثلاثتهم وضع التصوير وال ابتسامه على وجوههم..
وأيضا رؤى هنا لم تستطع تفسير الابتسامه ابتسامتها التي انطلقت على وجه المدعوة صديقتها بعد ان التقطت الصورة التذكارية لهم...
لو يعود الزمان يوماً.. و تبلغي من المرض اشده..!!
لو لم تستلقي بسلام تحت حفنة التراب بعد شهور من ذلك اليوم يا رؤى!!
لو علمت فقط ان الالم سيكون رفيق ابنتك من بعدك!!
لما جال بذهنك ذلك الطلب وما كنت ستطلبين منها الاعتناء بقمرك!!
ولكن حال خريف عمرك قبل ان تكشفي نواياها!! واختفت الابتسامه عن وجه قمرك الوحيد!! وعانت ألمها،، سقمها،، دمار قلبها لوحدها!!
ولكن لا يمكن لأي احد الهروب من القدر الذي ينتظره.....
وبالتوجه نحو الطائرة التي ستحلق بنا بعيدا للخروج من ذكريات الماضي العتيقة... حيث الغرفة متوسطة الحجم.. المليئة بالاوراق وبعض اللوحات.. اخرجت قمر تلك الصورة التي هربت معنا من الماضي الأليم...
وثبتت الصورة بدبوس صغير اعلى اللوحة.. ثم اتجهت الى احد الجوارير اخرجت منه علبة الوان الباستيل وبعض الاقلام..
توجهت فيما بعد وجلست على الكرسي واخذت تلك الاقلام ذات اللون الخفيف.. وبدأت بنقل التفاصيل الاساسية من الصورة الى اللوحة...
*******
حيث الفناء الخارجي.. وتحديدا على اطرافه الخارجية المطلة على الشارع الرئيسي.. وقفت سيارة التاكسي الصفراء ثم ترجلت منها ريم بعد ان شكرت السائق.. توجهت حيث البوابة الحديدة.. فتحتها ثم دلفت للداخل...
وهي في طريقها العشبي لمحت رامي يتحدث الى الهاتف يبدو عليه الارتباك... وبرغم انه معطيا اياها ظهره الا انها تعلم انه يضع يده اعلى رأسها عند ارتباكه.. ابتسمت بسخرية اذ تأكدت انه يجاري احدى الفتيات.. تقدمت ببطء وحاولت قدر الامكان ان لا تصدر اي صوت...
ولم يتبقى الا مسافه قصيرة حيث خرجت عبارة رامي " هل تعلم ان هناك من يشتاق اليك كثيرا.."
كتمت ضحكتها ثم اقتربت منه وصرخت بجانب اذنه مع انها لا تعلم من على الطرف الاخر
" اجل.. هناك من يشتااق... ( وهنا صرخت بقوة..) انااا..."
شهق رامي بخوف واضطراب.. وشعره بأن اذنه ثقبت من صراخها.. بينما اكتفى الطرف الاخر بأن انطلقت ضحتكته..
ابعد رامي الهاتف عن اذنه وقال بانزعاج لريم " على سبيل المثال ان كنت احادث احد معارفي..."
رفعت احدى حاجبيها وقالت " بما انه على سبيل المثال.. اذا انت تتحدث مع شخص من العائلة..."
اكتفى بالصمت بينما هي اكملت بمكر " ثم انك لا تتحدث مع معارفك في المنزل.."
قاطعها " لان هناك فضولية مزعجه.."
هزت رأسها نفيا وقالت بسخرية " لانك تحادث فارسات احلامك.."
" ها ها ها.." رامي باستهزاء..
شعرت ريم بالغيظ ثم قالت " على سبيل المثال.. ( ثم اخذت تفرد اصبعا اصبعا.." هناك رانيا... وسميه.. ممم رؤى أيضا.. إيلاف.. سيدرا.."
صمتت قليلا ثم نظرت الى هاتفها الذي اعلن عن وصول رساله.. وبينما هي تنظر اليها ارجع رامي الهاتف الى اذنه وقبل ان ينطق متأسفا لذلك الشخص الذي اعتبر صمت ريم وكانها تفكر بمن هم الفتيات اللواتي نلن مكانه في قلب رامي الخادع..
صرخت ريم بعد رؤيتها الرسالة " اااه قمر..." ثم ولت هاربه حيث الداخل.. غير مدركة لرامي الذي قطب جبينه استغرابا بعد ان سمع تمتمات من الهاتف..
نظر اليه واذ بالطرف الاخر قد اغلق منهيا المكالمه بعد ان رمى كلمات الوداع.. ثم اتسعت عيناه لادراكه السبب وقال وهو يشد بقبضته على هاتفه
" سيكون على يقين الان من سذاجتك يا ريم بأني احبها..."
ثم مضى بطريقه نحو المنزل...
وعلى عتبات السلم داخلي.. كانت تصعد ريم بسرعه كبيرة متجهة نحو قمر... هرولت بسرعه نحو غرفتها.. طرقت الباب ثم على الفور ثم قامت بفتحه ولكن غرفتها كانت فارغه كالعاده.. علت تقاسيم وجهها خيبة الامل.. تنهدت ثم اغلقت الباب.. رمت حقيبتها على الأريكة الفردية الموجودة بالممر ثم توجهت خطاها خارجه منه بفتور كبير... واستادرت بجسدها ناحية الدرج المؤدي الى الطابق الثالث..
" اهلا وسهلا بابنتي العزيزة.."
التفت ريم حيث والدتها المستعدة للخروج وبابتسامه " اهلا امي.."
تقدمت والدتها مرتدية ذلك البنطال وقميصا أبيض اللون وقالت باقتضاب " هيا تجهزي.. نحن مدعوون على العشاء.."
ريم بخيبة أمل " حسنا.. دقائق وأكون مستعدة..."
ابتسمت والدتها وقالت " لا تتاخري.." ثم مضت بطريقها نحو الطابق السفلي.. ومن بعدها ريم التي عادت ادراجها نحو غرفتها وهي تشعر بالضجر والملل فمهما حاولت الرفض فستكون لها والدتها بالمرصاد.. لذلك اختصرت الطريق الطويل للجدال بأن وافقت..
********
اما من كان يتحدث مع رامي قبل دقائق.. اغلق هاتفه بعد ان القى كلماته باقتضاب..
قال والشرر يتطاير من عينيه كلهيب النار " اذا تحبها يا رامي.."
وسار بطريقه خارجا من مبنى المطار.. وصل سيارته وركبها..ثم رمى هاتفه بغضب كبير... ادار مقود السياره و سار بطريقه غاضبا وما دل على غضبه طريقة قيادته المتهورة وعجلات سيارته تصدر صوتا باحتكاكها مع ارضيه الشوارع الاسفلتيه.... وبعد طريق طويل أوقف سيارته بطريقه جنونية قريبا من مقهى صغير يطل على الساحل... ومن داخل سيارته نراه يشد بقبضتيه على المقود وعروقه قد برزت من شده الغضب.. اما عيونه الرمادية قد تطاير الشرر منهما و اصبحتا كشعلتين حمراوتين.. وتقوس حاجباه كسيفين قاطعين... اسند رأسه على المقود وتلاحقت انفاسه.. بين زفير وشهيق متتاليين.. تخرج انفاسه حاره تتضارب بالمقود فتعود بطريقها اليه وتلفح وجهه الناري...ثم اغلق عيونه بألم... وقلبه يعلن ثورته على عقله ليقنعه بمشاعر الحنين والشوق والغيرة من جديد... وأخذ العراك المستمر بين عقله وقلبه محاولا أحدهما فرض سيطرته على الاخر الى ان اعلن القلب انتصاره في ساحه المعركة...
وحينها هدأت اعصابه وكأن القلب ارسل جرعاته من الحب ال سائر جسده فعاد الى حالته الطبيعية دافعا جم غضبه امام ما يترائى لذاكرته... وصوب عيناه ناحية صندوق السياره.. اتجهت يداه وفتحته بلهفة واندفاع شديد ليروي قلبه المشتاق... واخذ ذلك الالبوم الصغير... وبدأت يداه تقلب محتوياته..
