إرتواء نبض
03-10-2020, 09:17 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
تَوكلتُ على الله
الجزء الثامن والخمسون
الفَصل الأول
أَصْوات تأفف.. زَفرات مُتململة.. تَمْتمات مَكْتومة يَبْدو عليها الحَنق.. فَتَحت عيْنيها الضّائِقَتين من حَشوة النّعاس ومن الشمس المُتَسَكِّعة في الغرفة.. أَبْعدت خصلاتها عن وجهها باحِثَةً عنه.. كان يَقِف أَمام المرآة وظَهره يُقابلها.. دَعكت عيْنها ثُمَّ رَمَشت لمرّات مُتتالية مُحاولة أَن تُبصرهُ جَيِّدًا.. اسْتدارَ هُو بطريقة مُفاجِئة ومن فَمه عَبَرت زَفْرة مَسْموعة، وبيديه شَدَّ على قَميصه كما لو أنّه سَيُقَطّعه قَهرًا.. هي التي اسْتوعبت ما يجري هَمست: ليش ما قعدتني؟
انتبه لها.. تَرَك القميص مفتوحًا وهو يُجيب دون أن يَنظر لعينيها: مو إنتِ زعلانة عَلي
تَنَهَّدت وهي تَعتدل لتجلس على رُكْبتيها وتُناديه: تعال
اسْتجابَ لها مُباشرة لأنّه لأكثر من خمس دقائق كان يحاول أن يُزرر قَميصه وجميع محاولاته باءَت بالفشل.. تَوَقَّفَ أَمامها.. تناولت طَرفي القَميص لتغلق الأزرار وهي تَهمس: تستاهل إني أزعل عليك
اسْتَنكرَ بحاجِبَين مُرْتَفعين: اللحين من الغلطان؟ أنا ولا أبوش؟
رَنَت لهُ بحدّة: اثنينكم
دافعَ عن نفسه: أنا ما سويت شي غلط
كَشَفت لهُ عن مَقصَدها وغَصّة الخَيْبة تُشاكس حَلْقها: واعتقادك إنّي ما أبيك عشان تعليمك؟ وإنّي أفضّل الدكتور عليك؟ وإنّي ما أحبّك؟
بَرَّرَ وملامحه يُخامرها ضيقٌ يَرفض أن يَعتقه: نُور.. إنتِ تعلقتين فيني في طفولتش ومراهقتش.. في فترات ما يُعَوَّل على الحُب فيها.. شدراني إذا هالتعلق بقى بعد نضوجش؟ شدراني إنّه تطور لحُب!.. نُور أنا تربيت على إن خواتي.. اللي من لحمي ودمي يكرهوني ويستغلون أي فرصة عشان يجرحوني ويهينوني.. ما أنلام إذا راودني شك بخصوص محبّتش لي.. إنتِ الغريبة... المتفوقة والدكتورة.. أنا كنت ولاشي نُور.. ولا شي.. ثقتي في نفسي عَدم.. فمو شي غريب إنّي أَصَدِّق كلام ناصر!
والدَّمعُ يَهْتَزُ في مآقيها: بـس أنا حبّيـ ـتك.. حبّيــتك
رَدَّ وهو يَسكب بصوته دَمعٌ مُوارب: وأنا حبّيتش.. إنتِ كنتِ ولا زلتِ أغلى شي في حياتي.. بعد ما فقدتش فقدت كل شي.. السعادة والابتسامة والرغبة في الحياة.. صدقيني كنت كل ليلة إذا حطيت راسي على المخدة أنتظر الموت.. أتمنى إن الصبح يتجاوزني وما اييني لأنّ رُوحي ما تتحمل يوم جَديد خالي من وجودش "احْتَضَنَ وَجْهها وبخطوط يَده تَشَرَّب صَبيب عَيْنيها.. هَمَسَ وهو يَمس جَبينها بجبينه" ما كنت واثق إن طلال اللي ولا شي.. تحبه نور اللي هي كل شي!
نَطَقت.. لا بَل نَطَق الحُلم المَنحور الذي غالهُ والدها: ضاعـ ـت سنين.. من عمرنا.. واحنا بعاد عن بعض.. ليــ ـش.. ليـــش!
مَضَت يَداه إلى عُنقها شَدَّ عليه بمَلق وهو يُقَرِّب وَجْهها منه: أُشش.. خلاص حَبيبتي.. هذي إرادة رَب العالمين.. ما ندري شنو الحكمة من اللي صار "أَتت لتفصح عما يختلج في نفسها إلا أَنَّه قاطعها بقُبلتين قَصيرتين مُتتاليتين قَبْلَ أن يهمس" خلاص يا عُمري.. ما يفيد الحجي اللحين.. اللي صار صار.. إنتِ ريحي قلبش بس "أخفض يُمناه لبطنها ليُردف بابْتسامة" حتى البيبي مسكين تضايق من هالكآبة
غادرت صَدرها تَنهيدة مُرْهَقة لتقول: لكن أنا لازم أكلّم أبوي
انكمشت ملامحه: متأكدة من هالقرار
هَزَّت رأسها بإصرار: اي طلال.. لازم أعرف ليش هو رفضك وحط أسباب من عنده للرفض من غير ما يقول لي
حَرّك كَتفه: على راحتش.. إذا الكلام معاه بيريحش.. فسوي اللي يرحيش
,،
يَجلس بِجذعٍ مُتَقَدِّم.. كَجلوس الوَجِل المُتَحَفِّز للخَطر.. شابِكًا يَديه، يُقَلِّب بَينَ راحَتيه قِلّة حيلته.. بصمت وسكون.. يُعاين الضَّجيج الحائِم في صدره.. ما بين قَلبه ونَبضه. انتبه لجلوس والده بجانبه.. ابتسم لهُ تلك الابتسامة الصفراء.. الشاحبة.. والباصقة ألوان الحياة من قُعر الرّوح.. قال والده وكأنّه يَتساءل: أشوفك قاعد اهني بو حسين
وَضَّح بهدوء: حَنين جايين لها بنات عيلتها، وأنا ما أبي أتركها.. أخاف تحتاج شي.. فقعدت اهني
تَساءَل باهتمام: وشلونها اليوم؟ ما صار عندي وقت أمر عليها وأتطمن
تَمْتَمَ بخفوت وجفنيه يَتّكئ فوقهما غراب البؤس: الحمد لله
اسْتَفسرَ: وشنو الحل اللحين يُبه مدام كل النتايج سليمة؟
أَجابَ وهو يَضغط الكَف بالكَف وبصره مُتعلّق بمنحدر الضياع: العلاج النفسي.. أنا خبّرتهم عن خوفها أول ما عَرَفت إنها حامل.. وساوسها.. وبعدها مشكلة المَشيمة وانهيارها قبل العملية.. والشهرين اللي قضاها حسين في المستشفى.. وآخر شي خَبّرتهم عن خوفها من التعامل معاه بشكل طَبيعي.. فأكّد لي الطبيب إن سبب هالشلل نفسي.. وتحتاج لعلاج نفسي.. جَلسات بس.. وطبعًا تداوم على العلاج الطَبيعي.. وإن شاء الله بيتحسّن الوَضع.
: إن شاء الله "وبتساؤل" بس إنت ليش متكَدّر هالكثر يُبه؟ الحمد لله في حل لمشكلتها
أَفْصَحَ ويَده تَسْتقر فَوْق جَبينه: خايف هي ما تقبل بهذا الحَل
عَقَدَ حاجِبَيه مُسْتَغرِبًا: وليش؟ ما تبي هي تتحسن صحتها وترجع لحياتها الطبيعية؟!
رَدَّ: امبلى يُبه.. بس أقصد "بَلّلَ شَفتيه ثُمَّ أكمل وهو يعود لِشبك يَديه" أقصد إنها ما بتقبل بالعلاج النفسي.. أنا أعرف حَنين.. أدري إنها راح تَتحسس من الموضوع
هَزَّ رأسه بتفهّم: لازم بتتحسس.. وخصوصًا هي هالفترة حساسيتها بتكون بزيادة.. بس إنت يا ولدي لازم بتكون مهيئ نفسك لأي ردة فعل.. وإن شاء الله راح تعرف تتصرف وفي النهاية هي بتوافق "رَبَّت على فَخذه وبابتسامة داعِمة" لا تحاتي يُبه.. كل الأمور راح تتعدّل
ابْتَسَم بخفّة وفؤاده يَعتلج بالقَلق: إن شاء الله
،
هُناك في الأعلى.. على يَمينها وشمالها تَسْتقر بنات أترابها.. كانت تَبكي.. تَجُر الوَجع المُتراكم داخلها وتَبكي.. يَأسها ورمادية أحلامها وانهيار صَرح ثقتها.. كُل ذلك كان ترجمانه الدّموع. هَمَسَت من بَيْن اخْتناقات أَنفاسها: راح أقول.. له.. يطلقني
أَغْمَضَت بقوّة وأصواتهن المُعترضة تَتكالب عليها من كل صَوْب.. قالت نُور بجديّة يُخالطها الغَضب: حَنين شهالحجي! ليش هذا التشاؤم الكَبير؟ ليش تسمحين لنفسش تستلم لليأس بهالسهولة!
