جنــــون
02-27-2020, 02:40 AM
" لا تشرق الروح إلا من دجى الألم، هل تزهر الأرض إلا من بكى المطر؟!."
- جلال الدين الرومي
(6)
يتصاعد بخارٌ ساخن من أمامها، تجلس محاذية للنافذة بشرود ترتخي عضلاتُ وجهها حيناً وحيناً أخرى تشتد بشدة،.. يتراءى لها كل شيء الماضي والحاضر والمستقبل،
تبقى بين خيالاتها وجزءاً من أحاسيسها،.. إلى أن أتاها صوته ساخراً، فانتشلها من أحلامها الوردية التي لا تصبح حقيقة، فعبست عندما قال :
" حقاً ابنة عمي حمقاء حمقاء .. ان كنتِ تريدين تخيل الحب لا داعي لأن تظهري احمرار وجنتيك.."
اشاحت وجهها بعيدا بغيظ و حزن " لا شأن لك .. اهتم بأمورك ولا تنشغل بأمور الأخرين.."
ضيق عيناه " ماذا حدث؟ "
بعثرت نظرها ثم همست " لا شيء، وكل شيءٍ حدث.."
تنهدت بعمق وعادت بذاكرتها للوراء، إلى اليوم الذي خرجت به للتسوق مع أمل،
حيثُ..
("ريم أين شردتِ ؟!"
انتشلها ذلك السؤال من افكارها الحزينة فأومأت رأسها نفياً،
تحدثت أمل " حسنا اذهبي وعدلي من مظهرك الحزين !!"
" حسنا.." ونهضت متوجهة نحو دورات المياه وفي نفس اللحظة انطلق صوت رنين هاتف ريم ،، لتنظر اليه أمل وتبتسم ..
" أهلا ريم ..."
اجابت امل " لا بل انا أمل،، ما أخبارك يا خالة !!"
" اهلا عزيزتي،، بخير ،، ما الأخبار عندك !!" ابتسمت امل بمكر وهي تعدل خصلات شعرها " كل شيء على ما يرام ،، "
" هل حاولتِ التحدث اليها !!"
" أجل بالطبع ،، " أمل بثقة ،، صمتت قليلا ثم اكملت " انها الان في دورة المياه.. وحاولت جاهدا ان اصرف نظرها عن ذلك المعتوه رائد.."
" حسنا فعلتِ،، "
" اعلم ذلك،، تهمني مصلحتها اولاً ثم انني لم انجح مع رائد ،،" ضحكت بتهكم " يبدو انه كان يريد ان يصبح ثرياً.."
" لا اريد لابنتي ان تحزن في المستقبل ،، لذلك افعلي ما بوسعك.."
" اني افعل ما بوسعي يا خالة.. ثم بوجود شخص غير رائد مؤهلاته تسمح ف......"
وهنا وقفت ريم غير مصدقة بما سمعته! هل يعقل ان صديقتها تحاول جاهدة مع والدتها ابعادها عن من تحب !! كيف يستطيعان فعل ذلك بها،،
بلعت غصتها وتذكرت كلمات صديقتها والتي توجهها لها بين الحين والاخر الى ان سئمت ريم منها حتى اصبحت تحاول تفادي الحديث معها " شاب فقير،، معدوم،، تهمني مصلحتك.. لا يتوقع منه ان يأوي عائلته.." وضعت يدها على رأسها وكأنها تمنعه من الانفجار وحينها التفتت امل الى الخلف لترى ريم فزادت ضربات قلبها وقالت بخوف على نفسها وليس على ريم "ريم (وهنا بدأت تتلعثم) هل..أن.. انتِ بخير ؟!"
اجابتها ريم وهي تجتذب مشترياتها " اني اشعر ببعض من الدوار......" )
ابتسم رامي بسخرية على ريم ثم قال وهو يوجه انظاره نحو جدته التي تحتسي كوباً من الشاي الأخضر الساخن " جدتي الجميلة هل ما زلت على رأيك ؟!"
أجابته وهي تلتقط كتاباً صغيراً وتضع نظارات الرؤية الخاصة بها " اجل يا رامي ،، سأنتظر مجد الى ان يعود .. ثم انهم سيذهبون الى مركز التجميل وانا.."
وأكمل رامي بابتسامة " وانت جميلة بما يكفي "
قهقهت الجدة ثم بعد دقائق اكتسى الجمود ملامحها، فصوب رامي نظره مع الجدة إلى ريم حتى أن همس " لا أعلم ما بها يا جدتي.. هل حصل شيء معها ومع رائد يا ترى؟.."
اجابته على نفس وتيرة الهمس " صدقاً لا أعلم،.."
أعاد رامي نظره إلى ريم حتى قال ملتفتاً بعدها نحو جدته " حالها لا يعجبني يا جدة،.."
ضيقت عيونها، فاردف موضحا " ليس كما فكرتِ، أقصد يحتاج للمساعدة.."
عم الصمت بينهما حتى اشارت اليه بعيونها ان يخرج..
نزعت نظارتها و وضعت الكتاب جانباً " ريم عزيزتي هل هناك امر يزعجك ؟!"
بلعت ريم غصتها ورسمت ابتسامة على وجهها " لا يا جدتي فهذا حفيدك مزعج جداً "
"ام ان الأمر يتعلق بذلك الشاب ؟!" الجدة بشك
قالت بارتباك " من تقصدين ؟!"
قالت الجدة وهي تحاول التذكر " اظن ان اسمه رائد.. "
تقوس فم ريم لا ارادياً وانحدرت دمعة على وجهها فهي لا تستطيع ان تكبت مشاعرها اكثر تريد ان تخرجها لاحد تثق به ،، فبما ان والدتها تسعى جاهداً مع أمل لن تفهمها ،، وان قمر اصبحت تعتزل عن الاخرين وتكرس وقتها بالقراءة او الرسم ،، فلن يبقى احد غير جدتها فلا مانع ان اخرجت ما بداخلها من اعباء الى جدتها لعلها تساندها في محنتها
لتقول الجدة وهي تنهض وتجلس جانبها " ما الأمر ؟! هل الحب من يجعل جميلتي تبكي ؟!"
اومأت رأسها ايجاباً .. فتساءلت الجدة " وماذا يوجد ؟! "
قالت بألم " لم ألتقي به لعدة أياام.. ثم ليس من عادته ان لا يتصل "
قالت بنبرتها الحانية " حسنا لا بأس فكما قال ليلة الحفل انه يعمل .. مؤكد انه ينشغل "
أومأت ريم رأسها وهي تمسح دموعها و ربتت جدتها على يدها ثم قالت " كل الامور ستتيسر بينكما .. ثقي بي "
هزت رأسها نفياً ثم قالت بفقدان أمل " أبدا يا جدتي .. ( وعادت الدموع للتجمع في عيونها ) انه حتى لم يصارحني بحبه ولكنن.. لكنني اشعر انه يحبني من نظراته واهتمامه بي ،، ولكن لا يستطيع البوح بسبب فقره " واجهشت بالبكاء وهي ترمي بنفسها الى صدر جدتها " الجميع ضد هذا الحب امي و صديقتي امل ،، انهما يفعلان ما بوسعهما لابعادي عنه ، لقد سمعت والدتي تتحدث اليها البارحة،، ( وهنا زاد بكاءها )لقد قالت لها افعلي ما بوسعك لاقناعها بالتخلي عن هذا الحب ،، ولكنهم لا يعلمون انني تعلقت به ولا استطيع التخلي عنه ،، لا يريدونه لانه فقير.. ما ذنبه يا جدتي.. أخبريني "
" ليس ذنبه شيء .. هيا امسحي دموعك سأحل الأمر .. "
وابعدتها عن صدرها وأخذت تكفكف دمعها بأناملها الحنونة وقالت بابتسامة حانية " هيا امسحي دموعك لا اريد ان ارى دموعك تلك .. "
" حسنا.." ريم بصوت مرتجف ..
" انت اذهبي وروحي عن نفسك قليلاً.. وانا سأحل امرك لا تقلقي.."
اومأت ريم برأسها بقلة حيلة ثم ابتسمت وقبلت جبين جدتها بامتنان بعد أن ظهرت والدتها وخرجت معها مكرهة من المنزل الى مركز التجميل... وهنا تأكدت الجدة بأن خطة سرية تجري مجراها بين أمل ووالدة ريم سبيلهم هو التفريق بين شخصين لم يستمتعا بلحظات الحب حتى الآن ... وعزمت في قرارة نفسها أن تحاول ولو قليلاً،..
#############
كان الماء في البحر أزرقا صافيا يماثل زرقة السماء التي انعكست على مياهه البلورية وكان بعض النّاس قد استلقوا على الرمال الذهبية اللّامعة معرضين بشرتهم إلى أشعة الشمس الحارقة والبعض الآخر فضل الجلوس في ظل الشّمسيات بينما أخذت مجموعة من الشبان يلعبون بالكرة يقفزون وعلى سطح الماء زوارق صغيرة ناشرة أشرعتها كأنها حمائم بيضاء تسافر في السماء الزرقاء وكانت أمواج البحر تتلألأ تحت أشعة الشمس الحارقة .. اما هو يقف بعيداً عن كل ذلك و الحزن منثورا عليه، بل كان مغطّى به كرمال الشاطئ التي تغطي ضفاف البحر.. يقف بقامته الممشوقة وعينان رماديتين باهتتين تنظران الى ذلك البحر بفكر مشتت وعقل تائه.. يحاول الوصول الى مخرج آمن من تلك الأفكار المزدحمة والتي ادخلته في دوامة كبيرة لا مخرج منها .. وذلك الالم الذي وصل الى قلبه ،، جثى على ركبتيه متهالكاً منهاراً ينظر الى باطن يديه بعيون حزينة وقلب مكسور حزين .. يداه القويتان التي اشتعلت غضباً وقوة ليلة امس لتسيطر على يد اخرى ناعمة هشة.. وأخذ الدمع يسيل من مقلتيه ندماً وأسفاً...