وشعر برياح هبت في قلبه جعلته ينبض بحب امام شعرها المجعد يستقر على ظهرها النحيل يغطيه كما تغطي ستارة الليل السماء عند انسدالها.... تأمل الصورة بحب وشغف.. ابتسم وهو ينظر الى تفاصليها.. * يلعب بخصلات شعرها يتراقصان على انغام الموسيقى في ليلة الاحتفال بذكرى مولد ريم...*
تنهد ثم تامل شعرها من جديد.. وتذكر تلك القصيدة بعنوان (( يا ذات الشعر الأسود)).. كان قد قرأها على متصفح الانترنت ذات مره.. وفي كل ليله يعاود قراءتها وهو يتذكر قمره الوحيد الذي يستعلي سماء قلبه... وبدأت خلاياه العصبية بأوامر من قلبه بارسال اشارات للسانه بالحديث ليخرج صوته بنبرة يغلفها بحة جذابه.. واخذ يلقي كلماتها وهو ينظر الى الصورة بحب كبير...
القصيدة بقلم الشاعر: موسى يحيى صبري سورية (قامشلي)
يوماً مررت بدربي
فناداك قلبي وتحسر
قلت ليت: تصبحين الربيع في قلبي
تجعليه بستاناً تتمايل الفراشات على شعرك الأسود
أزهري قلبي
لأنه كان خريفاً صامتاً
أزهريه بخصرك بشعرك ببسماتك أزهريه
يا حلوة يا ذات الشعر الأسود
يوماً كتبت القصيدة
لأهديك أياها يا ربيع القلب
أرسلتها لبستان القلب
لكن القلب أبا ولم يقبل
قال لي: أعطها للربيع
الذي أزهر الخريف
في ضلوع الحجر
يوماً جلست عند شباكي أنطر
فمررت يا ذات الشعر الأسود
وقبل ان يكمل اطل من نافذة السيارة امرأه عجوز قالت بلكنتها الفرنسية " يا ذو العيون الرمادية.."
التفت لصاحبة ذلك الصوت وابتسم بوجهها " يا ذات الوجه الجميل.."
قهقهت بخفة.. وقال وهو يبعد الألبوم " هل تعلمين لقد اشتقت اليك كثيرا يا سالي.."
ابتسمت وقالت بعتاب " هذا لأنك لا تأتي كثيرا الى هنا.."
تنهد ثم ترجل من سيارته وترك بابها مفتوح وقال بأسف بعد ان قبل يدها باحترام " لقد مرت فتره عصيبة بالعمل؟!"
أومأت رأسها بتفهم ثم نظرت خلسة الى ذلك الألبوم وبمكر " من هذه يا معذب قلوب الفتيات..؟؟"
لوى شفتيه " فتاة واحدة.."
" هناك تفاصيل عشق جديدة على ما يبدو.." صمتت قليلا ثم اردفت " دعني ارى.."
هو رأسه ثم توجه بجسده حيث الداخل.. وناولها الألبوم فيما بعد...
بدأت تقلب فحواه وهي تتمعن النظر بصور تلك الفتاة وقالت بعد ان اغلقته
"هل تعلم يا مجد؟! برغم انك تأتي الى هنا ومعك الكثير من الهم والحزن بعكس الآخرين.. واني حقا اسأم من تفاصيل العشق المؤلمة الا انني أقدم لك النصائح.."
ابتسم بامتنان على هذه العجوز الطيبة.. وبادرته الابتسامة ثم قالت " لك شهر ونصف هنا أليس كذلك؟!"
" أجل.." قالها ثم اغلق سيارته وامسك بيدها " هل نذهب للجلوس يبدو انها جلسه حديث طويلة.."
ابتسمت وأكملا سيرهم الى ذلك المقهى امتلأ برجال ونساء من مختلف الاعمار يجلسون على طاولات وكراسي بلون السماء الصافيه.. ثم جلسا على احداها.. وطلبا القهوة لنفسيهما..
وبعد ان رشفت السيدة العجوز (سالي) القليل من القهوة قالت " انظر لي يا مجد؟!"
أكملت عندما رأته مستعدا للانصات " انت في فرنسا الان وهي في بلدك الاصلي.. نحن لا ندرك مشاعرها الى الان ولكن مشاعرك ندركها.."
قال بيأس " انها تكرهني.. لا بد انها سعيدة.."
هزت رأسها نفيا وقالت بابتسامه تشفي المرضى " انها تشعر مثلك بالتحديد وأكثر.."
زفر بحراره وقال " لا اظن.."
" متى سيستوعب عقلك ويتفهم الفتيات.." ثم فتحت ألبوم الصور على احدى الصور.. واشارت اليها..
" انظر يا مصيبة احلت علي هذا المساء.." قالتها بسخرية..
ابتسم بألم وهو يشاهد الصورة ذاتها.. ^^ تقف هي امامه تحيط ذراعيها بعنقه.. وأما يديه احداهما تكبل خصرها النحيل والاخرى تعبث بخصلة من شعرها المجعد.. وعيونه الرمادية مستقرة على عيونها العسلية..^^
قال مجد قبل ان يوجه يده نحو كوب القهوة الخاصه به " انها مجرد صورة لا أكثر.."
" ولكنها من أرض الواقع.."
ارتشف قهوته ثم هز رأسه نفيا غير مؤيد لها.. وكاد ان يفتح فمه حتى اشارت له بالصمت واضعة سبابتها امام فمها.. فلاذ بالصمت..
بينما أكملت سالي " انت تشبه البحر كثيرا.. وهي غارقة بك.."
أردفت عندما رأت الانكار بعيونه " البحر في فصل الصيف هادئ.. تتسارع امواج خفيفة رشيقه وتلاطم الصخور البارزة وتتراجع في انسياب.. اما في فصل الشتاء تثور ثورته.. وتتلاطم امواجه بشدة.. وتتجمع مزمجره ترميها الرياح الهوجاء بكل الاتجاهات.."
مجد بعدم استيعاب " وما شأن البحر الآن؟؟!"
ابتسمت سالي " لانك تشبهه.."
قطب جبينه باستغراب "كيف؟؟!"
تنهدت سالي ثم تحدثت " انت كالبحر.. جبار وعنيد حين غضبك.. وهنا يتحكم به عقلك.."
" حسنا.. اظن اني فهمت شيئا ما..!!" لوى مجد شفتيه بضيق ثم اكملت العجوز " تكون لطيفا و ودودا.. عندما تكون ساكنا ولينا.."
صمتت سالي قليلا ثم اردفت وهي تشير الى الصورة مرة اخرى " وهي في الحالتين غارقة بك.. تحتويها بسكونك.. وتغرق بك حين عاصفتك.."
اكتفى مجد بالصمت وهو يفكر بكل كلمة قالتها.. انه لم يستوعب من قبل ان تكون قمر تبادله ذات مشاعره.. واكدت ريم ذلك اليوم عندما كان يهاتف رامي.. ولكن قلبه لا يستطيع تخيلها مع رامي.. هي محبوبته له وحده... فرامي اللعوب لن يستطيع احتوائها.. هو فقط من يستطيع... ولكنه كلما يحاول ان يفعل ذلك يطلق سيوفه الحادة لتخترق قلبها الرقيق...
زفر بحرارة ورآها تقلب الألبوم.. اخذ كوب قهوته من جديد وارتشف منها القليل.. وصوب نظره امام الناس المتجمهرين في زاوية ما.. ابتسم بألم وهو يرى ذلك الشاب قد جلس على ركبة واحد ة وقدم خاتم الزواج لمعشوقته.. ادار جسده حتى يعود الى سالي ولكنها اختفت.. لم يعر الامر اهتمام فمن المؤكد انها انصرفت للاشراف على عمل المقهى... وضع كوب القهوة ثم اشاح وجهه الحجري ناحية البحر.. يفكر تارة بكلام سالي التي تحتضنه بكلامها ويؤثر به بالصميم..
وتارة اخرى بقمر.. وقلبه يفيض ألما.. تعود له ذكرياته معها من بداية عودته وحتى رحيله ووصوله الى فرنسا.. تذكر دموعها و ضعفها امام جبروته.. تذكر جميع التفاصيل.. مر شريط الذكريات.. ومع كل ذكرى يرتشف قليلا من قهوته وهو متسمر ينظر امامه....