أَيَّدتها غَيداء التي قالت: إنتِ مو ضَعيفة حَنين.. وإنتِ راح تتجاوزين هالمرحلة.. لا تتهورين وتهدمين حياتش بإيدش.. إنتِ بطلبش هذا راح تدمرين نفسش وتدمرين زوجش وتدمرين ولدش اللي توه طالع على الدنيا
نَطَقَت حُور بنبرتها الناعمة: وانتو تظنون بسّام بيوافق على طلبها؟ مُستحيــل.. بَسّام لو شنو يصير ما بيتخلى عنها
حَرَّكت رأسها تَرفض كُل الذي قيل وسَيُقال: أنا ما أقدر.. ما أقدر أعيش معاه وأنا جذي.. وأنا ضعيفة ومحتاجة.. وهُو.. مرده بيمل وبيتعب.. ما في رجال يصبر على مراة جذي.. ما فــي
قالت جِنان بنبرة غَلَّفتها باللُطف: حَبيبتي حَنين.. بسام بيمل وبيتعب.. هذا شي أكيد.. بس ما راح يتخلى عنش.. ما راح يسمح لنفسه يتركش محتاجة.. إنتِ زوجته وحبيبته وأم ولده.. راح يبقى معاش ويكون معاش خطوة بخطوة لين ما تنتهين من علاجش وترجعين مثل قبل... ما راح يتذمر ولا يتضايق.. راح يبقى سند وظهر
ببحّة وهي تُكَفكف دموعها: ما في شي يجبره إنّه يبقى.. أنا بريحه مني ومن مرضي.. بخليه يطلقني.. وخله يشوف حياته مع وحدة ثانية.. ما تتعبه.. ولا تبهذلـ ـه
عَقَدت جود حاجبيها مُسْتنكرة: وإنتِ عادي عندش يكون مُلك لمراة ثانية؟!
أَجابت وعَسَل عَينيها المُغرم بهِ تُلَوِّثهُ كَلماتها البَليدة: عـادي.. ما صار لنا حتى سنة من تزوجنا.. ما بيننا ذاك الحُب.. نقدر نتخلى عن بعض
عَلَّقت بتعجُّب: تفكيرش غَريـب!
جنان باسْتنكار كَبير: الغريب مو بس إنش راضية تنفصلين عنه وتتركينه لغيرش.. الغريب إنش راضية تبهذلين ولدش بهالقرار! حَنين إنتِ ما تدرين يعني شنو يتربى الطفل بين أم وأب منفصلين.. الموضوع أصعب وأعقد مما تتصورين
عَقَّبت تَسْتَسهل الموضوع: عـادي.. أطفال واجد تربوا مع أم وأب منفصلين وحياتهم أفضل من حياة الأطفال اللي ظلوا أمهم وأبوهم مع بعض بكل مشاكلهم وعقدهم النفسية اللي أثرت عليهم وعلى شخصياتهم
نُور بحدّة لا تُناسبها: حَنيــن.. مُشكلتش لها حل.. الاستسلام في بداية الطريق يدل على ضعفش واستهتارش بمشاعر الناس اللي حولش.. وأولهم بسّام
عَقَدت حاجِبَيها وأهْدابها المُبَلّلة تَنعى الانكسار السابح في رُوحها.. هَمَسَت بخواء: أنا ما أستهتر في مشاعره.. أنا بنقذه من الجحيم.. بنقذه من البهذلة.. الحياة قدامه ويقدر يقضيها مع امراة تحبه وما تكسر ظهره.. أنا عالّة.. بمنعه من أبسط حقوقه ومن إنّه يعيش حياته حُر.. إذا بقى معاي.. راح يكون للأبد ملتزم فيني.. راح أكون سجنه والقيد اللي يمنعه من الحَياة.
,،
أَبْصَرت الصُّبح والشمسُ بأبّهة تُراقص أَشِعّتها على الجدران والأَرضية الخشبية.. اسْتدارت يَمينًا جِهة النافذة.. الضَوْء الآتي منها قَوي.. تُرى كَم الساعة؟ انقلبت على يسارها حيث اعْتادت تضع هاتفها.. لكنّها لَم تجده على الدرج الجانبي.. لذلك رَفعت نَفسها وهي تَمُد ذراعيها في الهواء وتَمط عَضلاتها.. تَركت السرير وبيديها ساوت أطراف قميصها.. كانت نائمة بالملابس نَفسها التي ذهبت بها إلى منزل شَقيقها.. بنطال من الجينز وقميصٌ أَبيض.. غادرت الغرفة المفتوح بابها لِتَجد زَوجها على إحدى الأرائك يَعمل على حاسوبه.. قال دون أن يلتفت لها: صباح الخير
رَدَّت وهي تَتَكوَّم في زاوية الأريكة ذاتها: صباح النور "اسْتَفسرت" الساعة جم؟
نَظَر لساعة الحاسوب ثُمَّ أجاب: عشر وعشر
اتَّسَعت عيناها: أوووف.. أنا توقعتها بالكثير سبع "زَفَرت بضيق" اللحين شسوي ويا دوامي!
ابْتَسم وهو يرنو لها للحظات قَبْل أن يعود للشاشة ويوضّح: كتب لش الدكتور سِك ليف.. يومين بعد مو بس يوم
ارْتَفَعَ حاجِبَيها: والله!
هَزَّ رأسه: والله.. لأن تحتاجين للراحة
مالَ رأسها باستنادٍ للأريكة وهي تُعَبّر عن شعورها: والله حسيت روحي بتطلع من كثر ما استفرغت.. أول مرة يصديني جذي "صَمتت لثواني قَبْلَ أن تُرْدِف باعتراف" قبل.. يوم كنت في بيتنا القديم.. بين فترة وفترة إذا تذكرت حادثة أبوي.. وريحة الدم.. وريحة ذيك الليلة بالذات.. كنت أستفرغ.. بس ولا مرة كان الاستفراغ بهالعنف! غريـــب ومُخيف
أَخْفضَ شاشة الحاسوب بِصَمت.. تَراجع للخلف دون أن يُحَرِّك بَصره إليها.. إلا أَنّهُ بعد نصف دقيقة عَقَّبَ بنبرة هادئة: الدكتور شك إنش ممكن تكونين حامل
انَطوت على نفسها أكثر وهي تحشر يديها بين فَخذيها.. حَكّت خدّها بخجل وحُمْرة خَفيفة لاطفت وَجْنتيها.. همست: مو حامل
أَكَّد: اي.. مو حامل.. سوى لش تحاليل
أَفصحت: ولا حسيت بشي.. ما أذكر أصلاً شصار.. بس أذكر إنّك حملتني للمستشفى ومن بعدها ما أذكر شي
هَمهم ثُمَّ قال: طبيعي إنش ما تتذكرين.. هذا المطلوب كان
عُقْدة عَدم فَهم تَوَسَّطت حاجبيها: شلون يعني؟ شتقصد!
قابلها بسؤال مُفاجئ: تعرفين يعني شنو انترجن؟
رَدَّدت خلفه: انترجــن! "استنكرت" شدخلها اللحين؟ وبعدين هذا اسم.. شدراني شمعناه في بلدها.. أصلاً مادري هي من وين!
وَضَّحَ مُزيحًا الخمار الثَقيل عن أعينهم البريئة: المُفترض إنها ألمانية.. لأن اسمها له معنى بالألمانية
اعْتَدلت في جلوسها لتسألهُ بانتباه شَديد: وشنو معناه؟
بخفوت وعيْناه تُراقبان ملامحها بدقّة: انترجن.. يعني مَكيدة.. دَسيسة
ازْدادت عُقدتها: انزيــن! ليش هذا اسمها.. وليش اسمها له دخل باللي صار؟!
اسْتدارَ إليها بكامل جَسده لينطق ببطء شارِحًا لها: مَلاك.. العصير خبرتيني إن انترجن عصرته لكم.. ومن بعد ما شربتيه تبهذلت حالتش
ارْتَفَع حاجِباها وكأنّها للتو تَعي ما يقصد: تتوقع حاطة لي شي في العصير؟ بس ليــش! أنا ما سويت لها شي ولا ضريتها
حَرَّك رأسها ينفي صِحّة ما تقوله: اللي في العصير ما كان حقش.. كان ليوسف
هَتَفَت بصدمة: شنـــو!
قال يُذَكّرها: إنتِ قبل قلتين لي إن كان بينه وبين زوجته مشاكل صح؟ بس ما وضحتين لي بالضبط هالمشاكل.. أقدر اللحين أعرف؟
ازْدَردت ريقها المَرْعوب وهي تستقر على رُكْبتيها بجلوسٍ وَجِل.. أَبْعدت خصلاتها عن وجهها لمرات مُتتالية.. حتى أنّها في المرة الثانية والثالثة كانت لا تُبْعِد سوى الوَهم المذي يُحاوطها.. أَجابت بتردّدٍ التهمهُ الهَمس: كــ ـكــ ـ.. كـان.. كان يضربها.. ضرب مو طبيعي.. يسيّل دمها.. جم مرة.. يضربها.. بـس.. بـ ـس هو.. يقول ما يذذ...كـ ـ
أكْمَل عنها بثقة: ما يذكر.. يقول إنّه ما يذكر إنّه ضرها.. صح؟
هَزَّت رأسها بالإيجاب.. ويَداها تكادُ أن تَتَكَسَّر أصابعها من فَرط ضَغطها عليها.. التَقطت صَوْتها المَدهوش من بين رُكام الصَّدمة لتتساءَل: يعني.. انترجن.. كانت طول هالفترة.. تحط له شي في أكله يخليه يضر زوجته!