وفي مكان آخر .. في المنطقة الجنوبية من المدينة.. حيث الهواء العليل الذي يداعب اغصان الأشجار و الطبيعة الخلابة التي تمتد على مساحة كبيرة.. مكان يضم ودياناً ومرتفعات جبلية و سهولاً خضراء واسعة.. وامام منزل خشبي ابيض اللون وقفت السيارة السوداء الفارهة لتترجل منها فتاة شقراء، ممشوقة القامة، ناصعة البياض رقيقة القدّ.. وسيمة الوجه، في حوالي الواحد والعشرين من عمرها.. ترتدي ملابس رسمية تنظر بعيونها الزرقاء الداكنة بابتسامة مرحة..
وفي الفناء الخلفي يجلس ذلك الرجل ببدلته الرسمية يعبث بحاسبه المحمول يرتشف كوباً من القهوة و بجانبه طفلته الصغيرة (ملاك) تتناول طعام الافطار...
"اذا ابي ايضا هنا ستعمل" تساءلت ببراءة
اجابها بابتسامة حانية "اجل.. فالعمل صعب ويجب على والدك ان يراقب عمله من بعيد"
ثم أكمل بحب " سوف آخذ ملاكي في نزهة ولكن عندما ..."
وقاطعه صوت الخادمة " سيد ماجد لقد وصلت الأنسة سوزان.."
التفت ليرى فتاة بعمر الزهور تقابله بابتسامة مرحة وتمد يدها لمصافحته "مرحبا انا سوزان.."
اجابها باقتضاب "اهلاً.. تفضلي بالجلوس.."
تساءلت الخادمة "هل تودين شرب شيء ما؟"
هزت رأسها نفيا وقالت بلطف "شكرا لك.."
"اذا يا انسة سوزان .. يبدو انك متحمسة للعمل؟!"
اجابته بصدق "اجل فانا منذ مدة ابحث عن عمل "
"لقد قال لي مساعدي انك كنتي تعملين في مأوى للأيتام "
اومأت رأسها فاكمل " و بالتأكيد لن يكون عملك صعباً مع ملاك.."
"اجل.." قالت ذلك وهي تنظر الى ملاك التي ذهبن تلهو وتلعب في الحديقة
"لا شروط لدي للعمل.. ولكن سيكون عملك هنا مؤقتا.."
اومأت رأسها بتفهم " أعلم ذلك.. اخبرني السيد مازن "
"حسنا.. يمكنك القول انك حصلت على عمل جيد .. وبراتب ممتاز برغم المدة القصيرة"
قالت بامتنان "انا سعيدة لذلك.."
وفي نفس المكان و مع دقات الساعة الثانية عشر ظهراً لتعلن عن موعد الغداء يجلس على مكتبه الخشبي وبيده اوراق وملفات عدة.. مسح جبينه من حبات العرق بمنديل أبيض وتنهد بتعب وهو يضع الاوراق جانباً...
"سيد ماجد.. لقد حان موعد الغداء "
"حسنا.. سأجري اتصالاً هاتفياً.. اهتمي بملاك ريثما انتهي "
اومأت الخادمة برأسها لتغادر الغرفة.. فيلتقط هو هاتفه المحمول ويبدأ بالضغط على أزراره ليأتيه رنين متواصل وبعد ذلك صوت انثوي طاغي جذاب برغم التعب الواضح به " اهلا ماجد"
"أهلا كاريس. كيف انتِ؟!"
اجابته بملل "بخير،، ماذا هناك ؟!"
تمالك اعصابه وقال وهو يشد على اسنانه " الا يجب على ام مثلك ان تطمأن على ابنتها"
"وابنتي تكون مع والدها.. لماذا اخشى عليها من شيء وهي في ظل حمايته"
"هكذا اذاً.."
ثم اعقبت بقولها " لا اظن انك ستفعل ذات الأمر مع ابنتي انتقاماً.."
اعتلاه غضب شديد، وصرخ بشيء من التّحدّي "كاريس.. لا تدعيني اخرج كل غضبي عليك.."
قالت بلا مبالاة " وماذا ستفعل ايامي معدودة.. انتبه على ابنتي.."
قال بحيرة وعدم تصديق " لا ادري اي نوع من الامهات أنتِ.."
جائه صوتها حزيناً " ام ستأخذ جزائها بعد مضي هذه السنين.." أخذت نفساً عميقاً وأكملت " لن اقول لك الا ان تنتبه على ابنتي .. وحاول جاهداً ان تعوض لها الحرمان الذي فقدته مني.."
قال بسخرية مريرة " اطمأني سأخلد ذكراك الجميلة ولن أتزوج من بعدك "
قالت بأسف ممزوج بندم وتأنيب ضمير " انا حقاً متأسفة لما فعلته.. ارجوك سامحني.. وان صادفتها اعتذر منها بالنيابة عني.. سأغلق الأن سيبدأ علاجي.. اهتم بابنتنا كثيراً و قبلهاً "
زفر بحرارة وهو يضع هاتفه جانباً ليتجه بعدها لتناول الطعام.. بعد ان رسم ابتسامة على وجهه من اجل صغيرته..
❤❤❤❤❤❤
و مع حلول المغيب و انعكاس لون الشفق المتوهج على هذه المدينة الصاخبة متسعة الأرجاء مترامية الأطراف زُرعت على جانبي طرقاتها أشجار الورد والفل.. مدينة تمتلأ شوارعها الواسعة بالسيارات والشاحنات الصغيرة منها والكبيرة.. ومراكز التسوق الضخمة وفنادق فخمة .. و حدائق عموميّة زيّنتها أشجار عالية خضراء احتضنت الخلائق من النّاس، هؤلاء الّذين احتشدوا في كلّ الأمكنة يترقّبون الحافلات، أو يجتازون الشّوارع بحذر متتبعين الممرّات أو يسيرون بتأنٍ عند ملتقى الطّرق حيث رجال الشّرطة، حتى ينتهي بنا المطاف الى منزل فخم يحتضن بين جدرانه امرأتان جلستا لتناول الطعام..
لتتساءل احداهما بقلق .. امرأة كبيرة في السن تدل تعابير وجهها على الطّيبة، والبساطة " عزيزتي لما يبدو وجهك شاحباً هكذا؟!"
أجابت فتاة شابة شاحبة الوجه بصوت يملأه التعب والارهاق وهي تعبث بمحتويات طبقها بشرود " لقد امضيت الليلة الماضية في الرسم لأجل ذلك.."
اومأت جدتها رأسها بنظرة ذات مغزى، ثم قالت بنبرة حنونة " عزيزتي قمر لا تتعبي نفسك.. انظري الى حالك .."
قمر بابتسامة شاحبة لتذهب قلق جدتها " لا تقلقي يا جدتي.. فلم يجد النوم طريقه الي البارحة .."
ابتسمت لها الجدة وبرزت تجعيدات وجهها التي رسمت بخطوط بنية وكأن فناناً عالمياً رسمها بأقلامه وفرشاته لتظهر لوحة جميلة تعبر عن الطبية والعطف والنقاء في زمن كثر فيه الخبثاء والأعداء.. ولكن سرعان ما قطبت جبينها بضيق وهي تتذكر تلك المحادثة الصغيرة..
( " لقد حضرا الى المدينة "
شهقت بقوة وبدأت دموعها تتجمع في مقلتيها البنيتين " ماذا؟! من أخبرك؟!"
"السيد معاذ.. عندما كان يتفقد المنزل "
هزت رأسها نفياً "لا يعقل.. كيف بعد كل هذه السنين.."
" لقد عاد وسبب عودته واضح..."
قالت بعدم تصديق "لا يعقل أن عاد لأجلها ..")
وهنا قاطعتها قمر بخوف "جدتي ما بالك حزينة هكذا؟!"
قالت وهي تهز رأسها " لا شيء.. انا قلقة على مجد.."
ارتعدت اوصالها عند ذكر اسمه وبدأ قلبها يدق بعنف وارتجفت اناملها وهي تقطع بسكينها تلك السمكة .. كيف تسمحين لقلبك يا قمر ان يرتجف حال سماع اسمه.. أليس هو من يعذبك بسمومه وكلامه الجارح بل وبدأ بشن حرب العنف تلك، قالت ذلك في نفسها وهي تشعر بألم ينغز في قلبها .. ثم قالت بلا مبالاة كي لا تجتذب انتباه جدتها " وما به؟!"
اجابت الجدة بحيرة " لا اعلم.. حاله لا يعجبني.. ها هو لا يزال خارج البيت حتى الآن.. لا اعلم اين يمضي لياليه.."
قالت بغيظ " انه في عامه السابع والعشرين لا بد انه عند صديق له.. لا تقلقي سيعود ان طال الوقت او قصر.."
