إرتواء نبض
03-12-2020, 10:07 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
تَوكلتُ على الله
الجزء الثامن والخَمسون
الفَصل الثاني
الفَجْرُ حَلَّ مُنذ أكثر من ساعة.. السّماءُ أَكثرُ صَفاءً.. والليْلُ ازدانَ بهدوءٍ يَبعثُ على الاسْترخاء. الصّفاء في جَوْفهم مياه آسنة تُعَكِّر الأفكار.. والهُدوء لَم يَطأ حواسهم بَل ونَسوا مَعناه. حَفروا الأَرض.. أَمروها أنَ تَسْتَفْرِغ رِمالها لِيَصِلون إلى لُبِّ الحَقيقة.. كانوا مُنْهَمِكين في البَحث عن الذي أَشارَ إليه صالح بسريّة تامة.. إلا أنَّ الساعة التي مَضت دُون أَن يعثرون فيها على طَرَفِ شَيء، سَلّلت إلى نَفوسهم الخَيْبة.
نَطَقَ عَزيز ويَده تَشُد على عُكّازه: مو معقولة ما في شي.. الحفر تجاوز المترين!
رَفَع رأسه رائد والذي تَفَصّد جبينه عَرَقًا مُعَقِّبًا بصوتٍ عالي: حدنا ثلاثة متر.. إذا ما حصّلنا شي.. بنوقف
قالَ بِعُقدة حاجِبَين: بس لازم فـي.. الموسيقى وارتباطها بالعصابة.. وصوتها العالي بطريقة غريبة.. وطابوق الأرض.. لازم يشيرون لشي "نَظَرَ إلى وَجهي رائد ومُحَمّد مُتسائِلاً" تتوقعون أخطأنا في فهم الإشارة؟
مُحَمّد بنبرة واثقة: لا
تساءلَ رائد: شدراك؟
شَدّت شَفتيه ابْتسامة جانبية وهو يَضرب المَجرفة بشيءٍ صَلب تُواريه طَبقة خَفيفة من الرّمال.. صَرَخ رائد بحمـاسٍ خَشِن: بَعـــد قلبي باتمان والله
عَزيز تَساءَل من مكانه وهو الذي لَم يَفهم شي: شنـــو؟ شصــار؟ "لَم يَصَله رَد من الاثْنين.. لذلك صَرخ" يا كلا.... قاعد أسأل ردوووا
: قَصّر حسّك الناس نايمين
سَأل رائد الذي تَسلق الحَبْل المربوط بالنخلة القَريبة والمُمتد لداخل الحفرة: شصار؟ شنو شاف محمد؟
هَمَسَ رائد وهو يُحرّر خِصره من الحَبْل ليُلقيه إلى مُحَمّد المُنتظر في الأسفل: انتظر.. دقايق وبتعرف
شَدّ قَبْضته وهُو يَحْبس غَضبه وقدمه السليمة تَضرب الأرض برتم مُتَوَتّر في انتظار ما قَصدهُ رائد. مَضَت دَقيقة حتى تَسَلّق مُحَمّد حَبله المَعْقود بشجرة على اليسار.. فَكَّ عُقدته ثُمَّ مُباشرة اتّجه إلى حيث يَقف رائد لِيَتشارك معه جَرّ الحَبل إلى الأعلى. تَطَلَّعَ لهما عَزيز.. على الرّغم من برودة الجَو إلا أَنّ بَطن الأَرض حَفَّزت مساماتهما على صَبِّ العَرق.. وَجْهَيهما اصْطبغا بحُمرة ازدادت وهُما يَجُرّان بقوّة ما عُثِرَ عليه أَسْفَل الأَرض.. هَمَسَ يَسأل نَفسه هذه المرة: شنو مُمكن يكون؟
لَم يَحتج أَن يُرْهِق عَقله أكثر بالتَّفكير.. فالذي اسْتَقَرَّ على الأَرْض المأهولة بالرّمال كان الجَواب.. اقْتَرَب منه وتَعليق رائد الهامس يَصله: يا الله.. شكبــره!
مَسّهُ بخفّة بطرف عُكّازه.. قَبْلَ أن يَضرب جانبه وسَطحه وهو يَقول: شغل أَوّل.. صامِد كل هالسنين تحت الأرض.. قَـــوي!
قال مُحَمِّد مُشيرًا لقفله الكَبير: واضح إن المفتاح له
ابْتَسَمَ عَزيز بسعة: واضــح جــدًا
قَرْفَصَ مُحَمّد بجانبه بعدما تناول المفتاح من عَزيز.. نَظَرَ إليه.. أو لنقول نَظَرَ للصندوق الضَّخْم.. صندوق من الخَشب القَديم ذو المَتانة والصلابة التي تَجعلهُ صامِدًا على مَرِّ السنين.. لَونهُ البُني الدّاكن مَسختهُ رَمادية الرّمال.. والمسامير الذهبية التي تُطَرِّز حَوافه قَد طُمِسَ الْتماعها بَعْد أَن هُجِّرَت بَعيدًا عن مَوْطِئ الشَّمس.. وكان في وَسَطهِ يَقْبَعُ قِفْلاً.. كَعُقْدٍ يَتَوَسَّطَ نَحْر أَنثى مُدَجَّجة بالأَسرار. حَشَر المفتاح في القفل.. ابْتَسَمَ الثلاثة.. فَلَقد كانا مُلائِمَين لبعضهما البَعض.. صُنِعا لِيُكَمِلا بَعضهما البَعض. أَدار المفتاح.. صَوْت انفتاح بوّابة الحَقيقة طَرَقَ هُدوء الفَجْر.. أَزاحَ القفل والنّبضات تَعدو.. رَفعَ المقبض.. فَتَحَ باب الصّندوق.. فَتَحَ الكَهْف الذي انطوت فيه اعْترافاتٍ وأَدِلّة لَم تَخْطر على بالِ أَحد قَط. غاصت أيدي مُحَمّد ورائد وَسَط الغنائِم التي عَثروا عليها داخل الصندوق.. قالَ رائد بذهول وهُو يَرْفع أَحدها: ولا في الأحلام!
هَمَسَ عَزيز بِعَيْنٍ وامضة وابْتسامة تَشوبها الحَسرة: خَسارة على ذكائك يا صالح.. خَســـارة!
,،
صَباحها كان رَمادي.. خانق.. مُوحِش وكَئيب.. فَراغٌ عَظيم يَبْتلعها.. من الخارج والداخل.. مَعِدَتها تُعاقِبها بآلامٍ مُزِعجة.. فهي لَم تأكل شيء منذ يومان.. فَقَدت شَهيتها عندما وَجَدت نَفسها أَمام طَريق مَسْدود.. الأفكار أَصابها الشَلَل.. والأَمل بَصَقَ آخر قَطرة شَمْع ثُمَّ انْطَفَأ. كانت مُتَكَوِّمة على نَفسها وَسَط السَّرير.. مُلْتَحِفة بالكامل حتى أَسفل أنفها.. تُحَمْلِق في اللا شيء والسكون يَسْبح حَوْلها. طُرِقَ الباب ثُمَّ فُتِح.. تَقَدَّم الداخل بَعد أَن أوصد الباب من خَلفه.. كانت شَقيقتها.. جَلَست على السرير بجانبها وكَفُّها قَصَدت شَعرها تَمسح عليه وهي تَتساءَل بهمس: ما تبين تاكلين شي؟ "بالكاد حَرَّكت رَأسها بالنفي فأَفصحت هي عن سؤال آخر" ما بتكلمين زوجش؟ "أَغْمَضَت وملامحها تَتَصَدّع بلا إرادة منها.. أكملت بنصيحة" حَبيبتي لازم تقعدون مع بعض وتتفاهمون.. ما يصير تظلون جذي.. هو جاش اهني ورفضتين تشوفينه.. وكل يوم يتصل.. وإنتِ حاقرة.. الحقران مو حل يا ياسمين
مَرَّت نصف دقيقة صامِتة قَبْلَ أن تُبْصِر ياسمين وتَنطق بصوتٍ التهمتهُ البَحّة: الطلاق هو الحل... بـس... ما أبي أكون مُطلقة!
واجهتها بسؤال وهي تُشْبِك العَين بالعَين: تبين تكونين ضُرّتها؟ ضُرّة جِنان؟
تَعَثَّرت أنفاسها وملامحها اعْتراها تقطيبٌ حاقِد: لا تطرين اسمها.. أكرهــهــا
قالت تُذَكّرها: ياسمين.. أنا قبل الملجة سألتش.. متأكدة يحبش؟ متأكدة يبيش؟ متأكدة نسى طليقته؟ وجوابش كان اي.. فهي مو ذنبها إذا كنتِ إنتِ تجذبين على نفسش.. هي في النهاية أُم.. وبتقدّم مصلحة بنتها على مصلحتها وعلى مصلحتش اللي ما تهمها أصلاً
هَمَسَت بنبرة تُقَطّعها الغَصّة والدَّمعُ يُشاكس مُقلتيها: مو عشـ ـان بنتها.. هي للحين تحبه
عارضتها: امبلى.. عشان بنتها.. مهما كان حُبها له.. فهي ما كانت بتقدم على هذي الخطوة وبهالسرعة إلا لمصلحة بنتها.. تبيها تعيش حياة طبيعية حالها حال باقي الأطفال "أَفصحت عن وجهة نظرها" أنا تعرفين مشاعري تجاهها بعد اللي سمعتيه مني.. وأنا مو قاعدة أدافع عنها.. بس هذا الصدق.. وإنتِ لازم تقتنعين فيه وتوقفين جذب على نفسش "قَذفتها بالحَقيقة التي لطالما جاهدت لتَتغاضى عن لَهيبها" فيصـل يحبها.. يحب جنان وعمره ما نساها.. واللحين مدام رجعت له فهو مُستحيل يتنازل عنها.. راح يعيش معاها ومع بنته للأبد "تَجَلّدت قِسْرًا عندما أَخفت شَقيقتها الصُغرى وَجهها بكفّيها واسْتَهَلَّت بُكاءً حَزينًا.. وَقَفت لتُردف بنبرة جادّة ونصوحة" فكري عدل.. فكري بعقل وصمّي أذونش عن قلبش.. مدامكم بعدكم في بداية الطريق فالأمور قابلة للتصليح
غادرت الغرفة وصَوت نَحيب ياسمين لَم يُغادر فؤادها القَلِق.. تَقابلت مع زَوْجها في غرفة الجلوس فتساءلت باسْتغراب: ليش ما داومت؟
أَجابَ بَعْد أن ارْتشفَ من شايه: عندي ورشة برا المدرسة "اسْتفسَرَ باهْتمام وهُو يُشير برأسه لغرفة ياسمين" ليش تصيح؟
وهي تجلس على الأريكة بجانبه: ليش بعد؟ "وبتهكّم" مدام جنان شَوّهت أحلامها الوردية
بتأنيب وهُو يُخْفِض شايه على الطاولة الصغيرة: أنفال من صدقش تلومين جنان على اللي صار!
