إرتواء نبض
03-14-2020, 02:16 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
تَوكلتُ على الله
الجزء التاسع والخَمسون
الفَصل الأَوّل
النافذة على بُعْد خطوات.. خطوات بُتِرت منها.. نُهِبَت من حَياتها على غَفْلة.. هي اضطرت أن تَقتلع من قاموسها كَلمة خُطوات.. خطوة.. خَطت.. أخطو.. وكُل المفردات الشَبيهة.. فَقَدميها لَم تَعدان تَنتعلان الخطوات.. فَقَد أَصْبحت العَجلات حذائهما الدائم. كانت تَجلس على سَريرها بِوَجهٍ يُقابل النافذة البَعيدة.. تُطالع النهار بِعَيْني الليل وسَواده القاتم.. كأنّما القَمر قَد خُسِف في عَيْنيها وباتت تُبصر الظلام ولا غيره. لَم تَنم مُنذ الأَمس.. مُذ أَقَلّها لمنزل والدها وتَركها.. بلا كلمات ولا صُراخ.. بهدوئه المُعتاد جَرَّ مقعدها لداخل المنزل والطفل في حجرها.. سَلّمَ على والدتها وقَبّلَ الطفل فَوق رأسه ثُمَّ غادر دُون أن يُفْصِح عن شيء.. ليتركها تُواجه والدتها وَحيدة. شَرحت لها موقفها.. عَجْزُها الذي اتّكأ فَوق شَخصيتها حتى أحناها.. ضيقها وعَدم تَقبّلها لواقعها المُشَوّه.. وقَسوتها تجاه زوجها. لامتها والدتها.. لامتها بشدة وأَبَدت خيبتها ناحيتها وناحية أفكارها العَوجاء كما قالت.. حاولت أن تَغزل بنصائحها مِعطفًا يُثَبّط عَزم الجليد المُتراكم حول رُوحها؛ ولكنّها فَشَلت.. فالبرد أحكم قَبْضتها عليها.. والاستسلام لقسوة الشتاء ورعونته كان قرارها.. فَلم يَعُد هُناك مَكانًا للدفء.. فهي لن تشعر به ولَو حاولت مئة مرة. طَرْقٌ رَتيب أَتبعهُ دُخول أُمّها التي قالت بنبرة آمرة: امشي تريقي
هَمَسَت وهي على وَضعها: مابي
وهي تَتَشبث بسنابك صَبْرٍ صَدِئة: إذا مو عشانش عشان ولدش.. إذا ما تغذيتين عدل راح يجف الحليب اللي في صدرش.. بعدين شلون بترضعينه!
بتبلّدٍ يُثير الحَنق: عـادي.. في حليب صناعي
تَقَدّمت منها وعَيْناها تَمُرّان على حَفيدها المُستغرق في النوم وَسَط سَريره.. وَقَفت أمامها وانحنت قَليلاً مُقَرّبة رَأسها منها لتهمس من بين أسنانها بِحدّة كانت غريبة عليهما هما الاثنتين: بتاكلين يعني بتاكلين.. والدلع انسيه.. إذا إنتِ مو مهمتة لمصلحتش ومصلحة ولدش ففي من يهتم
كَرّرَت وهي تُواجهها بعينين عَكّر صَفوهما دَمعٌ رَمادي: مابي ماما مابــي.. خليني بروحي
اسْتقامت واقفة ثُمَّ اسْتدارت وغادرت الغرفة.. أَغْمَضت سامِحة للدمعة بَشق طَريق خَدّها الباهت.. تَنَفّست الصّعداء ظَنًا منها بأن والدتها رَضخت لطلبها.. إلا أَنّها عادت بعد دقائق وهي تحمل أطباق طعام الإفطار ومن خلفها جيني تحمل أبريق الشاي والحليب.. هَمَسَت برجاء: ماما مابي.. صدق مو مشتهية
رَتّبت الأطباق على الطاولة الخشبية الصغيرة فوق السرير وبحزمٍ ألقت أوامرها: راح تاكلين وتتغذين وتغذين ولدش.. من يوم ورايح راح تاكلين كل وجبة وراح تروحين لمواعيدش اثنينهم.. موعد العلاج الطبيعي والعلاج النفسي
هَزّت رأسه ومحجراها يَتّسعان برهبة أَرْعدت دواخلها: لا لا.. لا ما بروح.. ما بروح لطبيب نفسي.. أنا ما فيني شي.. ماني رايحة.. ما فيني شي.. أنا مو مريضة.. مـــا فيــنــي شــي
التعقيب هذه المرة لَم يأتِها من والدتها.. بَل أتاها من الداخل؛ والدها الذي ارْتدى قناع الصرامة للمرة الأولى في حياته: راح تروحين.. وأصلًا كان لازم تروحين من بعد موقف راشد.. بس للأسف تأخرنا.. واجد تأخرنا
,،
داعبت أَناملها النّحيلة خصلات شعره القصيرة الغافية فَوْق عُنُقه وهمسها يَنفذ إليه: محمد شفيك؟ من كلمت صديقك وإنت حالك معتفس.. بس سرحان وتدخن!
رَمَشَ بخفّة أَقرب للبطء قَبْلَ أن تَفيض من صَدره تنهيدة أَيقظت قَلقها.. شَدّت على عُنقه وهي تُناديه بنبرة مُستنكرة: محمـد!
نَطَقَ بحيرة مع إطفائه للسيجارة في المرمدة: والله مادري شنو أقول
ارْتَفَعَ حاجِباها مُتَعَجِّبة: شصاير! ترى بديت تخوفني
نَظَرَ لها مُوَضِّحًا: هُو مو شي يخوف "أَرْخَى بصره" بـس.. يعنــي
تَساءَلت باهتمام: بس شنو؟ قول محمد.. لا تخش عَلَي
رَفَع جِفْنيه لِيَلتقي مع عَيْنيها ويُفْصِح بضيقٍ جَلي: لازم أرجع برلين.. وفي أقرب وقت
زَفَرت براحة وملامحها التي شَنّجها الخَوف اسْتَرخت بطريقة أثارت استغرابه.. عَبّرت بابْتسامة جانبية: الله يهديك محمد.. خوفتني.. ظنيت صاير شي خطير
اسْتنكَرَ: يعني مو مضايقش إني برجع برلين؟ يمكن أطول ترى
بثقة منقطعة النظير: لا مو مضايقني.. لأنّي راح أروح معاك
عُقْدة تَوَسّطت حاجبيه: نَعـم!
أَكّدت: اي.. راح أروح معاك.. مُستحيل أتركك تروح بروحك.. الوحدة في برلين هذي قبل مو اللحين
حَرّك رأسه رافضًا فكرتها المُتهورة: مُستحيل آخذش معاي.. مجنون أنا بإيدي آخذش للمجرمين! ما استخفيت للحين
بإصرار لا يدري من أين أَتت به: بروح معاك يعني بروح.. وبسكن وين ما راح تسكن.. وأعتقد راح تسكن في الكوخ تبعك صح؟
قالَ من جَديد لَعلّها تعي خطورة الوَضع: مـلاك أنا هناك بكون مشغول مع آستور.. بتكون عندي مهمات أكيد.. بضطر إنّي أترك الكوخ لأيام وليالي.. وهناك مو أمان.. وأساسًا بنكون مُراقبين من أول ما ننزل مطار برلين.. مو غبي أنا بإيدي أهديهم الطعم لابتزازي.. واللي هو إنتِ
حَرّكت كتفها بعدم اهتمام: ما يهمني.. سواء كان الخطر موجه لك بروحك أو لي معاك فالوضع عندي نفسه.. بروح معاك واللي راح يصير خله يصير
تَنَهّد بتعب وبرجاء نَطق بكلماته: ملاك الله يخليش لا تصعبينها عَلَي
ارْتَفَعَ صَوْتها قَليلًا بانفعال احْمَرّ منهُ وَجْهها: إنت بعد محمد لا تصعّبها عَلَي.. بتسافر للمكان اللي انذبحتْ فيه روحك وبتتركني اهني.. تبيني أنجن! مادري إنت وين ولا شنو فيك.. متضرر لو سليم.. عايش لو ميت.. ما أقدر أظل اهني وإنت هناك.. مــا أقــدر
بمحاولة: حتى لو كنتِ معاي هناك.. ما راح تعرفين ويني أنا بالضبط.. شغلنا سري
وَضَّحت رؤيتها: بس على الأقل راح أكون أقرب لك.. لو كان عندي القدرة إني أتصرف بقدر أتصرف وأساعدك
زَفَرَ وبإصبعيه ضَغَطَ على صدغيه هامِسًا: مــلاك أرجوش
هَزّت رأسها: محمد لا تحاول.. سفر من غيري ما راح تسافر.. صدقني لو سافرت وتركتني راح ترجع لي وأنا يا مجنونة فاقدة عقلها.. أو ميتة
ضَحكَ بإرهاق: مو لهالدرجة
بجديّة رآها تَلتهب بين أهدابها: امبلى محمد.. إنت رايح للجحيم.. رايح للمكان اللي حطّمك
أَرجع ظَهره مُسْتَنِدًا للأريكة ورَأسه للخلف.. قالَ بخفوت: مُمكن أطوّل.. أهلش ودوامش
باتّكالٍ وتسليم: أهلي راح يكونون بخير، في حفظ الله.. ودوامي عادي.. إذا ما قبلوا الإجازة بدون راتب راح أفنّش.. بس أهم شي ما تروح بروحك
هَمَسَ بنبرة لا زال الماضي يَتَلَبّس بَعضًا منها: ترى متعوّد
عَقّبت لِتُذَكّره بوُجودها الخَصْب.. وُجودها الذي يَرفض استسلامه ليَد الظُلم: التعوّد على الوجع انتهى وخَلّص.. اللحين إذا تسمح لي أعوّدك على السلام والطمأنينة.. تراني مثلك.. عيشتي رافض يعتقها الخوف.. وأنا تعبت وملّيت.. وأدري إنّك إنت بعد تعبت.. فأرجوك خلنا نساعد بعضنا.. عشان نعيش براحة
حَرّك رَأسه جهتها فأصْبح جانب وَجْهه مُسْتَنِدًا للأريكة.. بانت لها ابْتسامته الخَفيفة التي عَبَرها سؤاله الهامس: يعني إنتِ السلام والطمأنينة؟
تَطَلَّعت لهُ لثواني تَسْتوعب، قَبْلَ أن تُجيب بهمس: لا
قَصَدت كَفّهُ كَفّها القَريبة.. مَرّر أصابعه في بطانها وهو يُلقي سُؤالًا آخر أَعانتهُ عَيْناه على تَسيير سحابًا ماطِرًا لرُوحها: وليش ما يكون الجواب اي؟
