إرتواء نبض
02-02-2020, 08:56 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
توكلتُ على الله
الجزء الثاني والخَمسون
الفصل الثاني
سَحَبَ قِطعة مِنديل من العُلْبة التي بَدت لهُ خَفيفة، رَفعها لينظر داخلها فاتَّضحَ لهُ نَفاذها.. تأفف وهُو يَمْسحُ أنفه الذي بدأ يَزْحف إليه احْمرارٌ خَفيف.. بوادر مَرض.. يَتمنى أن يقتصر مرضه على الزُّكام وألا يتطور لإنفلونزا تَسْلب قوة عِظامه. وَقَفَ يُريدُ أن يَذهب للمَخْزن لإحضار علبة مناديل جَديدة.. ومع وُقوفه ارْتَفعَ صَوْت هاتفه.. تناوله من على مكتبه لِيُجيب وهُو يمشي للباب: هالو هاينز
هاينز بنبرة اجْتمعت فيها العصبية مع القهر: أيــن أنت؟ مُنذ الصَّباح وأنا أُحاول مُحادثتك.. لِمَ لا تُجِب على هاتفك؟
أَجابَ ببرود وهُو يخرج من المَكتب: كنتُ أعْمل
بذات النبرة: ألا ينتهي هذا العَمل؟ من غير المَعقول ألا تملك دقيقة في اليوم تحادثني فيها! تبًا لك أيها الأخرق
نَطَق وابْتسامته تُسْمَع في صوته: ما بك عزيزي هاينز؟ أَلم تَلتقِ بحبيبتك اليوم؟
تَجاهلهُ مُفْصِحًا عن سؤاله: هل كلمك والدي اليوم؟
بنبرة عادية وهُو يُخْرِج علبة جَديدة: لا لم يُكلمني.. في الحَقيقة هُو لَم يُكلمني مُنذ أكثر من أُسْبوع
اسْتَفسر كما لو أَنَّهُ يُحَقِّق: وماذا قال لك عندما كلمك؟
شاكَسه: لا صلاحية لدي للإخبارك
نَطَقَ من بين أَسْنانه: مُوهاميـــد
سَأل بجديّة مع اسْتقراره على إحْدى أرائك غُرفة الجُلوس: ما بك؟ صوتك مُتوتر.. لا تبدو على ما يُرام.. هل حصل شيء؟ "وَصَلته تَنهيدته المُشيرة إلى حَجْم الثِقْل المُتَّكئ على نفسه.. لذلك واصل باهْتمام ويده تفتح العُلبة" هل هُناك مُشكلة هاينز؟ أخبرني.. إن كان يمكنني المُساعدة فسأساعدك
أَجابَ ونبرته تهوي إلى قاعٍ هادئ ولكن يَضج بخفايا اعتاد عليها مُحمَّد: أنت الذي تحتاج المُساعدة.. لستُ أنا
عُقْدة خَفيفة: ماذا تقصد؟
راوغه: أنتَ أخبرني أولاً.. هل أخبرك والدي عن قضيّة ذاك الرجل.. أَمَّار؟
صَحَّحَ له كعادته: تقصد عَمَّار؟ نعم أخبرني بأنَّ رفيقه طلبَ منهم هُنا بفتح الملف لإعادة التحقيق في قضية موته
: نعم.. قضية موته.. أو مقتله كما يعتقد رفيقه.. ووالدي أيضًا
مُحَمَّد بعدم فهم: حَســنًا! وما المُشكلة في هذا الأمر؟
وَضَّحَ: والدي يُريدك أن تعمل على القضية أنت أيضًا "انتظر منه تعليق لكن مُحَمَّد ظلَّ صامتًا ينتظر تفسيرًا أكثر إقناعًا.. فَأكملَ هاينز كاشِفًا عن عُقَد قَلَقه" هُو سَبَق وأخبرك أنَّك ستعمل مع رفيق أَمَّار.. ذلك المُدعى أزيز.. لكن ظننت أنَّك ستعمل معه فقط على قضية والد إنْجِل.. والعصابة.. لَم أتوقع أنَّ العمل يشمل قضية رفيقه
: هاينز.. أنا إلى الآن لَم أفهم ما المُشكلة!
ارْتَفَعَ صوته بِحَنَقٍ وَنفاذ صَبْر: أيها المَجنون.. أنت ومع عملك مع قضاياك الأصلية ستكون مُهَدَّد بالخطر.. قُد تُقتَل في أي لحظة.. كيف إذا شاركت في قضية أخرى؟ وليست أي قضية.. مقتل مُحقّق.. مُحَقّق.. ألا تعلم ما هي نوع القضايا التي كان يحقق فيها؟ أنت لو تَرى جثته وجرح ذراعه ستعرف الجواب
رَماهُ بِسَهمٍ جَليدي لَسَعَ جواه القَلِق: وهل هي المرّة الأولى التي أكون فيها مُهَدّد بالخطر؟ أنا مُذ التقيت بوالدك لَم يَزرني الأمان قَط.. لَم أعد أعرف شعور المرء وهو مُطْمئن حتى في وطنه.. سواء كُنت مُشارك في قضية أو اثنتان أو عَشر.. مهما كانت الضحية.. فأنا في أي وقت ومكان قَد أُقْتَل.. تقبَّل الواقع هاينز "وبسخرية أَضاف" ألم تَعْتَد على قصة حياتي بَعْد؟ أصبح الأمر أسلوب حياة بالنسبة لي
هَمَسَ وأنفاسه المُرتجفة تستجدي من مُحَمَّد الحَذَر: ولكن خَطَر عن خَطر يختلف.. اكتف بالأهداف الموجهة إليك.. لا تُضِف هَدفًا آخر إليهم.. اعْتنِ بقلبك.. أرجوك مُوهاميـد.. لا تَستعجل المَوت.. أرجـــووك
تَبَسَّم.. ابْتسامة تَخْلو من سُخْرية قَدر ومن شُحوب.. ابْتسامة كانت توأمًا للصْدق الذي غَمَر صوته: شُكْرًا لك هاينز.. شُكْرًا لخوفك واهتمامك.. شُكْرًا لأنّك الشيء الوحيد الذي أهدتني إياه هذه الحياة
اسْتَنكرَ: ماذا تقول! أنا سأفقد أعصابي من خوفي عليك وأنت تشكرني! بالله عليك موهاميــد عامل نفسك كإنسان.. ولو لمرة.. ولو مرة!
عادَ لشرنقة بروده: هاينز لا داعي لإعادة سَرْد مأساة فقدي.. لقد سمعتها مني ألف مرة وبأطوار مُختلفة.. الأمر مفروغ منه.. اتفقنا أنا ووالدك وانتهينا.. خوفك هذا لن يغير شيء.. إما أن تتقبَّل الأمر، أو أنَّك تتعايش مع قلقك وحدك.. لا داعي لأن تبثّه إلينا
احْتَكَّت أَسْنانه بقهر والكلمات تدافعت في حلقه لتُعَبّر عن غضبه، لكنَّها تصادمت من شدّة الغيظ وتعرقلت.. فلم تنفذ إلا كلماتٍ مُتقاطعة: وغــ.. أيها الأحمق.. مجنون.. مجنــوون.. لكن لا شأن لي بك.. أحــمق... لن أكلمك بعد الآن.. مُــت وحدك.
أَبْعَد الهاتف وأَخذَ يَنْظر إلى شاشته بحاجبَيْن مُرْتَفعَيْن.. هَمَسَ باسْتنكار: شفيه هذا!
أَغْمَضَ عَيْنيه بانْحناء مُسْتَجيبًا لنوبة العُطاس التي داهمته دُون أن تعطيه مَجال لِيَتَنَفَّس، الزُّكام مُقْبِل بشراسة.. زَفَرَ بتعب وهُو يَتراجع للخلف لِيَسْتند على الأريكة برأس مَرْفوع.. ويده قد ارْتفعت مُثَبِّتة المَناديل فوق أَنفه.. فَتَحَ عَيْنيه لِيَسْتَقبل بَصرهُ السَّقف.. ازْدَرَد ريقه قَبْلَ أن تَنْتَصف شَفَتيه ثَغرة صَغيرة تُعينه على التَّنفس.. عليه أن يشْرب دواء قَبْلَ أن يَتَأزَّم الوَضع.. فالصَّداع ها هُو يُمَهِّد لهُ بقدومه.. وَعضلاته قَد ارْتَخَت باسْتسلام اسْتعدادًا للألم. أَخْفَضَ رأسه مُعْتَدِلاً في جلوسه.. وَقَفَ ثُمَّ أَلْقى المَناديل في سَلّة المُهْملات القَريبة ومن بعدها الْتَقَط له أُخرى نَظيفة.. كان يُريد أن يَتَوَجَّه للمطبخ من أجل الأدوية.. لكن باب غُرفتها المَفْتوح غَيَّر وِجْهته.. لَقد تَطَوَّرت في الأيَّام الأخيرة، باتت تترك باب غرفتها مَفْتوحًا أثناء عملها أو قراءتها أو حتى عندما تُشاهد التلفاز.. وكَأَنَّها تُخْبِره أَنَّ راحة وثقة قَد تَسَلَّلتا إلى قَلبها من ناحيته. تَوَقَّفَ على بُعْد خُطْوة واحدة من الدّاخل، كانت جالسة وَسَط سَريرها أَمام حاسوبها.. ساق مَطْوية والأُخرى ارْتفعت لِتكون رُكْبتها مُتَّكَأً لذقنها.. تَأَمَّلتها عَيْناه مُطَوَّلاً وَعُقْدة خَفيفة قد قَرَّبت حاجبيه.. هي مُخْتلفة اليوم.. ولكن لا يدري كيف ومن أي ناحِية! حَرَّكت يدها لِخصلاتها، وبنعومة أَبْعدتهن عن عينها إلى خلف أُذْنها التي لِفَت انتباهه عُرِيَّها من قِرْط.. وبحركتها هذه أَجابت عن سُؤاله.. فهي قَد أَبْدَلت الأسوْد والألوان القاتِمة الباعثة على الكآبة.. عَلى الرغم من أَنَّها لَم تَتَخَلَّ عن الأكمام الطَّويلة.. إلا أَنَّها كانت تَنبض أُنوثةً في ثَوْبٍ حَريري أُرْجواني، تَمازج مع صِبْغة جلدها المُميزة لِتُشَكِّلان هالة تَجذبهُ لها بلا هوادة.. غريبٌ كَيْف أن لوُجود الأنثى في حياة الرَّجُل أَثَرًا في عَيْنيه.. فبعد سِنين من العَمى يَبْدأ يُبْصِر الرَّبيع، كَزَهْرة تَتَفَتَّح بَيْن أَهْدابه. هي لا تَمْتلك فَقط صُورة الرَّبيع.. هي أيْضًا تمتلك رائحته! كُلَّما فُتِح باب جَنَّتها حَلَّقَ إليه عطر أَذْفَر يُعانِق بِرِقّته رجولته الخَشِنة، فَتُطالب بِمَزيدٍ أَسَفًا لا يَستطيع أنَ يَظْفر به.. هُو حتى لن يُحــ... قاطعَ العُطاس بَوْح ذاته الصامت وكذلك نَبَّهها لوِقوفه.. نَظَرت إليه وعلى وجهها علامات التَّعَجُّب والاستنكار.. وسؤال واحد رآه يُومض فَوق رأسها.. منذ متى هُو واقف هُنا؟! مَسَح أَنفه ثُمَّ قال ببحَّة: آسف على الإزعاج
هَزَّت رأسها وبهمس: لا عـادي
زَمَّ شَفتيه دَلالة على الحيرة وهُو لَم يَتحرّك من مكانه.. اتَّكأ بباطن يده على جانب الباب وعَدستاه تَمرّان على الغرفة ثُم تَعود إليها.. نطق ورغبة ذاته المُتَلَهِّفة للشّفاء تُحَفّزه: كنت أبي أكلمش في موضوع... موضوع الوالد الله يرحمه
أَخفضت شاشة الحاسوب.. تحَرَّكت تاركةً السَّرير.. احْتَضَنت يسارها بيمينها وهي تشد عليها.. تَرَدَّدت وتَبَعثر بَصَرها لِيَهْرب من نظراته وعَيْنيه.. هي اسْتَمعت لحديثه في الهاتف قَبْل دقائق، والذي لَم تفهم منهُ كلمة واحدة.. ووصلها صوت عُطاسه ومن ثُمَّ فترة صمته الأخيرة.. لكنّها لَم تتوقَّع أن يأتيها إلى هُنا.. لا بل ويُريد أن يتحدث معها عن موضوع والدها.. وو والأهم من ذلك.. تشعر أَنَّهُ يَرْغبُ في مُحادثتها هُنا.. في غُرْفتها.. وكأنَّه قَد فَهَم الرِّسالة التي رَمت بها إليه من خلال فتحها لبابها. جاءها صَوته من جَديد: إذا ما تبين نتكلم اللحين على راحتش.. أي وقت تبينا نتكلم أنا موجود
بَلَّلت شَفتيها قَبْل أَن تُجيب بِتَرَدّد ويَدها قَد ضاعفت من شَدِّها: أوكـي... اللحين "أَشارت للأريكة الجانبية" تفضّل