بخفوت وبصرها مُعَلَّق بنقطة عشوائية على الأرض: لا "نَظرت إليه وبصدق" للأسف هالمرة هي مو غلطانة.. الغلط راكب إختي من راسها لساسها
مَسَّ وَسَط نَظّارته: واللحين شنو بتسوي؟
رَفعت كَتفها: ما أدري.. أنا قلت لها تقعد معاه ويتفاهمون.. لأن هذا اللي مفروض يصير.. بس هي ما أدري شنو في راسها
تَمْتم وهو يَرفع كوبه: الله يسَهّـل
,،
تَقِف على أَطْراف أَصابعها تَتأمّل الأَرْفف المُمْتَدة إلى السَقف.. جَميعها صُفَّت عليها أَكياس مَملوءة بالكوكايين.. المادة التي اسْتطاع رائد أن يُوَفّرها بعد أَن اسْتعان بأحد المسؤولين في الشرطة والتحقيقات.. والذي حَرَصَ رائد على أن يكونَ أَهْلاً للثّقة.. فالخطة سرية جدًا وخَطير جدًا أَيضًا.. والمادة يَجب أن تكون حَقيقة لا يشوبها كَذِب ولا تلفيق.. فَهُم خَصْمًا لسلطان الخَبيـر. صَدَح رَنين هاتفها في المخزن الفارغ إلا منها.. أَخفضت رأسها وأخرجته من جيب بنطالها.. ابْتَسامة ناقعة في المَكر لَوَت شَفتيها عندما لاحَ لها اسْمُ المُتّصل على الشاشة.. بلمسة أجابت قائلة: أنتظر القرار
أَفْصَحَ: طلبش صَعـب
ارْتَفَعَ حاجِباها لتُعَلِّق بَعْدَ أن أَلْبست نَبرتها التّعجب: معقولة كلمة صعب موجودة في قاموس سلطان!
كَزَّ على أَسْنانه بِقَهر حتى أنّ احْتكاكها التَقطته أُذنها، قَبْلَ أن يقول مُوَضِّحًا: اللي تطلبينه معلومات سرية وخطيرة.. وأنا ما أعرفش ذيك المعرفة.. فإنتِ مو ثقة لحد الآن
أَبْدَت رأيها باسْتهتار: جــرّب.. ما أعتقد بيكون الضرر كَبير
بمعُارضة شَديدة: لا تحاولين "أردفَ يُذَكّرها" وترى أنا سلطان.. يعني أقدر بسهولة آخذ المادة.. ولا من شاف ولا من درى.. بس احترامًا لأنوثتش قاعد أتفاوض معاش
كَتَمت ضِحْكتها الساخرة التي بانَت في عَيْنيها وعلى أطراف شَفتيها.. رَدّت شاهِرة سَيفها: إنت جَرّب.. وشوف رجال فرناندو شنو مُمكن يسوون فيك "انتظرت منهُ رَد ولكن لَم يَعبر إلى مَسْمعها غيرَ أنفاسه المضطربة.. لذلك أكملت بسؤال" هــا.. نسيته؟ نسيت فرناندو؟
بهمس: لا
قالت تُنهي الحَديث: زيــن.. خلاص اتفقنا.. راح نلتقي في مكانك في أقرب فرصة.. وراح أطّلع على ملف كل شخص قتلته
كَرَّرَ مُستفسِرًا: كل شخص؟
أعادت بثقة: كـل شخص
قالَ مُحاولاً إقناعها: ترى بعضهم مالهم داعي.. بتضييعن وقتش بس
ارْتَفَع حاجبها وهي تَفهم جَيِّدًا ما يَقصده لسانه العَكِر: وقتي فَرّغته لهذا الشي.. فيعني لا تحاتي
أعادَ كمحاولة أخيرة: اسمعي كلامي.. صدقيني ما بتستفيدين شي من بعضهم
قالت بثقة لطالما اسْتفزّته: ما تدري.. يمكن فايدتي أحصّلها عند بعضهم
أَنهت الاتّصال عند هذه الجُملة دُون أن تَنتظر منهُ تَعقيب.. غادرت الغُرفة مُقفِلة الباب من خَلفها بالمفتاح الذي سَلّمته لأحد العاملين وهي تهمس بحزم: كُن حَذِرًا
هَزَّ رَأسه بطاعة تامة وهي تَجاوزته لتخرج إلى القسم الثاني من المَتجر.. تَوَقَّفَت خَلْف منضدة المُحاسب وبَدأت عَيْناها تَجولان على المَكان ببطء وتركيز.. تُطالع الوُجوه، تَتَفَرَّس فيها.. هذه تبدو طالبة أَتَت تَبحث عن الهدوء والاسْترخاء لِتُمَهِّد طَريق عَقلها لاستقبال المعلومات.. تلك تَعْتقد أَنّها مُوَظّفة اقتنصت بضع دقائق لتهرب فيها من عبء العَمل.. وذلك عَجوزٌ أَجْنبي يَحتسي القَهْوة وفي عَيْنيه تَطْفو ذِكْرى لِزوجة أَكَلَ التُّراب ملامحها.. تلك وذاك وهؤلاء.. وهُو... تَجاوزت المنضدة الطويلة مُتَّجِهة إليه.. صَوْت ارْتطام كَعبها الدّقيق بالأَرض الخَشبية وَصَله.. ورائحة عِطرها سَبقتها وَنَفذت إلى قَلبه.. رَفَعَ رَأسه وعلى شَفتيه ابْتسامة.. هَمَسَت من بين أَسْنانها عندما وَقفت عند طاولته: لاا تَـبـتـسم "مَرَّرَت عَيْنيها عليه من رَأسه حتى قَدميه.. كان يَرْتَدي قَميصًا لهُ لونٌ زَهري فاتح جِدًا.. تَعلوه كنزة صوفية أُرجوانية اللون.. كانت داكنة على عَكس المعطف الرّمادي الفاتح والذي يَصِل إلى نصف فَخذه.. عُنقه قَد أَحاطهُ بشال بهِ خطوط عرضية وطولية تراوحت ألوانها ما بين الأسود والرمادي بدرجاته والأرجواني والأبيض.. قُبّعة صوفية رمادية داكنة تُغَطّي رَأسه.. نظّارة سوداء تُخفي عَيْنيه.. وحذاء رَسمي رمادي.. اسْتَطردت باسْتغراب" ليش هالكثر كاشخ!
أَجابها بهمس ساخِر: يعني متنكّر.. أوامر الأخ عزيز
سَألت وهي تُحاول أن تَتَحَكّم بملامحها لتبدو هادِئة وطَبيعية: ليش جاي؟ "عادَ وابْتَسَم فَنهرته" قــلــت لــك لا تبتسم!
هَزّ رَأسه: أوكي أوكي.. بس ترى ما قدرت أصبر وجيتش اهني "رَفعَ يَده بحركةٍ فاجَأتها مُناديًا" بِـل بليز
ثواني وأتاهُ النادل وفي يَده دَفتر الفاتورة.. سَلّمهُ إيّاه فَأخرَج محفظته.. الْتَقَط المبلغ المطلوب ثُمَّ حَشَره في الدّفتر لِيُعيده للنادل بابْتسامة.. وَقَفَ تَحت نظراتها المُسْتَنكرة وهُو يُعيد المحفظة لجيب معطفه ويُبقي يَدهُ هُناك.. فهي لا تَدري لِمَ هُو هُنا.. ما هُو سَبب مَجيئه.. ولِمَ خاطَر في القدوم إليها في متجرها؟! تَساءَلت: بتروح!
هَزّ رَأسه مُجيبًا بنبرة واضحة للطاولات القَريبة: اي نعم.. لكن طبعًا الزيارة راح تنعاد "أشارَ بإصبعه للمكان مُرْدِفًا بإعجاب" المكان راقي والخدمة مُمتازة.. فيه دفء ورُقي.. لازم الواحد يزوره مرة ثانية "ابْتَسمَ للمرة الثالثة في الوَقت الذي أَخْرَجَ فيهِ يَده من الجَيْب مُبادِرًا في المصافحة وهُو يَقول" شُكرًا إخت وَعد على الدعوة.. المرة الجاية أنا وزوجتي بنزور المحل.. طبعًا إنتِ وياها راح تتفقون على اليوم والوقت
حَرَّكت يَدها.. وبتَرَدّدٍ كَبيـر مَدَّت يَدها وصافحته.. تَصافقت أهْدابها بحركة لا شعورية فَشَلت أن تُسَيْطر عَليها.. ابْتَسَمت برجفة بسيطة وهي تُقول: المكان مكانكم.. حيّاكم أي وقت.. نتشرف فيكم
أَوْمأ لها بلباقة ثُمَّ تراجع خطوة للخَلف: نلتقي
بادلته التحية: مع السلامة
لَم تنتظره حتى يخرج.. فهي فَور ابْتعاده قَفلت راجعة للقسم الداخلي من المتجر.. انزوت بَعيدًا عن الأنظار لتَسْتَكشف ما خَبّأَهُ بَين خُطوط يَدها.. كانت قطعة منديل مطوية.. نَظرت لزاويتها.. شعار متجرها.. فَتحتها سَريعًا ليَصْطدم بَصرها بكلمات كَتبتها يَده.. تَخَبَّطت عَدستاها على المكتوب.. اتَّسَعت حَدَقتاها تُريد أَن تَسْتوعب الذي أمامها.. تَعَلَّقت بالكلمة الأولى تُعيد القراءة ببطء وتركيز شديدَيْن.
" سلطان على بُعْد خطوة وحدة من مقصلة الإعدام.. لقينا كنز!"
,،
أَغلَقت الباب وعَدَستاها تَتَقلقلان بَحْثًا عنه.. فَسَيّارته كانت مَرْكونة في مكانها. خَلَعت حذائِها.. وَضعته في مكانه ثُمَّ ارْتَدَت خُفّها المَنزلي.. تَقَدّمت للداخل وبيديها تُزيح عن رأسها حجابها وتَفْتح أَزْرار عَباءَتها.. لَم يَكُن في غُرفة الجَلوس.. نَظَرت للغرفة.. الباب مُشَرّع.. هَمَّت تَقصدها لكن حَركة على يَمينها أوقفتها.. التَفتت.. كان هُو خارج من المَطبخ وفي كَفّه اليُمنى كُوب يَرْتفع منهُ البخار وبين إصْبعيه سيجارة تَشْتعل.. زَفْرة مَشوبة بالقَلق غادرتها لِتَتَمَدّد الرّاحة وَسَط رُوحها.. هَمَست وهي تغمض لثواني: الحمد لله
ابْتَسَمَ لها وقدماه تَتحركان إليها: يعطيش العافية
تَجاوزت التعقيب على جُملته لتؤنّبه بزَعل: حـرام عليك.. والله مت من الخوف عليك.. من البارحة وإنت برا البيت
بَرّرَ بِحَرَجٍ كَسى عَيْنيه: أنا كتبت لش إني بخير وبتأخر عشان لا تحاتيني
والضيق يَحشو صَوْتها: ما توقعت تطوّل هالكثر "وبسؤال مُسْتَنكر" ويـن كنت أصلاً كل هالمدّة!
أَجابَ وهُو يَستدير ليَجلس على الأريكة: في بيتكم
جَلَست بجانبه وعُقْدة بين حاجبيها: ليش؟ مو خَلّص بحثكم هناك؟
حَرّك رأسه: لا.. قَرّرنا نحاول مرة ثانية "وبابْتسامة جَانبية" ونجحت محاولتنا
أَرْفَعَ التّعجب حاجبيها: والله!
وَضَع الكُوب على الطاولة القَريبة مُجيبًا بنبرة اتَّضَحَ فيها الإعجاب: أبوش الله يرحمه ذكـي ملاك.. ذكـــي
وَجَفَ قَلْبها لِذكره المارَ كَنسيمٌ يُحَيّيها.. ازْدَردت ريقها لتهمس: الله يرحمه "اسْتفسرت وهي تُطالعه وجميع جوارحها مُنتبهة" شنو صار هناك؟
اسْتَنشقَ من سيجارته ثُمَّ نَفَثَ الدّخان ليُجيب: حَصّلنا صندوق كبيــر مدفون وسط الحديقة
كَرّرت باستْغراب: صندوق! شلــون؟! شدراكم أصلاً إنّه مدفون هناك!