ابْتَسَمت وهي تُحَرِّك رَأسها بالنفي وبَصرها يَتَهَرّب من فَيْضه: ما أحس
رَفَعَ يَدها لِفَمه لِيَترك قُبْلة دافِئة وَسَطها قَبْلَ أن يهمس في الوَقت الذي تَشابكت فيه الأعين: بس أنا أحس.. إنتِ السلام.. وإنتِ الطمأنينة.. وأشباههم في الدنيا بالنسبة لي نسخة مُقَلّدة وخاوية من شعور
,،
إنّهُ اليَوم الثاني وحالها لَم يَتبَدّل.. مُسْتلقية على يَمينها.. يَدٌ أَسْفَل خَدّها المُتَهَيّج من أملاح دُموعها.. والأخرى قَد أَحاطت برسغها. هي ليست نائمة.. فعيناها مُشَرّعتان كحارسٍ يَخشى هُجومًا أو سَرقة.. حتى أَنّ أَجْفانها قَد لازمهما احْمرارٌ خَفيف يُترجم التعب الذي تُعاني منه أعصابها. تترك السرير فقط عند الأذان لتصلي.. ثُمّ تعود وتنطوي أسفل غطائه بلا صوتٍ ولا كلمة. هَمَسَ وَيَده تُزيح خصلاتها عَن جانب وجهها: حُور لمتى بتظلين على هالحال؟ لا تنامين ولا تاكلين.. ما يصير جذي.. تبين يصير فيش شي يعني؟
لَم يأتِه جواب.. أهدابها ترمش بخفّة أَقرب لأن تكون خَيْبة.. خَيْبة من سَنَدٍ اعْتادَ أن يحني ظَهرها.. زَفَرَ والإرهاق يُعربد بين طيّات ملامحه.. فهو مُذ تَذَكّر الحادثة والكوابيس تُهاجمه في نومه ويَقظته بأضعاف السنوات السابقة.. وانهيارها هذا لَا يُساعده على الانفصال من قَبضتي الشعور الخانق.. لذلك هو غير قادر على التأقلم مع وضعه الجديد.. شخصيته الجديدة.. ذاته الجديدة التي أُزيح السِّتار عن مَشهد مأساتها بالكامل.. يحتاج مُساعدتها.. يحتاجها أن تكون قوية حتى لا يَتزعزع ثَباته الهَش. أَمسك كَتفها بلطف لِيُديرها إليه ويقول بِوَجْسٍ راجٍ: حُـور.. حَبيبتي.. سكوتش هذا وانعزالش ما راح يساعدنا.. أدري اللي سمعتيه صدمة.. وصدمة كبيرة واجد.. بس بعد لازم تحاولين تتجاوزينها
احتراق في أنفها ولَسْعة وَسَط مُقلتيها نَتجت على إثرها دُموع وامضة.. همست بصوتٍ غالتهُ الغصّة حتى وكأنّها كانت تأن وهي تتحدث: صــ ــ ...ــصـعــ ـب.. صعــ ـب التجاوز "غَطّت عَينيها بكفّها وشَهْقة تَفَتت منها قَلبه فَرّت من صَدرها الرّاجف" ما أقدر.. الحقيقة قاسية يوسف.. وااجـ ـد قاسية.. أنا ما أدري.. شلون.. بحط عيوني.. في عيون أمـ ـك! ومــلاك.. وإنـ ـت.. التجاوز مُستحيل.. مُستحيـــل
ويَده تَمسح على ذراعها: ما عليه.. لا تجبرين نفسش إنها تتجاوز.. صادقة.. صعب تجاوز حقيقة مثل هذي.. بس بعد لا تتركينها تخرب حياتش.. لا تسمحين لها تأثّر على وعيش.. ترى إذا استسلمتين بالكامل لقبضتها وسوادها بتكون محاولة إنقاذش منها أصعب وأصعب "والأَسى يَنوح بين عَينيه" شوفي شلون حالي.. ساعة آدمي.. وساعة فاقد عقلي وحواسي
عَبَرَ من بين شَفتيها سؤال مُتَقَطّع الأحرف: شـ ـلون.. تحـ ـمّلـ ـت؟!
هَزَّ رأسه وابْتسامة حُزن عَتيق وشائِب تَشد شَفتيه: ما تحمّلت.. أنا انهديت بكبري.. قلبي وروحي وحياتي كلها انهدّت من اللي صار.. من جذي وصلت لمرحلة إنّي أضر إختــ ـي.. وأنا مو حاس بنفسي.. غير الضرر اللي سببته لش وللحين خايف إنّي أسببه
رَفَعت كتفها ورُوحها المُقفرة من سَلام تَساءلت: والحل؟
اعْتَدل جالِسًا وهو يسند ظهره للسرير.. أَرْخى ساعده فوق جَبينه مع تصاعد صَدره من تنهيدة كانت بطول عشرون عامًا من الرّعب والضياع.. هَمَسَ بتسليم: قال لي محمد إنّ لازم أبدأ علاجي من أول وجديد مع دكتور موثوق فيه.. لأن حتى مع تذكري الكامل للحادثة ما في ضمان إنّ حالتي ما تتدهور من جديد.. قال لي هو بيرتب الأمور "أَخْفَضَ ذراعه لينظر لها وشفتيه تُناغيهما ابتسامة أَمل مُتَرَدّد" حُور أنا أبي أتعالج.. أبي أصير إنسان طبيعي وأكمل باقي حياتي معاش ومع أمي وإختي.. أبي يكون عندنا طفل واثنين وثلاثة بعد.. حتى لو الباقي من قوتي ما يُعَوّل عليه إلا إنّي بحاول.. وأدري إنش ما راح تخليني.. راح تمديني بالقوة اللي تخليني أسَكّر هالباب نهائيًا.. أنساه ولا كأنّه شي صار "تَقَوّس حاجِباه للأسفل مُتَوَسِّلًا بمَلق" فأرجوش ساعديني.. محتاج لش أكثر مما تتخيلين
لَم تُعَقِّب.. لكنّها تَحَرّكت إليه.. أَرْخت رَأسها على كَتفه وذراعاها أَحاطتهُ بعناية واحتواء.. احتضنها بدوره مُودِعًا بين خصلاتها قُبلة نَشَرت دِفئًا امتد إلى عروقها.. شَدّت عليه وهو هَمَسَ بدُعاء بَثّهُ قَلبه المُتعب إلى لسانه: إن شاء الله راح نتجاوز هذي المشكلة.. ونعيش حياتنا من غير أي تعقيدات
,،
فُتِح باب المَنزل.. اسْتدارت الرؤوس والأَعين تَوَجّهت إلى المَدخل.. دَلَفت هي وأَلقت السّلام وابْتسامة خَفيفة تَشد شَفتيها.. نَطقَ بملامح طَبيعية لا تُوحي بشيء: تأخرتين
عَقَّبت وهي تقترب من مكان جُلوسهم: كتبت لك إنّي بتأخر
وهو يَنظر لساعة هاتفه: بس ما توقعت هالكثر.. الساعة خمس وشوي.. قريب بيأذن المغرب!
أَشارت للأكياس التي في يَديها: نسينا نفسنا واحنا نتسوق
قالت ليلى بابْتسامة: عليش بالعافية حبيبتي.. أهم شي متغدية؟
حَرّكت رأسها بالإيجاب: اي الحمد لله "التَفَتت لصَغيرتها التي كانت تنتظر أن تُحادثها؛ لتقول بابْتسامة مائِلة" اشتريت لش ثياب وااجــد
ابْتَسَمت ببهجة: والله؟
هَزَّت رَأسها بتأكيد: والله "وخطواتها تُقَرّبها من جَنى" اشتريت لش جاكيت أحمر.. يشبه تبع ليلى والذئب
اتَّسَعت عَيْناها بانشداه وعَدَستاها قَفَزَ منهما تَلألؤٌ مَبهور.. تَساءَلت: يصير أشوفه؟
مَدَّت لها يَدها: أكيد يصير.. اللحين بنقيسهم كلهم "التَفتَت للجالسين.. ليلى.. خالها ناصر.. وفيصل.. وبابْتسامة اسْتأذنت" اسمحوا لنا
بادلها خالها الابْتسامة: اخذوا راحتكم يُبه
تَحَرَّكت هي وجَنى للأعلى وَنَظراته تُلاحقهما وتُلاحق الأكياس القابضة عليهم يَداها.. من أَين أتت بهذه النُزهة؟ عند استيقاظه صَباحًا والذي يَعتقد أَنّه أعقب خروجها بدقائق بسيطة بسبب رائحة عِطرها الناضِجة وَسَط الغرفة؛ كانت قَد تَركت لهُ رسالة تُخبره فيها بخروجها مع ندى وأَنّها قَد تتأخر في العَودة.. أعتقد أَنّها ستعود عند الظهيرة.. لكن العَصر انقضى وهي لَم تَعُد بَعْد. حاول أن يَتَصَلّب في مَقعده لدقائق لكنّه لَم يَسْتطع.. هَبَّ واقفًا وهو يَهمس وعَيْناه مُتَرَكّزتان على السُّلم: عن إذنكم
،
كانت تَلْتَفِت يُمنةٌ وشِمالًا بِزَهْوٍ وفَرح وهي تَقِف أَما المرآة الذهبية الطّويلة.. تُطالع المعطف الأحمر ذو الزر الوَحيد القابع أَسْفَل عُنقها.. والقُبعة الواسعة التي تَتدلى من كَتفيها.. عَبّرت بفطرتها البَريئة: ماما يجنن يجنن.. جَميــــل
وهي تَتأمّلها من مكانها بحُبٍ طَري: صار أجمل يوم لَبستيه
التَفتَت ناحية الباب عندما دَخل وَهو يَقول بإعجابٍ كَبير: الله.. شهالحلاة جناني "قَرْفَصَ أَمامها" أشوف أشوف "عَقَدَ حاجِبَيه وبتساؤل يَدّعي فيه الالتباس" اللحين إنتِ جَنى لو لَيلى؟
ضَحَكَت وَصَحّحت له: بــابــا.. أنا جَنى
عَضَّ شَفته وبأصابعه شَدَّ خَدّيها بقوة بَسيطة قائِلًا: جنش تفاحـة.. لذيــذة.. عادي أصير ذئب وآكلش؟
هَزّت رأسها بضحكة: لااا مو عادي
رَفَعَ يَديه بحركة المخالب مُمثّلًا الانقضاض عليها.. هي سارعت لوالدتها لتتمسّك بها طَلبًا للحماية وضحكتها تتعالى وقَد خالطتها صرخات خوف حَماسي
وَقَفَ أَمامها: خلاص أستسلم "اقترح عليها" شرايش تروحين تورين ماما ليلى وبابا ناصر الجاكيت
هَزّت رأسها مؤيّدة: أوووكـي
قال لها وهي تتحرّك خارِجة: بابا مو تركبين.. ما يحتاج.. احنا شوي وبننزل
بصوت عالي أتى من بَعيد: إن شاء الله