أخذت الجدة نفساً عميقاً لعلها تُهدئ الاعصار الذي في داخلها واخذت تسترق نظرات جانبية على قمر وهي تراها شاردة الذهن و بريق الحزن في عيونها العسلية تفكر في ذلك الرجل الحديدي.. الذي أحدث دماراً شاملاً في قلبها عندما انقض عليها كأسد غاضب يريد التهام عشاءه او كعدو شرير يريد ان يغزو ضحاياه بقنابل و اسلحة تفتح جراحاً حادة لن يغلقها الزمن.. ولكن اين سيكون الى الآن؟! وماذا يفعل؟! يا الهي يمكن ان حصل له مكروه ما ؟! او حلت به مصيبة؟! او حادث ؟! تساءلت في نفسها بقلق وهي تفتح عيونها على وسعهما ثم أخذت تطرد تلك الافكار من رأسها وهي تحدث نفسها وتعبث بطعامها امام انظار جدتها ' يحدث له ما يحدث .. ليذهب الى الجحيم ويبتعد عني بل واتمنى ان يكون في طريق مهجور يلتف حوله الضباع والكلاب والحيوانات المفترسة لتلتهمه وتجعل من لحمه طعاماً لها ولأولادها.. '
ثم اكملت في سرها وكأنها شعرت بضخامة الذي تفكر به ' الا يبدو انك بالغتي يا قمر' وهزت كتفيها بلا اهتمام..
(مرحباا.. )
رفعت رأسها بحدة لتلتقي نظراتها الحزينة مع عيون ذلك الصوت البارد .. وتنفست الصعداء بينها وبين نفسها لأنه عاد الى المنزل ولم يحدث له اي مكروه.. ألم تكن هي نفسها قبل قليل تتمنى ان يذهب بلا عودة؟!
سألته الجدة بخوف وقلق " اين كنت ؟! كيف تخرج في منتصف الليل من دون ان ..."
وقاطع سؤالها متهرباً وهو يوجه سؤاله الى قمر " كيف انتِ يا قمر هذا اليوم ؟!"
هزت الجدة كتفيها بقلة حيلة ثم اجابت قمر بعد ان تمثلت بالقوة والثقة " بخير.. "
ولمع في عيونها مزيج من نظرة عتاب وحزن ونظرة الم وانكسار اما هو فقد هرب من عيونها المتألمة بسؤال الى جدته " أين الجميع؟!"
قالت الجدة بسخرية " لا اعهدك طيب القلب هكذا وتهتم بالآخرين (قالت هذا وكأنها تشير الى شيء ما) ولكن سوف أج..."
قاطعها صوت الخادمة يخبرها بقدوم احدى صديقاتها، نقلت بصرها بين الاثنين وقد لاحظت الشحنات السالبة بينهما، ثم تركز بصرها على مجد إلى أن قال لها " لا تقلقي.."
وبعد انصرافها، نظر مجد إلى قمر التي ارتبكت وأحست بشعور غريب فكان من الافضل لها
"عن اذنك.. صحة وعافية " نطقتها قمر وهي تنهض مبتعدة عن تلك العيون الرمادية التي لاحقتها بكل خوف وشوق.. و تسير قدما تلك العيون خلفها ... تصعد عتبات السلم بخطى متثاقلة وتفكير مشتت وعقل تائه.. ينتابها صمت عميق وشرود وذهول غريبين .. سرعان ما اغرورقت عيناها بالدموع وهي تطأطأ رأسها للأسفل لتجعل رؤيتها غير واضحة ..
وأخذت تترنح في مشيتها قليلاً وكادت أن تسقط لولا تلك اليد القوية التي اسندتها وعيون رمادية خائفة التقت بعيونها العسلية اخذت تُرسل سحرها الخاص و تجعل جبالاً ضخمة من الكبرياء والعناد تجهز نفسها للرحيل من ذلك الجسد الضخم وقد شعرت بالضعف والهوان امام دموعها الحارقة التي كانت تأخذ سيرها على وجنتيها،، وما لبثت ان ابتعدت عنه وهي تشعر بسيل من الكهرباء تسري في جسدها وهي تقول بحدة " ماذا تريد الان.. هل تريد اكمال ما فعلته؟!.."
شعر بغصة كبيرة تملأ حلقه وآثر الصمت ولكنها اكملت " لقد اكتفيت منك.. واكتفيت من تجريحاتك وكلامك الحاد.. "
قاطعها بصوت مرتجف " قمر انا.."
قالت بصوت خافت " ان كنت تراني صامتة لا اتجاوب معك .. فهذا لأجل جدتي.."
صمتت قليلاً ثم تحدثت " لست بكل تلك القوة أجل، ولست ككل شخص عاش حياته بشكل طبيعي، أعلم ذلك.. وأنت تعلم كل شيء عني وعن حالتي النفسية في المأوى وكيف مكثت هناك وكأنني لا شيء .. وبعد كل تلك السنوات ها أنا هنا ولكنني حتى هنا أشعر أني لا شيء بسببك أنت"
كاد أن يتحدث حتى أردفت " أرجوك، لا تجعلني أشعر كما شعرت في سنواتي في المأوى.."
اقترب منها رويداً وأمسك بوجهها بين كفيه، وراح يكف الدمع عنها حتى غصت في حلقها ثم التفتت حتى تتجه في غرفتها،..
وتوقفت عن المسير عندما شعرت بخطاه خلفها وصوته الهامس " لا شيء كما يبدو لي، ولا شيء كما يبدو لكِ.. فكل معاناتي بسببك وكل معاناتك هنا بسببي.. نحن نحرق بعضنا البعض.. ولا نجاة من ذلك "
قال ذلك ثم صعد الى غرفته متجهم الوجه بارد قاسي الملامح.. ومع كل خطوة يخطوها وهو يصعد الى غرفته كان ألماً شديداً يزداد في قلب قمر لتتوقف هكذا بجمود وهي تشعر بآلام حادة في جسدها وحزن عميق أخذ يغلف جسدها.. وأمسكت بمقبض الباب لتفتحه بهدوء شديد ثم لتدلف الى الداخل بهدوء ساكن وتوجهت حيث سريرها وجلست عليه بعيونها الذابلة التي تعيد تكرار الموقف لتشعر بسكاكين حادة تمزقها اشلاء وتجعل منها أجزاء مترامية ... وبعد صمت طويل استلقت على فراشها في شيء من الفتور والتعب وشعرت بآلام خفيفة في عظام جسدها النحيل... و كان تنفسها قصيراً.. أما عيناها فكانتا تعبتان مرهقتان.. ، كأنها في حالة من الحمى، وكان وجهها شاحبا أصفر اللون... وبدأت عيناها العسليتان تدمعان.. و اغلقت عيناها بألم وهي تشعر بألم حاد في قلبها لتشد بقبضتيها على فراشها الى أن غطت في سبات عميق...
كان الصمت يلف بها من كل جانب.. وهي تسير في طريق مظلم مليء بأغصان الشجر الملقية على ارض قاحلة تتعثر بها وتقع ارضاً لتصاب برضوض وجروح مختلفة بعضها ينزف خضاباً أحمر وأخر اصبح لون جلدها أزرق بسبب وقوعها المستمر.. تسير
وعيونها التائهة متوجهة حيث مصدر الضوء ذاك الذي يأتيها من البعيد البعيد.. و كانت قدماها ترتجف من الخوف وشدة البرد القارص في آن واحد وكانت تعض على شفتيها التوتية المتشققة بألم واضح يجعل الدم يتدفق منها...
ثم تلبدت السماء السوداء المظلمة بغيومٍ ذات لون الرمادي سرعان ما هطلت الأمطار بعدها.. فأخذت تهرول في مشيتها بارتجاف جسدها النحيل من برد هذه العاصفة... ولم تزدد الأمطار إلا شدة ولم يزدد الرعد الا صارخا بغضب مرات متتالية بعد مرور الوقت وثار جنون العاصفة مولولة ثائرة غاضبة و الأشجار تهتز اهتزازا عنيفا حيث الأمطار تصنع بركاً متماوجة فانقبضت على نفسها وتراجعت إلى الوراء وهي تسير بأطراف كادت ان تتجمد من هذا البرد القارص.. كانت تركض بخوف وذعر شديد الى ان وصلت الى مكان مسدود مليء بالحشرات والافاعي السامة فأغلقت عيناها بخوف وتراجعت للوراء واخذت تلتفت ذات اليمين وذات الشمال لعلها تجد مخرجا من هذا المكان المخيف وتدور حول نفسها بخوف وجزع مرات عدة الى ان شهقت بقوة وهي تراه يقف بعيدا عنها على منحدر كبير... يبدو الضعف والحزن يبلله كما تبلله مياه السماء التي سقطت عليه لتجعل ملابسه تلتصق بجسده فيصبح تماما كتمثال يقف في احدى الزوايا فصرخت بأعلى صوتها وهي تتقدم نحوه " مجد..."
التفت اليها بنظرات ملؤها الندم ،، الحزن ،، الاسف .. جميعها اجتمعت لتجعل بريق عيونه تخترق جسدها النحيل وبصوت واهن يكاد لا يسمع من شدة العاصفة " سامحيني.."
امسكت يديه بقوة وقالت برجاء " ارجوك أعدني الى المنزل انا خائفة.."