وَضّح بإسهاب: الموسيقى دلتنا عليه.. من بعد ما شغّلنا الساعة كانت تدق بالموسيقى كل ما اكتملت ساعة.. وصوتها مرتفع بطريقة مبالغ فيها.. انتبهت إن الصوت يوصل لكل مكان في البيت.. كل زاوية فيه.. حتى يوم كنا نبحث فوق كان يوصلنا الصوت.. ففكرت إلى أي مدى يقدر يوصل؟ فطلعت بخط مُستقيم من الساعة لين برا.. وآخر مكان وقفت فيه كان تحته مدفون الصندوق.. وكان واضح جدًا إن هو المكان اللي أشار له أبوش.. لأن ترتيب الطابوق فيه كان عشوائي مقارنة بباقي الأرض
هَمَسَت بابْتسامة خفيفة وهي تَتأمّله: إنت بعد ذكي
أَشارَ لرأسه: هذا تبرمج من كثر التدريب
اسْتفسرت باهتمام: زين شنو شفتون فيه؟
أَجابَها: الصندوق فيه مُذكرات أبوش.. فوق العشرة دفاتر.. مكتوب فيها كــل شي من بداية توريطه بالشغل لين قبل يوم من وفاته.. والأهم من هذا.. موجود فيه ملفات لكل ضحية قَضت عليها الأدوية والعقاقير اللي كان يُرغم على صنعها.. الملفات تحتوي أسماؤهم بصورهم وبمعلوماتهم الشخصية والدقيقة جدًا.. وحتى بصماتهم وفصائل دمهم.. وهالأشخاص أغلبهم اختفوا في ظروف غامضة.. والأهم والأهم من كل هذا
سألت وأنفاسها تَشْخب من رئتيها: شنـ ـ... ــشــنو؟!
ابْتسمَ بفخر: لقينا فيه أشرطة مسَجَّلة فيها كل اجتماعاته ومُحادثاته اللي بينه وبين سلطان في المكتب
رَفعت ساقيها فوق الأريكة لتستقر على رُكبتيها وتُقابله بتحفّز نَضَح من حواسها: سمعتونها؟ قريتون كل شي؟ اطلعتون على كل شي؟
نَفى: لا.. واجـد هُم ما يمدينا في قعدة وحدة نسمعهم.. تفحصنا القليل وكانت مصــايــب.. وأتوقع الباقي ما يقلّون عنهم من حيث عُظم المصيبة
ارْتَدَّ ظَهرها للخلف وبَصرها دارَ بتيه وهي تهمس بنبرة غالها الذّهول: يــا الله... يــا الله! أحس كأنّي في حلم.. كابوس كابــــوووس!
ارْتَشَفَ من كُوبه ثُمَّ وَضَّحَ: هذي الحقائق تعزز من التهمة الموجهة لسلطان بخصوص مقتل والدش.. ما نقدر نعتبرها الدليل القاطع.. بس بلا شك بتوصّلنا له في وقت قَصير بإذن الله
أَمَّنت: يــا رب.. إن شاء الله
تَأمَّلت الفراغ لثواني تُرَتِّب أفكارها وتُعيد ضَبْط سَيْر أنفاسها؛ قَبْلَ أن تعود لتنظر إليه وهُو يُمارس إحدى هواياته.. هوايته الخطيرة وذات الرائحة الكريهة والخانقة.. مَدّت يَدها وعلى غفلة منه التَقطَت السيجارة من فَمه.. نَظَرَ لها بعدم استيعاب قَبْلَ أن يهتف مُسْتَنكِرًا وهُو يراها تُطْفِئها في منفضة السجائر: ليـــش!
وَقَفَت مُجيبةً بحاجب مرفوع ونبرة حازمة: لأنّ مئة بالمئة معدتك فاضية.. فمو زين لك تدخن.. وبعدين عشان تقوم تساعدني في طبخ الغدا عقابًا لك على غيابك الطويل "وبابْتسامة مائِلة" وعشــان تقول لي بالتفصيــل المُمل شنو فيها الملفات والأشرطة
,،
مُوسيقى تَحْملها على زَوْرَقٍ من أَلْحان يَجوب الأَنهار.. تَبْتَل أَطراف أَصابع قَدَميها من ماءَها العَذب.. تَنتشي رُوحها لِتُحَلِّق إلى سَماء صافِية.. تَسكنها سُحُبٌ قُطنية وشَمسٌ تُهدي البياض والدّفء.. كانت الموسيقى تُحيي في نَفْسِها هذا الإحساس الخاص.. أَما الآن.. وَبَعدَ الذي حَلَّ بها.. الزَّورق تَحَوَّر إلى قِطعة خَشَبِية مُهْتَرئة.. والأنهار صَيَّرتها دُموعها أُجاجًا.. وأَصابعها.. أَصابعها رُبَّما هي تَبَلّلت من سُيول عَيْنيها.. إلا أَنّها لَم تَشعر بالبَلل قَط... لا سَماء ولا بَياض.. أَرْضٌ قاحِلة في كُل مَرّة تُحاول الهُروب منها يعود عَجْزها ويُطَوّح آمالها بَين عَرصات واقعها المَرير. كانت تَتَوَسَّط غُرفة الباليه الخاصة.. على الكُرسي المُتَحَرِّك جالِسة.. تُمَرِّر عَيْنيها بِيَأسٍ كالح على المَكان.. وَجْهها قَد غابَ لَوْنه.. فَأخذَ الشّحوب والاحْمرار يُعَرْبدان بَين طَيّات ملامحها الواهِنة. هي تَبكي كُل يوم.. وتَشعر بالعجز في كُل ساعة من اليوم.. بائسة يائسة حَزينة وبَليدة.. الغُرور انتحر من القَفا.. انتَحَرَ وهو مُولِيًا العالم ظَهره.. مُخَبِّئًا كَسْرَه. لَم تَعُد حَنين.. نَسِيَت اسْمها وانسَلخت عن معانيه.. فَلم تَعُد تَحِنُّ لِنَفسها.. لتلك التي كانت.. فَضَّلت أَن تُغرِق وَعيها في هذا المُستنقع الذي يَعج بكُل ما هُو سَيء.. كأنَّما تُخَدِّر حَواسها لكيلا تَعي حَجْم الوَجع الجاثم فَوْقَ وُجودها. هي ببساطة تَنازلت عن ذاتها ومَضَت تُساير الدّنيا بَجَسَدٍ مُجَوَّف.. فارغ من كُل شيء.
: حَنين
رَمَشَت بِبطء.. كما لَو أَنَّ رِياح المَوْت حَرَّكت أَهدابها.. رَفعت يَدها وبالبطء ذاته مَسَحت دُموعها بظاهر كَفّها.. كانَ ظَهرها له.. لذلك استدار حتى يُقابلها.. نَظَرَ إليها.. تَضَخَّم قَلْبه وأَنَّ أَنينًا هامِسًا.. كانت مَيّتة.. مَيّتة ولكن عارية من كَفَن. قَرْفَصَ حتى يُوازيها.. رَسَم ابْتسامة خافتة وهو يَتساءَل: متى تبين تجهزين؟
عُقْدة خَفيفة بين حاجبيها وسؤالٌ مَشروخ الصَّوت: أتجهز لشنو؟
وَضَّحَ: لبيت جدش.. ناسية؟
تَراكمَ الجليد على وَجهها: ومن قال بروح؟
رَدَّ بسؤال: وليش ما تروحين؟
نَطَقَت والبرود يُسْتَفرغ من عَيْنيها: ترى ما لي خلق لمحاضرة الإيجابية والتفاؤل
أَنهت جُمْلتها ثُمَّ أَدارت المقعد عن طريق أداة التّحكم المُستقرة عند يَدها.. تَركت غرفة الباليه وهُو خَلْفها يُحاول إقناعها: حَبيبتي العزيمة عشانش.. مو حلوة ما تروحين
عَقَّبَت بحدّة وهي تَلتفت لترنو إليه بطرف عَيْنها: ما أعتقد في شي تغيّر في حياتي يستاهل إن يسوون على شرفه عزيمة!
بمحاولة ثانية: بس حَنين ما يصـ
قاطعته وهي تَرى سَرير طِفلها فارِغًا: وين ولدي؟
نَطَق باسْمها راجيًا: حَنيــن
كَرَّرت بنبرة تُنهي النقاش بل وتَنسفه: ويــن ولــدي؟
زَفَرَ قِلّة حيلته ويَده ارْتَفعت لِتَتخلّل أصابعه خصلات شَعره مُتَرْجِمَةً حيرته.. أَجاب بهدوءٍ خَبّأ خَلف ظَهره غَصّته: عند أبوي.. قَبل شوي جا وأخذه
هَزّت رَأسها: زين.. أنا بنتظر ولدي يرجع وبقعد معاه وبهتم فيه "وبعدم اهتمام وهي تُحَرِّك يَدها في الهواء وبَصرها يَتجاهله" إذا إنت تبي تروح العزيمة روح.. مو محتاجين لك
رَجْفة مُوْجِعة ضَربت قَلْبه.. زَلْزَلته وأَرْبَكت الدّماء القادمة منه وإليه.. حَتَّى نَبْضه تَخَبَّط ما بين حُجراته.. هُما لا يَحتاجان إليه.. هي زوجته.. وهُو ابْنه.. لا يَحتاجانه.. على الرّغم من عَجزها الجَلي إلا أَنّها نَطَقَت بهذه الكلمة.. لِمَ كُل هذه القسوة؟ لِمَ أنتِ قاسية هكذا حَنين؟ تَذَوَّقتُ لُطْفكِ لبُرْهة.. لَم يُسْعفني الوَقت لاجْترعه على مَهْلٍ ولذّة.. وها أنتِ تُسارعين لِحَشر العَلَقم في حَلْقي.. فَيبقى هُناك.. لا أنا قادِرٌ على ازدراده.. ولا أنا قادرٌ على استفراغه.. فلكلا الفعلين نتائِج وَخيمة سَتفتح جِراحًا في ذاتي.. نَعم ذاتي.. أوَلستِ أنتِ ذاتي؟ فأنا لَم أعرف ذاتًا غير تلك التي قُيِّدت بكِ.. لا ماضيًا ولا حاضرًا.. وأَسَفًا أَنّي لا أعلم، هَل سأمضي للمُستقبل والقَيْدُ حُرّيتي؟ أَم أَنَّ القَيد سَيُكسَر وقَسْوتكِ سَجّاني؟
أَغلق باب الشّقة.. هَبَط السّلالم بكاهلٍ مَحْني.. لَم يَسْتطع المُواصَلة فَجلسَ على إحْدى العَتبات.. اتّكأ بمرفقيه على رُكبتيه سامِحًا لكفّيه أَن تَحتويان شَتات ملامحه.. أَفْرَغ زَفرات رُوحه التي تَتوالد مع مرور الثواني.. يُفْرِغ عَشْر.. فتُولَد عَشرات.. في هذه اللحظة كانت تُراوده رَغْبة بالبُكاء.. يَسْمع صَوْت قَلْبه كَمانًا يَجُر لَحْنَ كَمَده.. في صَدرهِ اعْتَرَكت الأَوْجاع تَتَساءَل إلى أَيْن السَّبيل؛ فَداخلهُ مُزْدَحِم! حائِرٌ والطُّرق سُدَّت أَمامه.. كَيف يَتصرف؟ ماذا يقول؟ إلى أَي مَدى سَتَصْبر رُوحه؟ وجَواه.. هَل جَفَّ نَبْع نَبضه؟ لا جَواب لديه.. لا يدري.. لا يعلم.. هُو غائرٌ في الضّياع... لا يدري ماذا يفعل.. لا يدري.
: بسّـام!