أَكَّد: هذا الظاهر لي.. اسمها مُستحيل يكون جاي صدفة.. والمادة اللي شافوها في تحاليلش تأكّد أكثر "اسْتطردَ" بسألش.. هي من متى تشتغل عندهم؟
دَعَكت صدغها بسبّابتها مُجيبةً: مو من زمان.. بعد ما انتقلوا لبيتهم هذا اشتغلت عندهم.. هي والسواق.. عمي سلطــ "شَهْقة مُسَنّنة بَترت كلمتها وجَرحَت حَلْقها الغاص بالصَّدمة.. صاحَت وابْتسامة مُحَمِّد كانت الجواب" سلطــان.. سلطـــان اللي وظفها ووظف السواق.. يعني هــو.. هــوو سبب كل اللي صار
رَدَّ مُوصِلاً الخطوط إلى نقاطها حتى تكتمل الصورة المشوّهة: يوسف قال إنّه كان معاهم في المكتب ليلة الجريمة.. سلطان لعب هاللعبة القذرة من طفولة يوسف لين اللحين عشان يعيَشه في صراع ما بين الواقع الوهم.. عشان تسقط عنه الشهادة وما يتم التحقيق معاه.. المادة اللي ظهرت في التحاليل تسبب الهلوسة وتعطّل وظايف بعض أعضاء الجسم.. تسبب خلل مؤقت في الأعصاب.. جسمش النحيل ما تحمّل قوتها وتصدّى لها مباشرة عشان جذي صادش هالاستفراغ.. لكن يوسف.. الله العالم من متى وجسمه يتعذب من هالمادة ومحّد داري!
ارْتَفعت يَداها بارْتعاشٍ إلى وَجْهها.. ضَغَطَت عليه وجحوظ عَيْناها كان المَعْبَر لمسير الدَّمع المُحَمَّل بذهول الروح وهَلعها.. هَمَسَت بشهقة مُتعَرِّجة: لـ ـلـيش.. ليـ..ــش... ليـش!
أجابَ بجوابٍ واحد هَوى فَوْق قَلْبها صَخْرة قَذفها إلى حاضرهم نِفاق سلطان مُنذ عشرون عامًا: لأن أبوش انذبح.. ومن غير أدنى شك.. انذبح بيدين سلطـان
،
عَوْدة لليلة الماضية.. تَحديدًا مَطْبخ منزل يوسف وحُور. سَكَبت العَصير في الكؤوس النظيفة والمَصْفوفة في طَبق التَّقديم بترتيب.. بعد انتهائها أخرجت من جيبها بحذر وهي تَسْترق النظر للباب؛ كيس شفاف صغير جدًّا.. أفرغت ما فيه في أحد الكؤوس ثُمَّ أَدارت المزيج حتى اختلط جيّدًا.. حملت الطَبق بظهر مُسْتقيم وابْتسامة احْترفت ارْتدائها لسنوات.. ابْتسامة ينطوي خَلْفها كَيْدٌ قَذِر.. تحركت لتخرج من المَطبخ.. وعند الباب تَقابلت مع حور التي قالت بابْتسامة: هذا يكفي انترجن.. أنا سأوزّع العصير.. أنتِ عودي إلى غرفتكِ وارتاحي.. يومكِ كان طويل ومُتعب
رَفَضت سَريعًا وهي تُشَدّد من مَسكتها للطبق: لا لا.. سيدتي.. لستُ مُتعبة
مَدَّت يَدها للطبق قائلة: لا أنا مُحرجة.. عملتِ كثيرًا اليوم.. أعطني إياها
أَبعدتها عنها وهي تَتصنع الضحكة: أووه سيدتي.. وكأننا نلهو.. دعيني أواصل عملي.. لا مُشكلة في ذلك
رَفعت كتفيها باسْتسلام: مثلما تُريدين "أرْدفت بأمر لَطيف" لكن هذه مُهمّتكِ الأخيرة.. بعد الانتهاء منها أنا آمرك بالذهاب إلى غرفتك من أجل الراحة
أَوْمأت بطاعة: حسنًا سيدتي
غَمزت لها وبضحكة ويدها تتناول أحد الكؤوس بعشوائية: سأسهّل عليكِ المُهمة
فَغرت فاهها للحظات قَبْلَ أن تهتف مُعترضة: لكــن سيدتي.. العصيــر
ضَحكت: ماذا؟ ما به العصير؟
: انتو الثنتين شعندكم؟ صار لكم ساعة واقفين عند باب المطبخ تهذرون
اسْتدارت حُور لملاك والابْتسامة لَم تُبارح شَفتيها لتُجيبها: أحاول أقنعها تترك اللي في ايدها وترتاح.. بس مو راضية.. تبي توزع العصير وبعدين ترجع لغرفتها
أشارت للعصير الذي في يدها وبتساؤل: برتقال؟
أَكَّدت: اي.. فريش هي عاصرته "مَدَّت لها الذي في يدها تحت نظرات انترجن المُتَخبّطة" خذي ذوقي
تناولته منها مَلاك.. ارْتشفت رشفتان ثُمَّ حادثت انترجن بابْتسامة ناعمة: لذيـذ جدًا.. شُكرًا لكِ انترجن
,،
كانت تَستريح على إحْدى الأَرائِك الطَّويلة عندما سَألتها والدتها: طلال بعد بيجي يتغدا؟
أَجابت وهي تُرَتِّب الوسائِد الصغيرة خَلف ظَهرها: لا.. بيتغدا في الشغل.. دوامه للمغرب اليوم
وَقَفت: زين بقوم أنجب على ما يوصل أبوش
رَفعت جَسدها: بجي أساعدش
أشارت لها بالبقاء: إنتِ انسدحي ارتاحي.. كفاية زحمة المستشفى والوقفة طول اليوم.. ريحي ظهرش
اسْتجابت وعادت لوضعها السابق.. جَسدها مُمتد باسْترخاء على الأريكة.. شعرها مُحَرّر من رَبطته ليتناثر كنَهرٍ من الكاكاو حَوْل صُبْح وَجْهها المُرْهَق.. أسْبَلت جِفْنيها وهي تُحاول أن تَحيد بمَسْمَعيها عن الغَوغاء وهي تَصخب داخلها.. بَدأت تُصغي لأنفاسها وتُرَتِّب خطواتها لتنتظم وهي تَعبر صَدرها.. يَداها مَبْسوطتان فَوْقَ بَطْنها.. تَتَحسّس تكوّره البَسيط.. قُرابة الأربعة أشهر تفصلها عن لقائه.. عن لقاء الإنسان الذي خَلَقهُ الله في رَحْمها من صُلْب طَلال.. حَبيب عُمْرها. ارْتَعَشَ جْفناها واضَّطرَبت أهدابها.. كما لو أَنَّ مَخاضًا قَد أصابَ عَيْنها لِتَلِد دَمْعة تَنوح على فَقْدٍ سَبّبه والدها.. حَبيب وُجودها. ماذا لو وافق عليه ليلتها؟ ماذا لو كانت لطَلال مُنذ تلك اللحظة؟ هي زوجته هُو.. لا أحد غيره.. لا عبد الله ولا أي أحد آخر.. حينها لن تَتراشق عليها سِهام بلقيس المَسْمومة.. ولَن تُهاجم واقعها أسواط كوابيس تَجلد طُهرها وضَميرها. ماذا لو قَبَلَ به! كيف كانت ستصبح الحياة؟
قُبلة عنوانها الحُب والرَّأفة والحَنان.. ها هي تَحُط على جَبينها.. شَرعت بوّابَتيها.. أَبْصَرت وَجْهه الذي لطالما كان انعكاسًا لكُل الذي يتوارى بين زوايا رُوحها.. كانت عَيْناه كَلامها الأَبكم.. وابْتسامته سَعادتها المُتَرَدّدة.. ولسانه شعورها المُصْمَت قِسْرًا.. فكيف لهُ أن يَغْفَل عن الحُب الذي عاشَ في نِفْسها.. بين حُجرات قلبها.. تَحت جلدها.. مُمتزجًا مع حواسها وعلى ملامحها؟ كَيْــف! بلا إرادة منها.. وبسبب عُمْق الجِرح المُنتَحِب في صَدرها.. انزَلقت من عَيْنها دَمْعة توالت من بعدها الدّمعات والشهقات المُوْجِعة. تَجَهَّمَت ملامحه وباضطراب جلس على رُكبتيه ليرفعها مُتسائِلاً بصدمة: يُبــه نُور! شصايــر؟؟
تَنَشَّقَت وألَم أضلاعها يَسْتَبِد بها.. كانت تَشعر بأنّها تَحْمل انكسار طَلال في صَدرها.. لا تُغالي إذ هي قالت بأَنّها كانت تَسْمع خَشْخشة أضلاعه التي هَشّمها رَفْض والدها.. اسْتَلَّت من الغَصّة كلماتها لتنطق بأسىً كَئيب وتعاسة مُوْحِشة تَذيلها عِتابٌ لاذع: أوجعنـ ـي رفضك له.. وأوجعني.. إنّـ ـه ما يدري شكثر قلبي كان يحبـ ـه.. بس اللي قاعد ياكلني.. ويقطّع روحي قطعة قطعة.. وأحسه يدوس فوق قَلبي.. كَسْرِتَــ ـه.. إنت كَسَرته يُبه.. إنت كَسَرته مع إنّك أكثر واحد يدري شكثر هو انكسر.. تعرف عدد جروحه وخيباته.. هدمت حلمه يُبـه.. نهبته من ايده بجذبـة.. جذبـــة! "تَلَفَّتت وكأنّها تَبْحث عن البؤرة التي سَتجذبها للحظة التي انتحر فيها حُلْمه لتراه.. تطعن قلبها وتراه" أتخيل شعوره حزتها.. شلون قَدر يحمل قلبه اللي طَعنته ويمشي! دموع رُوحه بقت داخله لو تفجرت وغرقته! شكـ ـى لمن؟ أي حضن احتوى انكساره؟ من اللي جمع قَلبه بعد ما قسمته نصين! يُبه إنت خذلته.. خذلته.. وخذلتنـ ـي "واللوعة تَلْتهم صَوْتها المَبْحوح" آخــ ـر واحد كنت أعتقد إنّه بيخذلني.. هو إنـ ـت!