قال وهو ينظر الى اسفل المنحدر " لا استطيع،، فأنا سأغادر الآن"
وجهت نظرها الى ما ينظر وشهقت بقوة و انحدرت دموعها لتمتزج بقطرات المطر الغزيرة وقالت بانفعال وهي تهز رأسها " لا.. لا .. مجد ارجوك.. لا لا تفعل لا تتركني وحيدة ارجوك .. "
"لا استطيع،، (صمت قليلا ثم قال) فقط سامحيني"
واعقب قوله افلات يدها بقوة و شهقاتها التي تصاحب صوت الرعد تزداد والقى بنفسه بكل حرية من اعلى المنحدر امام عيونها الحمراء المتورمة لتجثو على ركبتيها بكل ألم وتمد يدها للفراغ وتصرخ " مجد لماذا تركتني؟!"...
شهقت بقوة وهي تفتح عيونها و حبات العرق التي تغزو جبينها ووجهها الملائكي.. لتغمض عيونها الحزينة المذعورة من اشعة الشمس التي تمردت ككل صباح في التسلل الى الغرفة حتى اعتدلت في جلستها ورتبت خصلات شعرها المتناثرة.. ثم القت بنظرها الى الساعة التي كانت تشير الى العاشرة والنصف صباحاً..
نهضت من فراشها متوجهة نحو دورة المياه لتخرج منها بعد دقائق ثم التقطت يداها عن المنضدة الخشبية تلك السلسلة الذهبية التي تحمل في وسطها حرف (r) وضمتها الى صدرها بقوة لتسيل بعدها دموعاً من مقلتيها كقطرات المطر التي تهطل في ليلة شتائية في اشد فصول سنة برودة .. وأخذت تقول من وسط اوجاعها " آهٍ يا امي.. لقد مر وقت طويل لم يأتي طيفك لزيارتي لقد اشتقت لكِ.. اشتقت لهمساتك ونصائحك.. وحتى الى توبيخاتك.. يا ليت الزمان يعود ويقف الى قبل موتك .. ارجوكِ عودي او دعيني اذهب اليكِ.. المكان موحش من دونك.. لسنين طويلة وانا أتحدث الى طيفك و لا تزال صورتك الاخيرة عندما ودعتك على باب منزلنا في ذهني لا تغيب.. كنت صغيرة حينها لا ادرك معنى نظراتك تلك كنتِ وكأنك تشعرين بان موعدك حان حتى تصبحين جثة هامدة تنامين تحت التراب.. (وهنا اعتلت شهقتها واكملت بغصة وهي تمسح دموعها التي تمتنع عن مفارقتها حيث ابت ان تبقى حبيسة داخلها وما زالت تستمر في النزول) لكنني سأكون قوية ولن اضعف امام ما يواجهني سيبقى الأمل مزروعاً في داخلي.. اني أؤمن بوجود ايام جميلة ستأتي..."
مسحت دموعها بظاهر يدها و وضعت السلسلة جانبا بعد ان سمعت طرقاً خفيفاً على الباب ووجه ريم يطل منه بابتسامتها المرحة " صباح الخير ياا قمراً يزين بيتها "
بادلتها قمر قمر بابتسامة شاحبة " صباح الورد "
جلست ريم على سريرها ونظرت مطولاً الى قمر " ماذا هناك؟! تبدين حزينة!!"
هزت رأسها نفياً.. فتساءلت ريم باستفهام "هل عاد ذلك الحلم السيء.. الذي يخص والدتك..؟!"
"لا ابداً.. (ورسمت ابتسامة باهتة على وجهها الشاحب) اذاً ماذا هناك وما سر السعادة هذه !!"
"السر هو اننا سنذهب الى رحلة!! "
( وما الحجة التي خرجتي بها لتقنعي جدي..)
التفتت ريم حيث مصدر الصوت وقالت " وهل كنت تسترق السمع؟! "
وجه انظاره الى قمر التي كانت تجلس تنظر اليه بضيق سرعان ما اشاحت وجهها بضيق اكبر
..كانت اشبه بفتاة صغيرة بملابس النوم تلك ذات اللون الأزرق الداكن طُبعت على الطبقة العلوية منها رسمة فتاة صغيرة ممسكة بدمية بنية وأما بنطالها فقد كان عريضاً بنقشة الكاروهات بألوان تناسب اللون الأزرق ثم قال وهو يجلس على أريكة بيضاء اللون " لم لا .. كنت اتجول فسمعت هذا من دون قصد "
لوت ريم شفتيها بسخرية " وانا سأصدق ذلك.."
تحدث مجد بعد صمت قليل "وما سر السعادة هذه .. لا اكاد اصدق ريم سعيدة من اجل قضاء يومين في المنطقة الجنوبية.."
اجابت مقلدة نبرته " ولم لا وسيكون هناك شيء مختف في الرحلة ( وهنا اشارت حيث قمر بيديها ) وهو قمر "
ابتسم ابتسامة خاطفة ثم أخذ يجول بنظره ارجاء الغرفة امام نظرات ريم المستفهمة و قمر الخاطفة المرتبكة لتسأله ريم بحيرة " لماذا تنظر الى الغرفة هكذا ؟! "
اجابها وهو يضع كفه اسفل ذقنه.. بوضعية تدل على التفكير " افكر وأتساءل لماذا تسجن قمر نفسها بهذه الغرفة لعدة ساعات كل يوم ؟!"
هذا يعني انه يعر امر اختفائها اهتماماً.. او انه يفقدها !! وبرغم شعورها بالسعادة تجيبه قمر في سرها " كي لا أقع فريسة لك.. "
بينما تساءلت ريم باستخفاف " والى اين وصلت يا سيد مفكر ؟! "
وبرغم نبرة السخرية من فم ريم الا انه لم يعرها اهتماما بل أخذ ينظر حيث ملاكه.. لترفع قمر وجهها بعد ان شعرت بنظارته المسلطة نحوها ليفاجئها بتلك الابتسامة التي تشق طريقها الى وجهه الحديدي وزادتها الدهشة أكثر عندما قال وهو موجه نظره نحوها " لأنها جميلة.."
وما ان خرجت تلك الكلمات من فمه والتي جعلت قلب قمر ينتفض.. واحمرت وجنتيها بحمرة خفيفة فهل يقصدها هي ام الغرفة!! وشعرت بحرارة تسير في جسدها امام نظراته تلك التي كانت تبعث اليها شعوراً بالراحة.. ولكن نظراته كانت مختلفة وكأنها نظرات مودعة نادمة آسفة جعلتها تتذكر ذلك الحلم السيء فنظرت اليه في شيء من الخزن وقبل ان يفسر سبب بريق الحزن في عيونها لفت انتباهه تلك السلسلة الذهبية فأخذ نفساً عميقاً ليتمالك أعصابه ولكن لم يستطع ذلك عندما انطلق صوتاً من الخارج ينادي ريم فخرجت على عجلة من امرها تاركة ذلك الزوج المشحون ليبدأ صراعه منذ ان نطق بكلماته الحادة باحتقار وسخرية " سلسلة جميلة.. يا تراه من يكون ذلك الشخص الذي يهديكِ سلسلة كهذه "
نطقت قمر كلماتها بحدة وضيق " أليس من المنطق ان تخرج من غرفتي وأن لا تتدخل فيما لا يعنيك !!"
فمن الآن وصاعداً لن تسمح له ان يهينها بأي شيء.. ويمس كرامتها بسوء... يكفي ما نالت منه حين صمتها.. ولن تسمح له ان يتحدث عن والدتها بشيء كهذا الإحتقار الذي يقطر من كلماته...
تساءل بسخرية " غرفتك!!" واكمل وهو يتجه حيث الشرفة "ام انك نسيتِ انك في بيت جدك .."
والتفت ناحيتها بعد ان طال صمتها ليراها ممسكة بتلك السلسلة الذهبية وكأنها تبعث فيها بعضاً من القوة الثبات.. فهل عادت الى الصمت من جديد؟! ،، ليشعر بحرارة تسري في جسده فأخذ يسير باقدامه نحوها ثم يسحب منها السلسلة بحدة وليرميها جانباً امام عيونها التي توجهت اليه بحدة وعدم تصديق وصرخ بصوته الغاضب " أتعجبك كثيراً.. هل لديها مكانة خاصة في قلبك لتجعلك تمسكين بها هكذا؟! ام لأنها هدية من حبيب القلب!! .."
وامام عيونها التي تنهمر منها الدموع والتي تتبعت السلسلة منذ ان أخذها الى ان هوت ارضاً ..انطلقت شهقة عالية من حيث الباب وصوتها الخائف المرتجف وهي تركض حيث قمر " قمر.. قمر هل انتِ بخير؟!"
ثم التفتت الى مجد بعيون غاضبة " اخرج حالاً.."
نظر اليها بعيون ملتهبة حارقة وهي تذرف دموعاً على تلك السلسلة اللعينة التي اشعلت الغيرة في قلبه .. فصرخت ريم في حدة أكثر " اخرج .. " حتى يمضي في طريقه خارجاً من الغرفة كأمواج البحر الهائجة او كألسنة النيران الغاضبة ليخرج بعدها من المنزل بأكمله..
وأعتلى نحيب قمر وهي تقول " لقد اخذها على حين غرة.. ورماها ارضاً.." ثم اتجهت حيث السلسلة الملقاة على الارض لتتفحص تلك الحجارة التي تكسرت والتي كانت تزين ذلك الحرف بشكل جميل.. لتتناثر حجارتها الصغيرة الى اجزاء صغيرة تكاد تماثل الذرة في حجمها وهي ملقية امامها على الارضية فقالت وهي تصرخ باكية وتضرب الارض بكلتا يداها وريم تحاول تهدئتها ولكن من دون جدوى" لن اسامحه ،، لن اسامحه.. لقد كانت أخر شيء بقي لي من امي.. لن اساامحه.."