لا يدري كم من الوقت مر الا على صوت النادل بعد استرعى انتباهه بهز كتفته بهدوء شديد..
" لو سمحت... سنغلق قاربت الى العاشرة؟!"
رمش مجد بعيونه الرمادية ثم نظر الى ساعته.. وكانت بالفعل تشير الى العاشرة الا عشر دقائق.. ابتسم للنادل واعطاه المبلغ المطلوب..
تناول الالبوم من على الطاولة.. وسار بذهن مشتت نحو سيارته... فتحها ثم دلف داخلها... اخذ نفسا عميقا ثم ضرب رأسه بقبضته اليمنى بعد ان ألقى الالبوم على المقعد المجاور.. " لماذا تفكر بها باستمرار... لماذا؟؟!"
ثم وضع رأسه على المقود بأسى محاولا ابعادها عن فكره وان لا تشغل ذهنه الى هذه الدرجة... وبعد صراعات داخلية مزقت انسجته وخلاياه ودمرت بقايا الأمل بأن تحمل له لو حتى ذرة مشاعر.. استسلم للنوم وغط في سباته العميق حتى ذلك الوقت....
والوقت الذي بدأت فيها النجوم تتلاشى وتنطفئ الواحة تلو الاخرى.. وبزغ الفجر من بعدها.. وتلونت البقاع وازهرت بعد ان طغى عليها السواد في الليل الموحش.. وفي هذه الاثناء انطلق رنين هاتفه المرة تتلوها المرة.. انتشل نفسه بصعوبة بعد ان اخترق صوت هاتفه رأسه وجعله يغلق مسارات الاحلام التي تود زيارته.... رفع رأسه عن المقود وهو يشعر بصداع خفيف لازمه لعدة دقائق بعد ان توقف هاتفه عن الرنين ثم اعتدل في جلسته واضعا يده على رماد عيونه حاجبا اشعه الشمس....
زفر بضجر وابعد يده عن عيونه بعد ان سمع رنين هاتفه يصر على ازعاجه مرة اخرى.. فمن ذا الذي يريد التحدث اليه في الصباح الباكر؟؟
كان قد القى هاتفه بالأمس بعد حديثه مع ابن عمه رامي.. فالتفت بجسده المتعب بسبب نومه بالسياره لناحية المقعد المجاور وانحنى نحو الاسفل كي يلتقطه.. وهو في مسار رحلته تلك توقف عن الحراك..
" يبدو ان سالي من وضعتها.." بعد ان لوى مجد شفتيه بسخريه بعد ان استرعت انتباهه تلك الورقه البيضاء.. منزلقه من بين ثنايا الالبوم الفوتوغرافي.. لم يعر امر هاتفه ابدا ولا المتصل اي اعتبار فعاد لوضعيته بعد ان اخذ ذلك الألبوم وفتحه على المكان الموجودة بها الورقة... ابعد الورقة من امامه.. وتأمل ملامحها القمرية من جديد...
" هل تحبينه يا قمر.. ؟!"
تنهد بتعب.. ثم أكمل بضيق " هل ستكون عيونك التي تقطر عسلا له وحده؟؟" واعقب قوله ان مرر بأصبعه على عيونها....
" لا أدري بأي لغات العشق استطيع ان اعبر بها لك.. اعبر بها عن سحر جمالك يا قمري.."
صمت قليلا وبصوت متحشرج ونبرة يغلفها الأم " بالتأكيد لا تعلمين عن ما يخالج نفسي من عذاب حبك وألم فراقك يا نرجسيتي.."
تأمل صورتها من جديد بحب وشوق كبيرين واكمل بعد ان ابتلع غصته والتي أملأت حلقه بالمراره " كنت اريد فقط القليل من التعبير عن مشاعر الحب منك.. كنت في اشد الحاجة اليك لتكوني موطني الجديد ولكن سدت جميع الابواب في وجهي وكأن الامل كان يتجدد مع كل يوم جديد ثم لا يلبث ان يتبخر كالضباب في طليعه الصباح التالي.."
ابتسم بمراره " منذ وصولي الى فرنسا.. وكلما امر في الطريق ابحث عن وجهك لعلي اراه في انثى تشبهك.. او اصادف احدا من اشباهك الاربعين ولكن كان علي أن ادرك قبل مغادرتي انك حقا تشبهين القمر.. فأنت فريدة من نوعك.. لا يتواجد من يشبهك.. تشبهين الجمال الذي يزين الارض ويلونها ويجعلها بأبهى حلتها.."
صمت واتكأ برأسه المتعب على المقعد اغلق عيناه و زفر بحرارة مطلقا براكين غضبه الى الخارج.. يحاول ابعادها عن تفكيره ولكن باءت محاولاته بالفشل.. فكلما يهرب منها يهرب اليها....
اتجه من بعدها بانزعاج لالتقاط هاتفه الذي انطلق رنينه المزعج مره اخرى..و بغضب انهى المكالمة.. ورمى بهاتفه باستياء على المقعد..
ثم فتح تلك الورقة البضاء المحتوية على كلام من السيدة العجوز سالي.. فكلما يشعر بحالة يرثى عليها تكون هي الطبيب المداوي لحالته... تذكره بحكمتها وتصرفاتها الحسنة بجدته.. وكم اشتاق الى جدته..
تأمل كل كلمة منها وصدره ينفث حراره الاشتياق.. الحب وكل المشاعر بين العاشقين..
( في عينيها حزن وفي روحها وردة لا تذبل.. انها تحب الحياه ولكنها حزينة.. كنت انت الحياه وحرر تلك الروح من احزانها... عد اليها.. عد للسفينه التي تبحر في قلبك.. وكن انت شاطئها وملجأها الوحيد بكل أحزانها يا مجد..)
- فاروق جويدة
(10)
اخذ نفسا قويا.... ثم اتجه بخطواته مبتعدا عن هذا الطابق حيث الفناء الخلفي للمشفى فقد تكون جيداء متواجده هناك...
جال بنظره ثم وقعت عيونه الملتهبة عليها... وفعلا قد صدق حدسه... حيث كانت تجلس على احد الكراسي الخشبية تشرب كوبا من القهوة شاردة الذهن.. تقدم كقنبلة على وشك الانفجار.. ثم صرخ بأعلى صوته.. و شعر بأن حباله الصوتية قد انقطعت وكأن سكين حاد قد اخذ ينحر اعصاب حنجرته.......
" جيدااااااااااااااااااء.."..
شهقت بقوة وانسكبت القهوة من يدها جراء صرخته التي انطلقت كقنابل نووية اطلقت على وجه الارض... والناس من حولها ينظرون باستغراب.. تقدم لها كرياح هوجاء ستدمرها لا محاله.. ازدردت لعابها بخوف وبتلعثم واضح " ماذا هناك يا رائد؟!"
زفر بقوة ثم رمقها بنظرة قاسية وهو يشد على يده " من دفع تكاليف الطبيب؟!"
اتسعت عيناها وارتعدت اوصالها ثم بعثرت نظرها وقالت محاولة اخفاء ربكتها " لقد قمت اناااا...."
انطلقت من صرخة تعبر عن قهره " كاذبه.." ثم القى بالبطاقة قهرا على الارضيه امام عيونها المذهولة....
صر على اسنانه ثم " و هذه البطاقة؟!"
اطرقت جيداء رأسها وقد تجمعت الدموع في عيونها لا تدري ماذا تقول او تفعل في هذه الحالة التي تشهدها لرائد... ثم شعرت بيده تكبل يدها بألم شديد.. اغلقت عيونها بألم وقد انحدرت بضع دمعات من مقلتيها..
وبحده وبصوت اعلى من ذي سبق " أجيبي..."
" والدي..." اجابته جيداء بألم....
لوى فمه بضيق " اعلم... ولكن أي واحد منهما... ( افلت يدها) هل المحامي ام صاحب الشركات؟!"
ثم اكمل بلهجة ساخرة " مع ان مصدر اموالهما واحد.."
اخذت نفسا عميقا ورفعت رأسها باضطراب والتقت عيونها الحزينة المتأسفه بعيونه العاتبة ثم تسائل بضعف وهو يجلس على المقعد " لماذا يا جيداء..." اخرج تنهيدة وسارت هي وجلست بجانبه بتردد ودموع متزاحمه تود الخروج لذكريات الماضي..