ما إن تَأكّد من مُغادرة ابنته الشقة حتى التَفَتَ لِجنان.. كانت تُوليه ظَهرها وهي لا تزال بالعَباءة وحجابها قَد أخفضته على كَتفيها سامِحة لموج شَعرها بالاسْترخاء على ظَهرها. تَقَدّمَ منها وهي مَشغولة بإعادة الملابس في الأكياس.. وَقَفَ خَلْفها مُباشرة لِيَكشف عن سؤاله دُون مُقَدّمات: متى بتتكلمين؟
مَرّرت لسانها على شَفتيها وبَصرها يَرْتفع بتَردّد مُتَأمّلًا المَجال أمامها.. ناداها: جِنان
تَركت الكيس قَبْلَ أن تَسْتَقيم في وقوفها.. اسْتَنشقت نَفَسًا عَميقًا ثُمَّ اسْتدارت إليه لتَتواجه مع عَيْنيه القَريبتين جدًا.. هَمَسَت بطلب: مُمكن تقعد؟ "مَرَّغَ عَدستيه بملامحها بصمت ودون أي حركة.. فَوَضَّحت" راح أتكلم.. وراح أطوّل "كَرّرَت الطَلب" فإذا مُمكن تقعد
اسْتجابَ لها وقَلْبه بَدأت تَتَحَفّز نَبضاته.. جَلَسَ على السّرير وهي جَلست بجانبه.. مُلاصقة له.. جَسدًا ورُوح. أَنظاره عليها وأنظارها للأمام.. أو رُبما للماضي.. نَطَقَت بوَجْسٍ سارَ بهِ ببطءٍ حَذِر لِزَمَنٍ كان فيه ولَكن لَم يَعش أحداثه معها: أول مرة قابلت فيها أحمد كانت في المدرسة.. مدرستي الثانوية.. كان جاي يلقي علينا محاضرة عن الكتابة بما إن هو كان كاتب في ذروة نجاحه ذيك الفترة.. رواياته كانت روايات رومانسية.. النية إنها تكون مُوَجّهة للشباب والبنات المُقبلين على الحُب أو الزواج أو أي علاقة عاطفية.. يعني أعمارهم المفروض تكون تجاوزت الاثنين وعشرين سنة كحد أدنى.. لكن وبطريقة غير مُفاجئة.. بديهية على الأصح.. المُقبلين على رواياته كانوا تحت الاثنين وعشرين.. ستعش مثلًا! "شَخرت وزاوية فَمها تَرْتفع بابْتسامة ساخِرة" أمثالي وأمثال غيري.. بعض البنات.. أو المُراهقات كانوا مُحَصّنين عاطِفيًا.. من ناحية العائلة على الأقل.. فكان التأثير عليهم بسيط.. أما أمثالي "خَبَى هَمْسُها كما لَو أَنّ الغَصّة جَثَت فَوْقه" فكان دمارنا كَبيــر.. كبير واجد.. لدرجة إنّ التأثير استحوذ على حواسنا! كنت مبهورة.. مأسورة بهذا الكاتب.. بهذا الأحمد.. شلون عنده القدرة إنّه يفهم الأنثى بهالدقة؟ أو مثل ما كانت أعتقد.. شلون عنده القدرة إنّه يفهم جِنان بهالدقة! كنت أحسه يكتبني.. يشرحني بكلماته.. بغباء وبعاطفة ساذجة ومتعطشة للاحْتواء تعلقت فيه.. تعلقت في الكاتب اللي يفهمني.. يفهم الفوضى اللي داخلي.. دائمًا كنت أتمنى أكون وحدة من بطلاته.. يشكّلني مثل ما يبي ويخليني أسكن بين الصفحات.. يهديني من اللا مكان إنسان يعوضني ويكون الجَبر لانكساراتي.. مو مشكلة حتى لو كان هو هذا الإنسان. أنا عرفت أحمد في عمر الأربعتعش.. عرفته عن طريق زميلة في الصف كانت حاملة معاها وحدة من رواياته للمدرسة بالخش.. أدمنت هالروايات لدرجة أعدت قراءتهم مو أقل من خمس مرات.. وأُمنية أو حِلم لقائه كان هاجسي اللي صار واقع وأنا في الثانوي "حَرَّرَت صَدرها من تَنهيدة قَبْلَ أن تواصل" التقيت معاه وبكل جُرأة كلمته.. جذّبت وقلت إنّي أكتب وأبيه يطّلع على كتاباتي.. عطاني إيميله.. سويت لي إيميل بمساعدة ندى.. وقتها ما كان عندنا كمبيوتر.. فكنت أروح بيت ندى أو أروح المكتبة القريبة من بيتنا عشان أتواصل معاه.. أول مرة طرشت له بعض الكتابات الركيكة جدًا واللي اضطريت أكتبها بسرعة عشان ما أظهر قدامه بمظهر المراهقة الجذابة.. كان يصحح لي ويدعّم كتاباتي.. تطوّر الوضع وبدأت أرسل له إيميلات كانت أقرب لإنها تكون تفريغ.. تكلمت له عن محمد واختفاءه الغريب واللي شَدّه.. مرض أمي وسفر أبوي الدائم.. تكلمت له عن بيتنا الخالي.. الفارغ من حياة.. الإهمال وأثره على نفسيتي وبعض الأحيان دراستي.. علي وطفولته.. وعن الحاجة اللي خلتني أتعلق فيه.. وهو فهمني.. مثل ما كنت متوقعة فهمني.. لكن رَفض استمرار هذي المحادثات فيما بيننا لأن غلط.. أنا تفهّمت مقصده وفعلًا أنهينا هالمحادثات وانقطعت العلاقة
هو الذي لَم يفهم: شلون! بس يعني وقفت علاقتكم عند هالنقطة؟
أَصْدَرت من بين شَفتيها صَوْت نافي قَبْلَ أن تُكْمِل: بعدها بأسبوع أو أكثر بشوي.. وصلني إيميل.. من صديقه.. يقول لي فيه إن أحمد خبره عن قصتي.. وهو حاب يساعدني.. ومتى ما بغيت أتكلم وأفرغ اللي في خاطري، أكلمه.. راح يسمعني من غير ملل.. وأرسل لي صورته.. على قولته إذا عرفت ملامحه بيكون تواصلنا أعمق وحقيقي أكثر.. وهو كان شاب.. في عمر أحمد.. في الخمسة وعشرين.. وسيم.. أو المراهقة جِنان كانت تشوفه وسيم.. ظلينا نسولف ونتعرف على بعض لأيام.. استمر تواصلنا لشهر تقريبًا قَبل ما يعترف لي إنّه يحبني! "اتّسعت عَيْناه وملامحه احْتَدّت.. قَبَضَ يَمينه مُتَجَلِّدًا لحين انتهائها" طبعًا أنا شوي وأموت من الفرحة.. فلان يحبني! أنا جنان.. المنبوذة المنسية! لوهلة حسيت إني لمست السما.. وإن الحياة وأخيرًا صالحتني! هو اعترف لي قبل بليلة من عيد ميلادي.. قال لي إنّه اختار هالليلة بعناية عشان يعترف لي.. وعشان الذكرى تكون بأحلى صورة.. وطلب إنّه يقابلني ويهديني هدية العيد ميلاد
هَتَفَ بصدمة: وقابلتيــه!
هَزّت رأسها: لا.. على الرغم إنّي وافقت أقابله بدون تردد ومن غير تفكير.. بـس
نَطَقَ بقل صَبر: بس شنــو!
أَجابت بهدوء: بس أحمد أنقذني.. اكتشف العلاقة اللي بيننا وقبل اللقاء بساعات كلمني وفَضحه لي "اهْتَزَّ صَوتها حتى أَنّهُ شَعرَ به يُزَلزل قَلْبه" كان يبي يستغلنـ ـي.. ويحاول إنّــ ـه "اقْتَطَعَت الشهقة المكتومة كَلمتها التي اخْتَرَقت رُوحه مثل خَنجَرٍ مَسْموم.. رَفعت كَفّها وبظاهرها ضَغَطَت على شَفتيها تُكبح لجام البُكاء.. مَسَحت الدمعات عن وجهها لتُرْدِف" وقتها السما اللي كنت ألمسها استوت قاع أسود ضربته القاسية رجّعتني لنفسي.. شكرت أحمد.. من أعماق قلبي شكرته.. ولليوم وأنا أحس إنّي مدينة له.. هذاك من يومها ما كلمني وولا شفته.. حتى ما يطري على بالي لأنه ولا شي بالنسبة لي.. اللحين بس اضطريت أتكلم عنه
هَمَسَ بخفوت: شنو صار بعدها؟
أَرجعت خصلاتها خلف أذنها وهي لَم تلتفت لهُ بعد: رَجَعت علاقتي مع أحمد اللي شاف نفسه الحامي والوَصي عَلَي.. وكأنّه تأكد إني بكل بساطة مُمكن أضيع من غير ما ينتبه أحد.. استمرينا على الإيملات قبل لا أتخرج من الثانوية ويصير عندي تيليفون.. فانتقلنا للمُكالمات.. في اليوم عادي نتكلم أكثر من مرة.. نتكلم عن كل شي.. كــــل شي.. وحبيته
هَمَسَ بنبرة حادّة يُخامرها الرّجاء: جِنــان
بان لهُ طَرف ابْتسامتها وهي تَقول: مو الحب اللي في بالك.. حبيته صديق وأخو وأبو.. عمره ما كان لي حَبيب ولا أنا كنت له حَبيبة.. السعادة كانت ما تسعني كلما جابوا له طفل.. وهو المسكين تشقق من الفرح يوم درى بخطبتك لي.. حتى إنّه كان من الأشخاص اللي شجعوني على الموافقة وبيّن لي إيجابيات هالخطوة.. فوافقت عليك.. واتفقنا أنا وهُو على إنهاء العلاقة "أدارت رأسها إليه لتَتضح الابتسامة بأكملها والعين الدامعة" وبــس
عَقَد حاجبيه: شلون يعني؟
أَجابت: يعني من وافقت على خطبتك ما كلمته ولا كلمني ولا حتى تقابلنا.. لأكثر من سنتين ما شفته
ارْتَفعَ حاجبه وبسؤال يشي بعدم تصديقه: ولندن؟
التَفتتَ للأكياس المركونة فوق السرير.. تناولت أحدهما.. كان صغير نسبيًا.. مَدّتهُ له وهي تهمس بابْتسامة جانبية: هذي لندن
نَظرَ لها بشك وتيه.. تناول الكيس وأَخرج ما فيه.. عُقدة تَوَسّطت حاجبيه وهو يُقَلِّب المُحتوى بين يَديه.. كان كتاب.. رواية بالتحديد.. رواية للكاتب أحمد راضي!