تَقَدَّم للداخل حتى جَلَس على الأريكة وهي عادت لتجلس على سَريرها.. نَطَقَ بجديّة: مَلاك.. قبل ما نتكلم في الموضوع.. في شي أهم "نظرت لهُ بترقّب وهُو أكمل" لازم شوي نبدا نتعامل مع بعض بشكل طبيعي.. يعني أقصد "وَضَّح حتى لا تُسيء فهمه".. أقصد نبتعد عن الرسمية شوي ونخفف من الحواجز "اقترح" خل نتعامل مع بعض مثل الاخوان.. أو.. مثلاً رفقاء سَكن.. أي شي.. بس عشان نقدر نتكلم بأريحية "تساءَل" فاهمتني؟
حَرَّكَت رَأسها بالإيجاب قَبْل أن تَقِف وتَتّجه إليه.. اسْتَقَرَّت عند زاوية الأريكة دُون أن تنظر إليه.. مَدَّ يَدهُ إليها بِتَعمُّد وهُو يقُول: خلاص اتفقنا؟
أَدارت رأسها ناحيته، نظرت ليده ثُمَّ رَفعت عَيْنيها إليه باسْتفهام.. هَمَس يُجيبها: مُصافحة العلاقة الجديدة "مالَ بيده قَليلاً لِيُرْدف مُشيرًا إلى ساعده" ايدي ملوثة حاليًا
أَرْخت يدها ببطء وعَيْناها لَم تُغادِران ساعده.. حرَّكتها مع احْتلال الجيش الأحْمر لوجْنتيها واحْتكار ابْتسامة الخَجَل لِشَفتيها.. وبخفّة وارْتعاشٍ بَسيط عانَقَت أناملها النَّحيلة ساعده الصَّلْب.. لا يدري هل ارْتعاشها انْتَقلَ إليه.. أم أنَّ نبْضه قَد وَلَّد ارْتعاشًا خاصًّا به؟ ولا يدري، هل صافَحتهُ أَناملها النَّاعِمة.. أم أَنَّ الحَرير الذي تَرْتديه قَد داعبه؟
ازْدَرَد ريقه وهُو يَشْتم نفسه في داخله.. غَبي.. غَبي.. مجنون مثلما قال هاينز.. يُلاعب النّار هُو، بجُرأة يُلاعبها ومن دُون خِبْرة.. لَهيبها يُحَذّره.. وشَراراتها تَلْسعه لِتَترك فيه وَجَعًا وأَثَر يُذَكِّرانه بخُطورة ما يفعله. هي فقط ثوانٍ بسيطة تلك التي حَدَث فيها اللقاء بين أناملها وساعده.. تَنَحْنحَ وهُو يُحاول أن يَنتزع تأثير اللحظة من حواسه.. هُو حَقيقةً لَم يَكُن يُريد مُحادثتها عن قضية والدها.. لكن عندما قَبَضت عليه مُتَلَبّسًا بَحثَ عن كذبة تنقذه ولَم يَجِد غيرها.. وليكون صَريحًا.. كَذَّب كذبته لتدعوه إلى غرفتها ويُشْبِع رئتيه برائحتها. شَبَكَ أَصابعه وبتساؤل: شتعرفين عن قضية أبوش؟
تلقائيًا ارْتفعَ رَأسها بثباتٍ مَهْزوز لِتُجيب بِصَوْتٍ تَدَثَّر بالثّقة: أعرف إن أبـ ـوي ما انتحر مثل ما يقولون.. قتلوه
سؤال آخر: وليش واثقة هالكثر! عندش دليل؟
هَزَّت رأسها ومشاعرها تَتَدَفَّق من عَيْنيها لِتُغْرِق مَلامحها: اي عندي.. مو دليل مَلموس.. ولا دليل جنائي.. دليلي إيمان أبوي وثقته في رب العالمين.. لفترة قبل مقتله عانى وتعب وتعذّب بطريقة بشعة.. لكن صبر واتَّكل على ربه.. من المستحيل إنّه يلجأ للانتحار في وقت كانت فيه أموره متحسنة
وكأنّهُ يُحَقِّق: كنتِ موجودة في البيت حزّتها؟ كنتِ شاهدة على شي؟
هَزَّت رَأسها بالنفي ورياح تلك الليلة السوداء عَكَّرت صَفْو عَيْنيها.. وبهمس: لا.. كنّا رايحين عرس.. أنا وأمي.. بس يوسف كان مع أبوي في البيت
: عشان جذي يوسف تعرض لردة فعل عنيفة
: صحيح.. "عُقدة خَفيفة بين حاجبيها" بس تحسَّنت حالته لفترة طويلة.. صحيح كان انطوائي بطريقة واضحة.. يعني ما كان مثل الشباب اللي في سنه.. من المدرسة للبيت ومن البيت للمدرسة.. لين ما اشتغل وتزوج.. بس في السنوات الأخيرة.. انتكست حالته.. ومسكينة... زوجتـ ـ
أَجْبَرَت نَفْسَها على التَّوقْف هُنا.. لا تَسْتطيع أن تُواصل أكْثَر.. فليس من حقّها بَثَّ أسرار شَقيقها وَزوْجته.. قال هو: كملي.. ليش وقفتين؟
وَضَّحت ويَدها تعود لشدّها: شوي الشي خاص.. يعني بينه وبين زوجته.. ما أقدر أقولك شي من غير إذنهم
هَزَّ رَأسه بتفهم: مو مشكلة "اسْتَفسرَ مُجدّدًا" زين من المسؤول عن علاج يوسف؟ يعني من اللي مهتم في دكتوره وأدويته وهالأمور
: عمّي سلطان
كَرَّر الاسم ببطء: ســلطــان
هَزَّت رأسها: أي عمي سلطان.. هو كان صديق أبوي المقرب.. أقرب واحد لأبوي.. من طفولتهم مع بعض.. مثل الأخو له.. اهتم بيوسف من أول مرضه للحين
هَمْهم: اي فهمت.. لكن أنا ولا مرة شفته!
: هو على طول مشغول.. وشغله كله برا.. قليل إذا يبقى اهني.. حتى حور ما تشوفه واجد
وتحقيقه لَم ينتهِ: وزوجة أخوش ما عندها أخوان أو خوات؟
: لا والله.. وحيدة أمها وأبوها.. أمها بعد ما ولدتها تعرضت لمشكلة وما صارت تقدر تحمل
أَدار وجهه جانِبًا ليعطس وهي همست بـ "رحمك الله".. رَدَّ بهمس: يرحمنا ويرحمكم "اسْتَطردَ وهَو يَعود لأشهرٍ مَضَت" من خلال مُلاحظتي.. اتَّضح لي إنش متابعة قضية والدش بشكل كبير.. كبيــر واجد
التَفتت عنه بحرج وهي تُبرر بهمس: لأن الشرطة أغلقوا القضية على إنّه منتحر.. وأنا أخذت عهد إنّي اكتشف المُجرم لو كلفني أي شي "أَنْكَسَ الأَسفُ رَأسها وقلّة الحيلة فاضت من كلماتها" بـس.. فشلت.. وخسرت كل شي.. للأسف.. "غارَ صَوْتها من ثِقْلِ حُزْنٍ أَقْسَمَ أن يَقتات على بقائها" وما كلفنــ ـي شي عـادي.. كلفنـ ـي.. كلفني.. أغـ ـلى شي.. تملكه البنـ ـت
وَجْسٌ اخْتَرَقَ الجَليد بدفئه المُنْدَفِع لِيَنْفَذ إلى رُوحها: غلطـانة "نَظَرَت لهُ ومَوْجٌ آسِن يُشاغِب سَواد عَيْنيها، وهُو واصَلَ بهمسه مُطْعِمًا ذاتها ثِقة هُو نفسه يفتقر إليها" إنتِ مُجرد ضحيَّة.. إنتِ طاهرة، والطاهرة ما تخسر شي.. أيَّا كان هالشي.. الشرف صَحيح غالي.. لكن إذا الله أراد يمتحن البنت الطاهرة فيه، فما عليها غير الصبر واحتساب الأجر منه.. البنت مدامها محافظة على عفافها وسترها وخجلها فهي ما خسرت شي.. ما خسرت ولا شـي
انْتَهى من بث أَمل كلماته وَلم يَنتهِ جرح أُنوثتها من تحفيز البُكاء.. تَبَلَّلَ وَجْهها حتى أَضْحَت مَلامحها قَمَرًا مخسوف.. غالهُ الفَرح فاعْتَزَل خَلْفَ شَعْبٍ من سُحبٍ مُدَجَّجة ٍبأمطارٍ مالِحة.. هُو في داخله لَم يَتوقف عن شتم نفسه مُذ وَطأت قَدماه أرْض غُرْفتها.. ودُموعها كانت المَنْشأ للنَّار التي حَذَّرهُ لَهيبها من قبل.. لكن هذه المَرَّة لَم يَهْرب، صَمَّ أُذنيه عَن أي ضعفٍ وجُبْن عَدا كلماتٍ نَطَقَ بها هاينز قَبْل دقائق..
" عامل نفسك كإنسان ولو لمرة"
سَيُجَرِّب.. ما الذي سيخسره؟ وإن باغتَته رَدّة فعل غير مُتَوَقَّعة سَيَرْتَجِل.. سيتصرف وسينقذ نفسه.. لكن هُو راغِب.. راغِبٌ في أن يَحْترق.. ذاته تُريد أن تُجَرِّب عَذاب آخر وَوجع جَديد.. لَن تضرّه النتيجة مهما كانت.. فهو مَيّت أَسَاسًا.. وهل يَموت المَرْء مَرَّتيْن؟ قَد يكون الجَواب نعم.. ولكن لا شيء يُضاهي أَلَم المَوْتة الأولى.. لذلك أشاحَ وَجهه عن كُل ما قد يُزَعْزعه.. تأَهَّبَ للنَّار.. فليحْتَرق إن كان في احْتراقه فرصة لِيَكون إنسان، ولو لمرَّة.... حَرَّكَ يَده مُحَلِّقًا بها إلى ملامحها الغارِقة.. وبخفَّة حَنـونة تَجْهَل ذاته كَيْف نَجت من بين خضم المعارك التي جابهها؛ مَرَّرَ ظاهر كفّه على خَدّها.. أَصابعهُ تَعْبر مَلامحها وصوت موسيقى يَرْتفع.. كان كمن يُداعب أوْتارَ كَمَانٍ حَزين.. كان يُقَبِّلها لا بشفتيه، بل بيدٍ واحدة عَزْلاء من أَسلِحة الحُب وثورات الوالهين. هي بردَّة فعل طَبيعية تَجَمَّدت.. تَجَمَّدت فعلاً بلا مُبالغة.. كانت تشعر بأصابعه كنار تَصْهر جَليد وَجْنتيها.. لَم تَسْتَطِع أن تُبْدي أي حَرَكة.. تَوَقَّفت عن البُكاء.. عن التَّنفس وعن الاسْتيعاب.. هي حتى لَم تعد تَرمش.. عَيْناها تُناظِران الفراغ باتّساعٍ مَصْدوم.. آخر ما توقعته منهُ فِعْلٌ كَهذا!
: الأخو ما يحب يشوف دموع إخته
الْتَفَتت له بسرعة لَم تَكن في صالح عنقها المُتَشنّج.. لكنّها تَجاهلت الألم بَحْثًا عن تَفسير لحركته.. ارْتَخى جدار قَلْبها وهي تَسْتمع إليه: قلنا بنكون أخوان وأصدقاء.. وأنا ما أحب أشوف دموع إختي وصديقتي.. أعتذر إذا كنت صحّيت جرحش "وقفَ" نكمل نقاشنا في وقت ثاني.. مابي أثقّل عليش "وهو يَسْتدير" أسْتأذن
خَرَجَ وأَغْلَقَ الباب.. عَيْناها لا زالت صَرْخة الاسْتنكار تَسْكنهما.. لكنَّ التَّجمد بدأ بالنّزوح عن حواسها شيئًا فَشيء.. أخوان.. أخوان.. أو أصدقاء.. لا يقصد شيء.. لَم يُرِد شَيء.. اتَّفقَ معكِ قَبْلَ قَليل مَلاك.. لا داعي للخوف.. تَنَفَّسَت الصُّعداء وهي تَغْمض بارْتياحٍ عَميــق.. كلماته طَرَدت الرُّعب من جَسَدها حَتَّى باتت تشعر بهِ هلاُمًا من شِدَّة خِفَّته وارْتخائه.. لا تدري إن كان يُفَكِّر مُسْتقبلاً في تطوير العلاقة بينهما.. لتكون "زوجة" بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.. لكنَّها الآن غير جاهزة مُطْلقًا.. نعم هي ترتاح إليه.. وبذرة الثِّقة نُموّها في تواصل.. لكنِّها إلى الآن غير مُسْتعدّة أن تَسْتقبل منهُ أفعال تكون تحت إطار الزوجية.. وغير مُستعدة أن تَتفاعل.. فلو صدمها بفعْلٍ كالذي قام به قبل دقيقة لَن يَرَ منها ردة فعل غير الذي رأى.. حتى ولو كان فعل أخوي بَريء.