يتبع..
- جلال الدين الرومي
(6)
يتصاعد بخارٌ ساخن من أمامها، تجلس محاذية للنافذة بشرود ترتخي عضلاتُ وجهها حيناً وحيناً أخرى تشتد بشدة،.. يتراءى لها كل شيء الماضي والحاضر والمستقبل،
تبقى بين خيالاتها وجزءاً من أحاسيسها،.. إلى أن أتاها صوته ساخراً، فانتشلها من أحلامها الوردية التي لا تصبح حقيقة، فعبست عندما قال :
" حقاً ابنة عمي حمقاء حمقاء .. ان كنتِ تريدين تخيل الحب لا داعي لأن تظهري احمرار وجنتيك.."
اشاحت وجهها بعيدا بغيظ و حزن " لا شأن لك .. اهتم بأمورك ولا تنشغل بأمور الأخرين.."
ضيق عيناه " ماذا حدث؟ "
بعثرت نظرها ثم همست " لا شيء، وكل شيءٍ حدث.."
تنهدت بعمق وعادت بذاكرتها للوراء، إلى اليوم الذي خرجت به للتسوق مع أمل،
حيثُ..
("ريم أين شردتِ ؟!"
انتشلها ذلك السؤال من افكارها الحزينة فأومأت رأسها نفياً،
تحدثت أمل " حسنا اذهبي وعدلي من مظهرك الحزين !!"
" حسنا.." ونهضت متوجهة نحو دورات المياه وفي نفس اللحظة انطلق صوت رنين هاتف ريم ،، لتنظر اليه أمل وتبتسم ..
" أهلا ريم ..."
اجابت امل " لا بل انا أمل،، ما أخبارك يا خالة !!"
" اهلا عزيزتي،، بخير ،، ما الأخبار عندك !!" ابتسمت امل بمكر وهي تعدل خصلات شعرها " كل شيء على ما يرام ،، "
" هل حاولتِ التحدث اليها !!"
" أجل بالطبع ،، " أمل بثقة ،، صمتت قليلا ثم اكملت " انها الان في دورة المياه.. وحاولت جاهدا ان اصرف نظرها عن ذلك المعتوه رائد.."
" حسنا فعلتِ،، "
" اعلم ذلك،، تهمني مصلحتها اولاً ثم انني لم انجح مع رائد ،،" ضحكت بتهكم " يبدو انه كان يريد ان يصبح ثرياً.."
" لا اريد لابنتي ان تحزن في المستقبل ،، لذلك افعلي ما بوسعك.."
" اني افعل ما بوسعي يا خالة.. ثم بوجود شخص غير رائد مؤهلاته تسمح ف......"
وهنا وقفت ريم غير مصدقة بما سمعته! هل يعقل ان صديقتها تحاول جاهدة مع والدتها ابعادها عن من تحب !! كيف يستطيعان فعل ذلك بها،،
بلعت غصتها وتذكرت كلمات صديقتها والتي توجهها لها بين الحين والاخر الى ان سئمت ريم منها حتى اصبحت تحاول تفادي الحديث معها " شاب فقير،، معدوم،، تهمني مصلحتك.. لا يتوقع منه ان يأوي عائلته.." وضعت يدها على رأسها وكأنها تمنعه من الانفجار وحينها التفتت امل الى الخلف لترى ريم فزادت ضربات قلبها وقالت بخوف على نفسها وليس على ريم "ريم (وهنا بدأت تتلعثم) هل..أن.. انتِ بخير ؟!"
اجابتها ريم وهي تجتذب مشترياتها " اني اشعر ببعض من الدوار......" )
ابتسم رامي بسخرية على ريم ثم قال وهو يوجه انظاره نحو جدته التي تحتسي كوباً من الشاي الأخضر الساخن " جدتي الجميلة هل ما زلت على رأيك ؟!"
أجابته وهي تلتقط كتاباً صغيراً وتضع نظارات الرؤية الخاصة بها " اجل يا رامي ،، سأنتظر مجد الى ان يعود .. ثم انهم سيذهبون الى مركز التجميل وانا.."
وأكمل رامي بابتسامة " وانت جميلة بما يكفي "
قهقهت الجدة ثم بعد دقائق اكتسى الجمود ملامحها، فصوب رامي نظره مع الجدة إلى ريم حتى أن همس " لا أعلم ما بها يا جدتي.. هل حصل شيء معها ومع رائد يا ترى؟.."
اجابته على نفس وتيرة الهمس " صدقاً لا أعلم،.."
أعاد رامي نظره إلى ريم حتى قال ملتفتاً بعدها نحو جدته " حالها لا يعجبني يا جدة،.."
ضيقت عيونها، فاردف موضحا " ليس كما فكرتِ، أقصد يحتاج للمساعدة.."
عم الصمت بينهما حتى اشارت اليه بعيونها ان يخرج..
نزعت نظارتها و وضعت الكتاب جانباً " ريم عزيزتي هل هناك امر يزعجك ؟!"
بلعت ريم غصتها ورسمت ابتسامة على وجهها " لا يا جدتي فهذا حفيدك مزعج جداً "
"ام ان الأمر يتعلق بذلك الشاب ؟!" الجدة بشك
قالت بارتباك " من تقصدين ؟!"
قالت الجدة وهي تحاول التذكر " اظن ان اسمه رائد.. "
تقوس فم ريم لا ارادياً وانحدرت دمعة على وجهها فهي لا تستطيع ان تكبت مشاعرها اكثر تريد ان تخرجها لاحد تثق به ،، فبما ان والدتها تسعى جاهداً مع أمل لن تفهمها ،، وان قمر اصبحت تعتزل عن الاخرين وتكرس وقتها بالقراءة او الرسم ،، فلن يبقى احد غير جدتها فلا مانع ان اخرجت ما بداخلها من اعباء الى جدتها لعلها تساندها في محنتها
لتقول الجدة وهي تنهض وتجلس جانبها " ما الأمر ؟! هل الحب من يجعل جميلتي تبكي ؟!"
اومأت رأسها ايجاباً .. فتساءلت الجدة " وماذا يوجد ؟! "
قالت بألم " لم ألتقي به لعدة أياام.. ثم ليس من عادته ان لا يتصل "
قالت بنبرتها الحانية " حسنا لا بأس فكما قال ليلة الحفل انه يعمل .. مؤكد انه ينشغل "
أومأت ريم رأسها وهي تمسح دموعها و ربتت جدتها على يدها ثم قالت " كل الامور ستتيسر بينكما .. ثقي بي "
هزت رأسها نفياً ثم قالت بفقدان أمل " أبدا يا جدتي .. ( وعادت الدموع للتجمع في عيونها ) انه حتى لم يصارحني بحبه ولكنن.. لكنني اشعر انه يحبني من نظراته واهتمامه بي ،، ولكن لا يستطيع البوح بسبب فقره " واجهشت بالبكاء وهي ترمي بنفسها الى صدر جدتها " الجميع ضد هذا الحب امي و صديقتي امل ،، انهما يفعلان ما بوسعهما لابعادي عنه ، لقد سمعت والدتي تتحدث اليها البارحة،، ( وهنا زاد بكاءها )لقد قالت لها افعلي ما بوسعك لاقناعها بالتخلي عن هذا الحب ،، ولكنهم لا يعلمون انني تعلقت به ولا استطيع التخلي عنه ،، لا يريدونه لانه فقير.. ما ذنبه يا جدتي.. أخبريني "
" ليس ذنبه شيء .. هيا امسحي دموعك سأحل الأمر .. "
وابعدتها عن صدرها وأخذت تكفكف دمعها بأناملها الحنونة وقالت بابتسامة حانية " هيا امسحي دموعك لا اريد ان ارى دموعك تلك .. "
" حسنا.." ريم بصوت مرتجف ..
" انت اذهبي وروحي عن نفسك قليلاً.. وانا سأحل امرك لا تقلقي.."
اومأت ريم برأسها بقلة حيلة ثم ابتسمت وقبلت جبين جدتها بامتنان بعد أن ظهرت والدتها وخرجت معها مكرهة من المنزل الى مركز التجميل... وهنا تأكدت الجدة بأن خطة سرية تجري مجراها بين أمل ووالدة ريم سبيلهم هو التفريق بين شخصين لم يستمتعا بلحظات الحب حتى الآن ... وعزمت في قرارة نفسها أن تحاول ولو قليلاً،..
#############
كان الماء في البحر أزرقا صافيا يماثل زرقة السماء التي انعكست على مياهه البلورية وكان بعض النّاس قد استلقوا على الرمال الذهبية اللّامعة معرضين بشرتهم إلى أشعة الشمس الحارقة والبعض الآخر فضل الجلوس في ظل الشّمسيات بينما أخذت مجموعة من الشبان يلعبون بالكرة يقفزون وعلى سطح الماء زوارق صغيرة ناشرة أشرعتها كأنها حمائم بيضاء تسافر في السماء الزرقاء وكانت أمواج البحر تتلألأ تحت أشعة الشمس الحارقة .. اما هو يقف بعيداً عن كل ذلك و الحزن منثورا عليه، بل كان مغطّى به كرمال الشاطئ التي تغطي ضفاف البحر.. يقف بقامته الممشوقة وعينان رماديتين باهتتين تنظران الى ذلك البحر بفكر مشتت وعقل تائه.. يحاول الوصول الى مخرج آمن من تلك الأفكار المزدحمة والتي ادخلته في دوامة كبيرة لا مخرج منها .. وذلك الالم الذي وصل الى قلبه ،، جثى على ركبتيه متهالكاً منهاراً ينظر الى باطن يديه بعيون حزينة وقلب مكسور حزين .. يداه القويتان التي اشتعلت غضباً وقوة ليلة امس لتسيطر على يد اخرى ناعمة هشة.. وأخذ الدمع يسيل من مقلتيه ندماً وأسفاً...