أكمل بعتاب وهو يديرها ناحيته " لماذا تحيكين الامور من دون علمي، لم أعد أريد مساعدته أبداً ألم أقل لك؟ .."
" لأنك لن تستطيع دفع تكاليفها..." جيداء بصوت مختنق
تنهد رائد ثم وضع يده خلف ظهرها واسندت رأسها على كتفه حتى تخفف آلامها
" ولكن الجمعية النسائية ما زالت تدفع للعلاج.."
" الجمعية الخاصه بجدة ريم لن تتكفل جميع التكاليف.. لن تستطيع يا رائد.."
تنهد رائد ثم قال بحنية " لكن ما كان عليك ان تخفي عني مثل هذا الامر.. " صمت قليلا ثم اكمل بألم يعتصر داخله كسموم قاتله انتشرت في كامل الجسد وجعلته يأن ويصرخ " انت تعلمين ما عانيته من قبلهم.. ألا يحق لي..."
قاطعته بحدة " هل تعتقد ان ألمي هين وايسر من ألمك... (ثم بضعف ) انت يتواجد لك عائلة اما انا لا اعلم الى اي عائلة انتمي"
تنهد دافعا ألمه خارجا وفاض على هيئة عبارات " انا فقدت والدي.. مرضت امي من بعده.. قمت بتأجيل دراستي.. عانيت المرض مع امي.... عشت معها آلامها ضعفها.. كلما كانت تتألم أتألم داخلي ملايين المرات..."
ابتعد عنها وهو يقف شاعرا بحرارة انفاسه وضيق في صدره واكمل بصوت مختنق " هل تعلمين ما هو اصعب من الفقر... العجز.." صمت .. وبعد ان اخذ نفسا قويا " العجز امام مرض امي.. وامام متطلبات الحياة المعقدة... عدم القدرة على جني المال الكافي لإعالة العائلة..."
" ولكن هذا ليس كما باعني وتخلى عني... لقد حرمني منه لسنين طويلة.." كتمت شهقتها ثم اشارت الى صدرها " ان داخلي يتألم كثيرا يا رائد.. انت لم تصحو يوما وتجد انك في عائلة لا تنتمي اليها.. تتواجد فيها كبضاعه تم شرائها من السوق.. كإنسان يتيم.."
صرخ بها " هذا لا يعني ان تأخذي منه مالا للانتقام.. حتى تشفي حقدك عليه..."
نظرت اليه بذهول ودموعها منطلقه في مسيرها مهاجرة من عيونها ثم اندفعت نحوه صارخة امام مرأى الجميع " هل تعتقد اني طلبت المال من ذلك الحقير الذي يعتبر نفسه والدا بعد سنين.. هل تعتقد انه يمكنني ان أتخلى عن ألمي بمجرد مال اخذه منه..."
" اهدأي يا جيداء.." رائد محاولا ترويضها ولكنها ابتعدت عنه بانفعال شديد ودموعها المنحدرة على وجنتيها " لم اطلب المال من عمك البليد ذاك.. لم اطلب من مَن باعني حتى لا اخذ من الإرث قطرة واحدة.. ولا الذي حرمك من نصيب والدك في الشركة داعيا مصلحتك.. ( ثم بتهالك على المقعد) لم اطلب منه يا رائد..."
جلس بجانبها بضعف شديد يشعر بحرارة تسري سائر جسده.. فلم يكن رائد هو الوحيد الذي عانى من جبروت عمه.. بل ها هي ابنته جيداء قد عانت من قسوته وظلمه..
باعها لأحد معارفه بعد ولادتها.. فأما أمها قد توفت مباشرة بعد ميلادها.. كانت تعاني اثناء فتره الحمل ضعفا بالقلب.. وبعد ولادتها نقلت على اثرها الى العناية المشددة ولكن باغتها الموت تاركة خلفها ابنتها التي لم ترتوي بحنانها وعطفها... وزوجا خلع عنه رداء اللين والطيبة مرتديا قناع القسوة والظلم..
يراها تكفكف دموعها حتى تبدو قوية معتمدة على نفسها.. فمنذ ان علمت بأمر احتضانها لعائله لا تمت لها بصلة اصبحت تلك الفتاة القوية التي تعتمد على نفسها... اكملت اعوامها الدراسية بعد صدمتها .. حيث اضطرت بعدها للمكوث في مدرسة داخلية ترعاها الدولة.. ولكنها ما زالت تشعر بمشاعر المحبة والانتماء للعائلة التي قامت بتربيتها...
تحدث رائد بانزعاج " ولكنه يعمل معه يا جيداء.. يعمل مع عمي!!"
جيداء بضيق كبير " هل تعلم يا رائد.. برغم انه ليس والدي الحقيقي.. ولكنه اشعرني حقا انني ابنته طوال السنين.. لم يبخل علي بشيء ابدا.. حتى بعد دخولي المدرسة الداخلية كان يصر على رؤيتي كثيرا.."
تنهدت ثم اكملت وهي تنظر اليه " انه المحامي الخاص به.. يعمل مع عمك لانه تحت تهديده وسيطرته.. لقد قام بأعمال دنيئة فقط من اجل ان يبقيني معه.."
هز رائد رأسه بقله حيلة وغضب.. فأردفت جيداء " اتصلت صباح اليوم.. عندما رأيتك غير قادر على سداد المبلغ.. فلا مالي يكفي ولا مالك ايضا.. وايضا.."
قاطعها رائد " ولا استطيع ان اقترض من احد اخر..."
" لذلك قمت بالاتصال به.."..
أومأ رائد رأسها متفهما فأكملت جيداء بغصة كبيرة " عندما اخبرته اني بالمشفى قدم فورا.. رأيت الخوف بعيونه.. حالما ينظر الي بعيون مليئه بالمحبة اود ان انسى الماضي.. ( تنهدت ) عندما علم بأمر والدتك.. لم يتقبل في البداية ولكنني شعرت بقسوته اليوم وانه اخذ الصفات السيئه من عمك..."
لوى رائد شفتيه بسخرية وقال " ووالدك البيولوجي ايضا..."
نظرت اليه جيداء وقالت بحسرة وألم " والدي البيولوجي.. الذي باعني..." نفضت رأسها ثم اكملت " عندما علم بحالة والدتك تردد بالمساعده.."
" خوفاً..."
أومأت جيداء رأسها " اجل.. ولكنني قمت باقناعه بطريقه ما ورضخ بالنهاية..."
زفر رائد بحرارة ونظر اليها بوجوم.. انه يحزن عليها اجل.. على حالها.. ولكن هذا لا يعطيها الحق بأن تقوم بخداعه بتلك الطريقة.. انه لا ينكر انها قامت بذلك من اجل مساعدته ولكن... لا يتقبل تلك المساعده.. انها من شركة عمه... عمه الذي تخلى عن الجميع لأجل طمعه وجشعه.. واستولى على أملاك العائلة جميعها...
خرج من تلك الذكريات التي رآها كشريط مصور على جيداء التي قالت بعتاب قبل انصرافها بسرعه " انها المرة الاولى التي اطلب منه المساعدة يا رائد.. وكل هذا لأجلك.."
قال رائد بضعف " جيداء.."... ولكنها لم تستجب.. بل ابتعدت وابتعدت.. ثم احاط رائد رأسه على يديه بتعب شديد..
*********************
ذكرى من عبق الماضي... ♥
في احدى الليالي بقرية صغيرة جنوب فرنسا.. بدأ قدوم فصل الشتاء بثلوجه وعواصفه.. وتدريجيا مع كل يوم يمر خلت الطرقات والحقول واوديتها من العاملين من الطبقة الكادحة... فلزم سكان هذه القرية أكواخهم وبيوتهم البسيطة... يقضون أيامهم بجانب الموقد لعله يدفع فيهم الشعور بالدفء.. وتوالت الايام وانقضى كانون الاول.. وانطوت صفحة السنه التي قبلها.. وبدأ العالم أجمع بعام جديد.. وتزينت الطرقات والبيوت بأشجار الزينة واحتفلوا ببداية عام جديد مع التمنيات الجيدة...