مَسَح وَجْهه براحتيه قَبْلَ أَن يُخْفضها لينزاح السّتار عن الصّخب المكتوم والمُتَخَثِّر أَسْفَل جِلْده على هَيئة احْمرارٌ يُوحي بالاختناق.. أَلْبَسَ شَفتيه ابْتسامة ليس فيها من الحَياة شَيء: هلا منال.. شلونش؟ من متى إنتِ اهني؟
أَجابتهُ وعَيْناها تَتَفَحّصان مَلامحه بدقّة: من شوي "أَشارت لحُسين الباكي " صاح شكله جوعان.. قلت أنا بركبه ومنها أشوف حَنين
اسْتلمهُ منها وهو على جلوسه، قَبّلَ رأسه بخفّة ثُمَّ قال: أنا كنت نازل آخذه
اسْتَقَرَّت بجانبه مُتسائِلة باهْتمام: بسّام شفيك؟ وجهك مو طبيعي
وَرأسه مُنخفض لرأس ابْنه الذي هَدأ ويده الكبيرة تُداعب قبْضتيه الصّغيرتين: شوية تعب
اسْتفسرت: إنت تداوم؟
نَفى: لا... للحين إجازة
ضَيّقت عَيْناها: مو جنك طَوّلت؟
وَضَّحَ: بدون راتب
هَزّت رأسها بتفهّم: أوكــي "تساءلت لتطمئن" وشلونها حَنين اللحين؟
رَفع كتفه: الحمد لله
سؤال آخر: تروح للعلاج الطبيعي؟ "همهم بإيجاب فأردفت بسؤال جَديد" والعلاج النفسي؟ "التَفَتَ يُطالعها بنظرة استغراب تَوقعتها.. ابْتسمت مُوَضِّحة" أبوي قال لي.. وأساسًا الشي واضح.. نتايجها وتحاليلها سليمة.. فأكيد السبب نفسي
هَمَسَ بحَذَرٍ تُخالطه نَبْرة رَجاء: لا تجيبين طاري قدامها
أَكّدت: طَبعًا بسّام.. ما بتكلم.. أعرف شخصيتها وأدري شكثر الموضوع حسّاس بالنسبة لها
ابْتسم بخفّة وبذات الهمس المُتعَب: غريبة متفهمتها هالمرة!
عاتبته: بسّام شهالحجي؟! تحسسني جني ما عندي قلب.. هذا مرض.. مُستحيل أتشمت عليها.. وبعدين خلاص.. تفاهة قَبل انتهت.. واحنا ما شفنا منها مضرة ولا احنا ضريناها "وبيدها تَمسح على شَعر الصّغير لتُكمل بابْتسامة مُحِبّة وَحَنونة" واللحين هي أم ولدنا.. اللي بيحمل اسم عايلتنا
بابتسامته الشاحبة: زين.. الله يهديكم ويهديها "وَقَفَ وهي وَقفت مَعه.. مَدّ لها الطفل" اخذيه وديه لها.. أنا بتصل لعمتي
,،
أَنهت المُكالمة ثُمَّ أَخْفَضَت الهاتف وعَيْناها مُتَعَلِّقَتان بالشاشة.. كانت تَنظر لها بملامح واجِمة وشَفتين مُطْبَقَتَيْن.. أَتاها سؤال عن يَسارها: أم حَنين شنو فيش؟
التَفتَتَ لها.. كانت أُم مُحَمّد.. أَجابت بنبرة خاوية: لا ولا شي.. بس بسام كان متصل.. يقول ما راح يجون "تَنَحنحت" حَنين ما تبي تجي
قالت تُطَبْطب على قَلَقِها بكلماتها: ما عليه.. إنتِ لا تتضايقين.. أكيد هي في البداية ما بتعرف تطلع من البيت وتعيش يومها بشكل طبيعي.. تحتاج تتأقلم على الوضع
رَفَعت يدها وبظاهر سَبّابتها تَشَرَّبت دَمْعة التَمعت عند مؤق عَينها.. وبهمسٍ مُتَعَثّر: خـايـ ـفة على بنتي
شَدَّت على ساعدها وهي تُغدقها بلطف حَديثها: لا تخافين.. صدقيني مسألة وقت وكل الأمور بترجع لسابقها.. إن شاء الله بالعلاج بتتشافى رجولها وبتقر عيونش بشوفة مَشيتها
ازْدَرَدت غَصّتها المُتكوّرة في حَلْقها مِثَل حَجر قَبْلَ أن تهمس: إن شاء الله.. الله يسمع منش
جنان التي كانت الأَقرب لهما اسْتدارت لبنات أترابها تهمس لهن: حَنين ما راح تجي
غَيْداء باسْتنكار: بس العزيمة عشانها.. عشان سلامتها!
عَبَّرت جُود: أكيد ما راح تجي.. أنا كنت متوقعة.. يعني كلنا متجمعين وبتجينا أول مرة اهني بالكرسي.. أي وحدة بتتحسس.. بعد مو حَنيــن!
مروة التي تَتسامر معهن للمرة الأولى منذ زواجها، قالت بنبرة هادئِة تَنِم عن الفَهم: مُشكلتها لها حل.. مو شي مُستعصي.. وأول وأهم حل لها النفسية.. إذا نفسيتها ظلت جذي ما راح تتحسن.. بل مُمكن إنّ حالتها تتردّى
عَقّبت غيداء بخوف: اسم الله عليها.. لا إن شاء الله بتصير زينة "وبتوضيح" بس شوي هي صعبة حنين.. واثقة من نفسها بطريقة قوية.. فاللي صار لها صَدمها.. عشان جذي تأقلمها صاير صعب
ابتسمت لها مروة بود: الله يشافيها
رَدَّدن: يـا رب
: السلام عليكم
رَدَّ المُتواجدون السّلام.. وجُود رَحّبت بحفاوة: هـــلا بالحامل والمحمول
شاكسها وهُو يقترب ليُسَلّم على الجَدّة: يعني أنا ما لي هلا؟ مو مرحّب فيني؟
بصراحة وهي تَبْتسم في وجهه ابتسامة عريضة: أَقدر أعيش من غير شوفتك.. بس ما أقدر أعيش من غير شوفتها!
هَزّ رَأسه يَدّعي الرّضوخ لرأيها: والله إنش صادقة.. في هذي ما جذبتين.. العيشة من غيرها ما تسوى!
وَقَفت غَيْداء لتُسَلّم عليه قَبلَ أن تقول ضاحكة: أقول اثقل شوي وتعال سلّم على ماما عودة.. تسأل عنّك
اقْتَرَبَ من الجّدة، انحنى عَليها مُقَبِّلاً رأسها: السلام عليكم يُمه.. شلونش؟
أَرْجَعت رَأسها للخلف وهي تَرْفع غطاء رأسها المُلَوّن والمُمتد حتى نصف جسدها؛ لِتحجب به جانب وَجْهها وفمها وجزء من أنفها.. أحْنَت عُنقها قَلِيلاً وعَقَدَت حاجِبيها لتنظر له بتدقيق.. هتفت بعد ثواني: طـــلال!
ضَحكَ: زين عرفتيني يعني؟
أَجابت: ايـــه، عرفتك من عيونك المولعة "هاجمتهُ بلا مُقدّمات" شفيـك اللحين ما قمت تجيب لنا سمج؟ يعني أخذت نور وبــس.. خلّصت أمورك ويانا ونسيتنا؟
مَرّر لسانه على شفتيه بحرج ثُمَّ قال بتوضيح: لا أفا يُمّه ما أنساكم.. بس اللحين أنا أشتغل.. ودوامي زامات.. فما يمديني أروح البحر كل يوم.. وأنا أصيد.. بس تدرين ما أبي أييب لكم إلا الشي الزين والراهي.. مو أي شي
أشاحت عنه قائلة بعدم تصديق وغطاءها لا يزال حاجِزًا: اي اي قص عَلَي يا العيّار
ابْتسم: والله يُمّه "وبمُراضاة ونبرة وَعد" بس ولا يهمش.. إن شاء الله باجر بطب البحر وبييب لش ذاك الهامور اللي يحبه قلبش
نَظَرَت لهُ للحظات بصمت قَبْلَ أن تبتسم عَيْنيها اسْتجابةً لابتسامة شَفتيها المخفيتين: زيــن.. بنشــووف يا ولد حنان
اتّسَعت ابْتسامته بزَهو.. فهو يَعشق هذه المُناداة.. ولد حنان.. تُعيد بَثَّ شُعور الانتماء إلى والدته في داخله.. وهذه الجدة اعتادت مُذ كان طِفْلاً أن تُناديه بهذا النداء المُميز. تَحَرّك مُسَلِّمًا على أم فيصل.. صافحَ أُخته بصمت.. ولوّح للباقيات قَبْل أن يتّجه إلى حيث يجلس الرجال على الطرف الآخر بَعد أَن ألقى نَظْرة وابْتسامة على نُور الجالسة بين قريناتها. عَلَّقَت غَيْداء بابْتسامة: يطلعون قلوب من عيونش نُــوورو
تَنهيــدة عَميــقة.. خَفيفة ومُسْتأنِسة كانت تعقيبها.. ضَحكن جَميعًا وهي شاركتهن الضحكة بخجل. أَرْخت مروة ساق على الأخرى قَبْلَ أن تُفْصِح بنبرة ناعمة: اللحين يوم شفته تذكرت إنّي شايفته من قبل
اسْتغربت غيداء وبتساؤل: وين؟
أَجابتها: في المُستشفى "حَرّكت عَدستيها الزُمردتين لنُور مُواصِلة مرامها الخبيث" كان يجي يوقف عند مكتب نور.. وإذا نسأله تبيها نناديها.. يرفض ويطلب مننا ما نقول لها إن شفناه
زَفَرَت غيداء لِتُعَلِّق بكلمات لَم تَتوقعها مروة: والله طلالو طلع مفشلنا مع الكل والجميع.. حتى مروة كانت شاهدة على غرامياته!
ضَحَكت نُور: اعترف لي "أَكْمَلَتْ وبتلات زَهْر خجولة تُعانق وجنتيها" حتى يقول كان متفق مع وحدة من الممرضات الأجنبيات يعطيها فلوس عشان تنقل له أخباري
ضحكن الفتيات وجود تساءلت: أرجوش قولي لي جم كان يعطيها؟
وهي بالكاد تَتشبث بضحكتها: ثلاثة دينار
اعتلت ضحكاتهن حتى أن الجَدّة زَجرتهن.. جُود بتعليق بالكاد خَرَج من بين قهقهتها: والممرضة حضرتها وافقت! المبلغ حتى ما يجي ربع ربع ربع معاشها!
ضَحكن وزَجرة الجدّة أَجبرتهن على ابتلاع الضحكة: قصروا حِسْــــكم عن الرجال
عَضَّت جِنان شَفتيها ثُمَّ هَمست: أووه عودوه عَصّبت من صدق "قالت تُحادث نُور" لكن زين وقتها محد غير شافه.. جان صارت مُشكلة
غيداء بتأييد لمقصدها: ايـــه الحمد لله
نُور وبقايا الضّحكة ترتوي من شَفتيها: الحمد لله "التَفتت لمروة الغارقة في بَحر الصدمة شَديد الملوحة لتقول بلُطف وابْتسامة ودودة" شُكرًا مروة لأنش حزّتها حفظتين سره
ابْتَسَمت لها بارْتباكِ وملامحها قَد اضطربت من التأقلم الغريــب الذي كان باديًا في حديثهن ومُحيّاهن.. لَم تَتوقّع ذلك.. فهي رَسَمت في عَقلها تَصَوّر لردة الفعل التي سَتعيث فسادًا بملامحهن إذ هي أَفصحت عن أي كلمة بخصوص هذا الموضوع.. لكن يبدو أَنّهن تصالحن مع أنفسهن ومع بعضهن البعض بسرعة فائقة! ونُور.. نُـــور.. اللطف ينهمر من عيْنيها! معها ومع غَيْرها.. لُطْف لا يَقوى البياض المسجون في قَلْبها على تَجاوز حَلاوته أو مُقاومة جاذبيته.
