إرتواء نبض
02-01-2020, 09:21 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
توكلتُ على الله
الجزء الثاني والخَمسون
الفصل الأول
لامَت نَفْسَها كَثيرًا على تَسرّعها.. لا تدري من أين أَتتها الثقة التي دَفَعتها لإطلاق وَعْدٍ تَعْلَمُ يَقينًا أنَّها لَن تَسْتَطيع الوَفاء به.. الأَمر ليس مُسْتَحيل.. لَكن في وضعها فهو مُسْتَحيل وجدًّا.. بالطَّبع لَن تَذهب للمستشفى لِتُحادِث طَبيب شَقيقها.. لا قُدْرة لَها على مُواجهة رَجُل غَريب، هي حتى لو تَحَدَّثت مع إحْدى المُمرضات بالتَّأكيد سَيَطْلِبَن منها التَّكلم مع الطَبيب مُباشرة.. فهن لا يَمْلِكَن الصَّلاحية لإصدار أوامر بخصوص المَرْضى.. إذن ماذا تَفْعَل؟ هل تَصْمت وتنطوي على ذاتها وكأنَّ شَيئًا لَم يَكُن؟ لَم تَسْلَخ الدُّموع وَجه والدتها ولَم يَنْهَش الأَسى قَلْبها لِفراق ابْنها؟ تَدّعي النسيان وتَنْكِر وَعْدًا نَطَقَ بهِ لِسانها؟ لا أَبدًا.. يُسْتَحال أن تَتلاعب بِحُزْنِ والدتها.. هي وَعَدت وما دامت لَم تَفِ فهي مَدينة لها حَتَّى هذه اللحظة.. ولو حَتَّى بلقاءٍ خاطِف بَينها وبَين وَليد قَلْبها في يَوْم العيد.. لَعَلَّ الكَمَدَ المُعَرْبِد بَيْن حَنايا رُوحها يَعْتَذِر عند اللقاء في ذلك اليوم، لِتغدو الرُّوح خَفيفة، وبها سِعة قادِرة على تَشَرُّب وَجَع ابْنها.... لكن كَيْف؟ كَيف سَتفي بالوَعْد! زَفَرت بحيرة أَضْنَت فِكْرها خلال الساعات الماضِية.. زَفْرَتها كانت مَسْموعة.. وَرُبَّما كانت مَحْسوسة من قِبَلِ الجالس على يَمينها.. رَفَعَ رأسه لها باحِثًا عن سَبَبًا لهذه الزَّفْرة المأهولة بالتَّعب.. توَقَّف عن مَضغ اللقمة حينما رَأى وَجْهها وَهُو مُسْهب في غرقه.. واضحٌ جِدًّا أَنَّها تَعيش صِراعًا بِصَمْت.. أَخْفَض بَصره لِطَبقها.. مُحْتواه من الأساس قَليل ومع ذلك لَم تَأكل منهُ الكَثير.. وكَأَنَّها لَم تَمسّه أَصْلاً.. المَلْعَقة في وَسَطه وهي مُمسكة بها بارْتخاء وعَيْناها مُتَعَلِّقَتان بشيءٍ لا يَراه، شيءٌ تُخْفيه عنه.. رُبّما هو الشيء ذاته الذي أَبْكاها فَجْرًا...
ابْتَلَع ما في فَمه، مرّر لسانه على شَفتيه ثُمَّ نَاداها بهُدوء..: مَلاك "احْتاج أن يُناديها ثانِية لِيطْفو وَعْيها" مَــلاك
الْتَفَتَت إليه.. نَظَرت لهُ بِضياع مُحاولةً فَصْلَ واقعها عن غوغاء عقلها.. اسْتوعبت بعَد لحظات، نَحَت عَينيها عنه وهي تُجيب بهمس: نعم
أَشارَ لِطَبقها وعَيْناه لَم تُفارِقان مَلامحها: البارحة ما تسحرتين واللحين ما أشوفش تفطرين!