,،
سألَ مَسْؤول مَكْتبه باسْتغراب وهُو يراه يَضَع طَبَق حَلْوى على الطَّاولة الجانبية قُرْب القهوة: من وين هالحلاو! صار لي فترة أشوفكم تجيبون منه
أَجابه: هذا من محل توّه مفتوح من فترة بسيطة.. المحل اهني قريب من الشركة.. كل بداية أسبوع صاحبته ترسل حلاو وكيك للمباني اللي حوالينه "تساءَل" ما عجبك أستاذ؟
: لا والله عجبني.. ذكرني بسنوات أوروبا "أشار للطبق" أشوف عطني عطني وجيب القهوة بعد
لَبَّى رغبته وقَرَّب منهُ الطَّبق.. قالَ بابْتسامة وهُو الذي يعرف بواطن مُديره: أستاذ صاحبة المحل ما تقل حلاوة عن أكلها
قَضَم من قطعة الحلوى وهُو يُعَقِّب باهْتمام: والله! شفتها يعني؟
هَزَّ رأسه: اي أستاذ شفتها.. علَّمت الأهل عن المحل وطلبوا مني أجيب لهم منه.. يوم رحت كانت موجودة هناك
مالت شفتاه بابْتسامة تُشابه ابْتسامة مُوظفه: قلت لي حلوة ها؟
غَمَزَ لهُ: على مزاجــك
أَشارَ للقهوة ليصب له وبضحكة: زيــن احنا بعد بنروح نشتري للأهل.. خل نشوف منبع الحلى "اسْتَفَسْرَ" بس ما قلت لي تصلح لو ما تصلح؟
وَضَع يَده على ذقنه بتفكير: والله يا أستاذ ما أدري تصلح لو ما تصلح.. بس حتى لو ما تصلح "تَلَوَّنت ابْتسامته بالخَبَث مُواصِلاً" ما أعتقد بتصعب عليك
هَزَّ رَأسه بثقة وتفاخر والحلوى التي تَلَذَّذَ منها لسانه رَغَّبَتهُ بالمَزيد.. مُنذ فترة طويـــلة لَم يُمارس هوايته.. انْشَغَل في العَمل وَضغطه ولم يُكافئ نفسه.. يحتاج إلى جائزة.. يحتاج إلى مُكافأة مُطَعَّمة بالحَلوى.
اسْتَعلم وهُو يَفْتح أحد الملفات: يوسف داوم اليوم؟
أَجابَ: اي مدوام؟
: وشلونه؟
أشار بإبهامه: تمــام التمام
هَزَّ رأسه وبهمس: زيـن زين
,،
تَوَقَّفَت مَرْكبته أَمام المَنْزِل.. نَظَرَ إليه.. شاهِقٌ وأَنيق، مثلما غادرهُ قَبْلَ أكثر من عاميْن.. لَمْ يَتَغَيَّر هيكله الخارجي، لَم تُؤثِّر به الأحداث التي جَرَت.. أَمَّا الأَجساد التي تَتَقَلْقَل داخله، فَقد تَصَدَّعت جُدران ذواتها وبَدَأَ أساس العلاقة بالتَّآكل مُنْذِرًا عن انْهيار أُسْرة. أَوْقَفَ المُحَرِّك ولكنّه لَم يُغادر المَرْكبة.. مُتَرَدّد.. مُتَرَدّد جدًا.. وهو أصلاً غير راضٍ على هذه الخطوة.. واقعًا هُو مُجْبَر من قِبل غَيْداء التي قالت "خلاص كل شي انكشف وتوضّح.. أهم شي احنا قلوبنا تصافت.. ماله داعي البُعْد.. اللي بينا دَم.. مو شي عادي"
إضافة لذلك فإنّ نُور شَجَّعته على الذّهاب ونصحتهُ بتجاهل بَلقيس إذ هي نَفَثَت سُمومها.. واليوم هي لَن تكون في الشقة، واعتاد على روحها وهي تَملئ المكان حَياة ودفء.. فلا يُريد أن يتناول طَعام الغداء لوحده.. فكان كُل ذلك سَبَبًا لوقوفه هُنا. نَظَرَ لهاتفه المُلْقى على مقعد الرَّاكب.. كانت غيداء تتصل.. أَجابَ وهُو يفتح الباب: أنا برا
جاءهُ صَوْتها المُتَحَمِّس: أووكي.. اللحين بفتح لك
ابْتَعَد عن سَيَّارته ماشِيًا ناحِية المنزل.. كان الباب الخارجي مفتوح.. دَخَل وعَيْناه مُباشرة وَقَعَت على غُرْفته.. أو منزله.. عُشّه المُحْتَفِظ بُكل الجراح التي سَكَنَت جَناحيه.. تَوَقَّع أَنَّ أخته هَدَمته.. لكن يَبْدو أَنَّها من شِدّة عَدم اهْتمامها به وبأموره لَم تلتفت حتى لغرفته المهْجورة. أَدَارَ وَجْهه جهة الباب الداخلي.. ابْتَسَم بخفّة عندما رأى غيداء تنتظره بوقوفٍ مائل ويَدُها اسْتَقَرَّت عند خصْرها.. قالت عندما وَقَفَ أَمامها: أنا واقفة انتظرك وإنت ماخذ راحتك تتأمل غرفتك!
عَقَّبَ وهُو يَخْلع نَظَّارته الشمسية: تصدقين اشْتقت لها.. ذكريــااات وايد فيها
وهي تُشير لهُ بالدّخول: للحين مثل ما تركتها.. محد لمس فيها شي
بتعجّب: والله!
هَزَّت رأسها: ايــه.. كل شي موجود فيها.. أغراضك وباقي ثيابك وأفلامك.. حتى المكيف والتلفزيون "ابْتَسَمت له" ما ناقصها إلا إنت
بادلها الابتسامة مع توقّفهما وَسَط المنزل: صدق اشْتقت لها.. بس عايفها
: أكيـد بتعوفها.. لو لها لسان جان شهدت على خيانتك
التَفَتَ جهة الصوت والتَفَت كذلك جِرْحه المُشَرَّع.. يــاااه، مَضَى زَمن مُنذ التقيتكِ... أُختي. نَزَلت العَتبات وَعيْناها مُتَعَلِّقَتان به.. عَيْنان تُصارعان نَبْضًا كان هُو الوَحيد المُقاتل من أجْلِ الحَياة.. رافِضًا أن يُغادر قَلْبها حتى لا تَموت الأُخوَّة فيه.. وَقَفَت أَمامه مع قَوْل غَيْداء المُعْاتِب: يُمّــه.. ما خلّصنا من هالحجي!
لَم تَسْمعها.. كانت مُنْصِتة للحَرْب الضَّارِية داخلها.. ها هُو يَقِفُ أَمامها بعد غيابٍ كانت هي سَببه.. اشْتاقت إليه.. ترفض الاعتراف بذلك.. ولكن للشَّوْق كَلمته.. فهو لَم يُفارقها مُذ كان في العاشرة من عَمْره.. كَبَرَ أَمام عيْنيها، ونَمَت الجراح في ذاته أمام فؤادها دُون أَن تَشفق عليه ولو للحظة.. فهو ابْن حَنان التي تَكْره.. لذلك بَصَقَت عليه كُل أنواع الكراهية والحقد والبغض.. كان عَدوًّا لا أخًا وَحيدًا.. قَهَرَت يُتْمه ونَهَرت سؤال ذاته الباحثة عن العطف.. الأمان والحُب... والأُم. العامان اللذان فارقها فيهما كانا قَحَطًا لَم يَسْتَطِع أي حقد أن ينبت فيه حتى شَوْكًا يملئ الفراغ ولو بوخزٍّ مُؤجّج على الظُلم.. حتى غُرفته، كانت تُخَطِّط لجعلها مجلسًا للنساء.. أو صالة ألعاب لحفيديها.. أو أي شيء يُمْحي أَثَر عَيْشه.. لكنّها لَم تَجرؤ.. فالنّبض الحَي فيها مَنعها من أي فعلٍ ينْحر وجوده من حياتها. اشْتقت إليك طلال.. ولكنّني لا زلت أكرهك.
قالت غَيْداء لتقتطع سِجال العُيون: أنا بروح أشوف الغدا وبنادي بيان وعبّود مرة وحدة
تركتهما بعد أن أَلْقَت عليهما نَظْرة قَلِقة.. تَخْشى أن يتحوَّل هذا الصمت الصّاخِب إلى جدالٍ حام. لكن على العكس.. مَدَّ يدهُ طَلال وبهمس: شلونش بلقيس
قالت بحاجب ارْتَفعَ اسْتنكارًا مُتَجاهلةً يَده: شلوني! تسألني عن حالي وولدي مفارقني من شهور بسببك!
مالت شفتاه بابْتسامة مُتهكّمة وهُو يَتراجع عن مُصافحتها: أعتقد إنّ ولدش فارقش لسبب ثاني.. احنا ما تفارقنا إلا بعد ما خفّفنا ثقل القلوب
وهي تتجّه لإحدى الأرائك وتجلس: ايــه.. أكيد فضّيت قلبك لست الحسن
وابْتسامته تتَقَلَّد بالاسْتفزاز وهو يجلس أَمامها: طبــعًا.. ومن غيرها يستاهل هالقلب؟
أَرْخَت ساق على الأخرى وثعبانها المُلْتوي في فمها نَطَقَ بخبث: هي مو بس تستاهل القلب.. هي تستاهل إنّك تخون ولد إختك عشانها " احْتَدَّت ملامحه وعِرْقٌ نَفَرَ غَضَبًا عند صِدْغه، هي واصلت مُتَعَمِّدةً مُضايقته" إلا ما قلت لي.. شخبار أول ليلة لكم؟ أتوقع ما كان فيها مُفاجآت.. لأنها ما كانت أول ليلة من الأساس
خَتَمَت جُمْلتها الحَقيرة بالنسبة له بابْتسامة ساخِرة زادت من اشْتعال قهره.. نَطَقَ من بين أسْنانه ويده تمَنَّت لو كانت تجرؤ على صَفْعها: متأكّــد.. متأكّــد إن إنتِ سَبب اللي صار ذيك الليلة
شَهَقَت كما لو أنَّها فُجِعَت من الصَّدمة ويدها تُشير لنفسها باسْتنكار: أنـــا! اللحيــن إنت وياها تسوون بلاويكم وأنا أصير السبب!
هَزَّ رأسه يُنْفي احْتمالية خَطيئة نُور: مُسْتحيل نُور تسوي هالشي.. مُستحيل تروح للحَرام.. قولي أنا كنت حقيـر.. مستهتر وبعيد عن ربّي.. لكن نُور ما تسويها "وبثقة شَقَّت طَريق عَيْناه لترفع إصْبع التَّحْذير أمام مكْرها" نُور ما خانت عبد الله ولا لحظة
بغيظٍ تساءلت: وليـش إن شاء الله ما تسويها؟ بنت ناصرو ملاك منزّل من السّما!
لَم يُجبها بل قابلَ سؤالها الحاقد بسؤالٍ غارق في الشَّك: شنو كنتِ مسوية لها!.. إنتِ كنتِ عاطيتها شي؟ شاربة شي هي؟ ما كانت طبيعية أبدًا.. واستفراغها الغريب وكلامها.. كانت مو هي.. أبدًا مو هي!
ارْتَفَعَ حاجِباها ويدها ضَربت على ظاهِر الأخرى اسْتنكارًا: ما باقي إلا تقول إنَّ اللي جت لغرفتك وحدة متنكرة على شكل نور
وثقته تأبى أن تَهْتز: ايــه عادي.. ولا يمكن أصدّق إن هالفعل يصدر من نور
وهي تلوي فمها: اي.. بنت ناصرو الملاك البريء
تجاهلَ سخريتها المَقيتة ليتساءَل باسْتغرابٍ شَديد: إنتِ ليش هالكثر تحقدين على ناصر! شسوى لش المسكين!