وفي كوخ صغير ينطلق من مدخنته ذلك الرماد ليمتزج مع حبات المطر الساقطة من السماء.. جلست تلك الطفلة بملابسها الصوفية الثقيلة شديدة السواد تحاكي ضفيرة شعرها السوداء التي امتدت على ظهرها النحيل.. بجانب الموقد ممسكة بأقلام التلوين الخاصة بها وأمامها العديد من الدمى المختلفة تحاول بيدها الصغيرة نقل صورتها طبق الاصل على ذلك الدفتر الكبير.. ومعالم وجهها تدل على الاصرار اذ انتقلت الى الصفحة التي تليها عندما اخطأت رسم عين تلك القطة...
قالت بضجر بصوتها الطفولي " لماذا لا استطيع رسمه.." ثم بغضب قذفت ذلك الدفتر جانبا وكتفت يديها ثم قوست فمها دليل على عدم الرضا...
وبعدها بدقائق انطلق صوت من خلفها " ماذا تفعلين؟!"
صرخت باندفاع "أمي..وأخيرا استيقظيتِ؟!"
جلست تلك الامرأة بجانب ابنتها على الارضية ببطء شديد وثم اخذ سعالها يخرج من جوف حلقها بشدة.. واهتز جسدها النحيل كما لو ان زلزالا قد الم بالمنطقة..
نظرت اليها طفلتها بحيرة وشبكت اصابع يدها اليمنى باليسرى.. ابتسمت والدتها ومسحت على شعرها بحنان "أنه منتصف الليل.. لماذا ما زلت مستيقظة؟!"
اجابتها وهي تسقط بين احضانها وكأنها تريد حنانا منها وعطفا " انتظر ابي؟! لقد تأخر.."
ازدردت لعابها لعلها حلقها الجاف كالورق يرتوي " انه يعمل في مكان بعيد.. سيأتي بعد قليل.."
تنهدت الصغيرة ثم ارتعدت بخوف وهي تتشبث بأمها على اثر ذلك الصوت... حيث توارى النور الضئيل في الانحاء وغمرت الظلمة المكان... وبدأت الثلوج تنهمر بغزارة..
مسحت على شعر ابنتها بحنان وانحدرت دمعه من مقلتيها لتقول وهي تشعل بخلايا رئتيها تقتلع من مكانها " هيا الى النوم يا عزي.."
وقبل ان تكمل جملتها بصوتها الواهن وقد تخلل كلماتها السعال من جديد.. انطلقت صرخة من هذه الصغيرة اثر سماعها صوت العاصفة وكأنها تطلق صفيرا قويا ثم تسارعت بقوة ملعلعة بصوتها من اعالي الجبال فترتعش لهولها الاشجار وتنتفض منها القلوب مرتعبه..
احتضنت طفلتها الصغيرة التي تنتحب من خوفها وذعرها تشبثت بوالدتها تختبئ بين أضلعها كأنها الحصن المانع من تلك العاصفة.. احتمت في دفء قلبها الابيض وكأنها الآمان الذي سينجيها من هول تلك العاصفة.. فالأم هي مصدر الحنان والعطاء بلا مقابل.. هي الجندي المجهول الذي يرعى ضعفنا.. ويحاول بما يستطيع ان يبعد الآلام التي زرعها الزمن بداخلها.. فهي صمام الامان.. هي العطف.. وهي منبع العطاء هي الحب الحقيقي....
وفي لحظة ما هدأت تلك العاصفة وكأن السماء عانت من ألم ما فأطلقت أنينها على هيئة صرخاتها المدوية في تلك الليلة.. الى ان خف ذلك الألم بعد أن مر الوقت واكتست البقاع كعروس تزينت بذلك الرداء الأبيض تعانق الأرض كعناق المشتاق لحبيبه.. تجمعت قطرات الثوب المتجمدة وتشابكت لتصبح كالبلورات الماسية منها ما غطت الطرقات والبيوت..ومنها من زينت الأشجار والبساتين... وظلت الارض على حالها مكتسية ثوب الوقار الى ما بعد يومين...
أنت أنينا خفيفا وتلوّت ذات اليمين وذات الشمال... امام صديقه والدتها وهي تمشط خصلات شعرها.. حيث شبهتها تقتلع شعرها من جذورها كآلة حصاد القمح... وضعت قمر يدها على رأسها وقالت " انه يؤلم.."
صديقة والدتها والاستياء بادٍ على تقاسيم وجهها " ولكن خصلات شعرك متشابكة.. تحملي قليلا.."
قوست فمها وبريق الحزن في عيونها العسلية الصغيرة وبصوت واهن قالت والدتها من خلف تلك الكمامه " لا تتعبي خالتك يا قمر.."
اذعنت قمر لوالدتها المريضة ثم بدأت بالعبث في أقلام التلوين كعادتها حتى تتناسى ذلك الألم..
وبعد ان شعرت قمر بأن صديقه والدتها انتهت من شعرها ابتعدت قليلا عنها وبدأت برسم صفحة اخرى.. ثم سمعتها تسأل والدتها " متى سيعود زوجك يا رؤى.. لقد اطال المدة في العاصمة.."
أجابتها رؤى بصوتها الضعيف " لقد اتصل بي.." ثم اخذت نفسا عميقا و " بسبب العاصفة الثل..."
وقاطع عبارتها سعالها القوي من جديد.. نظرت قمر الى والدتها بضعف سرعان ما صرخت بحماس شديد ورمت ما بيدها أرضا بعد سماعها رنين جرس المنزل " أبييييي... لقد عااد.."
قالت رؤى بضعف بعد اختفاء قمرها " اشعر اني قاربت على فراق الحياة.."
امسكت صديقتها بيدها " لا تقولي هكذا يا رؤى.."
أحنت رؤى رأسها وتجمعت الدموع في عيونها " ألا تتذكرين ما قاله الطبيب.." صمت قليلا ثم عضت على شفتيها ألما بعد سماعها ضحكاتهم الآتية من الخارج وأكملت بضعف شديد " التهاب رئوي حاد.."
" ربما ستجدي الأدوية نفعا وتشفين.. ثم بعد ذلك.."
قاطعتها رؤى بخيبة أمل " صدقيني لقد تأزم وضعي كثيراً.. ليس لي نجاة من هذا المرض.."
وما كان من الأخرى الا ان زفرت بعمق ثم وجهت نظرها حيث النافذه " ولكن قمر ما زالت صغيرة..."
وجهت رؤى انظارها حيث النافذة هي الاخرى ورأت قمر تلهو وتلعب مع والدها بسعادة كبيرة وبصوت متحشرج " انها تحتاج الى رعاية كبيرة.." صمتت قليلا حتى تلتقط انفاسها ثم أكملت بغصة ودموع عالقه بين جفونها " وانا لم تعد لدي المقدرة على رعايتها.."
نظرت اليها صديقتها واكتفت بالصمت امام السعال الذي انتابها على حين غرة.. ثم نظرت ناحية زوج رؤى تنهدت ثم اعادت بصرها الى رؤى..
" ان وجودك بجانبي يزيح عن قلبي الهم.." رؤى بابتسامه خافته صمتت قليلا وابتسمت صديقتها وكلها امل ان تصل الى مسامعها الكلمات التي ستحقق مرادها بالمستقبل..
اردفت رؤى بعد صمت عندما شاهدت صغيرتها تنفض عن ملابسها بلورات الثلج " حيث تكون قمر تحت جناح رعايتك.. اشعر انها بأمان.."
ابتسمت رؤى بألم وفي جعبتها حديث تحاول في داخلها تركيب حروفه.. وهي في هذه الحاله من الارتياب والألم.. كانت صديقتها متلهفة لسماع تلك الكلمات التي ستخرجها من مستنقعها مستقبلا بعد موت رؤى... ثم اقتربت يد رؤى الهزيلة المرتجفة وقالت بقلب محترق اصبح رمادا بعد هذه السنين " واتمنى ان تبقى تحت رعايتك بعد موتي..."
ابتسمت داخلها ولكن قالت بأسف " أحب علي ان اقوم برعايتها.. ولكن زوجك ألن...."
قاطعتها رؤى " انه مطلبي الوحيد فقط من اجل قمر.. ثم..." سعلت فجأة وبعد ان هدات نوبه السعال أكملت بوهن " لا تقلقي بشأنه.."