قَرأ عنوان الكتاب بهمس: تحت سَقف لندن "رَفع عَينيه لها مُسْتَفسِرًا" شدخل هالكتاب؟
أَمرته بلُطف: افتح صفحة مئة وخمسة وسبعين "عيناه امتلأتا بالضياع والتكذيب.. فتَبَسّمت له وهي تُعيد" افتح الصفحة فيصل واقراها
زَفَر من أنفه مع انخفاض بصره للكتاب.. تأمّله لثواني قَبْلَ أن يُحَرّك الصفحات باحِثًا عن الصفحة التي أَشارت إليها.. التَقطَ الكلمة الأولى وأخذ يَقرأ بتركيز وعيناها تُتابعان ملامحه بدقّة.. ابْتسمت.. ابْتسامة يشوبها الأَسى.. ابْتسامة اخُتزِلَت فيها خَيْبة سَنوات البُعد والهجران.. فملامحه قَد خُسِفَت.. غالها احْمرارٌ وعَرَق.. لهاث أنفاسه تَصاعد.. وكَفّه القابضة على الكتاب تَسَوّرت بارْتعاشٍ ضُخّ مع دماء قَلْبه.. هَمَسَت بسؤال وهي تُبصر حالته: الكلام مألوف؟... الموقف مألوف؟
تَسَلّق بَصره الأسطر راجِعًا للكلمة الأولى.. أعادَ القراءة ونَبضه يكاد يَصُم أُذنيه
" كُوخ.. مَطعم على هَيْئة كوخ خَشبي.. لهُ دِفءٌ حَميمي يَحتضنك بَعد أن استولى شتاء لندن على حواسك.. الأضواء خافِتة.. كما لَو أنَّ الشمس أَبزغت شُميسة صَغيرة في كُل مُصْباحٍ مُعَلّق.. روائح الزَّهرِ والشموع العطرية تكسو المكان فَتتساءَل الرّوح بِانتشاء أهو الربيع أم الشتاء؟ بجانب إحدى النوافذ كان جُلوسهما.. مُتقابلان والثلج في الخارج يُهدي الحياة بياض ونقاء.. على الطاولة قَد غَفت وَرْدةٌ حَمْراء كانت هدية منه إليها.. وَرْدة أنقذها من سَطوة ديسمبر وجَليده لتنضج بين دفء كَفّيها. كانا مُبتسمين.. لا حَديث ولا أصوات.. فَقط النظرات تَعبر محطة العينين لتسير للمحطة المُقابِلة حيثُ تنطوي بين جِفْنٍ وهُدْب. "
نَطَقَ بتخبّط وعيناه تدوران على الصفحة باستنجاد: شنـ ـو.. شنو يعني هالكلام! نفــ ...ــفــ.. ــنــفس المطعــ
أكملت عنه: نفس المطعم.. ونفس الطاولة.. ونفس الوردة.. ونفس الفصل.. ونفس الأجواء.. تقريبًا
نَطَقَ والأنفاس تَشخب من رئتيه.. فَقد كانت تعبره أنفاس حاضره المصدوم.. وأنفاس ماضيه المكسور..: أنا مو فاهم شي!
أدارت جذعها إليه لتَكشف عن الحقيقة العَرجاء: كان جاي لندن.. هو أحمد.. مع زوجته.. جايين زيارة لأخت زوجته.. اللي هي ياسمين.. التقينا صدفة.. بعد هالجم سنة التقينا.. ما كان يدري إنّي عايشة في لندن طول هالفترة.. وشاف إنها فرصة عشان يحقق لي حلم غَبــي!
عَقَد حاجبيه: حلم شنو!
أشارت للكتاب: الحلم الموجود في هالصفحة.. إنّي أزور هذا المطعم في الشتا وأقعد على نفس الطاولة صوب الدريشة وعلى الطاولة الوردة الحمرا.. خبّرني إن المطعم قريب.. وأنا وافقته بعد محاولتين منه.. اتفقنا إن دقايق بس.. أستشعر فيها اللحظة اللي نَفذت داخلي من أول مرة قرأت فيها هالموقف.. حتى كانت معانا ندى
هَزّ رأسه: جذابـــة
أكّدت ودَمعة تتعلق بطرف عَيْنها: والله.. كانت معانا.. بس راحت الحمام.. تغيّر لبنتها وترضعها "تهدّج صَوتها وبأسَفٍ عَميـق غارَ جرحه في روحها لسنوات" في الوقت اللي إنـ ــت... وأصدقائك... شفــ ــتونـ ـا فيه
تَقَلْقَلت عَدستاه على وَجْهها لثواني قَبْلَ أن يَشخر بضحكة تَنم عن عَدم الاسْتيعاب.. قالَ مُحاولًا أن يَدحض الحَقيقة: هذي نكتة صح؟ إنتِ تمزحين.. صح جِنان؟
أَجابت بكلمة واحدة وهي تُراقِب ملامحه التائهة: لا
قَطّب حاجِبَيه لينطق بنبرة مُنفعلة: لا تمزحين جِنان.. أكيد إنش تمزحين.. أو إنش قاعدة تجذبين!
هَزّت رَأسها: مو قاعدة أمزح ولا قاعدة أجذب.. هذي الحقيقة
وَثَب واقِفًا وصَوته يَعْلو أكثر والغَضب يُقَيِّد مَلامحه والكتاب مَسْجونًا بين قَبْضته: لا مو هذي الحقيقة.. التفاهة اللي نطقتين بها مو هي الحقيقة
وَقَفت مُعَقِّبة بهدوء وحَذَر وهي تُبْصِر نزوح الحُمم إلى أَرضه: قلت لك فيصل من قبل.. سبب وجودي معاه كان غبي.. وشي ما يستاهل اللي صار
أَلْقى الكتاب عليها حتى اصْطدم بكتفها وصَوته يُجلجل: تبين تقنعيني إنّ أربع أسطر تافهة كلفونا ست سنوات؟ كلفونا عمر؟ كلفوش جَنـى!
هَزّت رأسها بأسف: لو إنّك سمعتني.. لو إنّك سمعتني بس!
أَشارَ لنفسه: يعني اللحين أنا الغلطان؟ لأنّي رفضت أسمع تبريرش الغَـــبــــي صرت أنا الغلطان وإنتِ البريئة! أنا المسؤول عن الدمار اللي انتصف حياتنا وإنتِ المسكينة المغلوب على أمرها!
كَرّرت بهمسٍ يَخْشى انفجاره: إنت ما سمعتني
تَقَدّم منها خطوة وصرخته أَرْجفتها: شَــســمــع! شَسمع جِنان؟ تعتقدين ليلتها كنت طايق أسمع صوتش؟ أو حتى أشوف وجهش؟ أنا حتى اسمش كنت متقزز منه.. كنتِ ليلتها بالنسبة لي خايــنة
ارْتَفَع صَوْتها وَقَد التهمته اللوعة: بس أنــا مو خايـنة.. وجودي معاه ما كان خيانة.. كان عشان الـ
أكمل عنها وهي يُشير للكتاب الغافي على الأرْض الخشبية: عشان هالموقف السخيف والغبي! عشان صفحة من روايته.. عشان أحلام مراهقتش التافهة أنا انكسرت قدام ربعي.. وجهي استوى تراب دسته برجولي.. عشان تخبّطش في الماضي ضاعت مننا أجمل سنين عمرنا!
أَبْعدت خصلاتها عن وجهها المَأهول بالدّمع وهي تُدافع عن موقفها: ما كنت.. أبي أجرحك.. أو أفشلك قدام ربعك.. والله "تَعَثّر صوتها لتُكمل بصعوبة" والله.. ما كـ ـان قصدي.. خيـ ـانتـ ـك.. والله!
صَدره كان يعلو ويهبط بسرعة لا تعتقد أنّها تُساعده على التنفس بصورة صَحيحة.. تَهَدّلت ملامحه والغَضب حَرّرها.. إلا أَنّ عَيْنيه لا زالت الخَيبة تَسكنهما والقَهر يؤطرهما.. نَطَقَ ببحّة عَميقة: حتى لو ما كان في نيتش الخيانة.. حتى لو كانت نيتش بريئة.. يبقى تواجدش معاه غلط.. غلـــط وما يجوز
هَزّت رأسها سريعًا: أدري.. أدري.. وأنا مو قاعدة أبرر.. وكنت أستاهل العقاب "مالَ رأسها واستعطافٌ لا إرادي مَلأ صَوتها وملامحها وهي تقول" بـس.. ما كنت أستاهـ ـل عقابك.. ما كنت أستاهله! كان أقسى من إنّي أتحمله!
خَبَت أَنفاسه وانطفأت النار المُسْتعرة في عَيْنيه.. تَرَاجع للخلف وبَصره يَنسحب بَعيدًا عن الحُزن الذي بَدأ يُعربد بين طَيّات وَجْهها.. يَشعر وكأنّ هذا الحُزن فاهٌ كَبير يُريد أن يَنهش ذاته بأنيابه الحادة.. هُو ليس مُذنب.. هي المُخطِئة وليس هُو.. هي التي خَرجت مع أحمد وطَعنتهُ في ظهره.. سَماعهُ لها حينها لَم يكن لِيُغَيّر شَيء.. قَد لا تكون خائنة.. ودماؤها نَظيفة وقَلبها مُوليًا شَطره له لا لغيره.. لكنّها أخطأت.. خَبّأت عنهُ أَسرَارًا ثُمَّ كَسَرتهُ بها. اسْتدار مُبْتَعِدًا عنها للخارج.. وهَمسها المُرْهق شاغَبَ قَلبه وهي تُناديه: فيــصل!
تَجاهل ندائها وغادرَ الشقة.. هَبَطَ السلالم بسرعة قصوى وهو لا يَرى أَمامه سوى صورة واحدة.. جِنان وأحمد وهُما مُتقابلان وَوجهه الشّبح يَطِل عليهما من نافِذة الوَجع.. تُريد بقصّتها التافهة أن تُلقي اللوم عليه هو.. أن تُكَبّده الخَطأ كُلّه فقط لأنّه رَفَضَ سَماعها.. لتكون المُحَصِّلة في النهاية زوج ظالم نَهَبَ طفلته من حِجر أُمّها. أَغْمَضَ شادًّا على عَيْنيه لَعَلَّ المَشْهد المشؤوم يُعصَر في مُقلتيه.. ليفرز سائِلًا نَتِن تُعمى منه العَين.. فلا تَعود تَبصر ساعة انكساره.
: فيصل
لَم يَسْمع.. لَم يَنفذ إليه الصّوت.. حتى نداء جَنى فَشَل في اختراق الغشاء السميك المُحيط بوعيه.. كان يَشق الطريق بخطوات حثيثة وبنظرات للأمام.. فَتَحَ الباب بجلافة في الوقت الذي كانت فيه جُود مُستعدة للدخول.. بَسَطت يَدها على صَدرها مُتفاجِئة وهي تهتف بقهر: شفيـك إنت! أحد يفتح الباب جذي!
تجاوزها دون تعقيب قاصِدًا مَرْكبته.. شَغّل المُحَرّك وفي ثواني ارْتَفَعَ صَوْتًا مُزْعِجًا تَسَبّبت بهِ عجلات السيارة التي تَرَكت أَثَرًا واضِحًا على الأرض.. تَعَجّبَت جُود بهمس: شفيه هذا!