وفي مكان آخر .. في المنطقة الجنوبية من المدينة.. حيث الهواء العليل الذي يداعب اغصان الأشجار و الطبيعة الخلابة التي تمتد على مساحة كبيرة.. مكان يضم ودياناً ومرتفعات جبلية و سهولاً خضراء واسعة.. وامام منزل خشبي ابيض اللون وقفت السيارة السوداء الفارهة لتترجل منها فتاة شقراء، ممشوقة القامة، ناصعة البياض رقيقة القدّ.. وسيمة الوجه، في حوالي الواحد والعشرين من عمرها.. ترتدي ملابس رسمية تنظر بعيونها الزرقاء الداكنة بابتسامة مرحة..
وفي الفناء الخلفي يجلس ذلك الرجل ببدلته الرسمية يعبث بحاسبه المحمول يرتشف كوباً من القهوة و بجانبه طفلته الصغيرة (ملاك) تتناول طعام الافطار...
"اذا ابي ايضا هنا ستعمل" تساءلت ببراءة
اجابها بابتسامة حانية "اجل.. فالعمل صعب ويجب على والدك ان يراقب عمله من بعيد"
ثم أكمل بحب " سوف آخذ ملاكي في نزهة ولكن عندما ..."
وقاطعه صوت الخادمة " سيد ماجد لقد وصلت الأنسة سوزان.."
التفت ليرى فتاة بعمر الزهور تقابله بابتسامة مرحة وتمد يدها لمصافحته "مرحبا انا سوزان.."
اجابها باقتضاب "اهلاً.. تفضلي بالجلوس.."
تساءلت الخادمة "هل تودين شرب شيء ما؟"
هزت رأسها نفيا وقالت بلطف "شكرا لك.."
"اذا يا انسة سوزان .. يبدو انك متحمسة للعمل؟!"
اجابته بصدق "اجل فانا منذ مدة ابحث عن عمل "
"لقد قال لي مساعدي انك كنتي تعملين في مأوى للأيتام "
اومأت رأسها فاكمل " و بالتأكيد لن يكون عملك صعباً مع ملاك.."
"اجل.." قالت ذلك وهي تنظر الى ملاك التي ذهبن تلهو وتلعب في الحديقة
"لا شروط لدي للعمل.. ولكن سيكون عملك هنا مؤقتا.."
اومأت رأسها بتفهم " أعلم ذلك.. اخبرني السيد مازن "
"حسنا.. يمكنك القول انك حصلت على عمل جيد .. وبراتب ممتاز برغم المدة القصيرة"
قالت بامتنان "انا سعيدة لذلك.."
وفي نفس المكان و مع دقات الساعة الثانية عشر ظهراً لتعلن عن موعد الغداء يجلس على مكتبه الخشبي وبيده اوراق وملفات عدة.. مسح جبينه من حبات العرق بمنديل أبيض وتنهد بتعب وهو يضع الاوراق جانباً...
"سيد ماجد.. لقد حان موعد الغداء "
"حسنا.. سأجري اتصالاً هاتفياً.. اهتمي بملاك ريثما انتهي "
اومأت الخادمة برأسها لتغادر الغرفة.. فيلتقط هو هاتفه المحمول ويبدأ بالضغط على أزراره ليأتيه رنين متواصل وبعد ذلك صوت انثوي طاغي جذاب برغم التعب الواضح به " اهلا ماجد"
"أهلا كاريس. كيف انتِ؟!"
اجابته بملل "بخير،، ماذا هناك ؟!"
تمالك اعصابه وقال وهو يشد على اسنانه " الا يجب على ام مثلك ان تطمأن على ابنتها"
"وابنتي تكون مع والدها.. لماذا اخشى عليها من شيء وهي في ظل حمايته"
"هكذا اذاً.."
ثم اعقبت بقولها " لا اظن انك ستفعل ذات الأمر مع ابنتي انتقاماً.."
اعتلاه غضب شديد، وصرخ بشيء من التّحدّي "كاريس.. لا تدعيني اخرج كل غضبي عليك.."
قالت بلا مبالاة " وماذا ستفعل ايامي معدودة.. انتبه على ابنتي.."
قال بحيرة وعدم تصديق " لا ادري اي نوع من الامهات أنتِ.."
جائه صوتها حزيناً " ام ستأخذ جزائها بعد مضي هذه السنين.." أخذت نفساً عميقاً وأكملت " لن اقول لك الا ان تنتبه على ابنتي .. وحاول جاهداً ان تعوض لها الحرمان الذي فقدته مني.."
قال بسخرية مريرة " اطمأني سأخلد ذكراك الجميلة ولن أتزوج من بعدك "
قالت بأسف ممزوج بندم وتأنيب ضمير " انا حقاً متأسفة لما فعلته.. ارجوك سامحني.. وان صادفتها اعتذر منها بالنيابة عني.. سأغلق الأن سيبدأ علاجي.. اهتم بابنتنا كثيراً و قبلهاً "
زفر بحرارة وهو يضع هاتفه جانباً ليتجه بعدها لتناول الطعام.. بعد ان رسم ابتسامة على وجهه من اجل صغيرته..
❤❤❤❤❤❤
و مع حلول المغيب و انعكاس لون الشفق المتوهج على هذه المدينة الصاخبة متسعة الأرجاء مترامية الأطراف زُرعت على جانبي طرقاتها أشجار الورد والفل.. مدينة تمتلأ شوارعها الواسعة بالسيارات والشاحنات الصغيرة منها والكبيرة.. ومراكز التسوق الضخمة وفنادق فخمة .. و حدائق عموميّة زيّنتها أشجار عالية خضراء احتضنت الخلائق من النّاس، هؤلاء الّذين احتشدوا في كلّ الأمكنة يترقّبون الحافلات، أو يجتازون الشّوارع بحذر متتبعين الممرّات أو يسيرون بتأنٍ عند ملتقى الطّرق حيث رجال الشّرطة، حتى ينتهي بنا المطاف الى منزل فخم يحتضن بين جدرانه امرأتان جلستا لتناول الطعام..
لتتساءل احداهما بقلق .. امرأة كبيرة في السن تدل تعابير وجهها على الطّيبة، والبساطة " عزيزتي لما يبدو وجهك شاحباً هكذا؟!"
أجابت فتاة شابة شاحبة الوجه بصوت يملأه التعب والارهاق وهي تعبث بمحتويات طبقها بشرود " لقد امضيت الليلة الماضية في الرسم لأجل ذلك.."
اومأت جدتها رأسها بنظرة ذات مغزى، ثم قالت بنبرة حنونة " عزيزتي قمر لا تتعبي نفسك.. انظري الى حالك .."
قمر بابتسامة شاحبة لتذهب قلق جدتها " لا تقلقي يا جدتي.. فلم يجد النوم طريقه الي البارحة .."
ابتسمت لها الجدة وبرزت تجعيدات وجهها التي رسمت بخطوط بنية وكأن فناناً عالمياً رسمها بأقلامه وفرشاته لتظهر لوحة جميلة تعبر عن الطبية والعطف والنقاء في زمن كثر فيه الخبثاء والأعداء.. ولكن سرعان ما قطبت جبينها بضيق وهي تتذكر تلك المحادثة الصغيرة..
( " لقد حضرا الى المدينة "
شهقت بقوة وبدأت دموعها تتجمع في مقلتيها البنيتين " ماذا؟! من أخبرك؟!"
"السيد معاذ.. عندما كان يتفقد المنزل "
هزت رأسها نفياً "لا يعقل.. كيف بعد كل هذه السنين.."
" لقد عاد وسبب عودته واضح..."
قالت بعدم تصديق "لا يعقل أن عاد لأجلها ..")
وهنا قاطعتها قمر بخوف "جدتي ما بالك حزينة هكذا؟!"
قالت وهي تهز رأسها " لا شيء.. انا قلقة على مجد.."
ارتعدت اوصالها عند ذكر اسمه وبدأ قلبها يدق بعنف وارتجفت اناملها وهي تقطع بسكينها تلك السمكة .. كيف تسمحين لقلبك يا قمر ان يرتجف حال سماع اسمه.. أليس هو من يعذبك بسمومه وكلامه الجارح بل وبدأ بشن حرب العنف تلك، قالت ذلك في نفسها وهي تشعر بألم ينغز في قلبها .. ثم قالت بلا مبالاة كي لا تجتذب انتباه جدتها " وما به؟!"
اجابت الجدة بحيرة " لا اعلم.. حاله لا يعجبني.. ها هو لا يزال خارج البيت حتى الآن.. لا اعلم اين يمضي لياليه.."
قالت بغيظ " انه في عامه السابع والعشرين لا بد انه عند صديق له.. لا تقلقي سيعود ان طال الوقت او قصر.."