وقبل ان تعبر صديقتها الوهميه عن مشاعر مزيفه كعلاقتها مع رؤى.. دخلت قمر باندفاع غير ابهة بشعرها المليء بقطرات الماء وبعض ذرات الثلج العالقه به... جثت على ركبتيها بعد وصولها حيث والدتها ورفعت ذلك الكيس البلاستيكي الشفاف اما انظارها المتألمه " انظري ماذا احضر لي ابي.." ثم التفتت الى والدها الذي دلف من بعدها " لقد نسيت اسمه.."
ابتسم لها بحنان واقترب منهم " اسمه بينوكيو.."
أومأت رأسها " أجل.." ثم نظرت الى دميتها الجديدة و اخذت تعد على اصابعها احرفه.." ب..ي..ن..ي.." هزت رأسها نفيا ثم عادت من جديد " بينو.. ك..يا.."
وبعدها باستياء " كيف يلفظ اسمه..."
ابتسمت صديقه رؤى فقد وصلت الى مبتغاها وأي شيء يعبر عن حالتها الان فقط ستصبر الى ان يئول برؤى الموت..
نهضت من مكانها فاسحة لزوجها المستقبلي ( والد قمر) المجال للجلوس بجانب زوجته وقالت لقمر " انه بينوكيو..."
مطت قمر شفتيها اللتان بلون التوت " ولكنه صعب.."
قال ولدها " هيا اجلسي بجانبي ولنتفق ان نطلق عليه اسما يليق بمقامه وبلسانك.."
ابتسمت قمر ثم نهضت مسرعه وجلست بجانب والدها بفرح كبير.. ثم بدأ نقاش الأب مع ابنته حول ذلك اللقب الجديد لدميتها امام انظار رؤى الحزينة ودموع قلبها بدأت بالنزيف منذ ان علمت بأمر مرضها حتى ذلك الوقت.. وغيمة من مشاعر احاطت بها تخفيها بين اضلعها.. ثم ادارت وجهها لتلك الصديقة المزعومة المطرقة رأسها وكلها ثقة بانها ستكون الآمان لابنتها من بعدها....
ولكن رؤى لم تدرك تلك المشاعر المخفية في قلب المدعوة صديقتها واكتفت بمشاعر ظاهرة وهمية .. حيث ابتسمت بانتصار من داخلها وكلها رغبة بالقيام بشيء مختلف يناسب مزاجها ومكرها.. لذلك..
" اين الكاميرا.."
نظر اليها والد قمر بعدم فهم ثم من بعده رؤى..
اكملت " اريد ان التقط لكم صورة.. ( وبمكر) للذكرى.."
ابتسمت رؤى بألم واشارت الى احد الاركان... واتخذ ثلاثتهم وضع التصوير وال ابتسامه على وجوههم..
وأيضا رؤى هنا لم تستطع تفسير الابتسامه ابتسامتها التي انطلقت على وجه المدعوة صديقتها بعد ان التقطت الصورة التذكارية لهم...
لو يعود الزمان يوماً.. و تبلغي من المرض اشده..!!
لو لم تستلقي بسلام تحت حفنة التراب بعد شهور من ذلك اليوم يا رؤى!!
لو علمت فقط ان الالم سيكون رفيق ابنتك من بعدك!!
لما جال بذهنك ذلك الطلب وما كنت ستطلبين منها الاعتناء بقمرك!!
ولكن حال خريف عمرك قبل ان تكشفي نواياها!! واختفت الابتسامه عن وجه قمرك الوحيد!! وعانت ألمها،، سقمها،، دمار قلبها لوحدها!!
ولكن لا يمكن لأي احد الهروب من القدر الذي ينتظره.....
وبالتوجه نحو الطائرة التي ستحلق بنا بعيدا للخروج من ذكريات الماضي العتيقة... حيث الغرفة متوسطة الحجم.. المليئة بالاوراق وبعض اللوحات.. اخرجت قمر تلك الصورة التي هربت معنا من الماضي الأليم...
وثبتت الصورة بدبوس صغير اعلى اللوحة.. ثم اتجهت الى احد الجوارير اخرجت منه علبة الوان الباستيل وبعض الاقلام..
توجهت فيما بعد وجلست على الكرسي واخذت تلك الاقلام ذات اللون الخفيف.. وبدأت بنقل التفاصيل الاساسية من الصورة الى اللوحة...
*******
حيث الفناء الخارجي.. وتحديدا على اطرافه الخارجية المطلة على الشارع الرئيسي.. وقفت سيارة التاكسي الصفراء ثم ترجلت منها ريم بعد ان شكرت السائق.. توجهت حيث البوابة الحديدة.. فتحتها ثم دلفت للداخل...
وهي في طريقها العشبي لمحت رامي يتحدث الى الهاتف يبدو عليه الارتباك... وبرغم انه معطيا اياها ظهره الا انها تعلم انه يضع يده اعلى رأسها عند ارتباكه.. ابتسمت بسخرية اذ تأكدت انه يجاري احدى الفتيات.. تقدمت ببطء وحاولت قدر الامكان ان لا تصدر اي صوت...
ولم يتبقى الا مسافه قصيرة حيث خرجت عبارة رامي " هل تعلم ان هناك من يشتاق اليك كثيرا.."
كتمت ضحكتها ثم اقتربت منه وصرخت بجانب اذنه مع انها لا تعلم من على الطرف الاخر
" اجل.. هناك من يشتااق... ( وهنا صرخت بقوة..) انااا..."
شهق رامي بخوف واضطراب.. وشعره بأن اذنه ثقبت من صراخها.. بينما اكتفى الطرف الاخر بأن انطلقت ضحتكته..
ابعد رامي الهاتف عن اذنه وقال بانزعاج لريم " على سبيل المثال ان كنت احادث احد معارفي..."
رفعت احدى حاجبيها وقالت " بما انه على سبيل المثال.. اذا انت تتحدث مع شخص من العائلة..."
اكتفى بالصمت بينما هي اكملت بمكر " ثم انك لا تتحدث مع معارفك في المنزل.."
قاطعها " لان هناك فضولية مزعجه.."
هزت رأسها نفيا وقالت بسخرية " لانك تحادث فارسات احلامك.."
" ها ها ها.." رامي باستهزاء..
شعرت ريم بالغيظ ثم قالت " على سبيل المثال.. ( ثم اخذت تفرد اصبعا اصبعا.." هناك رانيا... وسميه.. ممم رؤى أيضا.. إيلاف.. سيدرا.."
صمتت قليلا ثم نظرت الى هاتفها الذي اعلن عن وصول رساله.. وبينما هي تنظر اليها ارجع رامي الهاتف الى اذنه وقبل ان ينطق متأسفا لذلك الشخص الذي اعتبر صمت ريم وكانها تفكر بمن هم الفتيات اللواتي نلن مكانه في قلب رامي الخادع..
صرخت ريم بعد رؤيتها الرسالة " اااه قمر..." ثم ولت هاربه حيث الداخل.. غير مدركة لرامي الذي قطب جبينه استغرابا بعد ان سمع تمتمات من الهاتف..
نظر اليه واذ بالطرف الاخر قد اغلق منهيا المكالمه بعد ان رمى كلمات الوداع.. ثم اتسعت عيناه لادراكه السبب وقال وهو يشد بقبضته على هاتفه
" سيكون على يقين الان من سذاجتك يا ريم بأني احبها..."
ثم مضى بطريقه نحو المنزل...
وعلى عتبات السلم داخلي.. كانت تصعد ريم بسرعه كبيرة متجهة نحو قمر... هرولت بسرعه نحو غرفتها.. طرقت الباب ثم على الفور ثم قامت بفتحه ولكن غرفتها كانت فارغه كالعاده.. علت تقاسيم وجهها خيبة الامل.. تنهدت ثم اغلقت الباب.. رمت حقيبتها على الأريكة الفردية الموجودة بالممر ثم توجهت خطاها خارجه منه بفتور كبير... واستادرت بجسدها ناحية الدرج المؤدي الى الطابق الثالث..
" اهلا وسهلا بابنتي العزيزة.."
التفت ريم حيث والدتها المستعدة للخروج وبابتسامه " اهلا امي.."
تقدمت والدتها مرتدية ذلك البنطال وقميصا أبيض اللون وقالت باقتضاب " هيا تجهزي.. نحن مدعوون على العشاء.."