دَلفت للداخل حَيث التقت بوالدتها عند المدخل والتي تساءلت: طلع أخوش؟
أكّدت: اي طلع " استفسرت" شفيه جذي مشوّط؟
رَفعت كتفها والحيرة تجوب ملامحها: مادري والله.. فجأة نزل جذي.. حتى ناديته وجنى نادته بس ولا كأنّه يسمعنا
وهي تمشي معها لغرفة الجلوس: يمكن ما سمع
جلست بجانب حفيدتها التي أجفلها خروج والدها الغريب وتجاهله لندائها: مادري.. يمكن
تساءلت بعد أن خلعت عباءتها: وين جنان؟
أَجابت: فوق.. هو كان معاها
استنتجت: يمكن متهاوشين
عُقدة خفيفة: لا ما أعتقد "جاءت لتَدعم رأيها لكنّها قاطعتها وهي تُشير بعينيها لجنى" مو متهاوشين.. أكيد عنده شغلة ويبي يقضيها قبل لا يأذن
بعدم اقتناع وهي تسترخي على الأريكة وبصرها للسُّلم: على قولتش.. عنده شغلة
,،
يتبع
تَوكلتُ على الله
الجزء التاسع والخَمسون
الفَصل الأَوّل
النافذة على بُعْد خطوات.. خطوات بُتِرت منها.. نُهِبَت من حَياتها على غَفْلة.. هي اضطرت أن تَقتلع من قاموسها كَلمة خُطوات.. خطوة.. خَطت.. أخطو.. وكُل المفردات الشَبيهة.. فَقَدميها لَم تَعدان تَنتعلان الخطوات.. فَقَد أَصْبحت العَجلات حذائهما الدائم. كانت تَجلس على سَريرها بِوَجهٍ يُقابل النافذة البَعيدة.. تُطالع النهار بِعَيْني الليل وسَواده القاتم.. كأنّما القَمر قَد خُسِف في عَيْنيها وباتت تُبصر الظلام ولا غيره. لَم تَنم مُنذ الأَمس.. مُذ أَقَلّها لمنزل والدها وتَركها.. بلا كلمات ولا صُراخ.. بهدوئه المُعتاد جَرَّ مقعدها لداخل المنزل والطفل في حجرها.. سَلّمَ على والدتها وقَبّلَ الطفل فَوق رأسه ثُمَّ غادر دُون أن يُفْصِح عن شيء.. ليتركها تُواجه والدتها وَحيدة. شَرحت لها موقفها.. عَجْزُها الذي اتّكأ فَوق شَخصيتها حتى أحناها.. ضيقها وعَدم تَقبّلها لواقعها المُشَوّه.. وقَسوتها تجاه زوجها. لامتها والدتها.. لامتها بشدة وأَبَدت خيبتها ناحيتها وناحية أفكارها العَوجاء كما قالت.. حاولت أن تَغزل بنصائحها مِعطفًا يُثَبّط عَزم الجليد المُتراكم حول رُوحها؛ ولكنّها فَشَلت.. فالبرد أحكم قَبْضتها عليها.. والاستسلام لقسوة الشتاء ورعونته كان قرارها.. فَلم يَعُد هُناك مَكانًا للدفء.. فهي لن تشعر به ولَو حاولت مئة مرة. طَرْقٌ رَتيب أَتبعهُ دُخول أُمّها التي قالت بنبرة آمرة: امشي تريقي
هَمَسَت وهي على وَضعها: مابي
وهي تَتَشبث بسنابك صَبْرٍ صَدِئة: إذا مو عشانش عشان ولدش.. إذا ما تغذيتين عدل راح يجف الحليب اللي في صدرش.. بعدين شلون بترضعينه!
بتبلّدٍ يُثير الحَنق: عـادي.. في حليب صناعي
تَقَدّمت منها وعَيْناها تَمُرّان على حَفيدها المُستغرق في النوم وَسَط سَريره.. وَقَفت أمامها وانحنت قَليلاً مُقَرّبة رَأسها منها لتهمس من بين أسنانها بِحدّة كانت غريبة عليهما هما الاثنتين: بتاكلين يعني بتاكلين.. والدلع انسيه.. إذا إنتِ مو مهمتة لمصلحتش ومصلحة ولدش ففي من يهتم
كَرّرَت وهي تُواجهها بعينين عَكّر صَفوهما دَمعٌ رَمادي: مابي ماما مابــي.. خليني بروحي
اسْتقامت واقفة ثُمَّ اسْتدارت وغادرت الغرفة.. أَغْمَضت سامِحة للدمعة بَشق طَريق خَدّها الباهت.. تَنَفّست الصّعداء ظَنًا منها بأن والدتها رَضخت لطلبها.. إلا أَنّها عادت بعد دقائق وهي تحمل أطباق طعام الإفطار ومن خلفها جيني تحمل أبريق الشاي والحليب.. هَمَسَت برجاء: ماما مابي.. صدق مو مشتهية
رَتّبت الأطباق على الطاولة الخشبية الصغيرة فوق السرير وبحزمٍ ألقت أوامرها: راح تاكلين وتتغذين وتغذين ولدش.. من يوم ورايح راح تاكلين كل وجبة وراح تروحين لمواعيدش اثنينهم.. موعد العلاج الطبيعي والعلاج النفسي
هَزّت رأسه ومحجراها يَتّسعان برهبة أَرْعدت دواخلها: لا لا.. لا ما بروح.. ما بروح لطبيب نفسي.. أنا ما فيني شي.. ماني رايحة.. ما فيني شي.. أنا مو مريضة.. مـــا فيــنــي شــي
التعقيب هذه المرة لَم يأتِها من والدتها.. بَل أتاها من الداخل؛ والدها الذي ارْتدى قناع الصرامة للمرة الأولى في حياته: راح تروحين.. وأصلًا كان لازم تروحين من بعد موقف راشد.. بس للأسف تأخرنا.. واجد تأخرنا
,،
داعبت أَناملها النّحيلة خصلات شعره القصيرة الغافية فَوْق عُنُقه وهمسها يَنفذ إليه: محمد شفيك؟ من كلمت صديقك وإنت حالك معتفس.. بس سرحان وتدخن!
رَمَشَ بخفّة أَقرب للبطء قَبْلَ أن تَفيض من صَدره تنهيدة أَيقظت قَلقها.. شَدّت على عُنقه وهي تُناديه بنبرة مُستنكرة: محمـد!
نَطَقَ بحيرة مع إطفائه للسيجارة في المرمدة: والله مادري شنو أقول
ارْتَفَعَ حاجِباها مُتَعَجِّبة: شصاير! ترى بديت تخوفني
نَظَرَ لها مُوَضِّحًا: هُو مو شي يخوف "أَرْخَى بصره" بـس.. يعنــي
تَساءَلت باهتمام: بس شنو؟ قول محمد.. لا تخش عَلَي
رَفَع جِفْنيه لِيَلتقي مع عَيْنيها ويُفْصِح بضيقٍ جَلي: لازم أرجع برلين.. وفي أقرب وقت
زَفَرت براحة وملامحها التي شَنّجها الخَوف اسْتَرخت بطريقة أثارت استغرابه.. عَبّرت بابْتسامة جانبية: الله يهديك محمد.. خوفتني.. ظنيت صاير شي خطير
اسْتنكَرَ: يعني مو مضايقش إني برجع برلين؟ يمكن أطول ترى
بثقة منقطعة النظير: لا مو مضايقني.. لأنّي راح أروح معاك
عُقْدة تَوَسّطت حاجبيه: نَعـم!
أَكّدت: اي.. راح أروح معاك.. مُستحيل أتركك تروح بروحك.. الوحدة في برلين هذي قبل مو اللحين
حَرّك رأسه رافضًا فكرتها المُتهورة: مُستحيل آخذش معاي.. مجنون أنا بإيدي آخذش للمجرمين! ما استخفيت للحين
بإصرار لا يدري من أين أَتت به: بروح معاك يعني بروح.. وبسكن وين ما راح تسكن.. وأعتقد راح تسكن في الكوخ تبعك صح؟
قالَ من جَديد لَعلّها تعي خطورة الوَضع: مـلاك أنا هناك بكون مشغول مع آستور.. بتكون عندي مهمات أكيد.. بضطر إنّي أترك الكوخ لأيام وليالي.. وهناك مو أمان.. وأساسًا بنكون مُراقبين من أول ما ننزل مطار برلين.. مو غبي أنا بإيدي أهديهم الطعم لابتزازي.. واللي هو إنتِ
حَرّكت كتفها بعدم اهتمام: ما يهمني.. سواء كان الخطر موجه لك بروحك أو لي معاك فالوضع عندي نفسه.. بروح معاك واللي راح يصير خله يصير
تَنَهّد بتعب وبرجاء نَطق بكلماته: ملاك الله يخليش لا تصعبينها عَلَي
ارْتَفَعَ صَوْتها قَليلًا بانفعال احْمَرّ منهُ وَجْهها: إنت بعد محمد لا تصعّبها عَلَي.. بتسافر للمكان اللي انذبحتْ فيه روحك وبتتركني اهني.. تبيني أنجن! مادري إنت وين ولا شنو فيك.. متضرر لو سليم.. عايش لو ميت.. ما أقدر أظل اهني وإنت هناك.. مــا أقــدر
بمحاولة: حتى لو كنتِ معاي هناك.. ما راح تعرفين ويني أنا بالضبط.. شغلنا سري
وَضَّحت رؤيتها: بس على الأقل راح أكون أقرب لك.. لو كان عندي القدرة إني أتصرف بقدر أتصرف وأساعدك
زَفَرَ وبإصبعيه ضَغَطَ على صدغيه هامِسًا: مــلاك أرجوش
هَزّت رأسها: محمد لا تحاول.. سفر من غيري ما راح تسافر.. صدقني لو سافرت وتركتني راح ترجع لي وأنا يا مجنونة فاقدة عقلها.. أو ميتة
ضَحكَ بإرهاق: مو لهالدرجة
بجديّة رآها تَلتهب بين أهدابها: امبلى محمد.. إنت رايح للجحيم.. رايح للمكان اللي حطّمك
أَرجع ظَهره مُسْتَنِدًا للأريكة ورَأسه للخلف.. قالَ بخفوت: مُمكن أطوّل.. أهلش ودوامش
باتّكالٍ وتسليم: أهلي راح يكونون بخير، في حفظ الله.. ودوامي عادي.. إذا ما قبلوا الإجازة بدون راتب راح أفنّش.. بس أهم شي ما تروح بروحك
هَمَسَ بنبرة لا زال الماضي يَتَلَبّس بَعضًا منها: ترى متعوّد
عَقّبت لِتُذَكّره بوُجودها الخَصْب.. وُجودها الذي يَرفض استسلامه ليَد الظُلم: التعوّد على الوجع انتهى وخَلّص.. اللحين إذا تسمح لي أعوّدك على السلام والطمأنينة.. تراني مثلك.. عيشتي رافض يعتقها الخوف.. وأنا تعبت وملّيت.. وأدري إنّك إنت بعد تعبت.. فأرجوك خلنا نساعد بعضنا.. عشان نعيش براحة