نَظَرَت للطَّبق وكأَنَّها للتو تنتبه له.. قالت وهي تتناول شيئًا بَسيطًا بالملعقة: قاعدة آكل
تاَبعها مُطَوَّلاً وهي تأكل.. كانت بالكاد تُحَرّك فَمَها لتَمضغ الطَّعام.. لُقمتان فَقط ومن ثُمَّ تَوَقَّفَت لِتعود لزوبعة أَفْكارها.. ما بها! بسرعة تَجاهل السؤال.. لا يُريد أن يُكَذِّب على نفسه ويُعاملها كالإنسان الطَبيعي ويُطيع تَساؤلاته.. سَيَحْبس اسْتنكاراته واسْتفساراته.. أمَّا اهْتمامه فهو لَن يَلْتَفِت لَهُ مَرَّة أخرى.. فبعد الذي حَصَل فَجْرًا، لن يَتَقَمَّص مُجَدَّدًا دور الزوج الحَنون العاطِف على زَوْجته.. لا يُليق به هذا الثوب.. لا يُليق بهِ أبَدًا. عندما أَبْعَدَ عَيْنيه عَنها حَرَّكت هي عَيْنيها إليه.. وكان دَوْرها للاستماع إلى تساؤلات ذاتها.. لِماذا لا تطلب من محمد المُساعدة؟ أليس ارْتباطهما في المَقام الأوَّل كان من أجل التعاون معها؟ وهذا تعاون.. صَحيح أنَّ الموضوع بعيد عن قضية والدها.. ولكنّهُ يَشْمل شخْصًا لهُ علاقة بخفايا القَضِيِّة.. أخيها يُوسف المُتَضَرّر الأكبر من القضية.. فليس خَطأً إن طَلبت منهُ المُساعدة.. فقد يكون ذلك في صالح القضية... حسنًا، انتهت من تحوير الأسباب وتَرميمها لِتَظْفَر بِسَببٍ مُقْنِع يَدفعها لِطَلب المُساعَدة منه.. لكن الآن، كيف سَتَتجاوز عَقَبة خَجَلها؟ انْتَبهت لِوقوفه.. حَمَل طَبَقه وكأسه لِيَتَّجه للمغسلة.. نَظَرت بِمَلل لِطَبقها، هو أنهى طَعامه وهي لَم تأكل أكثر من لُقْمَتَيْن.. على الرغم من عدمِ تَناولها أي شيء منذ فطور البارحة، إلا أَنَّها لا تشعر بالجُوع، مَعدتها فقط بَدأت بِمُعاقَبِتها ببضع آلام مُنذ ساعات العَصْر الأخيرة.. لكن الجُوع لا مَكان لهُ بين مَشاعرها.. فَكُلُّها مُتَّخِم بِفكرة واحدة. اسْتَدارَ بعد أن غَسَلَ طَبقه، الْتَقَت عَيْناها بِعَينيه.. تَرَكت المَلْعَقة لِتَنخفض يَدها في حضنها لِتشد على اليَد الأُخرى.. التَّردُّد الذي غَمَرَ مُقْلَتيها أَرْغمه على عدم التَّحرك.. وكأَنَّها تُريد أن تُكَلّمه.. نَطَقَ عندما لم يَصْدر منها فعل آخر: تبين تقولين شي؟
أَشاحت عنهُ بِسُرْعة وبِخَجَلٍ لَطيف بَدأت رُوحه تَألفه.. مَسَّت خدّها بطرف سَبَّابتها وهي تُجيب: بس كنت... كنت أبي يعني.. أسأل.. أبي أسألك
هَزَّ رأسه: أي تفضلي اسألي
رَشَّحت صوتها من التَّردد بِبَصر مُسْتَقِر على ذراعيه المَعْقودتيْن على صدره: يصير نطلب من دكتور يوسف إن يطلعه من المستشفى حق العيد؟ "وَضَّحت" أمي المسكينة كاسرها إن يمر العيد وهو مو حولها.. قلت لها بتصرف "حَرَّكت يَدها بتخَبَّط دلالة على بَعثرتها" بس ما أدري.. يعني ما أعرف شنو أسوي
تَخَلَّصَت من تنهيدة أخرى بعد أن أنهت كلامها، ولكنّها لَم تَسْتَطِع أن تَتَخَلَّص من ملامح البؤس المُحْتَكِرة وَجْهها.. هُو الذي وَضَحت له الصُّور كامِلة، اتَّكأ بِساعديه على الكُرسي وجسده يَنحني قليلاً.. اسْتَفسر: يعني تبيني أكلم دكتوره؟
هَمَسَت وهي تُلقي عليه نظرة لحظية تورات من خلف أهدابها حاجة مُحْرَجة: إذا مو كلافة عليك
: أكيد مو كلافة.. جان من البداية قلتين لي بدل ما تشغلين بالش "حَرَّكت كَتِفها تشرح تَيْهها وهُو واَصلَ بنبرة واثِقة" اعتبري الموضوع خالص
رفعت عينيها وبتعجّب: شلــوون!