ريم بخيبة أمل " حسنا.. دقائق وأكون مستعدة..."
ابتسمت والدتها وقالت " لا تتاخري.." ثم مضت بطريقها نحو الطابق السفلي.. ومن بعدها ريم التي عادت ادراجها نحو غرفتها وهي تشعر بالضجر والملل فمهما حاولت الرفض فستكون لها والدتها بالمرصاد.. لذلك اختصرت الطريق الطويل للجدال بأن وافقت..
********
اما من كان يتحدث مع رامي قبل دقائق.. اغلق هاتفه بعد ان القى كلماته باقتضاب..
قال والشرر يتطاير من عينيه كلهيب النار " اذا تحبها يا رامي.."
وسار بطريقه خارجا من مبنى المطار.. وصل سيارته وركبها..ثم رمى هاتفه بغضب كبير... ادار مقود السياره و سار بطريقه غاضبا وما دل على غضبه طريقة قيادته المتهورة وعجلات سيارته تصدر صوتا باحتكاكها مع ارضيه الشوارع الاسفلتيه.... وبعد طريق طويل أوقف سيارته بطريقه جنونية قريبا من مقهى صغير يطل على الساحل... ومن داخل سيارته نراه يشد بقبضتيه على المقود وعروقه قد برزت من شده الغضب.. اما عيونه الرمادية قد تطاير الشرر منهما و اصبحتا كشعلتين حمراوتين.. وتقوس حاجباه كسيفين قاطعين... اسند رأسه على المقود وتلاحقت انفاسه.. بين زفير وشهيق متتاليين.. تخرج انفاسه حاره تتضارب بالمقود فتعود بطريقها اليه وتلفح وجهه الناري...ثم اغلق عيونه بألم... وقلبه يعلن ثورته على عقله ليقنعه بمشاعر الحنين والشوق والغيرة من جديد... وأخذ العراك المستمر بين عقله وقلبه محاولا أحدهما فرض سيطرته على الاخر الى ان اعلن القلب انتصاره في ساحه المعركة...
وحينها هدأت اعصابه وكأن القلب ارسل جرعاته من الحب ال سائر جسده فعاد الى حالته الطبيعية دافعا جم غضبه امام ما يترائى لذاكرته... وصوب عيناه ناحية صندوق السياره.. اتجهت يداه وفتحته بلهفة واندفاع شديد ليروي قلبه المشتاق... واخذ ذلك الالبوم الصغير... وبدأت يداه تقلب محتوياته..
وشعر برياح هبت في قلبه جعلته ينبض بحب امام شعرها المجعد يستقر على ظهرها النحيل يغطيه كما تغطي ستارة الليل السماء عند انسدالها.... تأمل الصورة بحب وشغف.. ابتسم وهو ينظر الى تفاصليها.. * يلعب بخصلات شعرها يتراقصان على انغام الموسيقى في ليلة الاحتفال بذكرى مولد ريم...*
تنهد ثم تامل شعرها من جديد.. وتذكر تلك القصيدة بعنوان (( يا ذات الشعر الأسود)).. كان قد قرأها على متصفح الانترنت ذات مره.. وفي كل ليله يعاود قراءتها وهو يتذكر قمره الوحيد الذي يستعلي سماء قلبه... وبدأت خلاياه العصبية بأوامر من قلبه بارسال اشارات للسانه بالحديث ليخرج صوته بنبرة يغلفها بحة جذابه.. واخذ يلقي كلماتها وهو ينظر الى الصورة بحب كبير...
القصيدة بقلم الشاعر: موسى يحيى صبري سورية (قامشلي)
يوماً مررت بدربي
فناداك قلبي وتحسر
قلت ليت: تصبحين الربيع في قلبي
تجعليه بستاناً تتمايل الفراشات على شعرك الأسود
أزهري قلبي
لأنه كان خريفاً صامتاً
أزهريه بخصرك بشعرك ببسماتك أزهريه
يا حلوة يا ذات الشعر الأسود
يوماً كتبت القصيدة
لأهديك أياها يا ربيع القلب
أرسلتها لبستان القلب
لكن القلب أبا ولم يقبل
قال لي: أعطها للربيع
الذي أزهر الخريف
في ضلوع الحجر
يوماً جلست عند شباكي أنطر
فمررت يا ذات الشعر الأسود
وقبل ان يكمل اطل من نافذة السيارة امرأه عجوز قالت بلكنتها الفرنسية " يا ذو العيون الرمادية.."
التفت لصاحبة ذلك الصوت وابتسم بوجهها " يا ذات الوجه الجميل.."
قهقهت بخفة.. وقال وهو يبعد الألبوم " هل تعلمين لقد اشتقت اليك كثيرا يا سالي.."
ابتسمت وقالت بعتاب " هذا لأنك لا تأتي كثيرا الى هنا.."
تنهد ثم ترجل من سيارته وترك بابها مفتوح وقال بأسف بعد ان قبل يدها باحترام " لقد مرت فتره عصيبة بالعمل؟!"
أومأت رأسها بتفهم ثم نظرت خلسة الى ذلك الألبوم وبمكر " من هذه يا معذب قلوب الفتيات..؟؟"
لوى شفتيه " فتاة واحدة.."
" هناك تفاصيل عشق جديدة على ما يبدو.." صمتت قليلا ثم اردفت " دعني ارى.."
هو رأسه ثم توجه بجسده حيث الداخل.. وناولها الألبوم فيما بعد...
بدأت تقلب فحواه وهي تتمعن النظر بصور تلك الفتاة وقالت بعد ان اغلقته
"هل تعلم يا مجد؟! برغم انك تأتي الى هنا ومعك الكثير من الهم والحزن بعكس الآخرين.. واني حقا اسأم من تفاصيل العشق المؤلمة الا انني أقدم لك النصائح.."
ابتسم بامتنان على هذه العجوز الطيبة.. وبادرته الابتسامة ثم قالت " لك شهر ونصف هنا أليس كذلك؟!"
" أجل.." قالها ثم اغلق سيارته وامسك بيدها " هل نذهب للجلوس يبدو انها جلسه حديث طويلة.."
ابتسمت وأكملا سيرهم الى ذلك المقهى امتلأ برجال ونساء من مختلف الاعمار يجلسون على طاولات وكراسي بلون السماء الصافيه.. ثم جلسا على احداها.. وطلبا القهوة لنفسيهما..
وبعد ان رشفت السيدة العجوز (سالي) القليل من القهوة قالت " انظر لي يا مجد؟!"
أكملت عندما رأته مستعدا للانصات " انت في فرنسا الان وهي في بلدك الاصلي.. نحن لا ندرك مشاعرها الى الان ولكن مشاعرك ندركها.."
قال بيأس " انها تكرهني.. لا بد انها سعيدة.."
هزت رأسها نفيا وقالت بابتسامه تشفي المرضى " انها تشعر مثلك بالتحديد وأكثر.."
زفر بحراره وقال " لا اظن.."
" متى سيستوعب عقلك ويتفهم الفتيات.." ثم فتحت ألبوم الصور على احدى الصور.. واشارت اليها..
" انظر يا مصيبة احلت علي هذا المساء.." قالتها بسخرية..
ابتسم بألم وهو يشاهد الصورة ذاتها.. ^^ تقف هي امامه تحيط ذراعيها بعنقه.. وأما يديه احداهما تكبل خصرها النحيل والاخرى تعبث بخصلة من شعرها المجعد.. وعيونه الرمادية مستقرة على عيونها العسلية..^^
قال مجد قبل ان يوجه يده نحو كوب القهوة الخاصه به " انها مجرد صورة لا أكثر.."
" ولكنها من أرض الواقع.."
ارتشف قهوته ثم هز رأسه نفيا غير مؤيد لها.. وكاد ان يفتح فمه حتى اشارت له بالصمت واضعة سبابتها امام فمها.. فلاذ بالصمت..
بينما أكملت سالي " انت تشبه البحر كثيرا.. وهي غارقة بك.."
أردفت عندما رأت الانكار بعيونه " البحر في فصل الصيف هادئ.. تتسارع امواج خفيفة رشيقه وتلاطم الصخور البارزة وتتراجع في انسياب.. اما في فصل الشتاء تثور ثورته.. وتتلاطم امواجه بشدة.. وتتجمع مزمجره ترميها الرياح الهوجاء بكل الاتجاهات.."