نَظَرَت لهُ لثواني بصمْتٍ وعَيْنان بانَ وسَطهما دُخان نارٍ لَم يَخْمدها الزَّمن.. وَقَفَت تَقْتطع النّقاش، وَلم يَفته الهُروب الجَبان الذي طَلَّ من عَيْنيها.. غادرت المَكان دُون أن تُجيب بكلمة.. وهو ظَلَّ يَتَقَلَّب في حيرته.. حقدها الكَبير على ناصر كان سَببًا لرفض خطبة عبد الله لنور.. وكان السبب لمضايقتها لها وإجبارها على طلب الطلاق من عبد الله كما قال لهُ ناصر.. ليس لأنّها علمت بحبّ طلال لها كما تدَّعي.. هذا السبب كانَ سِتارًا للسبب الأصلي.. لأنَّها لو اعْترفت بكرهها لناصر لتهافتت عليها الأسْئلة من كُل حَدْبٍ وَصَوْب.. وبالتَّأكيد لَن تُفْصِح عن الجَواب أو السّر المَدْفون في ذاكرتها.. أحبّته لكنّه رَفَضَ حبّها ليتزوج حبّه.. ليلى.. لكن.. أَيُعْقَل أن يَتَحَوَّل ذلك الحُب القديم إلى حقْدٍ ينشر أمراضه القاتِلة بينهم بلا رَحْمة ولا رأفة!
,،
ضَغَطَ على زر المَصْعد مع تساؤله: تبين نروح مطعم ثالث عقب الموعد؟
انْكَمَشَت ملامحها ويدها ارْتَفعت تُكَمِّم أنفها وفَمَها: لاا بس خلاص.. من غير شي جبدي لايعة.. ما بيها تزيد من الفرارة بالسيارة في هالشمس
: زين شنو بتاكلين؟ ما يصير تظلين بلا أكل
وهي تتقدّمه لداخل المصعد: ما أدري.. أي شي " وبضيق" كنت مشتهية مطعمي المفضل.. بس خساارة "وبنبرة مُتحسّرة" مو نافع لا أكل البيت ولا أكل برا
بمُشاكَسة قال: هذي النساة اللي كنتِ تنتظرينها.. تحملي
مالَ رأسها بتعب: ما توقعتها تجيني بهالحدّة.. ذبحتني
: اللحين إذا دخلنا على الدكتورة بنقولها وبنشوف شنو تقول
فور وصولهما للطابق الواقع فيه مكتب الطبيبة الخاصة بها.. توجَّها للاسْتقبال حيث أخبرتهما الموظفة أن الطبيبة في انتظارهما منذ دقيقتان.. دخلا وهما يلقيان التحية.. قال بسَّام بابْتسامة: عُذْرًا دكتورة على التأخير.. بس كنا ندوّر لها أكل
اسْتفسرت: أكل؟
وَضَحَّت حَنين وهي تجلس على المقعد: دكتورة مو قادرة آكل شي.. كل شي تلوع جبدي منه وعلى طول استفرغ
ضَحَكت: طبيعي يا حَنين
بحرج: بس دكتورة أحس طوَّل الموضوع.. يعني أنا في الشهر الخامس اللحين.. يعني المفروض تنتهي هالسالفة
: لا عـادي.. مو شرط ينتهي.. في حوامل يستمر معاهم هالشعور لين الأشهر الأخيرة.. فالوضع طبيعي جدًّا
اسْتَفسرت: زين شنو الحل؟
: سبق ووصفت لش حبوب اللوعة.. بس ما أبيش تكثرين منهم.. فعشان جذي إنتِ لازم تحطين لش جدول بالأطعمة المرغوبة وغير المرغوبة.. عشان تعرفين شنو اللي تقربين منه وشنو اللي تبتعدين عنه.. وحاولي ما تاكلين في الأوقات اللي يكون فيها جسمش خامل ومسترخي.. أول ما تقعدين من النوم مثلاً.. أو إذا تكونين مستلقية.. وابتعدي عن الوجبات الدسمة.. لأن احتمال كبير يكون الشعور مرتبط بالمعدة
بتنهيدة: إن شاء الله.. بطبّق وبشوف
أَشارت للسرير بابْتسامة: تفضلي عشان نتطمن على البيبي
تَركت حقيبتها على المقعد واتَّجهت للسرير.. اسْتَلقت بعد أن خلعت عباءتها وأعطتها لبسَّام الذي كان يقف بجانب رأسها.. دقائق بسيطة واتَّضَحت لهما الصورة في الشاشة.. تساءلت الطَّبيبة: خبرتكم من قبل إنّه ولد صح؟
أجابَ الاثنين بابْتسامة واسعة وعَيْناهما تَلْتقيان بسعادة بالِغة: ايــه
تساءلت بلُطف: صار له اسم ولا للحين؟
أجابت حَنين: والله للحين دكتورة.. بعدنا نفكر "وبضحكة" شكله بيجي مسكين واحنا للحين ما قررنا
ابْتَسَمت: الله يتمم على خير ويجيكم بالسلامة ويحمل أحلى اسم
رَدَّدا: إن شاء الله
ظَلَّت الطَّبيبة تُحرِّك الجهاز وعَيْناها تُتابعان المَعلومات على الشاشة بدِقَّة.. اسْتَفسرَت حَنين باهْتمام: دكتورة البيبي زين؟
هَزَّت رأسها وهي لا زالت تنظر للشاشة: الحمد لله البيبي زين "اسْتدارت إليها وبنبرة هادئة" بس الواضح عندي إنّه وزنه جدًّا قليل مقارنة بعمره
تَجَهَّمَت ملامحها ونبْضها اسْتجاب بخوف، رَفعت رأسها قليلاً مُتسائلة: يعني شنو دكتورة؟ الشي خطير؟
وضَّحت بأسلوب حاولت ألا تُفْزِع به هذه الأم: لا إن شاء الله حاليًا ما في شي خطير.. بننتظر للشهر الجاي وبنشوف شنو يصير
أرادت أن تَمْنح فؤادها اطْمئنانًا وصوتها هذه المرّة تَعَثَّر بغصَّة: أكيـد دكتورة؟ يعني الشهر الجاي بيصير وزنه طبيعي؟
طَمأنَتها بسرعة عندما رَأت كيف الْتَمَعت عَيْناها بالدّموع: لا تحتاين.. الشي عادي وتواجهه كثير من الأمهات.. بس يتعدل أكلش وتصيرين تتغذين عدل ببتحسن صحته إن شاء الله
بَسَّام وهُو يحْضن كَفَّها: بيكبر إن شاء الله.. هذا لأن إنتِ تواجهين مشاكل في التغذية.. ما في شي خطير.. بس تحتاجين تغذية سليمة.. صح دكتورة؟
أَكَّدت: بالضبط
عادت وأَرْخَت رأسها على الوسادة وهي تَزْدرد ريقها لِتَبْتلع الغَصَّة.. أَحْنى رأسه ليهمس في أذنها: حبيبتي إن شاء الله بيتحسّن وزن البيبي.. بس إنت لا تخافين.. تمام؟
هَزَّت رأسها وأهدابها تتصافق مُصارعةً شَعْب الدُّموع.. وفي صَدْرها قَد كَتَمت تنهيدات قَلِقة ستَظَل تَتضاعف بلا توقف حتى تحتضن ابْنها بين ذراعيها طِفلاً كاملاً. رتَّبَت ملابسها ثُمَّ غادرت السرير وهي تأخذ عباءتها من بسَّام الذي اتّجه للمقعد حيثُ تركت حقيبتها.. وفي هذه الأثناء هَمَست له الطَّبيبة: إذا ممكن أكلمك بروحك
نَظَرَ لها بعدم استيعاب، وقبل أن يسألها وقفت حَنين بجانبه وبابْتسامة طَغى عليها الشحوب: مشكورة دكتورة، الله يعطيش العافية
ابْتسمت لها: العفو حَنين.. أشوفش الشهر الجاي
: إن شاء الله "نظرت لبسّام الذي جَمَدَت عَيْناه في الفراغ" نمشي بسام؟
هَزَّ رأسه بانْتباه: اي.. اي مشينا
رفعت يدها حنين للطبيبة: مع السلامة
غادرا مكتب الطبيبة بصمتٍ اسْتمَرَّ حتى السيارة... جلست في مقعدها وقبل أن يغلق بابها قال وهو يتحسس جيوبه: شكلي نسيت تيلفوني هناك "وهو يتراجع للخلف" بروح أشوفه
هَزَّت رأسها وهو أغلق الباب بعد أن احْتَفَظت ذاكرة عَيْناه بملامحها المأهولة بالقَلق.. عادَ للمشفى وهذه المرّة لم يَنتظر المصعد.. فهو من عَجلته استعان بالسّلالم ليصل إلى مكتب الطبيبة من جديد.. طَرق الباب ثُمَّ دَخَل بعد إذنها.. مُذ رأى وجهها تساءَلَ باهْتمـام: حنين فيها شي دكتورة؟
أشارت للمقعد: ما عليه تتفضل
كَرَّرَ سؤاله والخَوْف بَدأ يتسلّل إلى أطرافه: حنين فيها شي؟
أَكَّدت: صدقني ما فيها شي.. حتى البيبي ما فيه شي.. إنت ارْتاح
جَلَسَ ومن صدره فَرَّ نصف نَفَس.. النصف الباقي ظَلَّ داخله مُتَحَفِّزًا لأي صَدْمة.. قالت بتوضيح: يوم شفت خوفها الشديد وارتباكها ما حبيت أتكلم قدامها وأفزعها.. من جذي بغيت أكلمك بروحك
بنفاذ صَبْر قال: دكتورة واللي يرحم والديش قولي لي شنو فيه
برسمية أجابت: اتضح لي إن المشيمة فيها مشكلة.. قصور في وظائفها مثل ما نقول..
قَبَضَ يَده التي باغتَتها رَعْشة خَفيفة: شنـو يعني؟
فَسَّرَت له: يعني تواجه الجَنين مشاكل من ناحية التغذية أو ضخ الدم وحتى تنفسه.. وغيرها من الأمور اللي تأثر على نموّه
تَساءَل بصوْتٍ غائِر في قلقه: وشنو العلاج؟
قالت وهي تضغط على لوحة المفاتيح: بوصف لها دوا تستخدمه لين شهرها السادس.. بعدها بنشوف إذا صار في تحسّن
سَألَ بتردّد خَشْية الإجابة: وإذا.. .. إذا ما صار تحسّن؟
ببساطة أجابت: بنضطر نولّدها في الشهر السابع "أَغْمَضَ وهو يَزم شَفَتيه بضيق واغْتمام وهي أكملت لتُطمئنه" ترى الوضع عادي جدًّا.. والولادة في الشهر السابع طبيعية وما فيها أي ضرر إن شاء الله.. لا على الأم ولا على الجنين
أَفْصَحَ ويَده تَتَخلَّل خصلات شعره: أعرف، والحمد لله إن المُشكلة بس جذي.. لكن هي كان عندها خوف من أول ما عرفت بالحمل.. والحمد لله هدأت نفسيتها واستقرت.. بس اللحين "أَصْدَرَ صوْت ضائق من بين شَفتيه ثَمَّ زَفَرَ بحيرة مُرْدِفًا" ما أدري شلون أخبرها!
: من جذي ما حبيت أقول لها مُباشرة.. فإذا تقدر تمهّد لها شوي شوي لين يجي موعد الشهر الجاي.. عشان لو فرَضًا احتاجت لولادة مُبكّرة ما تنصدم
هَزَّ رأَسه بتفَهُّم: إن شاء الله.. بحاول "وقف وهو يتناول ورقة الدّواء منها.. والابْتسامة الشاحبة التي لَطَّخت شَفتي حَنين ها هي تَحط على شفتيه" مشكورة دكتورة.. مع السلامة
: مع السلامة "تبَسَّمت له بلُطف" بتكون بخير.. لا تحاتي
تنفَّسَ بأمل: إن شاء الله
عادَ إلى السَّيارة والورقة في يده.. جلس في مقعده مع نطقها: تأخرت
قال بنبرة مَرِحة بالكاد اجْترَّها من تحت الصَّخْرة المُتَّكِئة على قلبه: بالغصــب حصلته.. حتى الدكتورة جت تدور معاي.. في النهاية حصلته عند الريسبشن.. حتى الموظفة ما انتبهت له
بهمس: أشوى حصلته "انْتَبهت للورقة التي في يَده" شنو هذي؟
وكأنَّه للتو يتَذَكَّر: ايــه صح.. أقول لش الدكتورة كانت طالعة من مكتبها تدورنا.. وزين صادفتها.. تقول هذا دوا حق اللوعة
تساءلت باسْتغراب: مو هي توها قايلة ما تبيني أكثر منه!