اهْتَرَت ملامحه.. أَرْخى طَرْفه وجَثى جَواه على رُكْبَتيه.. أَطْبَقَ شَفتيه، فلا جَدوى من الكَلام.. شَدَّ قَبْضَتيه.. فكَفّه فَقيرة من دِفء.. ماتَ فيها الرَّبيع وغَفت بَيْن خطوطها قِطع جَليدية لاسعة.. لا تُريد منكَ الآن مَسْحة ولا تَربيت.. لا تُريد أَسفًا ولا تَبريرًا.. لا تُريد حُضنك ولا أُبوّتك.. أَنتَ خذلتها ناصِر.. خَذَلت قِطعة قَلبك. وَقفَ وعلى كَتفيه عباءة الانهزام.. التوى عِرْقٌ في ضَميرها.. فهي لَم تَعْتَد أن تُبصره بهذا الحال.. ازْدَردت ريقها بصعوبة.. وهو هَمَس وعَيْناه تَهربان من النَظرة العابرة مُقلتيها باتّجاه رُوحه: كنت أظن إنّي.. سويت الصح.. لش وله.. كنت أظــن!
,،
أَطْفأت الأَضواء جَميعها مُكتَفِية بضَوءٍ أَصْفَر خافِت يَسْتَقِر فَوْقَ رأسها.. ذَكرت مُنذ الصباح من خلال لوحة الإعلانات ومن خلال الحساب الخاص بالمتجر؛ بأنّه سَيُغْلَق اليوم في وقتٍ مُبَكِّر.. في حدود الساعة الثامنة مساءً.. وها هو المَتجر مُغْلَق وفارغٌ من جَميع مُوَظّفيه.. الباب الزُّجاجي تَزاحَمَ فَوْقه الضَّباب مما حَجَبَ عنها رؤية الذي خَلفه بوضوح. نَظَرَت لساعة رِسْغها.. الثامنة وعشرون دَقيقة.. عشر دَقائق على المَوْعد.. زَفَرت رُعْبها وهي تَرْتعش.. ساعتها وهي تنتظر، شَعرت وكأنَّ الشتاء يَبزغ من جَسدها. فَرَكت كَفّيها ببعضهما البعض وهي تُقَرّبهما من فَمها لتَمنحهما بَعض دفء.. لكن لا فائدة.. تَعتقد أَنّ بدخوله سَتَتحول إلى قالَبٌ ثَلجي.. مَهما قالت.. ومهما كَذبت على نفسها وعلى رائد.. فهي تَخافه.. تَخاف من حَيْوانية أَفعاله.. تَخافُ من ضَميره المُنتحر.. خُبْثه وخَواء قَلْبه. سَترت رُعبها المَسْفوك على مَلامحها بكَفّيها.. أَغْمَضت وهي تُجاهِد للظَفر بشَهيقٍ سَوي.. حاولت أن تُهَدّئ من رَوْعها المُهَدِّد بالانهيار.. لكن ساعات ذلك الفَجر الأَسود كَشَّرت عن أنيابها أَمام ذاكرتها.
،
شَخَصَ بَصَرُها لفترةٍ لَم تَكُن فيها واعِية لا للزمن ولا للمكان.. لوَهلة ظَنَّت وكأنَّها قَد قُذِفَت في دَوَّامة رَمادية تَتَلقّفها ذات اليَمين وذات الشِّمال.. ما بين الماضي الأَسود.. والحاضر المُناضِل من أَجل البياض. نَطَقت باسْمه بلا صَوت.. حَركة شفاه لا أكثر.. حركة فَزَع لا غير.. تَسَلَّقت يَدها إلى صَدْرها وهي تَتَسَوّر بالارْتعاش.. قَبَضت على ردائها وهي تَنْكمش كورقة خَريفية.. كُل القوة التي كانت تَتباهى بها تلاشت من بين أصابع يَديها.. تَكَوَّمَ البُكاء في حَلْقها وثَقُلَت أَجْفانها من حِمْل الغَمام.. لَحْظتها صَرخت في جَوْفها تُنادي بــ "رائـــد". حاولت أن تُلَمْلِم شَتاتها.. أن تُعيد تَرقيع رَتق شَجاعتها المُهْتَرِئة.. فَتَحَت فَمها.. ابْتَلَعت هواءً بارِدًا فَغَصّت.. سَعُلَت لثواني ثُمَّ هَمَست ببحّة مُضاعَفة: خَــ ــ ..ــ ــخــ ـوفتنـ ـي!
وَقَفَ من على مقعد التسريحة.. خَطَى إليها وفي عَيْنيه شَرٌّ لا تَستطيع تَرجمته.. أَحْنى جذعه حتى قابلها بوجهه الأسْود، المُحْتَكِر قُبْح العالم أَجْمع.. هَمَسَ بفحيحٍ قاتِل: ترى إذا طالت لعبتش.. بتشوفين شي عمرش.. عمــرش ما شفتيه يا وَعد "سَخَر بابْتسامة مائلة" هذا إذا كان اسمش وَعد فعلاً!
تَساءَلت بتأتأة وقبضتها تزداد على ردائِها: أي.. أي لـ ـلــ ـعبة!
ارْتَفَعَ حاجبه: إنتِ أَدرى
هَزَّت رأسها سريعًا تنفي اعتقاده الصَحيح: لا.. لا.. مو قاعدة ألعب.. صدقني.. مو لعبة
اخْتَرَقت حَلْقها شَهْقة هَلِعة حينما قَبَضَ على ذراعها بشراسة.. شَدَّ عليها وهو يَهْمس بتهديدٍ تَعلمُ يَقينًا أنّهُ سَيُحَقّقه: كل مرة تسكتيني بجم كلمة.. وبعدها ما أشوف شي.. لكن والله.. وهذاني حلفت.. والله إذا انتهى هالأسبوع وما شفت شي.. راح أقلب حياتش لجحيــم "هَزّها بجلافة مُكمِلاً" مَحّد كفو إنّه يتلاعب في وقتي وفي أفكاري... مَحّـــــد
هَمَسَت بأنفاسٍ مَشْروخة وهي تَشعر بانسلال الثبات والاتزان من أَطرافها: قريب.. قريــب.. كل شي بيتوضح قريب.. صدقني
,
رَمَشت بخفّة.. الباب فُتِح.. رَفعت عَيْنيها.. كان هُو.. أَمَرت قَلْبها لألا يَرْتعد.. فليَكُف عن الخَوْف والجُبْن البَغيض.. اسْتدارت بصمْتٍ خَيّمَ على المَكان بَعْدَ أن أَدار القفل.. مَشَت وصَوْت كَعبها يَشق سكون الليل وهو يَتبعها؛ ماشِيًا بِقَدَمين لطالما حَمِلَتاه للذّبِح والنّهب وتدمير الإنسان. وَصلا للمَخْزن الخاص بمكوّنات المخبوزات والحلويات.. أَغْلَقت الباب ثُمَّ وَقَفت عند الرَّف الخَشبي المَصْفوفة عَليه أكياس لها لونٌ قشدي.. أَخْرَجت من جَيْب بنطالها الخَلْفي سكّينًا مَسْلولة خَطَف التماعها لُبّه.. فيمَ سَتستخدمها! وقَبْلَ أن يُقَلِّب أَفْكاره.. رَفعت يَدها ثُمَّ وبقوة هَوت على أَحد الأكياس وبحركة واحدة شَقّتهُ لتَتناثر منهُ ذراتٍ صَغيرة مثل شَلالٍ أَبيض يَمضي إلى الأرض الخشبية مُكَوِّنًا هِضاب.. ذرات يَعرفها جَيّدا وهي تَعرفه.. ذرات أَجْبَرته على الاستسلام لِقَبْضة الصِّدمة التي أَثارت اسْتهزاءها. نَطَقت وحاجبها الذي يَعْتلي جَبَل الثّقة أَكّد لهُ بأَنّه قَد اسْتَصغرَ أمرها أكثر من اللازم..: مئـــة كيلو من الكوكايين
,،
يتبع
تَوكلتُ على الله
الجزء الثامن والخمسون
الفَصل الأول
أَصْوات تأفف.. زَفرات مُتململة.. تَمْتمات مَكْتومة يَبْدو عليها الحَنق.. فَتَحت عيْنيها الضّائِقَتين من حَشوة النّعاس ومن الشمس المُتَسَكِّعة في الغرفة.. أَبْعدت خصلاتها عن وجهها باحِثَةً عنه.. كان يَقِف أَمام المرآة وظَهره يُقابلها.. دَعكت عيْنها ثُمَّ رَمَشت لمرّات مُتتالية مُحاولة أَن تُبصرهُ جَيِّدًا.. اسْتدارَ هُو بطريقة مُفاجِئة ومن فَمه عَبَرت زَفْرة مَسْموعة، وبيديه شَدَّ على قَميصه كما لو أنّه سَيُقَطّعه قَهرًا.. هي التي اسْتوعبت ما يجري هَمست: ليش ما قعدتني؟