,،
يتبع
تَوكلتُ على الله
الجزء الثامن والخَمسون
الفَصل الثاني
الفَجْرُ حَلَّ مُنذ أكثر من ساعة.. السّماءُ أَكثرُ صَفاءً.. والليْلُ ازدانَ بهدوءٍ يَبعثُ على الاسْترخاء. الصّفاء في جَوْفهم مياه آسنة تُعَكِّر الأفكار.. والهُدوء لَم يَطأ حواسهم بَل ونَسوا مَعناه. حَفروا الأَرض.. أَمروها أنَ تَسْتَفْرِغ رِمالها لِيَصِلون إلى لُبِّ الحَقيقة.. كانوا مُنْهَمِكين في البَحث عن الذي أَشارَ إليه صالح بسريّة تامة.. إلا أنَّ الساعة التي مَضت دُون أَن يعثرون فيها على طَرَفِ شَيء، سَلّلت إلى نَفوسهم الخَيْبة.
نَطَقَ عَزيز ويَده تَشُد على عُكّازه: مو معقولة ما في شي.. الحفر تجاوز المترين!
رَفَع رأسه رائد والذي تَفَصّد جبينه عَرَقًا مُعَقِّبًا بصوتٍ عالي: حدنا ثلاثة متر.. إذا ما حصّلنا شي.. بنوقف
قالَ بِعُقدة حاجِبَين: بس لازم فـي.. الموسيقى وارتباطها بالعصابة.. وصوتها العالي بطريقة غريبة.. وطابوق الأرض.. لازم يشيرون لشي "نَظَرَ إلى وَجهي رائد ومُحَمّد مُتسائِلاً" تتوقعون أخطأنا في فهم الإشارة؟
مُحَمّد بنبرة واثقة: لا
تساءلَ رائد: شدراك؟
شَدّت شَفتيه ابْتسامة جانبية وهو يَضرب المَجرفة بشيءٍ صَلب تُواريه طَبقة خَفيفة من الرّمال.. صَرَخ رائد بحمـاسٍ خَشِن: بَعـــد قلبي باتمان والله
عَزيز تَساءَل من مكانه وهو الذي لَم يَفهم شي: شنـــو؟ شصــار؟ "لَم يَصَله رَد من الاثْنين.. لذلك صَرخ" يا كلا.... قاعد أسأل ردوووا
: قَصّر حسّك الناس نايمين
سَأل رائد الذي تَسلق الحَبْل المربوط بالنخلة القَريبة والمُمتد لداخل الحفرة: شصار؟ شنو شاف محمد؟
هَمَسَ رائد وهو يُحرّر خِصره من الحَبْل ليُلقيه إلى مُحَمّد المُنتظر في الأسفل: انتظر.. دقايق وبتعرف
شَدّ قَبْضته وهُو يَحْبس غَضبه وقدمه السليمة تَضرب الأرض برتم مُتَوَتّر في انتظار ما قَصدهُ رائد. مَضَت دَقيقة حتى تَسَلّق مُحَمّد حَبله المَعْقود بشجرة على اليسار.. فَكَّ عُقدته ثُمَّ مُباشرة اتّجه إلى حيث يَقف رائد لِيَتشارك معه جَرّ الحَبل إلى الأعلى. تَطَلَّعَ لهما عَزيز.. على الرّغم من برودة الجَو إلا أَنّ بَطن الأَرض حَفَّزت مساماتهما على صَبِّ العَرق.. وَجْهَيهما اصْطبغا بحُمرة ازدادت وهُما يَجُرّان بقوّة ما عُثِرَ عليه أَسْفَل الأَرض.. هَمَسَ يَسأل نَفسه هذه المرة: شنو مُمكن يكون؟
لَم يَحتج أَن يُرْهِق عَقله أكثر بالتَّفكير.. فالذي اسْتَقَرَّ على الأَرْض المأهولة بالرّمال كان الجَواب.. اقْتَرَب منه وتَعليق رائد الهامس يَصله: يا الله.. شكبــره!
مَسّهُ بخفّة بطرف عُكّازه.. قَبْلَ أن يَضرب جانبه وسَطحه وهو يَقول: شغل أَوّل.. صامِد كل هالسنين تحت الأرض.. قَـــوي!
قال مُحَمِّد مُشيرًا لقفله الكَبير: واضح إن المفتاح له
ابْتَسَمَ عَزيز بسعة: واضــح جــدًا
قَرْفَصَ مُحَمّد بجانبه بعدما تناول المفتاح من عَزيز.. نَظَرَ إليه.. أو لنقول نَظَرَ للصندوق الضَّخْم.. صندوق من الخَشب القَديم ذو المَتانة والصلابة التي تَجعلهُ صامِدًا على مَرِّ السنين.. لَونهُ البُني الدّاكن مَسختهُ رَمادية الرّمال.. والمسامير الذهبية التي تُطَرِّز حَوافه قَد طُمِسَ الْتماعها بَعْد أَن هُجِّرَت بَعيدًا عن مَوْطِئ الشَّمس.. وكان في وَسَطهِ يَقْبَعُ قِفْلاً.. كَعُقْدٍ يَتَوَسَّطَ نَحْر أَنثى مُدَجَّجة بالأَسرار. حَشَر المفتاح في القفل.. ابْتَسَمَ الثلاثة.. فَلَقد كانا مُلائِمَين لبعضهما البَعض.. صُنِعا لِيُكَمِلا بَعضهما البَعض. أَدار المفتاح.. صَوْت انفتاح بوّابة الحَقيقة طَرَقَ هُدوء الفَجْر.. أَزاحَ القفل والنّبضات تَعدو.. رَفعَ المقبض.. فَتَحَ باب الصّندوق.. فَتَحَ الكَهْف الذي انطوت فيه اعْترافاتٍ وأَدِلّة لَم تَخْطر على بالِ أَحد قَط. غاصت أيدي مُحَمّد ورائد وَسَط الغنائِم التي عَثروا عليها داخل الصندوق.. قالَ رائد بذهول وهُو يَرْفع أَحدها: ولا في الأحلام!
هَمَسَ عَزيز بِعَيْنٍ وامضة وابْتسامة تَشوبها الحَسرة: خَسارة على ذكائك يا صالح.. خَســـارة!
,،
صَباحها كان رَمادي.. خانق.. مُوحِش وكَئيب.. فَراغٌ عَظيم يَبْتلعها.. من الخارج والداخل.. مَعِدَتها تُعاقِبها بآلامٍ مُزِعجة.. فهي لَم تأكل شيء منذ يومان.. فَقَدت شَهيتها عندما وَجَدت نَفسها أَمام طَريق مَسْدود.. الأفكار أَصابها الشَلَل.. والأَمل بَصَقَ آخر قَطرة شَمْع ثُمَّ انْطَفَأ. كانت مُتَكَوِّمة على نَفسها وَسَط السَّرير.. مُلْتَحِفة بالكامل حتى أَسفل أنفها.. تُحَمْلِق في اللا شيء والسكون يَسْبح حَوْلها. طُرِقَ الباب ثُمَّ فُتِح.. تَقَدَّم الداخل بَعد أَن أوصد الباب من خَلفه.. كانت شَقيقتها.. جَلَست على السرير بجانبها وكَفُّها قَصَدت شَعرها تَمسح عليه وهي تَتساءَل بهمس: ما تبين تاكلين شي؟ "بالكاد حَرَّكت رَأسها بالنفي فأَفصحت هي عن سؤال آخر" ما بتكلمين زوجش؟ "أَغْمَضَت وملامحها تَتَصَدّع بلا إرادة منها.. أكملت بنصيحة" حَبيبتي لازم تقعدون مع بعض وتتفاهمون.. ما يصير تظلون جذي.. هو جاش اهني ورفضتين تشوفينه.. وكل يوم يتصل.. وإنتِ حاقرة.. الحقران مو حل يا ياسمين
مَرَّت نصف دقيقة صامِتة قَبْلَ أن تُبْصِر ياسمين وتَنطق بصوتٍ التهمتهُ البَحّة: الطلاق هو الحل... بـس... ما أبي أكون مُطلقة!
واجهتها بسؤال وهي تُشْبِك العَين بالعَين: تبين تكونين ضُرّتها؟ ضُرّة جِنان؟
تَعَثَّرت أنفاسها وملامحها اعْتراها تقطيبٌ حاقِد: لا تطرين اسمها.. أكرهــهــا
قالت تُذَكّرها: ياسمين.. أنا قبل الملجة سألتش.. متأكدة يحبش؟ متأكدة يبيش؟ متأكدة نسى طليقته؟ وجوابش كان اي.. فهي مو ذنبها إذا كنتِ إنتِ تجذبين على نفسش.. هي في النهاية أُم.. وبتقدّم مصلحة بنتها على مصلحتها وعلى مصلحتش اللي ما تهمها أصلاً
هَمَسَت بنبرة تُقَطّعها الغَصّة والدَّمعُ يُشاكس مُقلتيها: مو عشـ ـان بنتها.. هي للحين تحبه
عارضتها: امبلى.. عشان بنتها.. مهما كان حُبها له.. فهي ما كانت بتقدم على هذي الخطوة وبهالسرعة إلا لمصلحة بنتها.. تبيها تعيش حياة طبيعية حالها حال باقي الأطفال "أَفصحت عن وجهة نظرها" أنا تعرفين مشاعري تجاهها بعد اللي سمعتيه مني.. وأنا مو قاعدة أدافع عنها.. بس هذا الصدق.. وإنتِ لازم تقتنعين فيه وتوقفين جذب على نفسش "قَذفتها بالحَقيقة التي لطالما جاهدت لتَتغاضى عن لَهيبها" فيصـل يحبها.. يحب جنان وعمره ما نساها.. واللحين مدام رجعت له فهو مُستحيل يتنازل عنها.. راح يعيش معاها ومع بنته للأبد "تَجَلّدت قِسْرًا عندما أَخفت شَقيقتها الصُغرى وَجهها بكفّيها واسْتَهَلَّت بُكاءً حَزينًا.. وَقَفت لتُردف بنبرة جادّة ونصوحة" فكري عدل.. فكري بعقل وصمّي أذونش عن قلبش.. مدامكم بعدكم في بداية الطريق فالأمور قابلة للتصليح
غادرت الغرفة وصَوت نَحيب ياسمين لَم يُغادر فؤادها القَلِق.. تَقابلت مع زَوْجها في غرفة الجلوس فتساءلت باسْتغراب: ليش ما داومت؟
أَجابَ بَعْد أن ارْتشفَ من شايه: عندي ورشة برا المدرسة "اسْتفسَرَ باهْتمام وهُو يُشير برأسه لغرفة ياسمين" ليش تصيح؟
وهي تجلس على الأريكة بجانبه: ليش بعد؟ "وبتهكّم" مدام جنان شَوّهت أحلامها الوردية
بتأنيب وهُو يُخْفِض شايه على الطاولة الصغيرة: أنفال من صدقش تلومين جنان على اللي صار!