تَداركَ وهو يُشيح بوجهه عنها ويُشَغِّل المُحرّك: لا قالت هذا غير.. هذا عادي.. كانت بتعطينا إياه بس نست
أَخذت منهُ الورقة تُحاول أن تقرأ اسم الدّواء: زيـن جان تروح هاللوعة وأقدر آكل عدل.. عشان البيبي يتغذى ويكبر
هَمَسَ بنبرة غالها تشوّش أَفْكار وعيْناه متسمرتان على الطريق: إن شاء الله.. إن شاء الله
,،
يتبع
توكلتُ على الله
الجزء الثاني والخَمسون
الفصل الثاني
سَحَبَ قِطعة مِنديل من العُلْبة التي بَدت لهُ خَفيفة، رَفعها لينظر داخلها فاتَّضحَ لهُ نَفاذها.. تأفف وهُو يَمْسحُ أنفه الذي بدأ يَزْحف إليه احْمرارٌ خَفيف.. بوادر مَرض.. يَتمنى أن يقتصر مرضه على الزُّكام وألا يتطور لإنفلونزا تَسْلب قوة عِظامه. وَقَفَ يُريدُ أن يَذهب للمَخْزن لإحضار علبة مناديل جَديدة.. ومع وُقوفه ارْتَفعَ صَوْت هاتفه.. تناوله من على مكتبه لِيُجيب وهُو يمشي للباب: هالو هاينز
هاينز بنبرة اجْتمعت فيها العصبية مع القهر: أيــن أنت؟ مُنذ الصَّباح وأنا أُحاول مُحادثتك.. لِمَ لا تُجِب على هاتفك؟
أَجابَ ببرود وهُو يخرج من المَكتب: كنتُ أعْمل
بذات النبرة: ألا ينتهي هذا العَمل؟ من غير المَعقول ألا تملك دقيقة في اليوم تحادثني فيها! تبًا لك أيها الأخرق
نَطَق وابْتسامته تُسْمَع في صوته: ما بك عزيزي هاينز؟ أَلم تَلتقِ بحبيبتك اليوم؟
تَجاهلهُ مُفْصِحًا عن سؤاله: هل كلمك والدي اليوم؟
بنبرة عادية وهُو يُخْرِج علبة جَديدة: لا لم يُكلمني.. في الحَقيقة هُو لَم يُكلمني مُنذ أكثر من أُسْبوع
اسْتَفسر كما لو أَنَّهُ يُحَقِّق: وماذا قال لك عندما كلمك؟
شاكَسه: لا صلاحية لدي للإخبارك
نَطَقَ من بين أَسْنانه: مُوهاميـــد
سَأل بجديّة مع اسْتقراره على إحْدى أرائك غُرفة الجُلوس: ما بك؟ صوتك مُتوتر.. لا تبدو على ما يُرام.. هل حصل شيء؟ "وَصَلته تَنهيدته المُشيرة إلى حَجْم الثِقْل المُتَّكئ على نفسه.. لذلك واصل باهْتمام ويده تفتح العُلبة" هل هُناك مُشكلة هاينز؟ أخبرني.. إن كان يمكنني المُساعدة فسأساعدك
أَجابَ ونبرته تهوي إلى قاعٍ هادئ ولكن يَضج بخفايا اعتاد عليها مُحمَّد: أنت الذي تحتاج المُساعدة.. لستُ أنا
عُقْدة خَفيفة: ماذا تقصد؟
راوغه: أنتَ أخبرني أولاً.. هل أخبرك والدي عن قضيّة ذاك الرجل.. أَمَّار؟
صَحَّحَ له كعادته: تقصد عَمَّار؟ نعم أخبرني بأنَّ رفيقه طلبَ منهم هُنا بفتح الملف لإعادة التحقيق في قضية موته
: نعم.. قضية موته.. أو مقتله كما يعتقد رفيقه.. ووالدي أيضًا
مُحَمَّد بعدم فهم: حَســنًا! وما المُشكلة في هذا الأمر؟
وَضَّحَ: والدي يُريدك أن تعمل على القضية أنت أيضًا "انتظر منه تعليق لكن مُحَمَّد ظلَّ صامتًا ينتظر تفسيرًا أكثر إقناعًا.. فَأكملَ هاينز كاشِفًا عن عُقَد قَلَقه" هُو سَبَق وأخبرك أنَّك ستعمل مع رفيق أَمَّار.. ذلك المُدعى أزيز.. لكن ظننت أنَّك ستعمل معه فقط على قضية والد إنْجِل.. والعصابة.. لَم أتوقع أنَّ العمل يشمل قضية رفيقه
: هاينز.. أنا إلى الآن لَم أفهم ما المُشكلة!
ارْتَفَعَ صوته بِحَنَقٍ وَنفاذ صَبْر: أيها المَجنون.. أنت ومع عملك مع قضاياك الأصلية ستكون مُهَدَّد بالخطر.. قُد تُقتَل في أي لحظة.. كيف إذا شاركت في قضية أخرى؟ وليست أي قضية.. مقتل مُحقّق.. مُحَقّق.. ألا تعلم ما هي نوع القضايا التي كان يحقق فيها؟ أنت لو تَرى جثته وجرح ذراعه ستعرف الجواب
رَماهُ بِسَهمٍ جَليدي لَسَعَ جواه القَلِق: وهل هي المرّة الأولى التي أكون فيها مُهَدّد بالخطر؟ أنا مُذ التقيت بوالدك لَم يَزرني الأمان قَط.. لَم أعد أعرف شعور المرء وهو مُطْمئن حتى في وطنه.. سواء كُنت مُشارك في قضية أو اثنتان أو عَشر.. مهما كانت الضحية.. فأنا في أي وقت ومكان قَد أُقْتَل.. تقبَّل الواقع هاينز "وبسخرية أَضاف" ألم تَعْتَد على قصة حياتي بَعْد؟ أصبح الأمر أسلوب حياة بالنسبة لي
هَمَسَ وأنفاسه المُرتجفة تستجدي من مُحَمَّد الحَذَر: ولكن خَطَر عن خَطر يختلف.. اكتف بالأهداف الموجهة إليك.. لا تُضِف هَدفًا آخر إليهم.. اعْتنِ بقلبك.. أرجوك مُوهاميـد.. لا تَستعجل المَوت.. أرجـــووك
تَبَسَّم.. ابْتسامة تَخْلو من سُخْرية قَدر ومن شُحوب.. ابْتسامة كانت توأمًا للصْدق الذي غَمَر صوته: شُكْرًا لك هاينز.. شُكْرًا لخوفك واهتمامك.. شُكْرًا لأنّك الشيء الوحيد الذي أهدتني إياه هذه الحياة
اسْتَنكرَ: ماذا تقول! أنا سأفقد أعصابي من خوفي عليك وأنت تشكرني! بالله عليك موهاميــد عامل نفسك كإنسان.. ولو لمرة.. ولو مرة!
عادَ لشرنقة بروده: هاينز لا داعي لإعادة سَرْد مأساة فقدي.. لقد سمعتها مني ألف مرة وبأطوار مُختلفة.. الأمر مفروغ منه.. اتفقنا أنا ووالدك وانتهينا.. خوفك هذا لن يغير شيء.. إما أن تتقبَّل الأمر، أو أنَّك تتعايش مع قلقك وحدك.. لا داعي لأن تبثّه إلينا
احْتَكَّت أَسْنانه بقهر والكلمات تدافعت في حلقه لتُعَبّر عن غضبه، لكنَّها تصادمت من شدّة الغيظ وتعرقلت.. فلم تنفذ إلا كلماتٍ مُتقاطعة: وغــ.. أيها الأحمق.. مجنون.. مجنــوون.. لكن لا شأن لي بك.. أحــمق... لن أكلمك بعد الآن.. مُــت وحدك.
أَبْعَد الهاتف وأَخذَ يَنْظر إلى شاشته بحاجبَيْن مُرْتَفعَيْن.. هَمَسَ باسْتنكار: شفيه هذا!
أَغْمَضَ عَيْنيه بانْحناء مُسْتَجيبًا لنوبة العُطاس التي داهمته دُون أن تعطيه مَجال لِيَتَنَفَّس، الزُّكام مُقْبِل بشراسة.. زَفَرَ بتعب وهُو يَتراجع للخلف لِيَسْتند على الأريكة برأس مَرْفوع.. ويده قد ارْتفعت مُثَبِّتة المَناديل فوق أَنفه.. فَتَحَ عَيْنيه لِيَسْتَقبل بَصرهُ السَّقف.. ازْدَرَد ريقه قَبْلَ أن تَنْتَصف شَفَتيه ثَغرة صَغيرة تُعينه على التَّنفس.. عليه أن يشْرب دواء قَبْلَ أن يَتَأزَّم الوَضع.. فالصَّداع ها هُو يُمَهِّد لهُ بقدومه.. وَعضلاته قَد ارْتَخَت باسْتسلام اسْتعدادًا للألم. أَخْفَضَ رأسه مُعْتَدِلاً في جلوسه.. وَقَفَ ثُمَّ أَلْقى المَناديل في سَلّة المُهْملات القَريبة ومن بعدها الْتَقَط له أُخرى نَظيفة.. كان يُريد أن يَتَوَجَّه للمطبخ من أجل الأدوية.. لكن باب غُرفتها المَفْتوح غَيَّر وِجْهته.. لَقد تَطَوَّرت في الأيَّام الأخيرة، باتت تترك باب غرفتها مَفْتوحًا أثناء عملها أو قراءتها أو حتى عندما تُشاهد التلفاز.. وكَأَنَّها تُخْبِره أَنَّ راحة وثقة قَد تَسَلَّلتا إلى قَلبها من ناحيته. تَوَقَّفَ على بُعْد خُطْوة واحدة من الدّاخل، كانت جالسة وَسَط سَريرها أَمام حاسوبها.. ساق مَطْوية والأُخرى ارْتفعت لِتكون رُكْبتها مُتَّكَأً لذقنها.. تَأَمَّلتها عَيْناه مُطَوَّلاً وَعُقْدة خَفيفة قد قَرَّبت حاجبيه.. هي مُخْتلفة اليوم.. ولكن لا يدري كيف ومن أي ناحِية! حَرَّكت يدها لِخصلاتها، وبنعومة أَبْعدتهن عن عينها إلى خلف أُذْنها التي لِفَت انتباهه عُرِيَّها من قِرْط.. وبحركتها هذه أَجابت عن سُؤاله.. فهي قَد أَبْدَلت الأسوْد والألوان القاتِمة الباعثة على الكآبة.. عَلى الرغم من أَنَّها لَم تَتَخَلَّ عن الأكمام الطَّويلة.. إلا أَنَّها كانت تَنبض أُنوثةً في ثَوْبٍ حَريري أُرْجواني، تَمازج مع صِبْغة جلدها المُميزة لِتُشَكِّلان هالة تَجذبهُ لها بلا هوادة.. غريبٌ كَيْف أن لوُجود الأنثى في حياة الرَّجُل أَثَرًا في عَيْنيه.. فبعد سِنين من العَمى يَبْدأ يُبْصِر الرَّبيع، كَزَهْرة تَتَفَتَّح بَيْن أَهْدابه. هي لا تَمْتلك فَقط صُورة الرَّبيع.. هي أيْضًا تمتلك رائحته! كُلَّما فُتِح باب جَنَّتها حَلَّقَ إليه عطر أَذْفَر يُعانِق بِرِقّته رجولته الخَشِنة، فَتُطالب بِمَزيدٍ أَسَفًا لا يَستطيع أنَ يَظْفر به.. هُو حتى لن يُحــ... قاطعَ العُطاس بَوْح ذاته الصامت وكذلك نَبَّهها لوِقوفه.. نَظَرت إليه وعلى وجهها علامات التَّعَجُّب والاستنكار.. وسؤال واحد رآه يُومض فَوق رأسها.. منذ متى هُو واقف هُنا؟! مَسَح أَنفه ثُمَّ قال ببحَّة: آسف على الإزعاج
هَزَّت رأسها وبهمس: لا عـادي
زَمَّ شَفتيه دَلالة على الحيرة وهُو لَم يَتحرّك من مكانه.. اتَّكأ بباطن يده على جانب الباب وعَدستاه تَمرّان على الغرفة ثُم تَعود إليها.. نطق ورغبة ذاته المُتَلَهِّفة للشّفاء تُحَفّزه: كنت أبي أكلمش في موضوع... موضوع الوالد الله يرحمه
أَخفضت شاشة الحاسوب.. تحَرَّكت تاركةً السَّرير.. احْتَضَنت يسارها بيمينها وهي تشد عليها.. تَرَدَّدت وتَبَعثر بَصَرها لِيَهْرب من نظراته وعَيْنيه.. هي اسْتَمعت لحديثه في الهاتف قَبْل دقائق، والذي لَم تفهم منهُ كلمة واحدة.. ووصلها صوت عُطاسه ومن ثُمَّ فترة صمته الأخيرة.. لكنّها لَم تتوقَّع أن يأتيها إلى هُنا.. لا بل ويُريد أن يتحدث معها عن موضوع والدها.. وو والأهم من ذلك.. تشعر أَنَّهُ يَرْغبُ في مُحادثتها هُنا.. في غُرْفتها.. وكأنَّه قَد فَهَم الرِّسالة التي رَمت بها إليه من خلال فتحها لبابها. جاءها صَوته من جَديد: إذا ما تبين نتكلم اللحين على راحتش.. أي وقت تبينا نتكلم أنا موجود