انتبه لها.. تَرَك القميص مفتوحًا وهو يُجيب دون أن يَنظر لعينيها: مو إنتِ زعلانة عَلي
تَنَهَّدت وهي تَعتدل لتجلس على رُكْبتيها وتُناديه: تعال
اسْتجابَ لها مُباشرة لأنّه لأكثر من خمس دقائق كان يحاول أن يُزرر قَميصه وجميع محاولاته باءَت بالفشل.. تَوَقَّفَ أَمامها.. تناولت طَرفي القَميص لتغلق الأزرار وهي تَهمس: تستاهل إني أزعل عليك
اسْتَنكرَ بحاجِبَين مُرْتَفعين: اللحين من الغلطان؟ أنا ولا أبوش؟
رَنَت لهُ بحدّة: اثنينكم
دافعَ عن نفسه: أنا ما سويت شي غلط
كَشَفت لهُ عن مَقصَدها وغَصّة الخَيْبة تُشاكس حَلْقها: واعتقادك إنّي ما أبيك عشان تعليمك؟ وإنّي أفضّل الدكتور عليك؟ وإنّي ما أحبّك؟
بَرَّرَ وملامحه يُخامرها ضيقٌ يَرفض أن يَعتقه: نُور.. إنتِ تعلقتين فيني في طفولتش ومراهقتش.. في فترات ما يُعَوَّل على الحُب فيها.. شدراني إذا هالتعلق بقى بعد نضوجش؟ شدراني إنّه تطور لحُب!.. نُور أنا تربيت على إن خواتي.. اللي من لحمي ودمي يكرهوني ويستغلون أي فرصة عشان يجرحوني ويهينوني.. ما أنلام إذا راودني شك بخصوص محبّتش لي.. إنتِ الغريبة... المتفوقة والدكتورة.. أنا كنت ولاشي نُور.. ولا شي.. ثقتي في نفسي عَدم.. فمو شي غريب إنّي أَصَدِّق كلام ناصر!
والدَّمعُ يَهْتَزُ في مآقيها: بـس أنا حبّيـ ـتك.. حبّيــتك
رَدَّ وهو يَسكب بصوته دَمعٌ مُوارب: وأنا حبّيتش.. إنتِ كنتِ ولا زلتِ أغلى شي في حياتي.. بعد ما فقدتش فقدت كل شي.. السعادة والابتسامة والرغبة في الحياة.. صدقيني كنت كل ليلة إذا حطيت راسي على المخدة أنتظر الموت.. أتمنى إن الصبح يتجاوزني وما اييني لأنّ رُوحي ما تتحمل يوم جَديد خالي من وجودش "احْتَضَنَ وَجْهها وبخطوط يَده تَشَرَّب صَبيب عَيْنيها.. هَمَسَ وهو يَمس جَبينها بجبينه" ما كنت واثق إن طلال اللي ولا شي.. تحبه نور اللي هي كل شي!
نَطَقت.. لا بَل نَطَق الحُلم المَنحور الذي غالهُ والدها: ضاعـ ـت سنين.. من عمرنا.. واحنا بعاد عن بعض.. ليــ ـش.. ليـــش!
مَضَت يَداه إلى عُنقها شَدَّ عليه بمَلق وهو يُقَرِّب وَجْهها منه: أُشش.. خلاص حَبيبتي.. هذي إرادة رَب العالمين.. ما ندري شنو الحكمة من اللي صار "أَتت لتفصح عما يختلج في نفسها إلا أَنَّه قاطعها بقُبلتين قَصيرتين مُتتاليتين قَبْلَ أن يهمس" خلاص يا عُمري.. ما يفيد الحجي اللحين.. اللي صار صار.. إنتِ ريحي قلبش بس "أخفض يُمناه لبطنها ليُردف بابْتسامة" حتى البيبي مسكين تضايق من هالكآبة
غادرت صَدرها تَنهيدة مُرْهَقة لتقول: لكن أنا لازم أكلّم أبوي
انكمشت ملامحه: متأكدة من هالقرار
هَزَّت رأسها بإصرار: اي طلال.. لازم أعرف ليش هو رفضك وحط أسباب من عنده للرفض من غير ما يقول لي
حَرّك كَتفه: على راحتش.. إذا الكلام معاه بيريحش.. فسوي اللي يرحيش
,،
يَجلس بِجذعٍ مُتَقَدِّم.. كَجلوس الوَجِل المُتَحَفِّز للخَطر.. شابِكًا يَديه، يُقَلِّب بَينَ راحَتيه قِلّة حيلته.. بصمت وسكون.. يُعاين الضَّجيج الحائِم في صدره.. ما بين قَلبه ونَبضه. انتبه لجلوس والده بجانبه.. ابتسم لهُ تلك الابتسامة الصفراء.. الشاحبة.. والباصقة ألوان الحياة من قُعر الرّوح.. قال والده وكأنّه يَتساءل: أشوفك قاعد اهني بو حسين
وَضَّح بهدوء: حَنين جايين لها بنات عيلتها، وأنا ما أبي أتركها.. أخاف تحتاج شي.. فقعدت اهني
تَساءَل باهتمام: وشلونها اليوم؟ ما صار عندي وقت أمر عليها وأتطمن
تَمْتَمَ بخفوت وجفنيه يَتّكئ فوقهما غراب البؤس: الحمد لله
اسْتَفسرَ: وشنو الحل اللحين يُبه مدام كل النتايج سليمة؟
أَجابَ وهو يَضغط الكَف بالكَف وبصره مُتعلّق بمنحدر الضياع: العلاج النفسي.. أنا خبّرتهم عن خوفها أول ما عَرَفت إنها حامل.. وساوسها.. وبعدها مشكلة المَشيمة وانهيارها قبل العملية.. والشهرين اللي قضاها حسين في المستشفى.. وآخر شي خَبّرتهم عن خوفها من التعامل معاه بشكل طَبيعي.. فأكّد لي الطبيب إن سبب هالشلل نفسي.. وتحتاج لعلاج نفسي.. جَلسات بس.. وطبعًا تداوم على العلاج الطَبيعي.. وإن شاء الله بيتحسّن الوَضع.
: إن شاء الله "وبتساؤل" بس إنت ليش متكَدّر هالكثر يُبه؟ الحمد لله في حل لمشكلتها
أَفْصَحَ ويَده تَسْتقر فَوْق جَبينه: خايف هي ما تقبل بهذا الحَل
عَقَدَ حاجِبَيه مُسْتَغرِبًا: وليش؟ ما تبي هي تتحسن صحتها وترجع لحياتها الطبيعية؟!
رَدَّ: امبلى يُبه.. بس أقصد "بَلّلَ شَفتيه ثُمَّ أكمل وهو يعود لِشبك يَديه" أقصد إنها ما بتقبل بالعلاج النفسي.. أنا أعرف حَنين.. أدري إنها راح تَتحسس من الموضوع
هَزَّ رأسه بتفهّم: لازم بتتحسس.. وخصوصًا هي هالفترة حساسيتها بتكون بزيادة.. بس إنت يا ولدي لازم بتكون مهيئ نفسك لأي ردة فعل.. وإن شاء الله راح تعرف تتصرف وفي النهاية هي بتوافق "رَبَّت على فَخذه وبابتسامة داعِمة" لا تحاتي يُبه.. كل الأمور راح تتعدّل
ابْتَسَم بخفّة وفؤاده يَعتلج بالقَلق: إن شاء الله
،
هُناك في الأعلى.. على يَمينها وشمالها تَسْتقر بنات أترابها.. كانت تَبكي.. تَجُر الوَجع المُتراكم داخلها وتَبكي.. يَأسها ورمادية أحلامها وانهيار صَرح ثقتها.. كُل ذلك كان ترجمانه الدّموع. هَمَسَت من بَيْن اخْتناقات أَنفاسها: راح أقول.. له.. يطلقني
أَغْمَضَت بقوّة وأصواتهن المُعترضة تَتكالب عليها من كل صَوْب.. قالت نُور بجديّة يُخالطها الغَضب: حَنين شهالحجي! ليش هذا التشاؤم الكَبير؟ ليش تسمحين لنفسش تستلم لليأس بهالسهولة!