حَرّك رَأسه جهتها فأصْبح جانب وَجْهه مُسْتَنِدًا للأريكة.. بانت لها ابْتسامته الخَفيفة التي عَبَرها سؤاله الهامس: يعني إنتِ السلام والطمأنينة؟
تَطَلَّعت لهُ لثواني تَسْتوعب، قَبْلَ أن تُجيب بهمس: لا
قَصَدت كَفّهُ كَفّها القَريبة.. مَرّر أصابعه في بطانها وهو يُلقي سُؤالًا آخر أَعانتهُ عَيْناه على تَسيير سحابًا ماطِرًا لرُوحها: وليش ما يكون الجواب اي؟
ابْتَسَمت وهي تُحَرِّك رَأسها بالنفي وبَصرها يَتَهَرّب من فَيْضه: ما أحس
رَفَعَ يَدها لِفَمه لِيَترك قُبْلة دافِئة وَسَطها قَبْلَ أن يهمس في الوَقت الذي تَشابكت فيه الأعين: بس أنا أحس.. إنتِ السلام.. وإنتِ الطمأنينة.. وأشباههم في الدنيا بالنسبة لي نسخة مُقَلّدة وخاوية من شعور
,،
إنّهُ اليَوم الثاني وحالها لَم يَتبَدّل.. مُسْتلقية على يَمينها.. يَدٌ أَسْفَل خَدّها المُتَهَيّج من أملاح دُموعها.. والأخرى قَد أَحاطت برسغها. هي ليست نائمة.. فعيناها مُشَرّعتان كحارسٍ يَخشى هُجومًا أو سَرقة.. حتى أَنّ أَجْفانها قَد لازمهما احْمرارٌ خَفيف يُترجم التعب الذي تُعاني منه أعصابها. تترك السرير فقط عند الأذان لتصلي.. ثُمّ تعود وتنطوي أسفل غطائه بلا صوتٍ ولا كلمة. هَمَسَ وَيَده تُزيح خصلاتها عَن جانب وجهها: حُور لمتى بتظلين على هالحال؟ لا تنامين ولا تاكلين.. ما يصير جذي.. تبين يصير فيش شي يعني؟
لَم يأتِه جواب.. أهدابها ترمش بخفّة أَقرب لأن تكون خَيْبة.. خَيْبة من سَنَدٍ اعْتادَ أن يحني ظَهرها.. زَفَرَ والإرهاق يُعربد بين طيّات ملامحه.. فهو مُذ تَذَكّر الحادثة والكوابيس تُهاجمه في نومه ويَقظته بأضعاف السنوات السابقة.. وانهيارها هذا لَا يُساعده على الانفصال من قَبضتي الشعور الخانق.. لذلك هو غير قادر على التأقلم مع وضعه الجديد.. شخصيته الجديدة.. ذاته الجديدة التي أُزيح السِّتار عن مَشهد مأساتها بالكامل.. يحتاج مُساعدتها.. يحتاجها أن تكون قوية حتى لا يَتزعزع ثَباته الهَش. أَمسك كَتفها بلطف لِيُديرها إليه ويقول بِوَجْسٍ راجٍ: حُـور.. حَبيبتي.. سكوتش هذا وانعزالش ما راح يساعدنا.. أدري اللي سمعتيه صدمة.. وصدمة كبيرة واجد.. بس بعد لازم تحاولين تتجاوزينها
احتراق في أنفها ولَسْعة وَسَط مُقلتيها نَتجت على إثرها دُموع وامضة.. همست بصوتٍ غالتهُ الغصّة حتى وكأنّها كانت تأن وهي تتحدث: صــ ــ ...ــصـعــ ـب.. صعــ ـب التجاوز "غَطّت عَينيها بكفّها وشَهْقة تَفَتت منها قَلبه فَرّت من صَدرها الرّاجف" ما أقدر.. الحقيقة قاسية يوسف.. وااجـ ـد قاسية.. أنا ما أدري.. شلون.. بحط عيوني.. في عيون أمـ ـك! ومــلاك.. وإنـ ـت.. التجاوز مُستحيل.. مُستحيـــل
ويَده تَمسح على ذراعها: ما عليه.. لا تجبرين نفسش إنها تتجاوز.. صادقة.. صعب تجاوز حقيقة مثل هذي.. بس بعد لا تتركينها تخرب حياتش.. لا تسمحين لها تأثّر على وعيش.. ترى إذا استسلمتين بالكامل لقبضتها وسوادها بتكون محاولة إنقاذش منها أصعب وأصعب "والأَسى يَنوح بين عَينيه" شوفي شلون حالي.. ساعة آدمي.. وساعة فاقد عقلي وحواسي
عَبَرَ من بين شَفتيها سؤال مُتَقَطّع الأحرف: شـ ـلون.. تحـ ـمّلـ ـت؟!
هَزَّ رأسه وابْتسامة حُزن عَتيق وشائِب تَشد شَفتيه: ما تحمّلت.. أنا انهديت بكبري.. قلبي وروحي وحياتي كلها انهدّت من اللي صار.. من جذي وصلت لمرحلة إنّي أضر إختــ ـي.. وأنا مو حاس بنفسي.. غير الضرر اللي سببته لش وللحين خايف إنّي أسببه
رَفَعت كتفها ورُوحها المُقفرة من سَلام تَساءلت: والحل؟
اعْتَدل جالِسًا وهو يسند ظهره للسرير.. أَرْخى ساعده فوق جَبينه مع تصاعد صَدره من تنهيدة كانت بطول عشرون عامًا من الرّعب والضياع.. هَمَسَ بتسليم: قال لي محمد إنّ لازم أبدأ علاجي من أول وجديد مع دكتور موثوق فيه.. لأن حتى مع تذكري الكامل للحادثة ما في ضمان إنّ حالتي ما تتدهور من جديد.. قال لي هو بيرتب الأمور "أَخْفَضَ ذراعه لينظر لها وشفتيه تُناغيهما ابتسامة أَمل مُتَرَدّد" حُور أنا أبي أتعالج.. أبي أصير إنسان طبيعي وأكمل باقي حياتي معاش ومع أمي وإختي.. أبي يكون عندنا طفل واثنين وثلاثة بعد.. حتى لو الباقي من قوتي ما يُعَوّل عليه إلا إنّي بحاول.. وأدري إنش ما راح تخليني.. راح تمديني بالقوة اللي تخليني أسَكّر هالباب نهائيًا.. أنساه ولا كأنّه شي صار "تَقَوّس حاجِباه للأسفل مُتَوَسِّلًا بمَلق" فأرجوش ساعديني.. محتاج لش أكثر مما تتخيلين
لَم تُعَقِّب.. لكنّها تَحَرّكت إليه.. أَرْخت رَأسها على كَتفه وذراعاها أَحاطتهُ بعناية واحتواء.. احتضنها بدوره مُودِعًا بين خصلاتها قُبلة نَشَرت دِفئًا امتد إلى عروقها.. شَدّت عليه وهو هَمَسَ بدُعاء بَثّهُ قَلبه المُتعب إلى لسانه: إن شاء الله راح نتجاوز هذي المشكلة.. ونعيش حياتنا من غير أي تعقيدات
,،
فُتِح باب المَنزل.. اسْتدارت الرؤوس والأَعين تَوَجّهت إلى المَدخل.. دَلَفت هي وأَلقت السّلام وابْتسامة خَفيفة تَشد شَفتيها.. نَطقَ بملامح طَبيعية لا تُوحي بشيء: تأخرتين
عَقَّبت وهي تقترب من مكان جُلوسهم: كتبت لك إنّي بتأخر
وهو يَنظر لساعة هاتفه: بس ما توقعت هالكثر.. الساعة خمس وشوي.. قريب بيأذن المغرب!
أَشارت للأكياس التي في يَديها: نسينا نفسنا واحنا نتسوق
قالت ليلى بابْتسامة: عليش بالعافية حبيبتي.. أهم شي متغدية؟
حَرّكت رأسها بالإيجاب: اي الحمد لله "التَفَتت لصَغيرتها التي كانت تنتظر أن تُحادثها؛ لتقول بابْتسامة مائِلة" اشتريت لش ثياب وااجــد
ابْتَسَمت ببهجة: والله؟
هَزَّت رَأسها بتأكيد: والله "وخطواتها تُقَرّبها من جَنى" اشتريت لش جاكيت أحمر.. يشبه تبع ليلى والذئب
اتَّسَعت عَيْناها بانشداه وعَدَستاها قَفَزَ منهما تَلألؤٌ مَبهور.. تَساءَلت: يصير أشوفه؟
مَدَّت لها يَدها: أكيد يصير.. اللحين بنقيسهم كلهم "التَفتَت للجالسين.. ليلى.. خالها ناصر.. وفيصل.. وبابْتسامة اسْتأذنت" اسمحوا لنا
بادلها خالها الابْتسامة: اخذوا راحتكم يُبه
تَحَرَّكت هي وجَنى للأعلى وَنَظراته تُلاحقهما وتُلاحق الأكياس القابضة عليهم يَداها.. من أَين أتت بهذه النُزهة؟ عند استيقاظه صَباحًا والذي يَعتقد أَنّه أعقب خروجها بدقائق بسيطة بسبب رائحة عِطرها الناضِجة وَسَط الغرفة؛ كانت قَد تَركت لهُ رسالة تُخبره فيها بخروجها مع ندى وأَنّها قَد تتأخر في العَودة.. أعتقد أَنّها ستعود عند الظهيرة.. لكن العَصر انقضى وهي لَم تَعُد بَعْد. حاول أن يَتَصَلّب في مَقعده لدقائق لكنّه لَم يَسْتطع.. هَبَّ واقفًا وهو يَهمس وعَيْناه مُتَرَكّزتان على السُّلم: عن إذنكم
،
كانت تَلْتَفِت يُمنةٌ وشِمالًا بِزَهْوٍ وفَرح وهي تَقِف أَما المرآة الذهبية الطّويلة.. تُطالع المعطف الأحمر ذو الزر الوَحيد القابع أَسْفَل عُنقها.. والقُبعة الواسعة التي تَتدلى من كَتفيها.. عَبّرت بفطرتها البَريئة: ماما يجنن يجنن.. جَميــــل
وهي تَتأمّلها من مكانها بحُبٍ طَري: صار أجمل يوم لَبستيه
التَفتَت ناحية الباب عندما دَخل وَهو يَقول بإعجابٍ كَبير: الله.. شهالحلاة جناني "قَرْفَصَ أَمامها" أشوف أشوف "عَقَدَ حاجِبَيه وبتساؤل يَدّعي فيه الالتباس" اللحين إنتِ جَنى لو لَيلى؟
ضَحَكَت وَصَحّحت له: بــابــا.. أنا جَنى
عَضَّ شَفته وبأصابعه شَدَّ خَدّيها بقوة بَسيطة قائِلًا: جنش تفاحـة.. لذيــذة.. عادي أصير ذئب وآكلش؟
هَزّت رأسها بضحكة: لااا مو عادي
رَفَعَ يَديه بحركة المخالب مُمثّلًا الانقضاض عليها.. هي سارعت لوالدتها لتتمسّك بها طَلبًا للحماية وضحكتها تتعالى وقَد خالطتها صرخات خوف حَماسي
وَقَفَ أَمامها: خلاص أستسلم "اقترح عليها" شرايش تروحين تورين ماما ليلى وبابا ناصر الجاكيت