بخفوت وبصرها مُعَلَّق بنقطة عشوائية على الأرض: لا "نَظرت إليه وبصدق" للأسف هالمرة هي مو غلطانة.. الغلط راكب إختي من راسها لساسها
مَسَّ وَسَط نَظّارته: واللحين شنو بتسوي؟
رَفعت كَتفها: ما أدري.. أنا قلت لها تقعد معاه ويتفاهمون.. لأن هذا اللي مفروض يصير.. بس هي ما أدري شنو في راسها
تَمْتم وهو يَرفع كوبه: الله يسَهّـل
,،
تَقِف على أَطْراف أَصابعها تَتأمّل الأَرْفف المُمْتَدة إلى السَقف.. جَميعها صُفَّت عليها أَكياس مَملوءة بالكوكايين.. المادة التي اسْتطاع رائد أن يُوَفّرها بعد أَن اسْتعان بأحد المسؤولين في الشرطة والتحقيقات.. والذي حَرَصَ رائد على أن يكونَ أَهْلاً للثّقة.. فالخطة سرية جدًا وخَطير جدًا أَيضًا.. والمادة يَجب أن تكون حَقيقة لا يشوبها كَذِب ولا تلفيق.. فَهُم خَصْمًا لسلطان الخَبيـر. صَدَح رَنين هاتفها في المخزن الفارغ إلا منها.. أَخفضت رأسها وأخرجته من جيب بنطالها.. ابْتَسامة ناقعة في المَكر لَوَت شَفتيها عندما لاحَ لها اسْمُ المُتّصل على الشاشة.. بلمسة أجابت قائلة: أنتظر القرار
أَفْصَحَ: طلبش صَعـب
ارْتَفَعَ حاجِباها لتُعَلِّق بَعْدَ أن أَلْبست نَبرتها التّعجب: معقولة كلمة صعب موجودة في قاموس سلطان!
كَزَّ على أَسْنانه بِقَهر حتى أنّ احْتكاكها التَقطته أُذنها، قَبْلَ أن يقول مُوَضِّحًا: اللي تطلبينه معلومات سرية وخطيرة.. وأنا ما أعرفش ذيك المعرفة.. فإنتِ مو ثقة لحد الآن
أَبْدَت رأيها باسْتهتار: جــرّب.. ما أعتقد بيكون الضرر كَبير
بمعُارضة شَديدة: لا تحاولين "أردفَ يُذَكّرها" وترى أنا سلطان.. يعني أقدر بسهولة آخذ المادة.. ولا من شاف ولا من درى.. بس احترامًا لأنوثتش قاعد أتفاوض معاش
كَتَمت ضِحْكتها الساخرة التي بانَت في عَيْنيها وعلى أطراف شَفتيها.. رَدّت شاهِرة سَيفها: إنت جَرّب.. وشوف رجال فرناندو شنو مُمكن يسوون فيك "انتظرت منهُ رَد ولكن لَم يَعبر إلى مَسْمعها غيرَ أنفاسه المضطربة.. لذلك أكملت بسؤال" هــا.. نسيته؟ نسيت فرناندو؟
بهمس: لا
قالت تُنهي الحَديث: زيــن.. خلاص اتفقنا.. راح نلتقي في مكانك في أقرب فرصة.. وراح أطّلع على ملف كل شخص قتلته
كَرَّرَ مُستفسِرًا: كل شخص؟
أعادت بثقة: كـل شخص
قالَ مُحاولاً إقناعها: ترى بعضهم مالهم داعي.. بتضييعن وقتش بس
ارْتَفَع حاجبها وهي تَفهم جَيِّدًا ما يَقصده لسانه العَكِر: وقتي فَرّغته لهذا الشي.. فيعني لا تحاتي
أعادَ كمحاولة أخيرة: اسمعي كلامي.. صدقيني ما بتستفيدين شي من بعضهم
قالت بثقة لطالما اسْتفزّته: ما تدري.. يمكن فايدتي أحصّلها عند بعضهم
أَنهت الاتّصال عند هذه الجُملة دُون أن تَنتظر منهُ تَعقيب.. غادرت الغُرفة مُقفِلة الباب من خَلفها بالمفتاح الذي سَلّمته لأحد العاملين وهي تهمس بحزم: كُن حَذِرًا
هَزَّ رَأسه بطاعة تامة وهي تَجاوزته لتخرج إلى القسم الثاني من المَتجر.. تَوَقَّفَت خَلْف منضدة المُحاسب وبَدأت عَيْناها تَجولان على المَكان ببطء وتركيز.. تُطالع الوُجوه، تَتَفَرَّس فيها.. هذه تبدو طالبة أَتَت تَبحث عن الهدوء والاسْترخاء لِتُمَهِّد طَريق عَقلها لاستقبال المعلومات.. تلك تَعْتقد أَنّها مُوَظّفة اقتنصت بضع دقائق لتهرب فيها من عبء العَمل.. وذلك عَجوزٌ أَجْنبي يَحتسي القَهْوة وفي عَيْنيه تَطْفو ذِكْرى لِزوجة أَكَلَ التُّراب ملامحها.. تلك وذاك وهؤلاء.. وهُو... تَجاوزت المنضدة الطويلة مُتَّجِهة إليه.. صَوْت ارْتطام كَعبها الدّقيق بالأَرض الخَشبية وَصَله.. ورائحة عِطرها سَبقتها وَنَفذت إلى قَلبه.. رَفَعَ رَأسه وعلى شَفتيه ابْتسامة.. هَمَسَت من بين أَسْنانها عندما وَقفت عند طاولته: لاا تَـبـتـسم "مَرَّرَت عَيْنيها عليه من رَأسه حتى قَدميه.. كان يَرْتَدي قَميصًا لهُ لونٌ زَهري فاتح جِدًا.. تَعلوه كنزة صوفية أُرجوانية اللون.. كانت داكنة على عَكس المعطف الرّمادي الفاتح والذي يَصِل إلى نصف فَخذه.. عُنقه قَد أَحاطهُ بشال بهِ خطوط عرضية وطولية تراوحت ألوانها ما بين الأسود والرمادي بدرجاته والأرجواني والأبيض.. قُبّعة صوفية رمادية داكنة تُغَطّي رَأسه.. نظّارة سوداء تُخفي عَيْنيه.. وحذاء رَسمي رمادي.. اسْتَطردت باسْتغراب" ليش هالكثر كاشخ!
أَجابها بهمس ساخِر: يعني متنكّر.. أوامر الأخ عزيز
سَألت وهي تُحاول أن تَتَحَكّم بملامحها لتبدو هادِئة وطَبيعية: ليش جاي؟ "عادَ وابْتَسَم فَنهرته" قــلــت لــك لا تبتسم!
هَزّ رَأسه: أوكي أوكي.. بس ترى ما قدرت أصبر وجيتش اهني "رَفعَ يَده بحركةٍ فاجَأتها مُناديًا" بِـل بليز
ثواني وأتاهُ النادل وفي يَده دَفتر الفاتورة.. سَلّمهُ إيّاه فَأخرَج محفظته.. الْتَقَط المبلغ المطلوب ثُمَّ حَشَره في الدّفتر لِيُعيده للنادل بابْتسامة.. وَقَفَ تَحت نظراتها المُسْتَنكرة وهُو يُعيد المحفظة لجيب معطفه ويُبقي يَدهُ هُناك.. فهي لا تَدري لِمَ هُو هُنا.. ما هُو سَبب مَجيئه.. ولِمَ خاطَر في القدوم إليها في متجرها؟! تَساءَلت: بتروح!
هَزّ رَأسه مُجيبًا بنبرة واضحة للطاولات القَريبة: اي نعم.. لكن طبعًا الزيارة راح تنعاد "أشارَ بإصبعه للمكان مُرْدِفًا بإعجاب" المكان راقي والخدمة مُمتازة.. فيه دفء ورُقي.. لازم الواحد يزوره مرة ثانية "ابْتَسمَ للمرة الثالثة في الوَقت الذي أَخْرَجَ فيهِ يَده من الجَيْب مُبادِرًا في المصافحة وهُو يَقول" شُكرًا إخت وَعد على الدعوة.. المرة الجاية أنا وزوجتي بنزور المحل.. طبعًا إنتِ وياها راح تتفقون على اليوم والوقت
حَرَّكت يَدها.. وبتَرَدّدٍ كَبيـر مَدَّت يَدها وصافحته.. تَصافقت أهْدابها بحركة لا شعورية فَشَلت أن تُسَيْطر عَليها.. ابْتَسَمت برجفة بسيطة وهي تُقول: المكان مكانكم.. حيّاكم أي وقت.. نتشرف فيكم
أَوْمأ لها بلباقة ثُمَّ تراجع خطوة للخَلف: نلتقي
بادلته التحية: مع السلامة
لَم تنتظره حتى يخرج.. فهي فَور ابْتعاده قَفلت راجعة للقسم الداخلي من المتجر.. انزوت بَعيدًا عن الأنظار لتَسْتَكشف ما خَبّأَهُ بَين خُطوط يَدها.. كانت قطعة منديل مطوية.. نَظرت لزاويتها.. شعار متجرها.. فَتحتها سَريعًا ليَصْطدم بَصرها بكلمات كَتبتها يَده.. تَخَبَّطت عَدستاها على المكتوب.. اتَّسَعت حَدَقتاها تُريد أَن تَسْتوعب الذي أمامها.. تَعَلَّقت بالكلمة الأولى تُعيد القراءة ببطء وتركيز شديدَيْن.
" سلطان على بُعْد خطوة وحدة من مقصلة الإعدام.. لقينا كنز!"
,،
أَغلَقت الباب وعَدَستاها تَتَقلقلان بَحْثًا عنه.. فَسَيّارته كانت مَرْكونة في مكانها. خَلَعت حذائِها.. وَضعته في مكانه ثُمَّ ارْتَدَت خُفّها المَنزلي.. تَقَدّمت للداخل وبيديها تُزيح عن رأسها حجابها وتَفْتح أَزْرار عَباءَتها.. لَم يَكُن في غُرفة الجَلوس.. نَظَرت للغرفة.. الباب مُشَرّع.. هَمَّت تَقصدها لكن حَركة على يَمينها أوقفتها.. التَفتت.. كان هُو خارج من المَطبخ وفي كَفّه اليُمنى كُوب يَرْتفع منهُ البخار وبين إصْبعيه سيجارة تَشْتعل.. زَفْرة مَشوبة بالقَلق غادرتها لِتَتَمَدّد الرّاحة وَسَط رُوحها.. هَمَست وهي تغمض لثواني: الحمد لله
ابْتَسَمَ لها وقدماه تَتحركان إليها: يعطيش العافية
تَجاوزت التعقيب على جُملته لتؤنّبه بزَعل: حـرام عليك.. والله مت من الخوف عليك.. من البارحة وإنت برا البيت
بَرّرَ بِحَرَجٍ كَسى عَيْنيه: أنا كتبت لش إني بخير وبتأخر عشان لا تحاتيني
والضيق يَحشو صَوْتها: ما توقعت تطوّل هالكثر "وبسؤال مُسْتَنكر" ويـن كنت أصلاً كل هالمدّة!
أَجابَ وهُو يَستدير ليَجلس على الأريكة: في بيتكم
جَلَست بجانبه وعُقْدة بين حاجبيها: ليش؟ مو خَلّص بحثكم هناك؟
حَرّك رأسه: لا.. قَرّرنا نحاول مرة ثانية "وبابْتسامة جَانبية" ونجحت محاولتنا
أَرْفَعَ التّعجب حاجبيها: والله!
وَضَع الكُوب على الطاولة القَريبة مُجيبًا بنبرة اتَّضَحَ فيها الإعجاب: أبوش الله يرحمه ذكـي ملاك.. ذكـــي
وَجَفَ قَلْبها لِذكره المارَ كَنسيمٌ يُحَيّيها.. ازْدَردت ريقها لتهمس: الله يرحمه "اسْتفسرت وهي تُطالعه وجميع جوارحها مُنتبهة" شنو صار هناك؟
اسْتَنشقَ من سيجارته ثُمَّ نَفَثَ الدّخان ليُجيب: حَصّلنا صندوق كبيــر مدفون وسط الحديقة
كَرّرت باستْغراب: صندوق! شلــون؟! شدراكم أصلاً إنّه مدفون هناك!