أَيَّدتها غَيداء التي قالت: إنتِ مو ضَعيفة حَنين.. وإنتِ راح تتجاوزين هالمرحلة.. لا تتهورين وتهدمين حياتش بإيدش.. إنتِ بطلبش هذا راح تدمرين نفسش وتدمرين زوجش وتدمرين ولدش اللي توه طالع على الدنيا
نَطَقَت حُور بنبرتها الناعمة: وانتو تظنون بسّام بيوافق على طلبها؟ مُستحيــل.. بَسّام لو شنو يصير ما بيتخلى عنها
حَرَّكت رأسها تَرفض كُل الذي قيل وسَيُقال: أنا ما أقدر.. ما أقدر أعيش معاه وأنا جذي.. وأنا ضعيفة ومحتاجة.. وهُو.. مرده بيمل وبيتعب.. ما في رجال يصبر على مراة جذي.. ما فــي
قالت جِنان بنبرة غَلَّفتها باللُطف: حَبيبتي حَنين.. بسام بيمل وبيتعب.. هذا شي أكيد.. بس ما راح يتخلى عنش.. ما راح يسمح لنفسه يتركش محتاجة.. إنتِ زوجته وحبيبته وأم ولده.. راح يبقى معاش ويكون معاش خطوة بخطوة لين ما تنتهين من علاجش وترجعين مثل قبل... ما راح يتذمر ولا يتضايق.. راح يبقى سند وظهر
ببحّة وهي تُكَفكف دموعها: ما في شي يجبره إنّه يبقى.. أنا بريحه مني ومن مرضي.. بخليه يطلقني.. وخله يشوف حياته مع وحدة ثانية.. ما تتعبه.. ولا تبهذلـ ـه
عَقَدت جود حاجبيها مُسْتنكرة: وإنتِ عادي عندش يكون مُلك لمراة ثانية؟!
أَجابت وعَسَل عَينيها المُغرم بهِ تُلَوِّثهُ كَلماتها البَليدة: عـادي.. ما صار لنا حتى سنة من تزوجنا.. ما بيننا ذاك الحُب.. نقدر نتخلى عن بعض
عَلَّقت بتعجُّب: تفكيرش غَريـب!
جنان باسْتنكار كَبير: الغريب مو بس إنش راضية تنفصلين عنه وتتركينه لغيرش.. الغريب إنش راضية تبهذلين ولدش بهالقرار! حَنين إنتِ ما تدرين يعني شنو يتربى الطفل بين أم وأب منفصلين.. الموضوع أصعب وأعقد مما تتصورين
عَقَّبت تَسْتَسهل الموضوع: عـادي.. أطفال واجد تربوا مع أم وأب منفصلين وحياتهم أفضل من حياة الأطفال اللي ظلوا أمهم وأبوهم مع بعض بكل مشاكلهم وعقدهم النفسية اللي أثرت عليهم وعلى شخصياتهم
نُور بحدّة لا تُناسبها: حَنيــن.. مُشكلتش لها حل.. الاستسلام في بداية الطريق يدل على ضعفش واستهتارش بمشاعر الناس اللي حولش.. وأولهم بسّام
عَقَدت حاجِبَيها وأهْدابها المُبَلّلة تَنعى الانكسار السابح في رُوحها.. هَمَسَت بخواء: أنا ما أستهتر في مشاعره.. أنا بنقذه من الجحيم.. بنقذه من البهذلة.. الحياة قدامه ويقدر يقضيها مع امراة تحبه وما تكسر ظهره.. أنا عالّة.. بمنعه من أبسط حقوقه ومن إنّه يعيش حياته حُر.. إذا بقى معاي.. راح يكون للأبد ملتزم فيني.. راح أكون سجنه والقيد اللي يمنعه من الحَياة.
,،
أَبْصَرت الصُّبح والشمسُ بأبّهة تُراقص أَشِعّتها على الجدران والأَرضية الخشبية.. اسْتدارت يَمينًا جِهة النافذة.. الضَوْء الآتي منها قَوي.. تُرى كَم الساعة؟ انقلبت على يسارها حيث اعْتادت تضع هاتفها.. لكنّها لَم تجده على الدرج الجانبي.. لذلك رَفعت نَفسها وهي تَمُد ذراعيها في الهواء وتَمط عَضلاتها.. تَركت السرير وبيديها ساوت أطراف قميصها.. كانت نائمة بالملابس نَفسها التي ذهبت بها إلى منزل شَقيقها.. بنطال من الجينز وقميصٌ أَبيض.. غادرت الغرفة المفتوح بابها لِتَجد زَوجها على إحدى الأرائك يَعمل على حاسوبه.. قال دون أن يلتفت لها: صباح الخير
رَدَّت وهي تَتَكوَّم في زاوية الأريكة ذاتها: صباح النور "اسْتَفسرت" الساعة جم؟
نَظَر لساعة الحاسوب ثُمَّ أجاب: عشر وعشر
اتَّسَعت عيناها: أوووف.. أنا توقعتها بالكثير سبع "زَفَرت بضيق" اللحين شسوي ويا دوامي!
ابْتَسم وهو يرنو لها للحظات قَبْل أن يعود للشاشة ويوضّح: كتب لش الدكتور سِك ليف.. يومين بعد مو بس يوم
ارْتَفَعَ حاجِبَيها: والله!
هَزَّ رأسه: والله.. لأن تحتاجين للراحة
مالَ رأسها باستنادٍ للأريكة وهي تُعَبّر عن شعورها: والله حسيت روحي بتطلع من كثر ما استفرغت.. أول مرة يصديني جذي "صَمتت لثواني قَبْلَ أن تُرْدِف باعتراف" قبل.. يوم كنت في بيتنا القديم.. بين فترة وفترة إذا تذكرت حادثة أبوي.. وريحة الدم.. وريحة ذيك الليلة بالذات.. كنت أستفرغ.. بس ولا مرة كان الاستفراغ بهالعنف! غريـــب ومُخيف
أَخْفضَ شاشة الحاسوب بِصَمت.. تَراجع للخلف دون أن يُحَرِّك بَصره إليها.. إلا أَنّهُ بعد نصف دقيقة عَقَّبَ بنبرة هادئة: الدكتور شك إنش ممكن تكونين حامل
انَطوت على نفسها أكثر وهي تحشر يديها بين فَخذيها.. حَكّت خدّها بخجل وحُمْرة خَفيفة لاطفت وَجْنتيها.. همست: مو حامل
أَكَّد: اي.. مو حامل.. سوى لش تحاليل
أَفصحت: ولا حسيت بشي.. ما أذكر أصلاً شصار.. بس أذكر إنّك حملتني للمستشفى ومن بعدها ما أذكر شي
هَمهم ثُمَّ قال: طبيعي إنش ما تتذكرين.. هذا المطلوب كان
عُقْدة عَدم فَهم تَوَسَّطت حاجبيها: شلون يعني؟ شتقصد!
قابلها بسؤال مُفاجئ: تعرفين يعني شنو انترجن؟
رَدَّدت خلفه: انترجــن! "استنكرت" شدخلها اللحين؟ وبعدين هذا اسم.. شدراني شمعناه في بلدها.. أصلاً مادري هي من وين!
وَضَّحَ مُزيحًا الخمار الثَقيل عن أعينهم البريئة: المُفترض إنها ألمانية.. لأن اسمها له معنى بالألمانية
اعْتَدلت في جلوسها لتسألهُ بانتباه شَديد: وشنو معناه؟
بخفوت وعيْناه تُراقبان ملامحها بدقّة: انترجن.. يعني مَكيدة.. دَسيسة
ازْدادت عُقدتها: انزيــن! ليش هذا اسمها.. وليش اسمها له دخل باللي صار؟!
اسْتدارَ إليها بكامل جَسده لينطق ببطء شارِحًا لها: مَلاك.. العصير خبرتيني إن انترجن عصرته لكم.. ومن بعد ما شربتيه تبهذلت حالتش
ارْتَفَع حاجِباها وكأنّها للتو تَعي ما يقصد: تتوقع حاطة لي شي في العصير؟ بس ليــش! أنا ما سويت لها شي ولا ضريتها
حَرَّك رأسها ينفي صِحّة ما تقوله: اللي في العصير ما كان حقش.. كان ليوسف
هَتَفَت بصدمة: شنـــو!
قال يُذَكّرها: إنتِ قبل قلتين لي إن كان بينه وبين زوجته مشاكل صح؟ بس ما وضحتين لي بالضبط هالمشاكل.. أقدر اللحين أعرف؟
ازْدَردت ريقها المَرْعوب وهي تستقر على رُكْبتيها بجلوسٍ وَجِل.. أَبْعدت خصلاتها عن وجهها لمرات مُتتالية.. حتى أنّها في المرة الثانية والثالثة كانت لا تُبْعِد سوى الوَهم المذي يُحاوطها.. أَجابت بتردّدٍ التهمهُ الهَمس: كــ ـكــ ـ.. كـان.. كان يضربها.. ضرب مو طبيعي.. يسيّل دمها.. جم مرة.. يضربها.. بـس.. بـ ـس هو.. يقول ما يذذ...كـ ـ
أكْمَل عنها بثقة: ما يذكر.. يقول إنّه ما يذكر إنّه ضرها.. صح؟
هَزَّت رأسها بالإيجاب.. ويَداها تكادُ أن تَتَكَسَّر أصابعها من فَرط ضَغطها عليها.. التَقطت صَوْتها المَدهوش من بين رُكام الصَّدمة لتتساءَل: يعني.. انترجن.. كانت طول هالفترة.. تحط له شي في أكله يخليه يضر زوجته!