هَزّت رأسها مؤيّدة: أوووكـي
قال لها وهي تتحرّك خارِجة: بابا مو تركبين.. ما يحتاج.. احنا شوي وبننزل
بصوت عالي أتى من بَعيد: إن شاء الله
ما إن تَأكّد من مُغادرة ابنته الشقة حتى التَفَتَ لِجنان.. كانت تُوليه ظَهرها وهي لا تزال بالعَباءة وحجابها قَد أخفضته على كَتفيها سامِحة لموج شَعرها بالاسْترخاء على ظَهرها. تَقَدّمَ منها وهي مَشغولة بإعادة الملابس في الأكياس.. وَقَفَ خَلْفها مُباشرة لِيَكشف عن سؤاله دُون مُقَدّمات: متى بتتكلمين؟
مَرّرت لسانها على شَفتيها وبَصرها يَرْتفع بتَردّد مُتَأمّلًا المَجال أمامها.. ناداها: جِنان
تَركت الكيس قَبْلَ أن تَسْتَقيم في وقوفها.. اسْتَنشقت نَفَسًا عَميقًا ثُمَّ اسْتدارت إليه لتَتواجه مع عَيْنيه القَريبتين جدًا.. هَمَسَت بطلب: مُمكن تقعد؟ "مَرَّغَ عَدستيه بملامحها بصمت ودون أي حركة.. فَوَضَّحت" راح أتكلم.. وراح أطوّل "كَرّرَت الطَلب" فإذا مُمكن تقعد
اسْتجابَ لها وقَلْبه بَدأت تَتَحَفّز نَبضاته.. جَلَسَ على السّرير وهي جَلست بجانبه.. مُلاصقة له.. جَسدًا ورُوح. أَنظاره عليها وأنظارها للأمام.. أو رُبما للماضي.. نَطَقَت بوَجْسٍ سارَ بهِ ببطءٍ حَذِر لِزَمَنٍ كان فيه ولَكن لَم يَعش أحداثه معها: أول مرة قابلت فيها أحمد كانت في المدرسة.. مدرستي الثانوية.. كان جاي يلقي علينا محاضرة عن الكتابة بما إن هو كان كاتب في ذروة نجاحه ذيك الفترة.. رواياته كانت روايات رومانسية.. النية إنها تكون مُوَجّهة للشباب والبنات المُقبلين على الحُب أو الزواج أو أي علاقة عاطفية.. يعني أعمارهم المفروض تكون تجاوزت الاثنين وعشرين سنة كحد أدنى.. لكن وبطريقة غير مُفاجئة.. بديهية على الأصح.. المُقبلين على رواياته كانوا تحت الاثنين وعشرين.. ستعش مثلًا! "شَخرت وزاوية فَمها تَرْتفع بابْتسامة ساخِرة" أمثالي وأمثال غيري.. بعض البنات.. أو المُراهقات كانوا مُحَصّنين عاطِفيًا.. من ناحية العائلة على الأقل.. فكان التأثير عليهم بسيط.. أما أمثالي "خَبَى هَمْسُها كما لَو أَنّ الغَصّة جَثَت فَوْقه" فكان دمارنا كَبيــر.. كبير واجد.. لدرجة إنّ التأثير استحوذ على حواسنا! كنت مبهورة.. مأسورة بهذا الكاتب.. بهذا الأحمد.. شلون عنده القدرة إنّه يفهم الأنثى بهالدقة؟ أو مثل ما كانت أعتقد.. شلون عنده القدرة إنّه يفهم جِنان بهالدقة! كنت أحسه يكتبني.. يشرحني بكلماته.. بغباء وبعاطفة ساذجة ومتعطشة للاحْتواء تعلقت فيه.. تعلقت في الكاتب اللي يفهمني.. يفهم الفوضى اللي داخلي.. دائمًا كنت أتمنى أكون وحدة من بطلاته.. يشكّلني مثل ما يبي ويخليني أسكن بين الصفحات.. يهديني من اللا مكان إنسان يعوضني ويكون الجَبر لانكساراتي.. مو مشكلة حتى لو كان هو هذا الإنسان. أنا عرفت أحمد في عمر الأربعتعش.. عرفته عن طريق زميلة في الصف كانت حاملة معاها وحدة من رواياته للمدرسة بالخش.. أدمنت هالروايات لدرجة أعدت قراءتهم مو أقل من خمس مرات.. وأُمنية أو حِلم لقائه كان هاجسي اللي صار واقع وأنا في الثانوي "حَرَّرَت صَدرها من تَنهيدة قَبْلَ أن تواصل" التقيت معاه وبكل جُرأة كلمته.. جذّبت وقلت إنّي أكتب وأبيه يطّلع على كتاباتي.. عطاني إيميله.. سويت لي إيميل بمساعدة ندى.. وقتها ما كان عندنا كمبيوتر.. فكنت أروح بيت ندى أو أروح المكتبة القريبة من بيتنا عشان أتواصل معاه.. أول مرة طرشت له بعض الكتابات الركيكة جدًا واللي اضطريت أكتبها بسرعة عشان ما أظهر قدامه بمظهر المراهقة الجذابة.. كان يصحح لي ويدعّم كتاباتي.. تطوّر الوضع وبدأت أرسل له إيميلات كانت أقرب لإنها تكون تفريغ.. تكلمت له عن محمد واختفاءه الغريب واللي شَدّه.. مرض أمي وسفر أبوي الدائم.. تكلمت له عن بيتنا الخالي.. الفارغ من حياة.. الإهمال وأثره على نفسيتي وبعض الأحيان دراستي.. علي وطفولته.. وعن الحاجة اللي خلتني أتعلق فيه.. وهو فهمني.. مثل ما كنت متوقعة فهمني.. لكن رَفض استمرار هذي المحادثات فيما بيننا لأن غلط.. أنا تفهّمت مقصده وفعلًا أنهينا هالمحادثات وانقطعت العلاقة
هو الذي لَم يفهم: شلون! بس يعني وقفت علاقتكم عند هالنقطة؟
أَصْدَرت من بين شَفتيها صَوْت نافي قَبْلَ أن تُكْمِل: بعدها بأسبوع أو أكثر بشوي.. وصلني إيميل.. من صديقه.. يقول لي فيه إن أحمد خبره عن قصتي.. وهو حاب يساعدني.. ومتى ما بغيت أتكلم وأفرغ اللي في خاطري، أكلمه.. راح يسمعني من غير ملل.. وأرسل لي صورته.. على قولته إذا عرفت ملامحه بيكون تواصلنا أعمق وحقيقي أكثر.. وهو كان شاب.. في عمر أحمد.. في الخمسة وعشرين.. وسيم.. أو المراهقة جِنان كانت تشوفه وسيم.. ظلينا نسولف ونتعرف على بعض لأيام.. استمر تواصلنا لشهر تقريبًا قَبل ما يعترف لي إنّه يحبني! "اتّسعت عَيْناه وملامحه احْتَدّت.. قَبَضَ يَمينه مُتَجَلِّدًا لحين انتهائها" طبعًا أنا شوي وأموت من الفرحة.. فلان يحبني! أنا جنان.. المنبوذة المنسية! لوهلة حسيت إني لمست السما.. وإن الحياة وأخيرًا صالحتني! هو اعترف لي قبل بليلة من عيد ميلادي.. قال لي إنّه اختار هالليلة بعناية عشان يعترف لي.. وعشان الذكرى تكون بأحلى صورة.. وطلب إنّه يقابلني ويهديني هدية العيد ميلاد
هَتَفَ بصدمة: وقابلتيــه!
هَزّت رأسها: لا.. على الرغم إنّي وافقت أقابله بدون تردد ومن غير تفكير.. بـس
نَطَقَ بقل صَبر: بس شنــو!
أَجابت بهدوء: بس أحمد أنقذني.. اكتشف العلاقة اللي بيننا وقبل اللقاء بساعات كلمني وفَضحه لي "اهْتَزَّ صَوتها حتى أَنّهُ شَعرَ به يُزَلزل قَلْبه" كان يبي يستغلنـ ـي.. ويحاول إنّــ ـه "اقْتَطَعَت الشهقة المكتومة كَلمتها التي اخْتَرَقت رُوحه مثل خَنجَرٍ مَسْموم.. رَفعت كَفّها وبظاهرها ضَغَطَت على شَفتيها تُكبح لجام البُكاء.. مَسَحت الدمعات عن وجهها لتُرْدِف" وقتها السما اللي كنت ألمسها استوت قاع أسود ضربته القاسية رجّعتني لنفسي.. شكرت أحمد.. من أعماق قلبي شكرته.. ولليوم وأنا أحس إنّي مدينة له.. هذاك من يومها ما كلمني وولا شفته.. حتى ما يطري على بالي لأنه ولا شي بالنسبة لي.. اللحين بس اضطريت أتكلم عنه
هَمَسَ بخفوت: شنو صار بعدها؟
أَرجعت خصلاتها خلف أذنها وهي لَم تلتفت لهُ بعد: رَجَعت علاقتي مع أحمد اللي شاف نفسه الحامي والوَصي عَلَي.. وكأنّه تأكد إني بكل بساطة مُمكن أضيع من غير ما ينتبه أحد.. استمرينا على الإيملات قبل لا أتخرج من الثانوية ويصير عندي تيليفون.. فانتقلنا للمُكالمات.. في اليوم عادي نتكلم أكثر من مرة.. نتكلم عن كل شي.. كــــل شي.. وحبيته
هَمَسَ بنبرة حادّة يُخامرها الرّجاء: جِنــان
بان لهُ طَرف ابْتسامتها وهي تَقول: مو الحب اللي في بالك.. حبيته صديق وأخو وأبو.. عمره ما كان لي حَبيب ولا أنا كنت له حَبيبة.. السعادة كانت ما تسعني كلما جابوا له طفل.. وهو المسكين تشقق من الفرح يوم درى بخطبتك لي.. حتى إنّه كان من الأشخاص اللي شجعوني على الموافقة وبيّن لي إيجابيات هالخطوة.. فوافقت عليك.. واتفقنا أنا وهُو على إنهاء العلاقة "أدارت رأسها إليه لتَتضح الابتسامة بأكملها والعين الدامعة" وبــس
عَقَد حاجبيه: شلون يعني؟
أَجابت: يعني من وافقت على خطبتك ما كلمته ولا كلمني ولا حتى تقابلنا.. لأكثر من سنتين ما شفته
ارْتَفعَ حاجبه وبسؤال يشي بعدم تصديقه: ولندن؟
التَفتتَ للأكياس المركونة فوق السرير.. تناولت أحدهما.. كان صغير نسبيًا.. مَدّتهُ له وهي تهمس بابْتسامة جانبية: هذي لندن
نَظرَ لها بشك وتيه.. تناول الكيس وأَخرج ما فيه.. عُقدة تَوَسّطت حاجبيه وهو يُقَلِّب المُحتوى بين يَديه.. كان كتاب.. رواية بالتحديد.. رواية للكاتب أحمد راضي!