وَضّح بإسهاب: الموسيقى دلتنا عليه.. من بعد ما شغّلنا الساعة كانت تدق بالموسيقى كل ما اكتملت ساعة.. وصوتها مرتفع بطريقة مبالغ فيها.. انتبهت إن الصوت يوصل لكل مكان في البيت.. كل زاوية فيه.. حتى يوم كنا نبحث فوق كان يوصلنا الصوت.. ففكرت إلى أي مدى يقدر يوصل؟ فطلعت بخط مُستقيم من الساعة لين برا.. وآخر مكان وقفت فيه كان تحته مدفون الصندوق.. وكان واضح جدًا إن هو المكان اللي أشار له أبوش.. لأن ترتيب الطابوق فيه كان عشوائي مقارنة بباقي الأرض
هَمَسَت بابْتسامة خفيفة وهي تَتأمّله: إنت بعد ذكي
أَشارَ لرأسه: هذا تبرمج من كثر التدريب
اسْتفسرت باهتمام: زين شنو شفتون فيه؟
أَجابَها: الصندوق فيه مُذكرات أبوش.. فوق العشرة دفاتر.. مكتوب فيها كــل شي من بداية توريطه بالشغل لين قبل يوم من وفاته.. والأهم من هذا.. موجود فيه ملفات لكل ضحية قَضت عليها الأدوية والعقاقير اللي كان يُرغم على صنعها.. الملفات تحتوي أسماؤهم بصورهم وبمعلوماتهم الشخصية والدقيقة جدًا.. وحتى بصماتهم وفصائل دمهم.. وهالأشخاص أغلبهم اختفوا في ظروف غامضة.. والأهم والأهم من كل هذا
سألت وأنفاسها تَشْخب من رئتيها: شنـ ـ... ــشــنو؟!
ابْتسمَ بفخر: لقينا فيه أشرطة مسَجَّلة فيها كل اجتماعاته ومُحادثاته اللي بينه وبين سلطان في المكتب
رَفعت ساقيها فوق الأريكة لتستقر على رُكبتيها وتُقابله بتحفّز نَضَح من حواسها: سمعتونها؟ قريتون كل شي؟ اطلعتون على كل شي؟
نَفى: لا.. واجـد هُم ما يمدينا في قعدة وحدة نسمعهم.. تفحصنا القليل وكانت مصــايــب.. وأتوقع الباقي ما يقلّون عنهم من حيث عُظم المصيبة
ارْتَدَّ ظَهرها للخلف وبَصرها دارَ بتيه وهي تهمس بنبرة غالها الذّهول: يــا الله... يــا الله! أحس كأنّي في حلم.. كابوس كابــــوووس!
ارْتَشَفَ من كُوبه ثُمَّ وَضَّحَ: هذي الحقائق تعزز من التهمة الموجهة لسلطان بخصوص مقتل والدش.. ما نقدر نعتبرها الدليل القاطع.. بس بلا شك بتوصّلنا له في وقت قَصير بإذن الله
أَمَّنت: يــا رب.. إن شاء الله
تَأمَّلت الفراغ لثواني تُرَتِّب أفكارها وتُعيد ضَبْط سَيْر أنفاسها؛ قَبْلَ أن تعود لتنظر إليه وهُو يُمارس إحدى هواياته.. هوايته الخطيرة وذات الرائحة الكريهة والخانقة.. مَدّت يَدها وعلى غفلة منه التَقطَت السيجارة من فَمه.. نَظَرَ لها بعدم استيعاب قَبْلَ أن يهتف مُسْتَنكِرًا وهُو يراها تُطْفِئها في منفضة السجائر: ليـــش!
وَقَفَت مُجيبةً بحاجب مرفوع ونبرة حازمة: لأنّ مئة بالمئة معدتك فاضية.. فمو زين لك تدخن.. وبعدين عشان تقوم تساعدني في طبخ الغدا عقابًا لك على غيابك الطويل "وبابْتسامة مائِلة" وعشــان تقول لي بالتفصيــل المُمل شنو فيها الملفات والأشرطة
,،
مُوسيقى تَحْملها على زَوْرَقٍ من أَلْحان يَجوب الأَنهار.. تَبْتَل أَطراف أَصابع قَدَميها من ماءَها العَذب.. تَنتشي رُوحها لِتُحَلِّق إلى سَماء صافِية.. تَسكنها سُحُبٌ قُطنية وشَمسٌ تُهدي البياض والدّفء.. كانت الموسيقى تُحيي في نَفْسِها هذا الإحساس الخاص.. أَما الآن.. وَبَعدَ الذي حَلَّ بها.. الزَّورق تَحَوَّر إلى قِطعة خَشَبِية مُهْتَرئة.. والأنهار صَيَّرتها دُموعها أُجاجًا.. وأَصابعها.. أَصابعها رُبَّما هي تَبَلّلت من سُيول عَيْنيها.. إلا أَنّها لَم تَشعر بالبَلل قَط... لا سَماء ولا بَياض.. أَرْضٌ قاحِلة في كُل مَرّة تُحاول الهُروب منها يعود عَجْزها ويُطَوّح آمالها بَين عَرصات واقعها المَرير. كانت تَتَوَسَّط غُرفة الباليه الخاصة.. على الكُرسي المُتَحَرِّك جالِسة.. تُمَرِّر عَيْنيها بِيَأسٍ كالح على المَكان.. وَجْهها قَد غابَ لَوْنه.. فَأخذَ الشّحوب والاحْمرار يُعَرْبدان بَين طَيّات ملامحها الواهِنة. هي تَبكي كُل يوم.. وتَشعر بالعجز في كُل ساعة من اليوم.. بائسة يائسة حَزينة وبَليدة.. الغُرور انتحر من القَفا.. انتَحَرَ وهو مُولِيًا العالم ظَهره.. مُخَبِّئًا كَسْرَه. لَم تَعُد حَنين.. نَسِيَت اسْمها وانسَلخت عن معانيه.. فَلم تَعُد تَحِنُّ لِنَفسها.. لتلك التي كانت.. فَضَّلت أَن تُغرِق وَعيها في هذا المُستنقع الذي يَعج بكُل ما هُو سَيء.. كأنَّما تُخَدِّر حَواسها لكيلا تَعي حَجْم الوَجع الجاثم فَوْقَ وُجودها. هي ببساطة تَنازلت عن ذاتها ومَضَت تُساير الدّنيا بَجَسَدٍ مُجَوَّف.. فارغ من كُل شيء.
: حَنين
رَمَشَت بِبطء.. كما لَو أَنَّ رِياح المَوْت حَرَّكت أَهدابها.. رَفعت يَدها وبالبطء ذاته مَسَحت دُموعها بظاهر كَفّها.. كانَ ظَهرها له.. لذلك استدار حتى يُقابلها.. نَظَرَ إليها.. تَضَخَّم قَلْبه وأَنَّ أَنينًا هامِسًا.. كانت مَيّتة.. مَيّتة ولكن عارية من كَفَن. قَرْفَصَ حتى يُوازيها.. رَسَم ابْتسامة خافتة وهو يَتساءَل: متى تبين تجهزين؟
عُقْدة خَفيفة بين حاجبيها وسؤالٌ مَشروخ الصَّوت: أتجهز لشنو؟
وَضَّحَ: لبيت جدش.. ناسية؟
تَراكمَ الجليد على وَجهها: ومن قال بروح؟
رَدَّ بسؤال: وليش ما تروحين؟
نَطَقَت والبرود يُسْتَفرغ من عَيْنيها: ترى ما لي خلق لمحاضرة الإيجابية والتفاؤل
أَنهت جُمْلتها ثُمَّ أَدارت المقعد عن طريق أداة التّحكم المُستقرة عند يَدها.. تَركت غرفة الباليه وهُو خَلْفها يُحاول إقناعها: حَبيبتي العزيمة عشانش.. مو حلوة ما تروحين
عَقَّبَت بحدّة وهي تَلتفت لترنو إليه بطرف عَيْنها: ما أعتقد في شي تغيّر في حياتي يستاهل إن يسوون على شرفه عزيمة!
بمحاولة ثانية: بس حَنين ما يصـ
قاطعته وهي تَرى سَرير طِفلها فارِغًا: وين ولدي؟
نَطَق باسْمها راجيًا: حَنيــن
كَرَّرت بنبرة تُنهي النقاش بل وتَنسفه: ويــن ولــدي؟
زَفَرَ قِلّة حيلته ويَده ارْتَفعت لِتَتخلّل أصابعه خصلات شَعره مُتَرْجِمَةً حيرته.. أَجاب بهدوءٍ خَبّأ خَلف ظَهره غَصّته: عند أبوي.. قَبل شوي جا وأخذه
هَزّت رَأسها: زين.. أنا بنتظر ولدي يرجع وبقعد معاه وبهتم فيه "وبعدم اهتمام وهي تُحَرِّك يَدها في الهواء وبَصرها يَتجاهله" إذا إنت تبي تروح العزيمة روح.. مو محتاجين لك
رَجْفة مُوْجِعة ضَربت قَلْبه.. زَلْزَلته وأَرْبَكت الدّماء القادمة منه وإليه.. حَتَّى نَبْضه تَخَبَّط ما بين حُجراته.. هُما لا يَحتاجان إليه.. هي زوجته.. وهُو ابْنه.. لا يَحتاجانه.. على الرّغم من عَجزها الجَلي إلا أَنّها نَطَقَت بهذه الكلمة.. لِمَ كُل هذه القسوة؟ لِمَ أنتِ قاسية هكذا حَنين؟ تَذَوَّقتُ لُطْفكِ لبُرْهة.. لَم يُسْعفني الوَقت لاجْترعه على مَهْلٍ ولذّة.. وها أنتِ تُسارعين لِحَشر العَلَقم في حَلْقي.. فَيبقى هُناك.. لا أنا قادِرٌ على ازدراده.. ولا أنا قادرٌ على استفراغه.. فلكلا الفعلين نتائِج وَخيمة سَتفتح جِراحًا في ذاتي.. نَعم ذاتي.. أوَلستِ أنتِ ذاتي؟ فأنا لَم أعرف ذاتًا غير تلك التي قُيِّدت بكِ.. لا ماضيًا ولا حاضرًا.. وأَسَفًا أَنّي لا أعلم، هَل سأمضي للمُستقبل والقَيْدُ حُرّيتي؟ أَم أَنَّ القَيد سَيُكسَر وقَسْوتكِ سَجّاني؟
أَغلق باب الشّقة.. هَبَط السّلالم بكاهلٍ مَحْني.. لَم يَسْتطع المُواصَلة فَجلسَ على إحْدى العَتبات.. اتّكأ بمرفقيه على رُكبتيه سامِحًا لكفّيه أَن تَحتويان شَتات ملامحه.. أَفْرَغ زَفرات رُوحه التي تَتوالد مع مرور الثواني.. يُفْرِغ عَشْر.. فتُولَد عَشرات.. في هذه اللحظة كانت تُراوده رَغْبة بالبُكاء.. يَسْمع صَوْت قَلْبه كَمانًا يَجُر لَحْنَ كَمَده.. في صَدرهِ اعْتَرَكت الأَوْجاع تَتَساءَل إلى أَيْن السَّبيل؛ فَداخلهُ مُزْدَحِم! حائِرٌ والطُّرق سُدَّت أَمامه.. كَيف يَتصرف؟ ماذا يقول؟ إلى أَي مَدى سَتَصْبر رُوحه؟ وجَواه.. هَل جَفَّ نَبْع نَبضه؟ لا جَواب لديه.. لا يدري.. لا يعلم.. هُو غائرٌ في الضّياع... لا يدري ماذا يفعل.. لا يدري.
: بسّـام!