أَكَّد: هذا الظاهر لي.. اسمها مُستحيل يكون جاي صدفة.. والمادة اللي شافوها في تحاليلش تأكّد أكثر "اسْتطردَ" بسألش.. هي من متى تشتغل عندهم؟
دَعَكت صدغها بسبّابتها مُجيبةً: مو من زمان.. بعد ما انتقلوا لبيتهم هذا اشتغلت عندهم.. هي والسواق.. عمي سلطــ "شَهْقة مُسَنّنة بَترت كلمتها وجَرحَت حَلْقها الغاص بالصَّدمة.. صاحَت وابْتسامة مُحَمِّد كانت الجواب" سلطــان.. سلطـــان اللي وظفها ووظف السواق.. يعني هــو.. هــوو سبب كل اللي صار
رَدَّ مُوصِلاً الخطوط إلى نقاطها حتى تكتمل الصورة المشوّهة: يوسف قال إنّه كان معاهم في المكتب ليلة الجريمة.. سلطان لعب هاللعبة القذرة من طفولة يوسف لين اللحين عشان يعيَشه في صراع ما بين الواقع الوهم.. عشان تسقط عنه الشهادة وما يتم التحقيق معاه.. المادة اللي ظهرت في التحاليل تسبب الهلوسة وتعطّل وظايف بعض أعضاء الجسم.. تسبب خلل مؤقت في الأعصاب.. جسمش النحيل ما تحمّل قوتها وتصدّى لها مباشرة عشان جذي صادش هالاستفراغ.. لكن يوسف.. الله العالم من متى وجسمه يتعذب من هالمادة ومحّد داري!
ارْتَفعت يَداها بارْتعاشٍ إلى وَجْهها.. ضَغَطَت عليه وجحوظ عَيْناها كان المَعْبَر لمسير الدَّمع المُحَمَّل بذهول الروح وهَلعها.. هَمَسَت بشهقة مُتعَرِّجة: لـ ـلـيش.. ليـ..ــش... ليـش!
أجابَ بجوابٍ واحد هَوى فَوْق قَلْبها صَخْرة قَذفها إلى حاضرهم نِفاق سلطان مُنذ عشرون عامًا: لأن أبوش انذبح.. ومن غير أدنى شك.. انذبح بيدين سلطـان
،
عَوْدة لليلة الماضية.. تَحديدًا مَطْبخ منزل يوسف وحُور. سَكَبت العَصير في الكؤوس النظيفة والمَصْفوفة في طَبق التَّقديم بترتيب.. بعد انتهائها أخرجت من جيبها بحذر وهي تَسْترق النظر للباب؛ كيس شفاف صغير جدًّا.. أفرغت ما فيه في أحد الكؤوس ثُمَّ أَدارت المزيج حتى اختلط جيّدًا.. حملت الطَبق بظهر مُسْتقيم وابْتسامة احْترفت ارْتدائها لسنوات.. ابْتسامة ينطوي خَلْفها كَيْدٌ قَذِر.. تحركت لتخرج من المَطبخ.. وعند الباب تَقابلت مع حور التي قالت بابْتسامة: هذا يكفي انترجن.. أنا سأوزّع العصير.. أنتِ عودي إلى غرفتكِ وارتاحي.. يومكِ كان طويل ومُتعب
رَفَضت سَريعًا وهي تُشَدّد من مَسكتها للطبق: لا لا.. سيدتي.. لستُ مُتعبة
مَدَّت يَدها للطبق قائلة: لا أنا مُحرجة.. عملتِ كثيرًا اليوم.. أعطني إياها
أَبعدتها عنها وهي تَتصنع الضحكة: أووه سيدتي.. وكأننا نلهو.. دعيني أواصل عملي.. لا مُشكلة في ذلك
رَفعت كتفيها باسْتسلام: مثلما تُريدين "أرْدفت بأمر لَطيف" لكن هذه مُهمّتكِ الأخيرة.. بعد الانتهاء منها أنا آمرك بالذهاب إلى غرفتك من أجل الراحة
أَوْمأت بطاعة: حسنًا سيدتي
غَمزت لها وبضحكة ويدها تتناول أحد الكؤوس بعشوائية: سأسهّل عليكِ المُهمة
فَغرت فاهها للحظات قَبْلَ أن تهتف مُعترضة: لكــن سيدتي.. العصيــر
ضَحكت: ماذا؟ ما به العصير؟
: انتو الثنتين شعندكم؟ صار لكم ساعة واقفين عند باب المطبخ تهذرون
اسْتدارت حُور لملاك والابْتسامة لَم تُبارح شَفتيها لتُجيبها: أحاول أقنعها تترك اللي في ايدها وترتاح.. بس مو راضية.. تبي توزع العصير وبعدين ترجع لغرفتها
أشارت للعصير الذي في يدها وبتساؤل: برتقال؟
أَكَّدت: اي.. فريش هي عاصرته "مَدَّت لها الذي في يدها تحت نظرات انترجن المُتَخبّطة" خذي ذوقي
تناولته منها مَلاك.. ارْتشفت رشفتان ثُمَّ حادثت انترجن بابْتسامة ناعمة: لذيـذ جدًا.. شُكرًا لكِ انترجن
,،
كانت تَستريح على إحْدى الأَرائِك الطَّويلة عندما سَألتها والدتها: طلال بعد بيجي يتغدا؟
أَجابت وهي تُرَتِّب الوسائِد الصغيرة خَلف ظَهرها: لا.. بيتغدا في الشغل.. دوامه للمغرب اليوم
وَقَفت: زين بقوم أنجب على ما يوصل أبوش
رَفعت جَسدها: بجي أساعدش
أشارت لها بالبقاء: إنتِ انسدحي ارتاحي.. كفاية زحمة المستشفى والوقفة طول اليوم.. ريحي ظهرش
اسْتجابت وعادت لوضعها السابق.. جَسدها مُمتد باسْترخاء على الأريكة.. شعرها مُحَرّر من رَبطته ليتناثر كنَهرٍ من الكاكاو حَوْل صُبْح وَجْهها المُرْهَق.. أسْبَلت جِفْنيها وهي تُحاول أن تَحيد بمَسْمَعيها عن الغَوغاء وهي تَصخب داخلها.. بَدأت تُصغي لأنفاسها وتُرَتِّب خطواتها لتنتظم وهي تَعبر صَدرها.. يَداها مَبْسوطتان فَوْقَ بَطْنها.. تَتَحسّس تكوّره البَسيط.. قُرابة الأربعة أشهر تفصلها عن لقائه.. عن لقاء الإنسان الذي خَلَقهُ الله في رَحْمها من صُلْب طَلال.. حَبيب عُمْرها. ارْتَعَشَ جْفناها واضَّطرَبت أهدابها.. كما لو أَنَّ مَخاضًا قَد أصابَ عَيْنها لِتَلِد دَمْعة تَنوح على فَقْدٍ سَبّبه والدها.. حَبيب وُجودها. ماذا لو وافق عليه ليلتها؟ ماذا لو كانت لطَلال مُنذ تلك اللحظة؟ هي زوجته هُو.. لا أحد غيره.. لا عبد الله ولا أي أحد آخر.. حينها لن تَتراشق عليها سِهام بلقيس المَسْمومة.. ولَن تُهاجم واقعها أسواط كوابيس تَجلد طُهرها وضَميرها. ماذا لو قَبَلَ به! كيف كانت ستصبح الحياة؟
قُبلة عنوانها الحُب والرَّأفة والحَنان.. ها هي تَحُط على جَبينها.. شَرعت بوّابَتيها.. أَبْصَرت وَجْهه الذي لطالما كان انعكاسًا لكُل الذي يتوارى بين زوايا رُوحها.. كانت عَيْناه كَلامها الأَبكم.. وابْتسامته سَعادتها المُتَرَدّدة.. ولسانه شعورها المُصْمَت قِسْرًا.. فكيف لهُ أن يَغْفَل عن الحُب الذي عاشَ في نِفْسها.. بين حُجرات قلبها.. تَحت جلدها.. مُمتزجًا مع حواسها وعلى ملامحها؟ كَيْــف! بلا إرادة منها.. وبسبب عُمْق الجِرح المُنتَحِب في صَدرها.. انزَلقت من عَيْنها دَمْعة توالت من بعدها الدّمعات والشهقات المُوْجِعة. تَجَهَّمَت ملامحه وباضطراب جلس على رُكبتيه ليرفعها مُتسائِلاً بصدمة: يُبــه نُور! شصايــر؟؟
تَنَشَّقَت وألَم أضلاعها يَسْتَبِد بها.. كانت تَشعر بأنّها تَحْمل انكسار طَلال في صَدرها.. لا تُغالي إذ هي قالت بأَنّها كانت تَسْمع خَشْخشة أضلاعه التي هَشّمها رَفْض والدها.. اسْتَلَّت من الغَصّة كلماتها لتنطق بأسىً كَئيب وتعاسة مُوْحِشة تَذيلها عِتابٌ لاذع: أوجعنـ ـي رفضك له.. وأوجعني.. إنّـ ـه ما يدري شكثر قلبي كان يحبـ ـه.. بس اللي قاعد ياكلني.. ويقطّع روحي قطعة قطعة.. وأحسه يدوس فوق قَلبي.. كَسْرِتَــ ـه.. إنت كَسَرته يُبه.. إنت كَسَرته مع إنّك أكثر واحد يدري شكثر هو انكسر.. تعرف عدد جروحه وخيباته.. هدمت حلمه يُبـه.. نهبته من ايده بجذبـة.. جذبـــة! "تَلَفَّتت وكأنّها تَبْحث عن البؤرة التي سَتجذبها للحظة التي انتحر فيها حُلْمه لتراه.. تطعن قلبها وتراه" أتخيل شعوره حزتها.. شلون قَدر يحمل قلبه اللي طَعنته ويمشي! دموع رُوحه بقت داخله لو تفجرت وغرقته! شكـ ـى لمن؟ أي حضن احتوى انكساره؟ من اللي جمع قَلبه بعد ما قسمته نصين! يُبه إنت خذلته.. خذلته.. وخذلتنـ ـي "واللوعة تَلْتهم صَوْتها المَبْحوح" آخــ ـر واحد كنت أعتقد إنّه بيخذلني.. هو إنـ ـت!