أخذت الجدة نفساً عميقاً لعلها تُهدئ الاعصار الذي في داخلها واخذت تسترق نظرات جانبية على قمر وهي تراها شاردة الذهن و بريق الحزن في عيونها العسلية تفكر في ذلك الرجل الحديدي.. الذي أحدث دماراً شاملاً في قلبها عندما انقض عليها كأسد غاضب يريد التهام عشاءه او كعدو شرير يريد ان يغزو ضحاياه بقنابل و اسلحة تفتح جراحاً حادة لن يغلقها الزمن.. ولكن اين سيكون الى الآن؟! وماذا يفعل؟! يا الهي يمكن ان حصل له مكروه ما ؟! او حلت به مصيبة؟! او حادث ؟! تساءلت في نفسها بقلق وهي تفتح عيونها على وسعهما ثم أخذت تطرد تلك الافكار من رأسها وهي تحدث نفسها وتعبث بطعامها امام انظار جدتها ' يحدث له ما يحدث .. ليذهب الى الجحيم ويبتعد عني بل واتمنى ان يكون في طريق مهجور يلتف حوله الضباع والكلاب والحيوانات المفترسة لتلتهمه وتجعل من لحمه طعاماً لها ولأولادها.. '
ثم اكملت في سرها وكأنها شعرت بضخامة الذي تفكر به ' الا يبدو انك بالغتي يا قمر' وهزت كتفيها بلا اهتمام..
(مرحباا.. )
رفعت رأسها بحدة لتلتقي نظراتها الحزينة مع عيون ذلك الصوت البارد .. وتنفست الصعداء بينها وبين نفسها لأنه عاد الى المنزل ولم يحدث له اي مكروه.. ألم تكن هي نفسها قبل قليل تتمنى ان يذهب بلا عودة؟!
سألته الجدة بخوف وقلق " اين كنت ؟! كيف تخرج في منتصف الليل من دون ان ..."
وقاطع سؤالها متهرباً وهو يوجه سؤاله الى قمر " كيف انتِ يا قمر هذا اليوم ؟!"
هزت الجدة كتفيها بقلة حيلة ثم اجابت قمر بعد ان تمثلت بالقوة والثقة " بخير.. "
ولمع في عيونها مزيج من نظرة عتاب وحزن ونظرة الم وانكسار اما هو فقد هرب من عيونها المتألمة بسؤال الى جدته " أين الجميع؟!"
قالت الجدة بسخرية " لا اعهدك طيب القلب هكذا وتهتم بالآخرين (قالت هذا وكأنها تشير الى شيء ما) ولكن سوف أج..."
قاطعها صوت الخادمة يخبرها بقدوم احدى صديقاتها، نقلت بصرها بين الاثنين وقد لاحظت الشحنات السالبة بينهما، ثم تركز بصرها على مجد إلى أن قال لها " لا تقلقي.."
وبعد انصرافها، نظر مجد إلى قمر التي ارتبكت وأحست بشعور غريب فكان من الافضل لها
"عن اذنك.. صحة وعافية " نطقتها قمر وهي تنهض مبتعدة عن تلك العيون الرمادية التي لاحقتها بكل خوف وشوق.. و تسير قدما تلك العيون خلفها ... تصعد عتبات السلم بخطى متثاقلة وتفكير مشتت وعقل تائه.. ينتابها صمت عميق وشرود وذهول غريبين .. سرعان ما اغرورقت عيناها بالدموع وهي تطأطأ رأسها للأسفل لتجعل رؤيتها غير واضحة ..
وأخذت تترنح في مشيتها قليلاً وكادت أن تسقط لولا تلك اليد القوية التي اسندتها وعيون رمادية خائفة التقت بعيونها العسلية اخذت تُرسل سحرها الخاص و تجعل جبالاً ضخمة من الكبرياء والعناد تجهز نفسها للرحيل من ذلك الجسد الضخم وقد شعرت بالضعف والهوان امام دموعها الحارقة التي كانت تأخذ سيرها على وجنتيها،، وما لبثت ان ابتعدت عنه وهي تشعر بسيل من الكهرباء تسري في جسدها وهي تقول بحدة " ماذا تريد الان.. هل تريد اكمال ما فعلته؟!.."
شعر بغصة كبيرة تملأ حلقه وآثر الصمت ولكنها اكملت " لقد اكتفيت منك.. واكتفيت من تجريحاتك وكلامك الحاد.. "
قاطعها بصوت مرتجف " قمر انا.."
قالت بصوت خافت " ان كنت تراني صامتة لا اتجاوب معك .. فهذا لأجل جدتي.."
صمتت قليلاً ثم تحدثت " لست بكل تلك القوة أجل، ولست ككل شخص عاش حياته بشكل طبيعي، أعلم ذلك.. وأنت تعلم كل شيء عني وعن حالتي النفسية في المأوى وكيف مكثت هناك وكأنني لا شيء .. وبعد كل تلك السنوات ها أنا هنا ولكنني حتى هنا أشعر أني لا شيء بسببك أنت"
كاد أن يتحدث حتى أردفت " أرجوك، لا تجعلني أشعر كما شعرت في سنواتي في المأوى.."
اقترب منها رويداً وأمسك بوجهها بين كفيه، وراح يكف الدمع عنها حتى غصت في حلقها ثم التفتت حتى تتجه في غرفتها،..
وتوقفت عن المسير عندما شعرت بخطاه خلفها وصوته الهامس " لا شيء كما يبدو لي، ولا شيء كما يبدو لكِ.. فكل معاناتي بسببك وكل معاناتك هنا بسببي.. نحن نحرق بعضنا البعض.. ولا نجاة من ذلك "
قال ذلك ثم صعد الى غرفته متجهم الوجه بارد قاسي الملامح.. ومع كل خطوة يخطوها وهو يصعد الى غرفته كان ألماً شديداً يزداد في قلب قمر لتتوقف هكذا بجمود وهي تشعر بآلام حادة في جسدها وحزن عميق أخذ يغلف جسدها.. وأمسكت بمقبض الباب لتفتحه بهدوء شديد ثم لتدلف الى الداخل بهدوء ساكن وتوجهت حيث سريرها وجلست عليه بعيونها الذابلة التي تعيد تكرار الموقف لتشعر بسكاكين حادة تمزقها اشلاء وتجعل منها أجزاء مترامية ... وبعد صمت طويل استلقت على فراشها في شيء من الفتور والتعب وشعرت بآلام خفيفة في عظام جسدها النحيل... و كان تنفسها قصيراً.. أما عيناها فكانتا تعبتان مرهقتان.. ، كأنها في حالة من الحمى، وكان وجهها شاحبا أصفر اللون... وبدأت عيناها العسليتان تدمعان.. و اغلقت عيناها بألم وهي تشعر بألم حاد في قلبها لتشد بقبضتيها على فراشها الى أن غطت في سبات عميق...
كان الصمت يلف بها من كل جانب.. وهي تسير في طريق مظلم مليء بأغصان الشجر الملقية على ارض قاحلة تتعثر بها وتقع ارضاً لتصاب برضوض وجروح مختلفة بعضها ينزف خضاباً أحمر وأخر اصبح لون جلدها أزرق بسبب وقوعها المستمر.. تسير
وعيونها التائهة متوجهة حيث مصدر الضوء ذاك الذي يأتيها من البعيد البعيد.. و كانت قدماها ترتجف من الخوف وشدة البرد القارص في آن واحد وكانت تعض على شفتيها التوتية المتشققة بألم واضح يجعل الدم يتدفق منها...
ثم تلبدت السماء السوداء المظلمة بغيومٍ ذات لون الرمادي سرعان ما هطلت الأمطار بعدها.. فأخذت تهرول في مشيتها بارتجاف جسدها النحيل من برد هذه العاصفة... ولم تزدد الأمطار إلا شدة ولم يزدد الرعد الا صارخا بغضب مرات متتالية بعد مرور الوقت وثار جنون العاصفة مولولة ثائرة غاضبة و الأشجار تهتز اهتزازا عنيفا حيث الأمطار تصنع بركاً متماوجة فانقبضت على نفسها وتراجعت إلى الوراء وهي تسير بأطراف كادت ان تتجمد من هذا البرد القارص.. كانت تركض بخوف وذعر شديد الى ان وصلت الى مكان مسدود مليء بالحشرات والافاعي السامة فأغلقت عيناها بخوف وتراجعت للوراء واخذت تلتفت ذات اليمين وذات الشمال لعلها تجد مخرجا من هذا المكان المخيف وتدور حول نفسها بخوف وجزع مرات عدة الى ان شهقت بقوة وهي تراه يقف بعيدا عنها على منحدر كبير... يبدو الضعف والحزن يبلله كما تبلله مياه السماء التي سقطت عليه لتجعل ملابسه تلتصق بجسده فيصبح تماما كتمثال يقف في احدى الزوايا فصرخت بأعلى صوتها وهي تتقدم نحوه " مجد..."
التفت اليها بنظرات ملؤها الندم ،، الحزن ،، الاسف .. جميعها اجتمعت لتجعل بريق عيونه تخترق جسدها النحيل وبصوت واهن يكاد لا يسمع من شدة العاصفة " سامحيني.."
امسكت يديه بقوة وقالت برجاء " ارجوك أعدني الى المنزل انا خائفة.."
قال وهو ينظر الى اسفل المنحدر " لا استطيع،، فأنا سأغادر الآن"
وجهت نظرها الى ما ينظر وشهقت بقوة و انحدرت دموعها لتمتزج بقطرات المطر الغزيرة وقالت بانفعال وهي تهز رأسها " لا.. لا .. مجد ارجوك.. لا لا تفعل لا تتركني وحيدة ارجوك .. "
"لا استطيع،، (صمت قليلا ثم قال) فقط سامحيني"
واعقب قوله افلات يدها بقوة و شهقاتها التي تصاحب صوت الرعد تزداد والقى بنفسه بكل حرية من اعلى المنحدر امام عيونها الحمراء المتورمة لتجثو على ركبتيها بكل ألم وتمد يدها للفراغ وتصرخ " مجد لماذا تركتني؟!"...