مجد بعدم استيعاب " وما شأن البحر الآن؟؟!"
ابتسمت سالي " لانك تشبهه.."
قطب جبينه باستغراب "كيف؟؟!"
تنهدت سالي ثم تحدثت " انت كالبحر.. جبار وعنيد حين غضبك.. وهنا يتحكم به عقلك.."
" حسنا.. اظن اني فهمت شيئا ما..!!" لوى مجد شفتيه بضيق ثم اكملت العجوز " تكون لطيفا و ودودا.. عندما تكون ساكنا ولينا.."
صمتت سالي قليلا ثم اردفت وهي تشير الى الصورة مرة اخرى " وهي في الحالتين غارقة بك.. تحتويها بسكونك.. وتغرق بك حين عاصفتك.."
اكتفى مجد بالصمت وهو يفكر بكل كلمة قالتها.. انه لم يستوعب من قبل ان تكون قمر تبادله ذات مشاعره.. واكدت ريم ذلك اليوم عندما كان يهاتف رامي.. ولكن قلبه لا يستطيع تخيلها مع رامي.. هي محبوبته له وحده... فرامي اللعوب لن يستطيع احتوائها.. هو فقط من يستطيع... ولكنه كلما يحاول ان يفعل ذلك يطلق سيوفه الحادة لتخترق قلبها الرقيق...
زفر بحرارة ورآها تقلب الألبوم.. اخذ كوب قهوته من جديد وارتشف منها القليل.. وصوب نظره امام الناس المتجمهرين في زاوية ما.. ابتسم بألم وهو يرى ذلك الشاب قد جلس على ركبة واحد ة وقدم خاتم الزواج لمعشوقته.. ادار جسده حتى يعود الى سالي ولكنها اختفت.. لم يعر الامر اهتمام فمن المؤكد انها انصرفت للاشراف على عمل المقهى... وضع كوب القهوة ثم اشاح وجهه الحجري ناحية البحر.. يفكر تارة بكلام سالي التي تحتضنه بكلامها ويؤثر به بالصميم..
وتارة اخرى بقمر.. وقلبه يفيض ألما.. تعود له ذكرياته معها من بداية عودته وحتى رحيله ووصوله الى فرنسا.. تذكر دموعها و ضعفها امام جبروته.. تذكر جميع التفاصيل.. مر شريط الذكريات.. ومع كل ذكرى يرتشف قليلا من قهوته وهو متسمر ينظر امامه....
لا يدري كم من الوقت مر الا على صوت النادل بعد استرعى انتباهه بهز كتفته بهدوء شديد..
" لو سمحت... سنغلق قاربت الى العاشرة؟!"
رمش مجد بعيونه الرمادية ثم نظر الى ساعته.. وكانت بالفعل تشير الى العاشرة الا عشر دقائق.. ابتسم للنادل واعطاه المبلغ المطلوب..
تناول الالبوم من على الطاولة.. وسار بذهن مشتت نحو سيارته... فتحها ثم دلف داخلها... اخذ نفسا عميقا ثم ضرب رأسه بقبضته اليمنى بعد ان ألقى الالبوم على المقعد المجاور.. " لماذا تفكر بها باستمرار... لماذا؟؟!"
ثم وضع رأسه على المقود بأسى محاولا ابعادها عن فكره وان لا تشغل ذهنه الى هذه الدرجة... وبعد صراعات داخلية مزقت انسجته وخلاياه ودمرت بقايا الأمل بأن تحمل له لو حتى ذرة مشاعر.. استسلم للنوم وغط في سباته العميق حتى ذلك الوقت....
والوقت الذي بدأت فيها النجوم تتلاشى وتنطفئ الواحة تلو الاخرى.. وبزغ الفجر من بعدها.. وتلونت البقاع وازهرت بعد ان طغى عليها السواد في الليل الموحش.. وفي هذه الاثناء انطلق رنين هاتفه المرة تتلوها المرة.. انتشل نفسه بصعوبة بعد ان اخترق صوت هاتفه رأسه وجعله يغلق مسارات الاحلام التي تود زيارته.... رفع رأسه عن المقود وهو يشعر بصداع خفيف لازمه لعدة دقائق بعد ان توقف هاتفه عن الرنين ثم اعتدل في جلسته واضعا يده على رماد عيونه حاجبا اشعه الشمس....
زفر بضجر وابعد يده عن عيونه بعد ان سمع رنين هاتفه يصر على ازعاجه مرة اخرى.. فمن ذا الذي يريد التحدث اليه في الصباح الباكر؟؟
كان قد القى هاتفه بالأمس بعد حديثه مع ابن عمه رامي.. فالتفت بجسده المتعب بسبب نومه بالسياره لناحية المقعد المجاور وانحنى نحو الاسفل كي يلتقطه.. وهو في مسار رحلته تلك توقف عن الحراك..
" يبدو ان سالي من وضعتها.." بعد ان لوى مجد شفتيه بسخريه بعد ان استرعت انتباهه تلك الورقه البيضاء.. منزلقه من بين ثنايا الالبوم الفوتوغرافي.. لم يعر امر هاتفه ابدا ولا المتصل اي اعتبار فعاد لوضعيته بعد ان اخذ ذلك الألبوم وفتحه على المكان الموجودة بها الورقة... ابعد الورقة من امامه.. وتأمل ملامحها القمرية من جديد...
" هل تحبينه يا قمر.. ؟!"
تنهد بتعب.. ثم أكمل بضيق " هل ستكون عيونك التي تقطر عسلا له وحده؟؟" واعقب قوله ان مرر بأصبعه على عيونها....
" لا أدري بأي لغات العشق استطيع ان اعبر بها لك.. اعبر بها عن سحر جمالك يا قمري.."
صمت قليلا وبصوت متحشرج ونبرة يغلفها الأم " بالتأكيد لا تعلمين عن ما يخالج نفسي من عذاب حبك وألم فراقك يا نرجسيتي.."
تأمل صورتها من جديد بحب وشوق كبيرين واكمل بعد ان ابتلع غصته والتي أملأت حلقه بالمراره " كنت اريد فقط القليل من التعبير عن مشاعر الحب منك.. كنت في اشد الحاجة اليك لتكوني موطني الجديد ولكن سدت جميع الابواب في وجهي وكأن الامل كان يتجدد مع كل يوم جديد ثم لا يلبث ان يتبخر كالضباب في طليعه الصباح التالي.."
ابتسم بمراره " منذ وصولي الى فرنسا.. وكلما امر في الطريق ابحث عن وجهك لعلي اراه في انثى تشبهك.. او اصادف احدا من اشباهك الاربعين ولكن كان علي أن ادرك قبل مغادرتي انك حقا تشبهين القمر.. فأنت فريدة من نوعك.. لا يتواجد من يشبهك.. تشبهين الجمال الذي يزين الارض ويلونها ويجعلها بأبهى حلتها.."
صمت واتكأ برأسه المتعب على المقعد اغلق عيناه و زفر بحرارة مطلقا براكين غضبه الى الخارج.. يحاول ابعادها عن تفكيره ولكن باءت محاولاته بالفشل.. فكلما يهرب منها يهرب اليها....
اتجه من بعدها بانزعاج لالتقاط هاتفه الذي انطلق رنينه المزعج مره اخرى..و بغضب انهى المكالمة.. ورمى بهاتفه باستياء على المقعد..
ثم فتح تلك الورقة البضاء المحتوية على كلام من السيدة العجوز سالي.. فكلما يشعر بحالة يرثى عليها تكون هي الطبيب المداوي لحالته... تذكره بحكمتها وتصرفاتها الحسنة بجدته.. وكم اشتاق الى جدته..
تأمل كل كلمة منها وصدره ينفث حراره الاشتياق.. الحب وكل المشاعر بين العاشقين..
( في عينيها حزن وفي روحها وردة لا تذبل.. انها تحب الحياه ولكنها حزينة.. كنت انت الحياه وحرر تلك الروح من احزانها... عد اليها.. عد للسفينه التي تبحر في قلبك.. وكن انت شاطئها وملجأها الوحيد بكل أحزانها يا مجد..)