اهْتَرَت ملامحه.. أَرْخى طَرْفه وجَثى جَواه على رُكْبَتيه.. أَطْبَقَ شَفتيه، فلا جَدوى من الكَلام.. شَدَّ قَبْضَتيه.. فكَفّه فَقيرة من دِفء.. ماتَ فيها الرَّبيع وغَفت بَيْن خطوطها قِطع جَليدية لاسعة.. لا تُريد منكَ الآن مَسْحة ولا تَربيت.. لا تُريد أَسفًا ولا تَبريرًا.. لا تُريد حُضنك ولا أُبوّتك.. أَنتَ خذلتها ناصِر.. خَذَلت قِطعة قَلبك. وَقفَ وعلى كَتفيه عباءة الانهزام.. التوى عِرْقٌ في ضَميرها.. فهي لَم تَعْتَد أن تُبصره بهذا الحال.. ازْدَردت ريقها بصعوبة.. وهو هَمَس وعَيْناه تَهربان من النَظرة العابرة مُقلتيها باتّجاه رُوحه: كنت أظن إنّي.. سويت الصح.. لش وله.. كنت أظــن!
,،
أَطْفأت الأَضواء جَميعها مُكتَفِية بضَوءٍ أَصْفَر خافِت يَسْتَقِر فَوْقَ رأسها.. ذَكرت مُنذ الصباح من خلال لوحة الإعلانات ومن خلال الحساب الخاص بالمتجر؛ بأنّه سَيُغْلَق اليوم في وقتٍ مُبَكِّر.. في حدود الساعة الثامنة مساءً.. وها هو المَتجر مُغْلَق وفارغٌ من جَميع مُوَظّفيه.. الباب الزُّجاجي تَزاحَمَ فَوْقه الضَّباب مما حَجَبَ عنها رؤية الذي خَلفه بوضوح. نَظَرَت لساعة رِسْغها.. الثامنة وعشرون دَقيقة.. عشر دَقائق على المَوْعد.. زَفَرت رُعْبها وهي تَرْتعش.. ساعتها وهي تنتظر، شَعرت وكأنَّ الشتاء يَبزغ من جَسدها. فَرَكت كَفّيها ببعضهما البعض وهي تُقَرّبهما من فَمها لتَمنحهما بَعض دفء.. لكن لا فائدة.. تَعتقد أَنّ بدخوله سَتَتحول إلى قالَبٌ ثَلجي.. مَهما قالت.. ومهما كَذبت على نفسها وعلى رائد.. فهي تَخافه.. تَخاف من حَيْوانية أَفعاله.. تَخافُ من ضَميره المُنتحر.. خُبْثه وخَواء قَلْبه. سَترت رُعبها المَسْفوك على مَلامحها بكَفّيها.. أَغْمَضت وهي تُجاهِد للظَفر بشَهيقٍ سَوي.. حاولت أن تُهَدّئ من رَوْعها المُهَدِّد بالانهيار.. لكن ساعات ذلك الفَجر الأَسود كَشَّرت عن أنيابها أَمام ذاكرتها.
،
شَخَصَ بَصَرُها لفترةٍ لَم تَكُن فيها واعِية لا للزمن ولا للمكان.. لوَهلة ظَنَّت وكأنَّها قَد قُذِفَت في دَوَّامة رَمادية تَتَلقّفها ذات اليَمين وذات الشِّمال.. ما بين الماضي الأَسود.. والحاضر المُناضِل من أَجل البياض. نَطَقت باسْمه بلا صَوت.. حَركة شفاه لا أكثر.. حركة فَزَع لا غير.. تَسَلَّقت يَدها إلى صَدْرها وهي تَتَسَوّر بالارْتعاش.. قَبَضت على ردائها وهي تَنْكمش كورقة خَريفية.. كُل القوة التي كانت تَتباهى بها تلاشت من بين أصابع يَديها.. تَكَوَّمَ البُكاء في حَلْقها وثَقُلَت أَجْفانها من حِمْل الغَمام.. لَحْظتها صَرخت في جَوْفها تُنادي بــ "رائـــد". حاولت أن تُلَمْلِم شَتاتها.. أن تُعيد تَرقيع رَتق شَجاعتها المُهْتَرِئة.. فَتَحَت فَمها.. ابْتَلَعت هواءً بارِدًا فَغَصّت.. سَعُلَت لثواني ثُمَّ هَمَست ببحّة مُضاعَفة: خَــ ــ ..ــ ــخــ ـوفتنـ ـي!
وَقَفَ من على مقعد التسريحة.. خَطَى إليها وفي عَيْنيه شَرٌّ لا تَستطيع تَرجمته.. أَحْنى جذعه حتى قابلها بوجهه الأسْود، المُحْتَكِر قُبْح العالم أَجْمع.. هَمَسَ بفحيحٍ قاتِل: ترى إذا طالت لعبتش.. بتشوفين شي عمرش.. عمــرش ما شفتيه يا وَعد "سَخَر بابْتسامة مائلة" هذا إذا كان اسمش وَعد فعلاً!
تَساءَلت بتأتأة وقبضتها تزداد على ردائِها: أي.. أي لـ ـلــ ـعبة!
ارْتَفَعَ حاجبه: إنتِ أَدرى
هَزَّت رأسها سريعًا تنفي اعتقاده الصَحيح: لا.. لا.. مو قاعدة ألعب.. صدقني.. مو لعبة
اخْتَرَقت حَلْقها شَهْقة هَلِعة حينما قَبَضَ على ذراعها بشراسة.. شَدَّ عليها وهو يَهْمس بتهديدٍ تَعلمُ يَقينًا أنّهُ سَيُحَقّقه: كل مرة تسكتيني بجم كلمة.. وبعدها ما أشوف شي.. لكن والله.. وهذاني حلفت.. والله إذا انتهى هالأسبوع وما شفت شي.. راح أقلب حياتش لجحيــم "هَزّها بجلافة مُكمِلاً" مَحّد كفو إنّه يتلاعب في وقتي وفي أفكاري... مَحّـــــد
هَمَسَت بأنفاسٍ مَشْروخة وهي تَشعر بانسلال الثبات والاتزان من أَطرافها: قريب.. قريــب.. كل شي بيتوضح قريب.. صدقني
,
رَمَشت بخفّة.. الباب فُتِح.. رَفعت عَيْنيها.. كان هُو.. أَمَرت قَلْبها لألا يَرْتعد.. فليَكُف عن الخَوْف والجُبْن البَغيض.. اسْتدارت بصمْتٍ خَيّمَ على المَكان بَعْدَ أن أَدار القفل.. مَشَت وصَوْت كَعبها يَشق سكون الليل وهو يَتبعها؛ ماشِيًا بِقَدَمين لطالما حَمِلَتاه للذّبِح والنّهب وتدمير الإنسان. وَصلا للمَخْزن الخاص بمكوّنات المخبوزات والحلويات.. أَغْلَقت الباب ثُمَّ وَقَفت عند الرَّف الخَشبي المَصْفوفة عَليه أكياس لها لونٌ قشدي.. أَخْرَجت من جَيْب بنطالها الخَلْفي سكّينًا مَسْلولة خَطَف التماعها لُبّه.. فيمَ سَتستخدمها! وقَبْلَ أن يُقَلِّب أَفْكاره.. رَفعت يَدها ثُمَّ وبقوة هَوت على أَحد الأكياس وبحركة واحدة شَقّتهُ لتَتناثر منهُ ذراتٍ صَغيرة مثل شَلالٍ أَبيض يَمضي إلى الأرض الخشبية مُكَوِّنًا هِضاب.. ذرات يَعرفها جَيّدا وهي تَعرفه.. ذرات أَجْبَرته على الاستسلام لِقَبْضة الصِّدمة التي أَثارت اسْتهزاءها. نَطَقت وحاجبها الذي يَعْتلي جَبَل الثّقة أَكّد لهُ بأَنّه قَد اسْتَصغرَ أمرها أكثر من اللازم..: مئـــة كيلو من الكوكايين
,،
يتبع