قَرأ عنوان الكتاب بهمس: تحت سَقف لندن "رَفع عَينيه لها مُسْتَفسِرًا" شدخل هالكتاب؟
أَمرته بلُطف: افتح صفحة مئة وخمسة وسبعين "عيناه امتلأتا بالضياع والتكذيب.. فتَبَسّمت له وهي تُعيد" افتح الصفحة فيصل واقراها
زَفَر من أنفه مع انخفاض بصره للكتاب.. تأمّله لثواني قَبْلَ أن يُحَرّك الصفحات باحِثًا عن الصفحة التي أَشارت إليها.. التَقطَ الكلمة الأولى وأخذ يَقرأ بتركيز وعيناها تُتابعان ملامحه بدقّة.. ابْتسمت.. ابْتسامة يشوبها الأَسى.. ابْتسامة اخُتزِلَت فيها خَيْبة سَنوات البُعد والهجران.. فملامحه قَد خُسِفَت.. غالها احْمرارٌ وعَرَق.. لهاث أنفاسه تَصاعد.. وكَفّه القابضة على الكتاب تَسَوّرت بارْتعاشٍ ضُخّ مع دماء قَلْبه.. هَمَسَت بسؤال وهي تُبصر حالته: الكلام مألوف؟... الموقف مألوف؟
تَسَلّق بَصره الأسطر راجِعًا للكلمة الأولى.. أعادَ القراءة ونَبضه يكاد يَصُم أُذنيه
" كُوخ.. مَطعم على هَيْئة كوخ خَشبي.. لهُ دِفءٌ حَميمي يَحتضنك بَعد أن استولى شتاء لندن على حواسك.. الأضواء خافِتة.. كما لَو أنَّ الشمس أَبزغت شُميسة صَغيرة في كُل مُصْباحٍ مُعَلّق.. روائح الزَّهرِ والشموع العطرية تكسو المكان فَتتساءَل الرّوح بِانتشاء أهو الربيع أم الشتاء؟ بجانب إحدى النوافذ كان جُلوسهما.. مُتقابلان والثلج في الخارج يُهدي الحياة بياض ونقاء.. على الطاولة قَد غَفت وَرْدةٌ حَمْراء كانت هدية منه إليها.. وَرْدة أنقذها من سَطوة ديسمبر وجَليده لتنضج بين دفء كَفّيها. كانا مُبتسمين.. لا حَديث ولا أصوات.. فَقط النظرات تَعبر محطة العينين لتسير للمحطة المُقابِلة حيثُ تنطوي بين جِفْنٍ وهُدْب. "
نَطَقَ بتخبّط وعيناه تدوران على الصفحة باستنجاد: شنـ ـو.. شنو يعني هالكلام! نفــ ...ــفــ.. ــنــفس المطعــ
أكملت عنه: نفس المطعم.. ونفس الطاولة.. ونفس الوردة.. ونفس الفصل.. ونفس الأجواء.. تقريبًا
نَطَقَ والأنفاس تَشخب من رئتيه.. فَقد كانت تعبره أنفاس حاضره المصدوم.. وأنفاس ماضيه المكسور..: أنا مو فاهم شي!
أدارت جذعها إليه لتَكشف عن الحقيقة العَرجاء: كان جاي لندن.. هو أحمد.. مع زوجته.. جايين زيارة لأخت زوجته.. اللي هي ياسمين.. التقينا صدفة.. بعد هالجم سنة التقينا.. ما كان يدري إنّي عايشة في لندن طول هالفترة.. وشاف إنها فرصة عشان يحقق لي حلم غَبــي!
عَقَد حاجبيه: حلم شنو!
أشارت للكتاب: الحلم الموجود في هالصفحة.. إنّي أزور هذا المطعم في الشتا وأقعد على نفس الطاولة صوب الدريشة وعلى الطاولة الوردة الحمرا.. خبّرني إن المطعم قريب.. وأنا وافقته بعد محاولتين منه.. اتفقنا إن دقايق بس.. أستشعر فيها اللحظة اللي نَفذت داخلي من أول مرة قرأت فيها هالموقف.. حتى كانت معانا ندى
هَزّ رأسه: جذابـــة
أكّدت ودَمعة تتعلق بطرف عَيْنها: والله.. كانت معانا.. بس راحت الحمام.. تغيّر لبنتها وترضعها "تهدّج صَوتها وبأسَفٍ عَميـق غارَ جرحه في روحها لسنوات" في الوقت اللي إنـ ــت... وأصدقائك... شفــ ــتونـ ـا فيه
تَقَلْقَلت عَدستاه على وَجْهها لثواني قَبْلَ أن يَشخر بضحكة تَنم عن عَدم الاسْتيعاب.. قالَ مُحاولًا أن يَدحض الحَقيقة: هذي نكتة صح؟ إنتِ تمزحين.. صح جِنان؟
أَجابت بكلمة واحدة وهي تُراقِب ملامحه التائهة: لا
قَطّب حاجِبَيه لينطق بنبرة مُنفعلة: لا تمزحين جِنان.. أكيد إنش تمزحين.. أو إنش قاعدة تجذبين!
هَزّت رَأسها: مو قاعدة أمزح ولا قاعدة أجذب.. هذي الحقيقة
وَثَب واقِفًا وصَوته يَعْلو أكثر والغَضب يُقَيِّد مَلامحه والكتاب مَسْجونًا بين قَبْضته: لا مو هذي الحقيقة.. التفاهة اللي نطقتين بها مو هي الحقيقة
وَقَفت مُعَقِّبة بهدوء وحَذَر وهي تُبْصِر نزوح الحُمم إلى أَرضه: قلت لك فيصل من قبل.. سبب وجودي معاه كان غبي.. وشي ما يستاهل اللي صار
أَلْقى الكتاب عليها حتى اصْطدم بكتفها وصَوته يُجلجل: تبين تقنعيني إنّ أربع أسطر تافهة كلفونا ست سنوات؟ كلفونا عمر؟ كلفوش جَنـى!
هَزّت رأسها بأسف: لو إنّك سمعتني.. لو إنّك سمعتني بس!
أَشارَ لنفسه: يعني اللحين أنا الغلطان؟ لأنّي رفضت أسمع تبريرش الغَـــبــــي صرت أنا الغلطان وإنتِ البريئة! أنا المسؤول عن الدمار اللي انتصف حياتنا وإنتِ المسكينة المغلوب على أمرها!
كَرّرت بهمسٍ يَخْشى انفجاره: إنت ما سمعتني
تَقَدّم منها خطوة وصرخته أَرْجفتها: شَــســمــع! شَسمع جِنان؟ تعتقدين ليلتها كنت طايق أسمع صوتش؟ أو حتى أشوف وجهش؟ أنا حتى اسمش كنت متقزز منه.. كنتِ ليلتها بالنسبة لي خايــنة
ارْتَفَع صَوْتها وَقَد التهمته اللوعة: بس أنــا مو خايـنة.. وجودي معاه ما كان خيانة.. كان عشان الـ
أكمل عنها وهي يُشير للكتاب الغافي على الأرْض الخشبية: عشان هالموقف السخيف والغبي! عشان صفحة من روايته.. عشان أحلام مراهقتش التافهة أنا انكسرت قدام ربعي.. وجهي استوى تراب دسته برجولي.. عشان تخبّطش في الماضي ضاعت مننا أجمل سنين عمرنا!
أَبْعدت خصلاتها عن وجهها المَأهول بالدّمع وهي تُدافع عن موقفها: ما كنت.. أبي أجرحك.. أو أفشلك قدام ربعك.. والله "تَعَثّر صوتها لتُكمل بصعوبة" والله.. ما كـ ـان قصدي.. خيـ ـانتـ ـك.. والله!
صَدره كان يعلو ويهبط بسرعة لا تعتقد أنّها تُساعده على التنفس بصورة صَحيحة.. تَهَدّلت ملامحه والغَضب حَرّرها.. إلا أَنّ عَيْنيه لا زالت الخَيبة تَسكنهما والقَهر يؤطرهما.. نَطَقَ ببحّة عَميقة: حتى لو ما كان في نيتش الخيانة.. حتى لو كانت نيتش بريئة.. يبقى تواجدش معاه غلط.. غلـــط وما يجوز
هَزّت رأسها سريعًا: أدري.. أدري.. وأنا مو قاعدة أبرر.. وكنت أستاهل العقاب "مالَ رأسها واستعطافٌ لا إرادي مَلأ صَوتها وملامحها وهي تقول" بـس.. ما كنت أستاهـ ـل عقابك.. ما كنت أستاهله! كان أقسى من إنّي أتحمله!
خَبَت أَنفاسه وانطفأت النار المُسْتعرة في عَيْنيه.. تَرَاجع للخلف وبَصره يَنسحب بَعيدًا عن الحُزن الذي بَدأ يُعربد بين طَيّات وَجْهها.. يَشعر وكأنّ هذا الحُزن فاهٌ كَبير يُريد أن يَنهش ذاته بأنيابه الحادة.. هُو ليس مُذنب.. هي المُخطِئة وليس هُو.. هي التي خَرجت مع أحمد وطَعنتهُ في ظهره.. سَماعهُ لها حينها لَم يكن لِيُغَيّر شَيء.. قَد لا تكون خائنة.. ودماؤها نَظيفة وقَلبها مُوليًا شَطره له لا لغيره.. لكنّها أخطأت.. خَبّأت عنهُ أَسرَارًا ثُمَّ كَسَرتهُ بها. اسْتدار مُبْتَعِدًا عنها للخارج.. وهَمسها المُرْهق شاغَبَ قَلبه وهي تُناديه: فيــصل!
تَجاهل ندائها وغادرَ الشقة.. هَبَطَ السلالم بسرعة قصوى وهو لا يَرى أَمامه سوى صورة واحدة.. جِنان وأحمد وهُما مُتقابلان وَوجهه الشّبح يَطِل عليهما من نافِذة الوَجع.. تُريد بقصّتها التافهة أن تُلقي اللوم عليه هو.. أن تُكَبّده الخَطأ كُلّه فقط لأنّه رَفَضَ سَماعها.. لتكون المُحَصِّلة في النهاية زوج ظالم نَهَبَ طفلته من حِجر أُمّها. أَغْمَضَ شادًّا على عَيْنيه لَعَلَّ المَشْهد المشؤوم يُعصَر في مُقلتيه.. ليفرز سائِلًا نَتِن تُعمى منه العَين.. فلا تَعود تَبصر ساعة انكساره.
: فيصل
لَم يَسْمع.. لَم يَنفذ إليه الصّوت.. حتى نداء جَنى فَشَل في اختراق الغشاء السميك المُحيط بوعيه.. كان يَشق الطريق بخطوات حثيثة وبنظرات للأمام.. فَتَحَ الباب بجلافة في الوقت الذي كانت فيه جُود مُستعدة للدخول.. بَسَطت يَدها على صَدرها مُتفاجِئة وهي تهتف بقهر: شفيـك إنت! أحد يفتح الباب جذي!
تجاوزها دون تعقيب قاصِدًا مَرْكبته.. شَغّل المُحَرّك وفي ثواني ارْتَفَعَ صَوْتًا مُزْعِجًا تَسَبّبت بهِ عجلات السيارة التي تَرَكت أَثَرًا واضِحًا على الأرض.. تَعَجّبَت جُود بهمس: شفيه هذا!
دَلفت للداخل حَيث التقت بوالدتها عند المدخل والتي تساءلت: طلع أخوش؟
أكّدت: اي طلع " استفسرت" شفيه جذي مشوّط؟
رَفعت كتفها والحيرة تجوب ملامحها: مادري والله.. فجأة نزل جذي.. حتى ناديته وجنى نادته بس ولا كأنّه يسمعنا
وهي تمشي معها لغرفة الجلوس: يمكن ما سمع
جلست بجانب حفيدتها التي أجفلها خروج والدها الغريب وتجاهله لندائها: مادري.. يمكن
تساءلت بعد أن خلعت عباءتها: وين جنان؟
أَجابت: فوق.. هو كان معاها
استنتجت: يمكن متهاوشين
عُقدة خفيفة: لا ما أعتقد "جاءت لتَدعم رأيها لكنّها قاطعتها وهي تُشير بعينيها لجنى" مو متهاوشين.. أكيد عنده شغلة ويبي يقضيها قبل لا يأذن
بعدم اقتناع وهي تسترخي على الأريكة وبصرها للسُّلم: على قولتش.. عنده شغلة
,،
يتبع