شهقت بقوة وهي تفتح عيونها و حبات العرق التي تغزو جبينها ووجهها الملائكي.. لتغمض عيونها الحزينة المذعورة من اشعة الشمس التي تمردت ككل صباح في التسلل الى الغرفة حتى اعتدلت في جلستها ورتبت خصلات شعرها المتناثرة.. ثم القت بنظرها الى الساعة التي كانت تشير الى العاشرة والنصف صباحاً..
نهضت من فراشها متوجهة نحو دورة المياه لتخرج منها بعد دقائق ثم التقطت يداها عن المنضدة الخشبية تلك السلسلة الذهبية التي تحمل في وسطها حرف (r) وضمتها الى صدرها بقوة لتسيل بعدها دموعاً من مقلتيها كقطرات المطر التي تهطل في ليلة شتائية في اشد فصول سنة برودة .. وأخذت تقول من وسط اوجاعها " آهٍ يا امي.. لقد مر وقت طويل لم يأتي طيفك لزيارتي لقد اشتقت لكِ.. اشتقت لهمساتك ونصائحك.. وحتى الى توبيخاتك.. يا ليت الزمان يعود ويقف الى قبل موتك .. ارجوكِ عودي او دعيني اذهب اليكِ.. المكان موحش من دونك.. لسنين طويلة وانا أتحدث الى طيفك و لا تزال صورتك الاخيرة عندما ودعتك على باب منزلنا في ذهني لا تغيب.. كنت صغيرة حينها لا ادرك معنى نظراتك تلك كنتِ وكأنك تشعرين بان موعدك حان حتى تصبحين جثة هامدة تنامين تحت التراب.. (وهنا اعتلت شهقتها واكملت بغصة وهي تمسح دموعها التي تمتنع عن مفارقتها حيث ابت ان تبقى حبيسة داخلها وما زالت تستمر في النزول) لكنني سأكون قوية ولن اضعف امام ما يواجهني سيبقى الأمل مزروعاً في داخلي.. اني أؤمن بوجود ايام جميلة ستأتي..."
مسحت دموعها بظاهر يدها و وضعت السلسلة جانبا بعد ان سمعت طرقاً خفيفاً على الباب ووجه ريم يطل منه بابتسامتها المرحة " صباح الخير ياا قمراً يزين بيتها "
بادلتها قمر قمر بابتسامة شاحبة " صباح الورد "
جلست ريم على سريرها ونظرت مطولاً الى قمر " ماذا هناك؟! تبدين حزينة!!"
هزت رأسها نفياً.. فتساءلت ريم باستفهام "هل عاد ذلك الحلم السيء.. الذي يخص والدتك..؟!"
"لا ابداً.. (ورسمت ابتسامة باهتة على وجهها الشاحب) اذاً ماذا هناك وما سر السعادة هذه !!"
"السر هو اننا سنذهب الى رحلة!! "
( وما الحجة التي خرجتي بها لتقنعي جدي..)
التفتت ريم حيث مصدر الصوت وقالت " وهل كنت تسترق السمع؟! "
وجه انظاره الى قمر التي كانت تجلس تنظر اليه بضيق سرعان ما اشاحت وجهها بضيق اكبر
..كانت اشبه بفتاة صغيرة بملابس النوم تلك ذات اللون الأزرق الداكن طُبعت على الطبقة العلوية منها رسمة فتاة صغيرة ممسكة بدمية بنية وأما بنطالها فقد كان عريضاً بنقشة الكاروهات بألوان تناسب اللون الأزرق ثم قال وهو يجلس على أريكة بيضاء اللون " لم لا .. كنت اتجول فسمعت هذا من دون قصد "
لوت ريم شفتيها بسخرية " وانا سأصدق ذلك.."
تحدث مجد بعد صمت قليل "وما سر السعادة هذه .. لا اكاد اصدق ريم سعيدة من اجل قضاء يومين في المنطقة الجنوبية.."
اجابت مقلدة نبرته " ولم لا وسيكون هناك شيء مختف في الرحلة ( وهنا اشارت حيث قمر بيديها ) وهو قمر "
ابتسم ابتسامة خاطفة ثم أخذ يجول بنظره ارجاء الغرفة امام نظرات ريم المستفهمة و قمر الخاطفة المرتبكة لتسأله ريم بحيرة " لماذا تنظر الى الغرفة هكذا ؟! "
اجابها وهو يضع كفه اسفل ذقنه.. بوضعية تدل على التفكير " افكر وأتساءل لماذا تسجن قمر نفسها بهذه الغرفة لعدة ساعات كل يوم ؟!"
هذا يعني انه يعر امر اختفائها اهتماماً.. او انه يفقدها !! وبرغم شعورها بالسعادة تجيبه قمر في سرها " كي لا أقع فريسة لك.. "
بينما تساءلت ريم باستخفاف " والى اين وصلت يا سيد مفكر ؟! "
وبرغم نبرة السخرية من فم ريم الا انه لم يعرها اهتماما بل أخذ ينظر حيث ملاكه.. لترفع قمر وجهها بعد ان شعرت بنظارته المسلطة نحوها ليفاجئها بتلك الابتسامة التي تشق طريقها الى وجهه الحديدي وزادتها الدهشة أكثر عندما قال وهو موجه نظره نحوها " لأنها جميلة.."
وما ان خرجت تلك الكلمات من فمه والتي جعلت قلب قمر ينتفض.. واحمرت وجنتيها بحمرة خفيفة فهل يقصدها هي ام الغرفة!! وشعرت بحرارة تسير في جسدها امام نظراته تلك التي كانت تبعث اليها شعوراً بالراحة.. ولكن نظراته كانت مختلفة وكأنها نظرات مودعة نادمة آسفة جعلتها تتذكر ذلك الحلم السيء فنظرت اليه في شيء من الخزن وقبل ان يفسر سبب بريق الحزن في عيونها لفت انتباهه تلك السلسلة الذهبية فأخذ نفساً عميقاً ليتمالك أعصابه ولكن لم يستطع ذلك عندما انطلق صوتاً من الخارج ينادي ريم فخرجت على عجلة من امرها تاركة ذلك الزوج المشحون ليبدأ صراعه منذ ان نطق بكلماته الحادة باحتقار وسخرية " سلسلة جميلة.. يا تراه من يكون ذلك الشخص الذي يهديكِ سلسلة كهذه "
نطقت قمر كلماتها بحدة وضيق " أليس من المنطق ان تخرج من غرفتي وأن لا تتدخل فيما لا يعنيك !!"
فمن الآن وصاعداً لن تسمح له ان يهينها بأي شيء.. ويمس كرامتها بسوء... يكفي ما نالت منه حين صمتها.. ولن تسمح له ان يتحدث عن والدتها بشيء كهذا الإحتقار الذي يقطر من كلماته...
تساءل بسخرية " غرفتك!!" واكمل وهو يتجه حيث الشرفة "ام انك نسيتِ انك في بيت جدك .."
والتفت ناحيتها بعد ان طال صمتها ليراها ممسكة بتلك السلسلة الذهبية وكأنها تبعث فيها بعضاً من القوة الثبات.. فهل عادت الى الصمت من جديد؟! ،، ليشعر بحرارة تسري في جسده فأخذ يسير باقدامه نحوها ثم يسحب منها السلسلة بحدة وليرميها جانباً امام عيونها التي توجهت اليه بحدة وعدم تصديق وصرخ بصوته الغاضب " أتعجبك كثيراً.. هل لديها مكانة خاصة في قلبك لتجعلك تمسكين بها هكذا؟! ام لأنها هدية من حبيب القلب!! .."
وامام عيونها التي تنهمر منها الدموع والتي تتبعت السلسلة منذ ان أخذها الى ان هوت ارضاً ..انطلقت شهقة عالية من حيث الباب وصوتها الخائف المرتجف وهي تركض حيث قمر " قمر.. قمر هل انتِ بخير؟!"
ثم التفتت الى مجد بعيون غاضبة " اخرج حالاً.."
نظر اليها بعيون ملتهبة حارقة وهي تذرف دموعاً على تلك السلسلة اللعينة التي اشعلت الغيرة في قلبه .. فصرخت ريم في حدة أكثر " اخرج .. " حتى يمضي في طريقه خارجاً من الغرفة كأمواج البحر الهائجة او كألسنة النيران الغاضبة ليخرج بعدها من المنزل بأكمله..
وأعتلى نحيب قمر وهي تقول " لقد اخذها على حين غرة.. ورماها ارضاً.." ثم اتجهت حيث السلسلة الملقاة على الارض لتتفحص تلك الحجارة التي تكسرت والتي كانت تزين ذلك الحرف بشكل جميل.. لتتناثر حجارتها الصغيرة الى اجزاء صغيرة تكاد تماثل الذرة في حجمها وهي ملقية امامها على الارضية فقالت وهي تصرخ باكية وتضرب الارض بكلتا يداها وريم تحاول تهدئتها ولكن من دون جدوى" لن اسامحه ،، لن اسامحه.. لقد كانت أخر شيء بقي لي من امي.. لن اساامحه.."
يتبع..