وَضَّح وهو يَسْتقيم في وقوفه: يعني يوسف بيكون معاكم في العيد
تَساءلت: يعني عادي.. يرضون المستشفى؟
أَكَّد: اي يرضون.. أصلاً المريض إذا تحسَّنت حالته يعطونه إجازة.. وإنتِ من آخر زيارة قلتِ إنّه كان زين
هَزَّت رأسه: اي الحمد لله
وهُو يَسْتعد للخروج من المطبخ: خلاص يعني.. ريحي بالش
ابْتَسَمت له بامْتنان وبتلّات الخَجَل زاحَمت بؤس ملامحها: مشكـوور
هَمَسَ آمِرًا ذاته بغض البَصَر عن زَهْر خَدَّيها: واجــب
,،
بِعِناية فائِقة اخْتارت أَنواع الحَلويات التي سَتُرْسِلها.. أَطْباق كَبيرة فضّية وأَنيقة رُتِّبَت فيها قِطع الحلوى.. كؤوس ذهبية حَوَت نوعًا آخر من الحَلويات تَزَيَّن سَطحها بإضافات جَذَّابة ومُلْفِتة.. أَشكال ونكهات مُخْتِلفة من الكعك الصغير والكَبير والفطائر أيضًا.. كانت وَليمة من الحَلويات. اعْتَنَت بهذه الطَلِبية بِشكْلٍ واضح دَفَع أحد الطَّباخين للتعليق: يبدو أنَّها لشخصٍ مُهِم جَدًّا
ضَحَكَت بِسِعة قَبْلَ أن تُجيب وَمِن عَيْنيها الْتَمَع حُسامَ حَرْبها: نعـم.. مُهِم جدًّا جدًّا
أَضافَ: هذا كرم منكِ آنستي أن تُرْسلين للمباني المُجاورة حلوى العيد
مالَ رأسها وبنعومة: شُكرًا للطفك "كَذَبت" أُحِب أن أتَعَرَّف على ناس جُدد.. والحلويات أَشهى هدية تعارف
هَزَّ رَأسه موافقًا: هذا صَحيح "تَساءَل بعد أن جَهَّز الذي بيده" هل تُريدين شيء إضافي أم هذا كافٍ؟
: لا هذا جيّد.. لكن لا ترسلونهم الآن.. انتظروا حتى يَصِل الوَرد وارسلوهم معًا
ضَحك بعلو: أيضًا ورد! الآن أنا أشعر بالفضول.. أريد أن أعرف من هو هذا الشخص المهم.. حلوى وكعك وورد.. هذا كثيــر
تَمْتَمَت بابْتسامة جانِبية: لا هذا قليل.. قليـــلٌ جدًّا
,،
تَطايرت أوْراق الخَريف الغافِية بانْهزامٍ على أَرْضٍ لا هي التي دفنتها لِتُنهي حَياتها.. ولا هي التي احْتَضَنتها لِتُجَدِّد الحَياة فيها لتنمو من جَديد وتَحْظى بعائلة تَحُفَّها.. اليومُ يَنْطَفئ الحُزْن لفترة، يَخلع الليل سواده تَبْجيلاً للعيد المُتباهي بِسَناهُ المُشْرِق.. الوُجوه دَعَكَت تَرَسُّبات الأسى.. غَسَلت بغيث العيد شوائب ما مضى.. وَزَرعت بين ثناياها ابْتساماتٍ تُعانِق أرواح الأَحِبِّة.. فللعيد دفءٌ خاص لا يُحْتَضِنك إلا حينما تكون بين أحْبابك. ثَبَّتت تاج الزُّهور على شَعْر صغيرتها والابْتسامة قَد تَوَسَّعت حتى غَمَرت رُوحها.. عيدها الأوَّل مع ابْنتها.. مَذاقٌ جَديد للعيد وشُعورٌ يَخْتلف عن كل الذي عاشته من قَبْل.. قالت بحُب وهي تُلْقي نَظْرة شامِلة عليها: بعد عُمري طالعة أحلى من القمر