بَلَّلت شَفتيها قَبْل أَن تُجيب بِتَرَدّد ويَدها قَد ضاعفت من شَدِّها: أوكـي... اللحين "أَشارت للأريكة الجانبية" تفضّل
تَقَدَّم للداخل حتى جَلَس على الأريكة وهي عادت لتجلس على سَريرها.. نَطَقَ بجديّة: مَلاك.. قبل ما نتكلم في الموضوع.. في شي أهم "نظرت لهُ بترقّب وهُو أكمل" لازم شوي نبدا نتعامل مع بعض بشكل طبيعي.. يعني أقصد "وَضَّح حتى لا تُسيء فهمه".. أقصد نبتعد عن الرسمية شوي ونخفف من الحواجز "اقترح" خل نتعامل مع بعض مثل الاخوان.. أو.. مثلاً رفقاء سَكن.. أي شي.. بس عشان نقدر نتكلم بأريحية "تساءَل" فاهمتني؟
حَرَّكَت رَأسها بالإيجاب قَبْل أن تَقِف وتَتّجه إليه.. اسْتَقَرَّت عند زاوية الأريكة دُون أن تنظر إليه.. مَدَّ يَدهُ إليها بِتَعمُّد وهُو يقُول: خلاص اتفقنا؟
أَدارت رأسها ناحيته، نظرت ليده ثُمَّ رَفعت عَيْنيها إليه باسْتفهام.. هَمَس يُجيبها: مُصافحة العلاقة الجديدة "مالَ بيده قَليلاً لِيُرْدف مُشيرًا إلى ساعده" ايدي ملوثة حاليًا
أَرْخت يدها ببطء وعَيْناها لَم تُغادِران ساعده.. حرَّكتها مع احْتلال الجيش الأحْمر لوجْنتيها واحْتكار ابْتسامة الخَجَل لِشَفتيها.. وبخفّة وارْتعاشٍ بَسيط عانَقَت أناملها النَّحيلة ساعده الصَّلْب.. لا يدري هل ارْتعاشها انْتَقلَ إليه.. أم أنَّ نبْضه قَد وَلَّد ارْتعاشًا خاصًّا به؟ ولا يدري، هل صافَحتهُ أَناملها النَّاعِمة.. أم أَنَّ الحَرير الذي تَرْتديه قَد داعبه؟
ازْدَرَد ريقه وهُو يَشْتم نفسه في داخله.. غَبي.. غَبي.. مجنون مثلما قال هاينز.. يُلاعب النّار هُو، بجُرأة يُلاعبها ومن دُون خِبْرة.. لَهيبها يُحَذّره.. وشَراراتها تَلْسعه لِتَترك فيه وَجَعًا وأَثَر يُذَكِّرانه بخُطورة ما يفعله. هي فقط ثوانٍ بسيطة تلك التي حَدَث فيها اللقاء بين أناملها وساعده.. تَنَحْنحَ وهُو يُحاول أن يَنتزع تأثير اللحظة من حواسه.. هُو حَقيقةً لَم يَكُن يُريد مُحادثتها عن قضية والدها.. لكن عندما قَبَضت عليه مُتَلَبّسًا بَحثَ عن كذبة تنقذه ولَم يَجِد غيرها.. وليكون صَريحًا.. كَذَّب كذبته لتدعوه إلى غرفتها ويُشْبِع رئتيه برائحتها. شَبَكَ أَصابعه وبتساؤل: شتعرفين عن قضية أبوش؟
تلقائيًا ارْتفعَ رَأسها بثباتٍ مَهْزوز لِتُجيب بِصَوْتٍ تَدَثَّر بالثّقة: أعرف إن أبـ ـوي ما انتحر مثل ما يقولون.. قتلوه
سؤال آخر: وليش واثقة هالكثر! عندش دليل؟
هَزَّت رأسها ومشاعرها تَتَدَفَّق من عَيْنيها لِتُغْرِق مَلامحها: اي عندي.. مو دليل مَلموس.. ولا دليل جنائي.. دليلي إيمان أبوي وثقته في رب العالمين.. لفترة قبل مقتله عانى وتعب وتعذّب بطريقة بشعة.. لكن صبر واتَّكل على ربه.. من المستحيل إنّه يلجأ للانتحار في وقت كانت فيه أموره متحسنة
وكأنّهُ يُحَقِّق: كنتِ موجودة في البيت حزّتها؟ كنتِ شاهدة على شي؟
هَزَّت رَأسها بالنفي ورياح تلك الليلة السوداء عَكَّرت صَفْو عَيْنيها.. وبهمس: لا.. كنّا رايحين عرس.. أنا وأمي.. بس يوسف كان مع أبوي في البيت
: عشان جذي يوسف تعرض لردة فعل عنيفة
: صحيح.. "عُقدة خَفيفة بين حاجبيها" بس تحسَّنت حالته لفترة طويلة.. صحيح كان انطوائي بطريقة واضحة.. يعني ما كان مثل الشباب اللي في سنه.. من المدرسة للبيت ومن البيت للمدرسة.. لين ما اشتغل وتزوج.. بس في السنوات الأخيرة.. انتكست حالته.. ومسكينة... زوجتـ ـ
أَجْبَرَت نَفْسَها على التَّوقْف هُنا.. لا تَسْتطيع أن تُواصل أكْثَر.. فليس من حقّها بَثَّ أسرار شَقيقها وَزوْجته.. قال هو: كملي.. ليش وقفتين؟
وَضَّحت ويَدها تعود لشدّها: شوي الشي خاص.. يعني بينه وبين زوجته.. ما أقدر أقولك شي من غير إذنهم
هَزَّ رَأسه بتفهم: مو مشكلة "اسْتَفسرَ مُجدّدًا" زين من المسؤول عن علاج يوسف؟ يعني من اللي مهتم في دكتوره وأدويته وهالأمور
: عمّي سلطان
كَرَّر الاسم ببطء: ســلطــان
هَزَّت رأسها: أي عمي سلطان.. هو كان صديق أبوي المقرب.. أقرب واحد لأبوي.. من طفولتهم مع بعض.. مثل الأخو له.. اهتم بيوسف من أول مرضه للحين
هَمْهم: اي فهمت.. لكن أنا ولا مرة شفته!
: هو على طول مشغول.. وشغله كله برا.. قليل إذا يبقى اهني.. حتى حور ما تشوفه واجد
وتحقيقه لَم ينتهِ: وزوجة أخوش ما عندها أخوان أو خوات؟
: لا والله.. وحيدة أمها وأبوها.. أمها بعد ما ولدتها تعرضت لمشكلة وما صارت تقدر تحمل
أَدار وجهه جانِبًا ليعطس وهي همست بـ "رحمك الله".. رَدَّ بهمس: يرحمنا ويرحمكم "اسْتَطردَ وهَو يَعود لأشهرٍ مَضَت" من خلال مُلاحظتي.. اتَّضح لي إنش متابعة قضية والدش بشكل كبير.. كبيــر واجد
التَفتت عنه بحرج وهي تُبرر بهمس: لأن الشرطة أغلقوا القضية على إنّه منتحر.. وأنا أخذت عهد إنّي اكتشف المُجرم لو كلفني أي شي "أَنْكَسَ الأَسفُ رَأسها وقلّة الحيلة فاضت من كلماتها" بـس.. فشلت.. وخسرت كل شي.. للأسف.. "غارَ صَوْتها من ثِقْلِ حُزْنٍ أَقْسَمَ أن يَقتات على بقائها" وما كلفنــ ـي شي عـادي.. كلفنـ ـي.. كلفني.. أغـ ـلى شي.. تملكه البنـ ـت
وَجْسٌ اخْتَرَقَ الجَليد بدفئه المُنْدَفِع لِيَنْفَذ إلى رُوحها: غلطـانة "نَظَرَت لهُ ومَوْجٌ آسِن يُشاغِب سَواد عَيْنيها، وهُو واصَلَ بهمسه مُطْعِمًا ذاتها ثِقة هُو نفسه يفتقر إليها" إنتِ مُجرد ضحيَّة.. إنتِ طاهرة، والطاهرة ما تخسر شي.. أيَّا كان هالشي.. الشرف صَحيح غالي.. لكن إذا الله أراد يمتحن البنت الطاهرة فيه، فما عليها غير الصبر واحتساب الأجر منه.. البنت مدامها محافظة على عفافها وسترها وخجلها فهي ما خسرت شي.. ما خسرت ولا شـي
انْتَهى من بث أَمل كلماته وَلم يَنتهِ جرح أُنوثتها من تحفيز البُكاء.. تَبَلَّلَ وَجْهها حتى أَضْحَت مَلامحها قَمَرًا مخسوف.. غالهُ الفَرح فاعْتَزَل خَلْفَ شَعْبٍ من سُحبٍ مُدَجَّجة ٍبأمطارٍ مالِحة.. هُو في داخله لَم يَتوقف عن شتم نفسه مُذ وَطأت قَدماه أرْض غُرْفتها.. ودُموعها كانت المَنْشأ للنَّار التي حَذَّرهُ لَهيبها من قبل.. لكن هذه المَرَّة لَم يَهْرب، صَمَّ أُذنيه عَن أي ضعفٍ وجُبْن عَدا كلماتٍ نَطَقَ بها هاينز قَبْل دقائق..
" عامل نفسك كإنسان ولو لمرة"
سَيُجَرِّب.. ما الذي سيخسره؟ وإن باغتَته رَدّة فعل غير مُتَوَقَّعة سَيَرْتَجِل.. سيتصرف وسينقذ نفسه.. لكن هُو راغِب.. راغِبٌ في أن يَحْترق.. ذاته تُريد أن تُجَرِّب عَذاب آخر وَوجع جَديد.. لَن تضرّه النتيجة مهما كانت.. فهو مَيّت أَسَاسًا.. وهل يَموت المَرْء مَرَّتيْن؟ قَد يكون الجَواب نعم.. ولكن لا شيء يُضاهي أَلَم المَوْتة الأولى.. لذلك أشاحَ وَجهه عن كُل ما قد يُزَعْزعه.. تأَهَّبَ للنَّار.. فليحْتَرق إن كان في احْتراقه فرصة لِيَكون إنسان، ولو لمرَّة.... حَرَّكَ يَده مُحَلِّقًا بها إلى ملامحها الغارِقة.. وبخفَّة حَنـونة تَجْهَل ذاته كَيْف نَجت من بين خضم المعارك التي جابهها؛ مَرَّرَ ظاهر كفّه على خَدّها.. أَصابعهُ تَعْبر مَلامحها وصوت موسيقى يَرْتفع.. كان كمن يُداعب أوْتارَ كَمَانٍ حَزين.. كان يُقَبِّلها لا بشفتيه، بل بيدٍ واحدة عَزْلاء من أَسلِحة الحُب وثورات الوالهين. هي بردَّة فعل طَبيعية تَجَمَّدت.. تَجَمَّدت فعلاً بلا مُبالغة.. كانت تشعر بأصابعه كنار تَصْهر جَليد وَجْنتيها.. لَم تَسْتَطِع أن تُبْدي أي حَرَكة.. تَوَقَّفت عن البُكاء.. عن التَّنفس وعن الاسْتيعاب.. هي حتى لَم تعد تَرمش.. عَيْناها تُناظِران الفراغ باتّساعٍ مَصْدوم.. آخر ما توقعته منهُ فِعْلٌ كَهذا!
: الأخو ما يحب يشوف دموع إخته
الْتَفَتت له بسرعة لَم تَكن في صالح عنقها المُتَشنّج.. لكنّها تَجاهلت الألم بَحْثًا عن تَفسير لحركته.. ارْتَخى جدار قَلْبها وهي تَسْتمع إليه: قلنا بنكون أخوان وأصدقاء.. وأنا ما أحب أشوف دموع إختي وصديقتي.. أعتذر إذا كنت صحّيت جرحش "وقفَ" نكمل نقاشنا في وقت ثاني.. مابي أثقّل عليش "وهو يَسْتدير" أسْتأذن
خَرَجَ وأَغْلَقَ الباب.. عَيْناها لا زالت صَرْخة الاسْتنكار تَسْكنهما.. لكنَّ التَّجمد بدأ بالنّزوح عن حواسها شيئًا فَشيء.. أخوان.. أخوان.. أو أصدقاء.. لا يقصد شيء.. لَم يُرِد شَيء.. اتَّفقَ معكِ قَبْلَ قَليل مَلاك.. لا داعي للخوف.. تَنَفَّسَت الصُّعداء وهي تَغْمض بارْتياحٍ عَميــق.. كلماته طَرَدت الرُّعب من جَسَدها حَتَّى باتت تشعر بهِ هلاُمًا من شِدَّة خِفَّته وارْتخائه.. لا تدري إن كان يُفَكِّر مُسْتقبلاً في تطوير العلاقة بينهما.. لتكون "زوجة" بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.. لكنَّها الآن غير جاهزة مُطْلقًا.. نعم هي ترتاح إليه.. وبذرة الثِّقة نُموّها في تواصل.. لكنِّها إلى الآن غير مُسْتعدّة أن تَسْتقبل منهُ أفعال تكون تحت إطار الزوجية.. وغير مُستعدة أن تَتفاعل.. فلو صدمها بفعْلٍ كالذي قام به قبل دقيقة لَن يَرَ منها ردة فعل غير الذي رأى.. حتى ولو كان فعل أخوي بَريء.