مَسَح وَجْهه براحتيه قَبْلَ أَن يُخْفضها لينزاح السّتار عن الصّخب المكتوم والمُتَخَثِّر أَسْفَل جِلْده على هَيئة احْمرارٌ يُوحي بالاختناق.. أَلْبَسَ شَفتيه ابْتسامة ليس فيها من الحَياة شَيء: هلا منال.. شلونش؟ من متى إنتِ اهني؟
أَجابتهُ وعَيْناها تَتَفَحّصان مَلامحه بدقّة: من شوي "أَشارت لحُسين الباكي " صاح شكله جوعان.. قلت أنا بركبه ومنها أشوف حَنين
اسْتلمهُ منها وهو على جلوسه، قَبّلَ رأسه بخفّة ثُمَّ قال: أنا كنت نازل آخذه
اسْتَقَرَّت بجانبه مُتسائِلة باهْتمام: بسّام شفيك؟ وجهك مو طبيعي
وَرأسه مُنخفض لرأس ابْنه الذي هَدأ ويده الكبيرة تُداعب قبْضتيه الصّغيرتين: شوية تعب
اسْتفسرت: إنت تداوم؟
نَفى: لا... للحين إجازة
ضَيّقت عَيْناها: مو جنك طَوّلت؟
وَضَّحَ: بدون راتب
هَزّت رأسها بتفهّم: أوكــي "تساءلت لتطمئن" وشلونها حَنين اللحين؟
رَفع كتفه: الحمد لله
سؤال آخر: تروح للعلاج الطبيعي؟ "همهم بإيجاب فأردفت بسؤال جَديد" والعلاج النفسي؟ "التَفَتَ يُطالعها بنظرة استغراب تَوقعتها.. ابْتسمت مُوَضِّحة" أبوي قال لي.. وأساسًا الشي واضح.. نتايجها وتحاليلها سليمة.. فأكيد السبب نفسي
هَمَسَ بحَذَرٍ تُخالطه نَبْرة رَجاء: لا تجيبين طاري قدامها
أَكّدت: طَبعًا بسّام.. ما بتكلم.. أعرف شخصيتها وأدري شكثر الموضوع حسّاس بالنسبة لها
ابْتسم بخفّة وبذات الهمس المُتعَب: غريبة متفهمتها هالمرة!
عاتبته: بسّام شهالحجي؟! تحسسني جني ما عندي قلب.. هذا مرض.. مُستحيل أتشمت عليها.. وبعدين خلاص.. تفاهة قَبل انتهت.. واحنا ما شفنا منها مضرة ولا احنا ضريناها "وبيدها تَمسح على شَعر الصّغير لتُكمل بابْتسامة مُحِبّة وَحَنونة" واللحين هي أم ولدنا.. اللي بيحمل اسم عايلتنا
بابتسامته الشاحبة: زين.. الله يهديكم ويهديها "وَقَفَ وهي وَقفت مَعه.. مَدّ لها الطفل" اخذيه وديه لها.. أنا بتصل لعمتي
,،
أَنهت المُكالمة ثُمَّ أَخْفَضَت الهاتف وعَيْناها مُتَعَلِّقَتان بالشاشة.. كانت تَنظر لها بملامح واجِمة وشَفتين مُطْبَقَتَيْن.. أَتاها سؤال عن يَسارها: أم حَنين شنو فيش؟
التَفتَتَ لها.. كانت أُم مُحَمّد.. أَجابت بنبرة خاوية: لا ولا شي.. بس بسام كان متصل.. يقول ما راح يجون "تَنَحنحت" حَنين ما تبي تجي
قالت تُطَبْطب على قَلَقِها بكلماتها: ما عليه.. إنتِ لا تتضايقين.. أكيد هي في البداية ما بتعرف تطلع من البيت وتعيش يومها بشكل طبيعي.. تحتاج تتأقلم على الوضع
رَفَعت يدها وبظاهر سَبّابتها تَشَرَّبت دَمْعة التَمعت عند مؤق عَينها.. وبهمسٍ مُتَعَثّر: خـايـ ـفة على بنتي
شَدَّت على ساعدها وهي تُغدقها بلطف حَديثها: لا تخافين.. صدقيني مسألة وقت وكل الأمور بترجع لسابقها.. إن شاء الله بالعلاج بتتشافى رجولها وبتقر عيونش بشوفة مَشيتها
ازْدَرَدت غَصّتها المُتكوّرة في حَلْقها مِثَل حَجر قَبْلَ أن تهمس: إن شاء الله.. الله يسمع منش
جنان التي كانت الأَقرب لهما اسْتدارت لبنات أترابها تهمس لهن: حَنين ما راح تجي
غَيْداء باسْتنكار: بس العزيمة عشانها.. عشان سلامتها!
عَبَّرت جُود: أكيد ما راح تجي.. أنا كنت متوقعة.. يعني كلنا متجمعين وبتجينا أول مرة اهني بالكرسي.. أي وحدة بتتحسس.. بعد مو حَنيــن!
مروة التي تَتسامر معهن للمرة الأولى منذ زواجها، قالت بنبرة هادئِة تَنِم عن الفَهم: مُشكلتها لها حل.. مو شي مُستعصي.. وأول وأهم حل لها النفسية.. إذا نفسيتها ظلت جذي ما راح تتحسن.. بل مُمكن إنّ حالتها تتردّى
عَقّبت غيداء بخوف: اسم الله عليها.. لا إن شاء الله بتصير زينة "وبتوضيح" بس شوي هي صعبة حنين.. واثقة من نفسها بطريقة قوية.. فاللي صار لها صَدمها.. عشان جذي تأقلمها صاير صعب
ابتسمت لها مروة بود: الله يشافيها
رَدَّدن: يـا رب
: السلام عليكم
رَدَّ المُتواجدون السّلام.. وجُود رَحّبت بحفاوة: هـــلا بالحامل والمحمول
شاكسها وهُو يقترب ليُسَلّم على الجَدّة: يعني أنا ما لي هلا؟ مو مرحّب فيني؟
بصراحة وهي تَبْتسم في وجهه ابتسامة عريضة: أَقدر أعيش من غير شوفتك.. بس ما أقدر أعيش من غير شوفتها!
هَزّ رَأسه يَدّعي الرّضوخ لرأيها: والله إنش صادقة.. في هذي ما جذبتين.. العيشة من غيرها ما تسوى!
وَقَفت غَيْداء لتُسَلّم عليه قَبلَ أن تقول ضاحكة: أقول اثقل شوي وتعال سلّم على ماما عودة.. تسأل عنّك
اقْتَرَبَ من الجّدة، انحنى عَليها مُقَبِّلاً رأسها: السلام عليكم يُمه.. شلونش؟
أَرْجَعت رَأسها للخلف وهي تَرْفع غطاء رأسها المُلَوّن والمُمتد حتى نصف جسدها؛ لِتحجب به جانب وَجْهها وفمها وجزء من أنفها.. أحْنَت عُنقها قَلِيلاً وعَقَدَت حاجِبيها لتنظر له بتدقيق.. هتفت بعد ثواني: طـــلال!
ضَحكَ: زين عرفتيني يعني؟
أَجابت: ايـــه، عرفتك من عيونك المولعة "هاجمتهُ بلا مُقدّمات" شفيـك اللحين ما قمت تجيب لنا سمج؟ يعني أخذت نور وبــس.. خلّصت أمورك ويانا ونسيتنا؟
مَرّر لسانه على شفتيه بحرج ثُمَّ قال بتوضيح: لا أفا يُمّه ما أنساكم.. بس اللحين أنا أشتغل.. ودوامي زامات.. فما يمديني أروح البحر كل يوم.. وأنا أصيد.. بس تدرين ما أبي أييب لكم إلا الشي الزين والراهي.. مو أي شي
أشاحت عنه قائلة بعدم تصديق وغطاءها لا يزال حاجِزًا: اي اي قص عَلَي يا العيّار
ابْتسم: والله يُمّه "وبمُراضاة ونبرة وَعد" بس ولا يهمش.. إن شاء الله باجر بطب البحر وبييب لش ذاك الهامور اللي يحبه قلبش
نَظَرَت لهُ للحظات بصمت قَبْلَ أن تبتسم عَيْنيها اسْتجابةً لابتسامة شَفتيها المخفيتين: زيــن.. بنشــووف يا ولد حنان
اتّسَعت ابْتسامته بزَهو.. فهو يَعشق هذه المُناداة.. ولد حنان.. تُعيد بَثَّ شُعور الانتماء إلى والدته في داخله.. وهذه الجدة اعتادت مُذ كان طِفْلاً أن تُناديه بهذا النداء المُميز. تَحَرّك مُسَلِّمًا على أم فيصل.. صافحَ أُخته بصمت.. ولوّح للباقيات قَبْل أن يتّجه إلى حيث يجلس الرجال على الطرف الآخر بَعد أَن ألقى نَظْرة وابْتسامة على نُور الجالسة بين قريناتها. عَلَّقَت غَيْداء بابْتسامة: يطلعون قلوب من عيونش نُــوورو
تَنهيــدة عَميــقة.. خَفيفة ومُسْتأنِسة كانت تعقيبها.. ضَحكن جَميعًا وهي شاركتهن الضحكة بخجل. أَرْخت مروة ساق على الأخرى قَبْلَ أن تُفْصِح بنبرة ناعمة: اللحين يوم شفته تذكرت إنّي شايفته من قبل
اسْتغربت غيداء وبتساؤل: وين؟
أَجابتها: في المُستشفى "حَرّكت عَدستيها الزُمردتين لنُور مُواصِلة مرامها الخبيث" كان يجي يوقف عند مكتب نور.. وإذا نسأله تبيها نناديها.. يرفض ويطلب مننا ما نقول لها إن شفناه
زَفَرَت غيداء لِتُعَلِّق بكلمات لَم تَتوقعها مروة: والله طلالو طلع مفشلنا مع الكل والجميع.. حتى مروة كانت شاهدة على غرامياته!
ضَحَكت نُور: اعترف لي "أَكْمَلَتْ وبتلات زَهْر خجولة تُعانق وجنتيها" حتى يقول كان متفق مع وحدة من الممرضات الأجنبيات يعطيها فلوس عشان تنقل له أخباري
ضحكن الفتيات وجود تساءلت: أرجوش قولي لي جم كان يعطيها؟
وهي بالكاد تَتشبث بضحكتها: ثلاثة دينار
اعتلت ضحكاتهن حتى أن الجَدّة زَجرتهن.. جُود بتعليق بالكاد خَرَج من بين قهقهتها: والممرضة حضرتها وافقت! المبلغ حتى ما يجي ربع ربع ربع معاشها!
ضَحكن وزَجرة الجدّة أَجبرتهن على ابتلاع الضحكة: قصروا حِسْــــكم عن الرجال
عَضَّت جِنان شَفتيها ثُمَّ هَمست: أووه عودوه عَصّبت من صدق "قالت تُحادث نُور" لكن زين وقتها محد غير شافه.. جان صارت مُشكلة
غيداء بتأييد لمقصدها: ايـــه الحمد لله
نُور وبقايا الضّحكة ترتوي من شَفتيها: الحمد لله "التَفتت لمروة الغارقة في بَحر الصدمة شَديد الملوحة لتقول بلُطف وابْتسامة ودودة" شُكرًا مروة لأنش حزّتها حفظتين سره
ابْتَسَمت لها بارْتباكِ وملامحها قَد اضطربت من التأقلم الغريــب الذي كان باديًا في حديثهن ومُحيّاهن.. لَم تَتوقّع ذلك.. فهي رَسَمت في عَقلها تَصَوّر لردة الفعل التي سَتعيث فسادًا بملامحهن إذ هي أَفصحت عن أي كلمة بخصوص هذا الموضوع.. لكن يبدو أَنّهن تصالحن مع أنفسهن ومع بعضهن البعض بسرعة فائقة! ونُور.. نُـــور.. اللطف ينهمر من عيْنيها! معها ومع غَيْرها.. لُطْف لا يَقوى البياض المسجون في قَلْبها على تَجاوز حَلاوته أو مُقاومة جاذبيته.
,،
يتبع