ضَحَكت بخجل وهي تلمس خصلات والدتها المُتحرّرة: إنت بعد حلوة ماما "وبإعجاب تراقصَ وَسَط عينيها" حلو شعرش وثيابش.. حتى مكياجش حلو
قَبَّلت خَدَّيها بخفّة: حيــاتي عيونش الحلوة حبيبتي " وقفت متَّجهة للمنضدة حيثُ تستقر مجوهراتها البسيطة.. تَساءلت وهي ترتدي الأقراط" ماما متى تبين تروحين لبابا فيصل؟
أَجابت وهي التي جلست على المقعد تُراقبها بانْدماج: أنا للحين زعلانة
عُقْدة خَفيفة بين حاجبيها وابْتسامة: ومتى بيخلص الزعل؟ بيصير لش أسبوع زعلانة
هَزَّت رأسها: اييي "كَرَّرت" للحين زعلانة
سؤال آخر: انزين ماما إنتِ ما قلتين لي من شنو زعلانة؟ يمكن بابا ما كان قصده يزعلش
صَمَتَت لثواني وأصابعها تَعْبث بحاجيات والدتها فوق المنضدة.. همست: ماما ليلى قالت ليي إن اللي سويته غلط.. وأنا بس عرفت.. لكن بابا صرخ علي
رَفعت ذقنها وبرقّة: ماماتي جنى.. بابا إذا في مرة صرخ فهو ما يقصد.. بس لأن يكون معصّب فيرتفع صوته.. هو يحبش وما يحب يشوفش تسوين شي غلط
نَظَرت لها وببراءة: أنا بعد أحبــه.. بس أنا ما كنت أدري إن غلط.. والله.. بس ماما ليلى قالت لي لأن البابا ما يصير يشوف شعرش وما يصير يلمس يدش.. أنا ما يصير أخليه يشوف ثيابش
تَساءلت وكأنَّها لا تدري: أي ثياب؟
بخجل أجابت وصوتها ينخفض أكثر: كنتِ بتوحشيني ماما.. وأنا أحب ريحتش.. أخذت قميصش معاي.. أشمها إذا بنام.. أحبـها
أَرْخَت عاطِفة عَميــقة جِفْنيها، وابْتسامة من حُنو لاطفت شَفتيها بعذوبة.. انْحَنت لها مُحْتَضنة مَلامحها البَريئة.. قَبَّلت وَجْنتيها: بعد قلبي وعمري إنتِ.. بس مثل ما قالت ماما ليلى.. ما يصير بابا يشوفهم
أَفْصَحَت الطِفلة عن سؤال من بين ضَجيج الأسئلة داخلها: ماما يعني إنتِ وبابا خلاص ما يصير تتصالحون؟
أَجابت بهدوء: ماما احنا مو متهاوشين
: زين ليش للحين ديفورس؟ "عَبَّرت عن مُشْكلتها المُرْهِقة قلبها الصَّغير" أبي انا معاكم اثنينكم.. إذا أنام معاش يوحشني بابا.. وإذا أنام مع بابا توحشيني إنتِ "بنفاذ صبر تنهدت" متــى يخلّص الديفورس؟
ازْدَردت غَصَّتها بصعوبة.. أهدابها تَحَرَّكَت بسرعة مُحاولةً منع فِرار دمعة ساخِنة لَسَعت عَيْنها.. أوجعها هذا البوح من صغيرتها.. وكَسَرت قلبها نبرتها المُتْعَبة.. لا أُريد لِروحكِ العَياء صغيرتي.. لا أُريد أن تَشوب براءتكِ مُخَلَّفات ناضِجان أَفْسَدا الماضي مُتَجَهِلان الضَرر الذي قَد يَلْحقهُ الفَساد بالمستقبل. أَبْعدت خصلاتها عن عَيْنيها وهي تُحاول أن تُعيد رَسْم الابتسامة.. أَشارت لِيسار صَدْر جَنى هامِسَةً: ماما إنتِ قلبش أبيض مثل القطنة.. عشان جذي الله يحبش، وإذا طلبيتن منه أي شي بيعطيش.. ادعي ماما.. ادعي حبيبتي باللي تبينه وربي بيعطيش