,،
سألَ مَسْؤول مَكْتبه باسْتغراب وهُو يراه يَضَع طَبَق حَلْوى على الطَّاولة الجانبية قُرْب القهوة: من وين هالحلاو! صار لي فترة أشوفكم تجيبون منه
أَجابه: هذا من محل توّه مفتوح من فترة بسيطة.. المحل اهني قريب من الشركة.. كل بداية أسبوع صاحبته ترسل حلاو وكيك للمباني اللي حوالينه "تساءَل" ما عجبك أستاذ؟
: لا والله عجبني.. ذكرني بسنوات أوروبا "أشار للطبق" أشوف عطني عطني وجيب القهوة بعد
لَبَّى رغبته وقَرَّب منهُ الطَّبق.. قالَ بابْتسامة وهُو الذي يعرف بواطن مُديره: أستاذ صاحبة المحل ما تقل حلاوة عن أكلها
قَضَم من قطعة الحلوى وهُو يُعَقِّب باهْتمام: والله! شفتها يعني؟
هَزَّ رأسه: اي أستاذ شفتها.. علَّمت الأهل عن المحل وطلبوا مني أجيب لهم منه.. يوم رحت كانت موجودة هناك
مالت شفتاه بابْتسامة تُشابه ابْتسامة مُوظفه: قلت لي حلوة ها؟
غَمَزَ لهُ: على مزاجــك
أَشارَ للقهوة ليصب له وبضحكة: زيــن احنا بعد بنروح نشتري للأهل.. خل نشوف منبع الحلى "اسْتَفَسْرَ" بس ما قلت لي تصلح لو ما تصلح؟
وَضَع يَده على ذقنه بتفكير: والله يا أستاذ ما أدري تصلح لو ما تصلح.. بس حتى لو ما تصلح "تَلَوَّنت ابْتسامته بالخَبَث مُواصِلاً" ما أعتقد بتصعب عليك
هَزَّ رَأسه بثقة وتفاخر والحلوى التي تَلَذَّذَ منها لسانه رَغَّبَتهُ بالمَزيد.. مُنذ فترة طويـــلة لَم يُمارس هوايته.. انْشَغَل في العَمل وَضغطه ولم يُكافئ نفسه.. يحتاج إلى جائزة.. يحتاج إلى مُكافأة مُطَعَّمة بالحَلوى.
اسْتَعلم وهُو يَفْتح أحد الملفات: يوسف داوم اليوم؟
أَجابَ: اي مدوام؟
: وشلونه؟
أشار بإبهامه: تمــام التمام
هَزَّ رأسه وبهمس: زيـن زين
,،
تَوَقَّفَت مَرْكبته أَمام المَنْزِل.. نَظَرَ إليه.. شاهِقٌ وأَنيق، مثلما غادرهُ قَبْلَ أكثر من عاميْن.. لَمْ يَتَغَيَّر هيكله الخارجي، لَم تُؤثِّر به الأحداث التي جَرَت.. أَمَّا الأَجساد التي تَتَقَلْقَل داخله، فَقد تَصَدَّعت جُدران ذواتها وبَدَأَ أساس العلاقة بالتَّآكل مُنْذِرًا عن انْهيار أُسْرة. أَوْقَفَ المُحَرِّك ولكنّه لَم يُغادر المَرْكبة.. مُتَرَدّد.. مُتَرَدّد جدًا.. وهو أصلاً غير راضٍ على هذه الخطوة.. واقعًا هُو مُجْبَر من قِبل غَيْداء التي قالت "خلاص كل شي انكشف وتوضّح.. أهم شي احنا قلوبنا تصافت.. ماله داعي البُعْد.. اللي بينا دَم.. مو شي عادي"
إضافة لذلك فإنّ نُور شَجَّعته على الذّهاب ونصحتهُ بتجاهل بَلقيس إذ هي نَفَثَت سُمومها.. واليوم هي لَن تكون في الشقة، واعتاد على روحها وهي تَملئ المكان حَياة ودفء.. فلا يُريد أن يتناول طَعام الغداء لوحده.. فكان كُل ذلك سَبَبًا لوقوفه هُنا. نَظَرَ لهاتفه المُلْقى على مقعد الرَّاكب.. كانت غيداء تتصل.. أَجابَ وهُو يفتح الباب: أنا برا
جاءهُ صَوْتها المُتَحَمِّس: أووكي.. اللحين بفتح لك
ابْتَعَد عن سَيَّارته ماشِيًا ناحِية المنزل.. كان الباب الخارجي مفتوح.. دَخَل وعَيْناه مُباشرة وَقَعَت على غُرْفته.. أو منزله.. عُشّه المُحْتَفِظ بُكل الجراح التي سَكَنَت جَناحيه.. تَوَقَّع أَنَّ أخته هَدَمته.. لكن يَبْدو أَنَّها من شِدّة عَدم اهْتمامها به وبأموره لَم تلتفت حتى لغرفته المهْجورة. أَدَارَ وَجْهه جهة الباب الداخلي.. ابْتَسَم بخفّة عندما رأى غيداء تنتظره بوقوفٍ مائل ويَدُها اسْتَقَرَّت عند خصْرها.. قالت عندما وَقَفَ أَمامها: أنا واقفة انتظرك وإنت ماخذ راحتك تتأمل غرفتك!
عَقَّبَ وهُو يَخْلع نَظَّارته الشمسية: تصدقين اشْتقت لها.. ذكريــااات وايد فيها
وهي تُشير لهُ بالدّخول: للحين مثل ما تركتها.. محد لمس فيها شي
بتعجّب: والله!
هَزَّت رأسها: ايــه.. كل شي موجود فيها.. أغراضك وباقي ثيابك وأفلامك.. حتى المكيف والتلفزيون "ابْتَسَمت له" ما ناقصها إلا إنت
بادلها الابتسامة مع توقّفهما وَسَط المنزل: صدق اشْتقت لها.. بس عايفها
: أكيـد بتعوفها.. لو لها لسان جان شهدت على خيانتك
التَفَتَ جهة الصوت والتَفَت كذلك جِرْحه المُشَرَّع.. يــاااه، مَضَى زَمن مُنذ التقيتكِ... أُختي. نَزَلت العَتبات وَعيْناها مُتَعَلِّقَتان به.. عَيْنان تُصارعان نَبْضًا كان هُو الوَحيد المُقاتل من أجْلِ الحَياة.. رافِضًا أن يُغادر قَلْبها حتى لا تَموت الأُخوَّة فيه.. وَقَفَت أَمامه مع قَوْل غَيْداء المُعْاتِب: يُمّــه.. ما خلّصنا من هالحجي!
لَم تَسْمعها.. كانت مُنْصِتة للحَرْب الضَّارِية داخلها.. ها هُو يَقِفُ أَمامها بعد غيابٍ كانت هي سَببه.. اشْتاقت إليه.. ترفض الاعتراف بذلك.. ولكن للشَّوْق كَلمته.. فهو لَم يُفارقها مُذ كان في العاشرة من عَمْره.. كَبَرَ أَمام عيْنيها، ونَمَت الجراح في ذاته أمام فؤادها دُون أَن تَشفق عليه ولو للحظة.. فهو ابْن حَنان التي تَكْره.. لذلك بَصَقَت عليه كُل أنواع الكراهية والحقد والبغض.. كان عَدوًّا لا أخًا وَحيدًا.. قَهَرَت يُتْمه ونَهَرت سؤال ذاته الباحثة عن العطف.. الأمان والحُب... والأُم. العامان اللذان فارقها فيهما كانا قَحَطًا لَم يَسْتَطِع أي حقد أن ينبت فيه حتى شَوْكًا يملئ الفراغ ولو بوخزٍّ مُؤجّج على الظُلم.. حتى غُرفته، كانت تُخَطِّط لجعلها مجلسًا للنساء.. أو صالة ألعاب لحفيديها.. أو أي شيء يُمْحي أَثَر عَيْشه.. لكنّها لَم تَجرؤ.. فالنّبض الحَي فيها مَنعها من أي فعلٍ ينْحر وجوده من حياتها. اشْتقت إليك طلال.. ولكنّني لا زلت أكرهك.
قالت غَيْداء لتقتطع سِجال العُيون: أنا بروح أشوف الغدا وبنادي بيان وعبّود مرة وحدة
تركتهما بعد أن أَلْقَت عليهما نَظْرة قَلِقة.. تَخْشى أن يتحوَّل هذا الصمت الصّاخِب إلى جدالٍ حام. لكن على العكس.. مَدَّ يدهُ طَلال وبهمس: شلونش بلقيس
قالت بحاجب ارْتَفعَ اسْتنكارًا مُتَجاهلةً يَده: شلوني! تسألني عن حالي وولدي مفارقني من شهور بسببك!
مالت شفتاه بابْتسامة مُتهكّمة وهُو يَتراجع عن مُصافحتها: أعتقد إنّ ولدش فارقش لسبب ثاني.. احنا ما تفارقنا إلا بعد ما خفّفنا ثقل القلوب
وهي تتجّه لإحدى الأرائك وتجلس: ايــه.. أكيد فضّيت قلبك لست الحسن
وابْتسامته تتَقَلَّد بالاسْتفزاز وهو يجلس أَمامها: طبــعًا.. ومن غيرها يستاهل هالقلب؟
أَرْخَت ساق على الأخرى وثعبانها المُلْتوي في فمها نَطَقَ بخبث: هي مو بس تستاهل القلب.. هي تستاهل إنّك تخون ولد إختك عشانها " احْتَدَّت ملامحه وعِرْقٌ نَفَرَ غَضَبًا عند صِدْغه، هي واصلت مُتَعَمِّدةً مُضايقته" إلا ما قلت لي.. شخبار أول ليلة لكم؟ أتوقع ما كان فيها مُفاجآت.. لأنها ما كانت أول ليلة من الأساس
خَتَمَت جُمْلتها الحَقيرة بالنسبة له بابْتسامة ساخِرة زادت من اشْتعال قهره.. نَطَقَ من بين أسْنانه ويده تمَنَّت لو كانت تجرؤ على صَفْعها: متأكّــد.. متأكّــد إن إنتِ سَبب اللي صار ذيك الليلة
شَهَقَت كما لو أنَّها فُجِعَت من الصَّدمة ويدها تُشير لنفسها باسْتنكار: أنـــا! اللحيــن إنت وياها تسوون بلاويكم وأنا أصير السبب!
هَزَّ رأسه يُنْفي احْتمالية خَطيئة نُور: مُسْتحيل نُور تسوي هالشي.. مُستحيل تروح للحَرام.. قولي أنا كنت حقيـر.. مستهتر وبعيد عن ربّي.. لكن نُور ما تسويها "وبثقة شَقَّت طَريق عَيْناه لترفع إصْبع التَّحْذير أمام مكْرها" نُور ما خانت عبد الله ولا لحظة
بغيظٍ تساءلت: وليـش إن شاء الله ما تسويها؟ بنت ناصرو ملاك منزّل من السّما!
لَم يُجبها بل قابلَ سؤالها الحاقد بسؤالٍ غارق في الشَّك: شنو كنتِ مسوية لها!.. إنتِ كنتِ عاطيتها شي؟ شاربة شي هي؟ ما كانت طبيعية أبدًا.. واستفراغها الغريب وكلامها.. كانت مو هي.. أبدًا مو هي!
ارْتَفَعَ حاجِباها ويدها ضَربت على ظاهِر الأخرى اسْتنكارًا: ما باقي إلا تقول إنَّ اللي جت لغرفتك وحدة متنكرة على شكل نور
وثقته تأبى أن تَهْتز: ايــه عادي.. ولا يمكن أصدّق إن هالفعل يصدر من نور
وهي تلوي فمها: اي.. بنت ناصرو الملاك البريء
تجاهلَ سخريتها المَقيتة ليتساءَل باسْتغرابٍ شَديد: إنتِ ليش هالكثر تحقدين على ناصر! شسوى لش المسكين!
نَظَرَت لهُ لثواني بصمْتٍ وعَيْنان بانَ وسَطهما دُخان نارٍ لَم يَخْمدها الزَّمن.. وَقَفَت تَقْتطع النّقاش، وَلم يَفته الهُروب الجَبان الذي طَلَّ من عَيْنيها.. غادرت المَكان دُون أن تُجيب بكلمة.. وهو ظَلَّ يَتَقَلَّب في حيرته.. حقدها الكَبير على ناصر كان سَببًا لرفض خطبة عبد الله لنور.. وكان السبب لمضايقتها لها وإجبارها على طلب الطلاق من عبد الله كما قال لهُ ناصر.. ليس لأنّها علمت بحبّ طلال لها كما تدَّعي.. هذا السبب كانَ سِتارًا للسبب الأصلي.. لأنَّها لو اعْترفت بكرهها لناصر لتهافتت عليها الأسْئلة من كُل حَدْبٍ وَصَوْب.. وبالتَّأكيد لَن تُفْصِح عن الجَواب أو السّر المَدْفون في ذاكرتها.. أحبّته لكنّه رَفَضَ حبّها ليتزوج حبّه.. ليلى.. لكن.. أَيُعْقَل أن يَتَحَوَّل ذلك الحُب القديم إلى حقْدٍ ينشر أمراضه القاتِلة بينهم بلا رَحْمة ولا رأفة!
,،
ضَغَطَ على زر المَصْعد مع تساؤله: تبين نروح مطعم ثالث عقب الموعد؟
انْكَمَشَت ملامحها ويدها ارْتَفعت تُكَمِّم أنفها وفَمَها: لاا بس خلاص.. من غير شي جبدي لايعة.. ما بيها تزيد من الفرارة بالسيارة في هالشمس
: زين شنو بتاكلين؟ ما يصير تظلين بلا أكل
وهي تتقدّمه لداخل المصعد: ما أدري.. أي شي " وبضيق" كنت مشتهية مطعمي المفضل.. بس خساارة "وبنبرة مُتحسّرة" مو نافع لا أكل البيت ولا أكل برا
بمُشاكَسة قال: هذي النساة اللي كنتِ تنتظرينها.. تحملي
مالَ رأسها بتعب: ما توقعتها تجيني بهالحدّة.. ذبحتني
: اللحين إذا دخلنا على الدكتورة بنقولها وبنشوف شنو تقول
فور وصولهما للطابق الواقع فيه مكتب الطبيبة الخاصة بها.. توجَّها للاسْتقبال حيث أخبرتهما الموظفة أن الطبيبة في انتظارهما منذ دقيقتان.. دخلا وهما يلقيان التحية.. قال بسَّام بابْتسامة: عُذْرًا دكتورة على التأخير.. بس كنا ندوّر لها أكل
اسْتفسرت: أكل؟
وَضَحَّت حَنين وهي تجلس على المقعد: دكتورة مو قادرة آكل شي.. كل شي تلوع جبدي منه وعلى طول استفرغ
ضَحَكت: طبيعي يا حَنين
بحرج: بس دكتورة أحس طوَّل الموضوع.. يعني أنا في الشهر الخامس اللحين.. يعني المفروض تنتهي هالسالفة
: لا عـادي.. مو شرط ينتهي.. في حوامل يستمر معاهم هالشعور لين الأشهر الأخيرة.. فالوضع طبيعي جدًّا
اسْتَفسرت: زين شنو الحل؟
: سبق ووصفت لش حبوب اللوعة.. بس ما أبيش تكثرين منهم.. فعشان جذي إنتِ لازم تحطين لش جدول بالأطعمة المرغوبة وغير المرغوبة.. عشان تعرفين شنو اللي تقربين منه وشنو اللي تبتعدين عنه.. وحاولي ما تاكلين في الأوقات اللي يكون فيها جسمش خامل ومسترخي.. أول ما تقعدين من النوم مثلاً.. أو إذا تكونين مستلقية.. وابتعدي عن الوجبات الدسمة.. لأن احتمال كبير يكون الشعور مرتبط بالمعدة
بتنهيدة: إن شاء الله.. بطبّق وبشوف
أَشارت للسرير بابْتسامة: تفضلي عشان نتطمن على البيبي
تَركت حقيبتها على المقعد واتَّجهت للسرير.. اسْتَلقت بعد أن خلعت عباءتها وأعطتها لبسَّام الذي كان يقف بجانب رأسها.. دقائق بسيطة واتَّضَحت لهما الصورة في الشاشة.. تساءلت الطَّبيبة: خبرتكم من قبل إنّه ولد صح؟
أجابَ الاثنين بابْتسامة واسعة وعَيْناهما تَلْتقيان بسعادة بالِغة: ايــه
تساءلت بلُطف: صار له اسم ولا للحين؟
أجابت حَنين: والله للحين دكتورة.. بعدنا نفكر "وبضحكة" شكله بيجي مسكين واحنا للحين ما قررنا
ابْتَسَمت: الله يتمم على خير ويجيكم بالسلامة ويحمل أحلى اسم
رَدَّدا: إن شاء الله
ظَلَّت الطَّبيبة تُحرِّك الجهاز وعَيْناها تُتابعان المَعلومات على الشاشة بدِقَّة.. اسْتَفسرَت حَنين باهْتمام: دكتورة البيبي زين؟
هَزَّت رأسها وهي لا زالت تنظر للشاشة: الحمد لله البيبي زين "اسْتدارت إليها وبنبرة هادئة" بس الواضح عندي إنّه وزنه جدًّا قليل مقارنة بعمره
تَجَهَّمَت ملامحها ونبْضها اسْتجاب بخوف، رَفعت رأسها قليلاً مُتسائلة: يعني شنو دكتورة؟ الشي خطير؟
وضَّحت بأسلوب حاولت ألا تُفْزِع به هذه الأم: لا إن شاء الله حاليًا ما في شي خطير.. بننتظر للشهر الجاي وبنشوف شنو يصير
أرادت أن تَمْنح فؤادها اطْمئنانًا وصوتها هذه المرّة تَعَثَّر بغصَّة: أكيـد دكتورة؟ يعني الشهر الجاي بيصير وزنه طبيعي؟
طَمأنَتها بسرعة عندما رَأت كيف الْتَمَعت عَيْناها بالدّموع: لا تحتاين.. الشي عادي وتواجهه كثير من الأمهات.. بس يتعدل أكلش وتصيرين تتغذين عدل ببتحسن صحته إن شاء الله
بَسَّام وهُو يحْضن كَفَّها: بيكبر إن شاء الله.. هذا لأن إنتِ تواجهين مشاكل في التغذية.. ما في شي خطير.. بس تحتاجين تغذية سليمة.. صح دكتورة؟
أَكَّدت: بالضبط
عادت وأَرْخَت رأسها على الوسادة وهي تَزْدرد ريقها لِتَبْتلع الغَصَّة.. أَحْنى رأسه ليهمس في أذنها: حبيبتي إن شاء الله بيتحسّن وزن البيبي.. بس إنت لا تخافين.. تمام؟
هَزَّت رأسها وأهدابها تتصافق مُصارعةً شَعْب الدُّموع.. وفي صَدْرها قَد كَتَمت تنهيدات قَلِقة ستَظَل تَتضاعف بلا توقف حتى تحتضن ابْنها بين ذراعيها طِفلاً كاملاً. رتَّبَت ملابسها ثُمَّ غادرت السرير وهي تأخذ عباءتها من بسَّام الذي اتّجه للمقعد حيثُ تركت حقيبتها.. وفي هذه الأثناء هَمَست له الطَّبيبة: إذا ممكن أكلمك بروحك
نَظَرَ لها بعدم استيعاب، وقبل أن يسألها وقفت حَنين بجانبه وبابْتسامة طَغى عليها الشحوب: مشكورة دكتورة، الله يعطيش العافية
ابْتسمت لها: العفو حَنين.. أشوفش الشهر الجاي
: إن شاء الله "نظرت لبسّام الذي جَمَدَت عَيْناه في الفراغ" نمشي بسام؟
هَزَّ رأسه بانْتباه: اي.. اي مشينا
رفعت يدها حنين للطبيبة: مع السلامة
غادرا مكتب الطبيبة بصمتٍ اسْتمَرَّ حتى السيارة... جلست في مقعدها وقبل أن يغلق بابها قال وهو يتحسس جيوبه: شكلي نسيت تيلفوني هناك "وهو يتراجع للخلف" بروح أشوفه
هَزَّت رأسها وهو أغلق الباب بعد أن احْتَفَظت ذاكرة عَيْناه بملامحها المأهولة بالقَلق.. عادَ للمشفى وهذه المرّة لم يَنتظر المصعد.. فهو من عَجلته استعان بالسّلالم ليصل إلى مكتب الطبيبة من جديد.. طَرق الباب ثُمَّ دَخَل بعد إذنها.. مُذ رأى وجهها تساءَلَ باهْتمـام: حنين فيها شي دكتورة؟
أشارت للمقعد: ما عليه تتفضل
كَرَّرَ سؤاله والخَوْف بَدأ يتسلّل إلى أطرافه: حنين فيها شي؟
أَكَّدت: صدقني ما فيها شي.. حتى البيبي ما فيه شي.. إنت ارْتاح
جَلَسَ ومن صدره فَرَّ نصف نَفَس.. النصف الباقي ظَلَّ داخله مُتَحَفِّزًا لأي صَدْمة.. قالت بتوضيح: يوم شفت خوفها الشديد وارتباكها ما حبيت أتكلم قدامها وأفزعها.. من جذي بغيت أكلمك بروحك
بنفاذ صَبْر قال: دكتورة واللي يرحم والديش قولي لي شنو فيه
برسمية أجابت: اتضح لي إن المشيمة فيها مشكلة.. قصور في وظائفها مثل ما نقول..
قَبَضَ يَده التي باغتَتها رَعْشة خَفيفة: شنـو يعني؟
فَسَّرَت له: يعني تواجه الجَنين مشاكل من ناحية التغذية أو ضخ الدم وحتى تنفسه.. وغيرها من الأمور اللي تأثر على نموّه
تَساءَل بصوْتٍ غائِر في قلقه: وشنو العلاج؟
قالت وهي تضغط على لوحة المفاتيح: بوصف لها دوا تستخدمه لين شهرها السادس.. بعدها بنشوف إذا صار في تحسّن
سَألَ بتردّد خَشْية الإجابة: وإذا.. .. إذا ما صار تحسّن؟
ببساطة أجابت: بنضطر نولّدها في الشهر السابع "أَغْمَضَ وهو يَزم شَفَتيه بضيق واغْتمام وهي أكملت لتُطمئنه" ترى الوضع عادي جدًّا.. والولادة في الشهر السابع طبيعية وما فيها أي ضرر إن شاء الله.. لا على الأم ولا على الجنين
أَفْصَحَ ويَده تَتَخلَّل خصلات شعره: أعرف، والحمد لله إن المُشكلة بس جذي.. لكن هي كان عندها خوف من أول ما عرفت بالحمل.. والحمد لله هدأت نفسيتها واستقرت.. بس اللحين "أَصْدَرَ صوْت ضائق من بين شَفتيه ثَمَّ زَفَرَ بحيرة مُرْدِفًا" ما أدري شلون أخبرها!
: من جذي ما حبيت أقول لها مُباشرة.. فإذا تقدر تمهّد لها شوي شوي لين يجي موعد الشهر الجاي.. عشان لو فرَضًا احتاجت لولادة مُبكّرة ما تنصدم
هَزَّ رأَسه بتفَهُّم: إن شاء الله.. بحاول "وقف وهو يتناول ورقة الدّواء منها.. والابْتسامة الشاحبة التي لَطَّخت شَفتي حَنين ها هي تَحط على شفتيه" مشكورة دكتورة.. مع السلامة
: مع السلامة "تبَسَّمت له بلُطف" بتكون بخير.. لا تحاتي
تنفَّسَ بأمل: إن شاء الله
عادَ إلى السَّيارة والورقة في يده.. جلس في مقعده مع نطقها: تأخرت
قال بنبرة مَرِحة بالكاد اجْترَّها من تحت الصَّخْرة المُتَّكِئة على قلبه: بالغصــب حصلته.. حتى الدكتورة جت تدور معاي.. في النهاية حصلته عند الريسبشن.. حتى الموظفة ما انتبهت له
بهمس: أشوى حصلته "انْتَبهت للورقة التي في يَده" شنو هذي؟
وكأنَّه للتو يتَذَكَّر: ايــه صح.. أقول لش الدكتورة كانت طالعة من مكتبها تدورنا.. وزين صادفتها.. تقول هذا دوا حق اللوعة
تساءلت باسْتغراب: مو هي توها قايلة ما تبيني أكثر منه!
تَداركَ وهو يُشيح بوجهه عنها ويُشَغِّل المُحرّك: لا قالت هذا غير.. هذا عادي.. كانت بتعطينا إياه بس نست
أَخذت منهُ الورقة تُحاول أن تقرأ اسم الدّواء: زيـن جان تروح هاللوعة وأقدر آكل عدل.. عشان البيبي يتغذى ويكبر
هَمَسَ بنبرة غالها تشوّش أَفْكار وعيْناه متسمرتان على الطريق: إن شاء الله.. إن شاء الله
,،
يتبع