بأمل تَساءلت: يعني إذا طلبت منه يخلّص الديفورس بيخلّص؟
نَفَس عَميــق.. ارْتجاف نَبْض..: اي مـاما.. اي.. بيخلّص الديفورس
,،
أَوْصَت جَميلة بوصايا لا تُعَد ولا تُحْصى.. حتى أَنَّ الأخيرة قالت بضحكة: والله والله بردهم لش كاملين.. ما بناخذ منهم ايد ولا رجل
بَرَّرت لقلقها: لا تلومني جميلة.. أول مرة بيفارقوني اثنينهم.. خاصة بيان.. شوي عبود يروح المدرسة.. بس بيان كلش ما تتركني
ابتسمت وهي تَنظر لبيان المُندمجة في الحَديث مع جُمانة داخل السّيارة: شوفيها مستانسة حدها "بثقة قالت" أنا قايلة ما يصلح لها إلا عزيز
أيَّدتها: والله صادقة.. عبد الله أخوي وأبوي حاولوا أي كثر يخلونها تطلع معاهم ما ترضى إلا إذا كنت أنا معاها.. هذي أول مرة تروح مكان بدوني
غَمَزَت لها: ومو آخر مرة إن شاء الله
مازحتها: لا عاد لا تزودونها.. مو حلاوة هي كل مرة كل مرة
أشارت لنفسها: أنا ممكن أستجيب لأوامرش.. بس عزيز مُسْتحيــل.. خلاص صارت بنته الثالثة "رفعت هاتفها الذي رن كاشِفًا عن رسالة" ها الطيّب عند ذكره.. يقول لي تأخرنا "قَبَّلت خَد غَيْداء" يلا حبيبتي أشوفش بعد جم ساعة
نَبَّهتها: خلّي التيلفون معاش.. بكلمش كل بين فترة وفترة أتطمن عليهم
ضَحَكت: أوووكــي أم عبّوود.. إنتِ بس تركي المحاتاة
كَرَّرت والخوف يُراوغ اطْمئنانها: تحملوا فيهم جميلة
أَشارت لعينيها: في عيوني "لوَّحت" مع السلامة
هَمَست بابْتسامة مُرْتعشة وهي تُودّع صغيريها عن بُعْد: مع السلامة.. في حفظ الله
انْتَظَرت حَتى غابت السَّيارة عن مَجال رؤيتها ثُمَّ عادت للداخل.. زَفَرت قَلقها وهي تجلس على الأريكة بالقرب من والدتها التي عَلَّقت: أشوفه هالعزيز حده مهتم في بيان وعبد الله.. حتى طلعة العيد ماخذهم مع عياله
وهي تخلع غطاءها وابْتسامة حُب لفقيد قلبها تُعانق شَفتيها: من كثر ما يحب عمّار الله يرحمه
تساءلت بنبرة لها معانٍ لَم تستوعبها غيداء: متأكدة بس عشان عمّار؟
عُقْدة حاجبين خَفيفة: اي يُمّه عشان عمّار.. هو قال لعبد الله إن واجد يحس نفسه قصّر من بعد وفاته.. فيبي اللحين يعوضهم
وهي تسكب لها الشاي: اي زين فيه الخير " رفعت الكوب لفمها وقبل أن ترتشف قالت وعَيْناها حَوت رسائل اسْتعصى على غيداء قراءتها" بس تذكري يُمّه.. الرجال ما يخطون أي خطوة بدون سبب.. وترى قلوبهم مو مثل قلوبنا تمشيها العاطفة.. قلوبهم تمشيها رغبات ثانية
,،
لِقاء يُوسف لا تُبْصِر منهُ العَين فَقط.. بَل يَحْيا بهِ القَلب وتُزْهِر منهُ الرُّوح.. مُنذ البارحة وحتى الآن رُبَّما احتضنته وقبَّلتهُ عشرون مرَّة.. أو أكثر.. تروح وتَجيء تنظر إليه، تُسَلِّم على عَيْنيه وتُعايدها مثلما تَمَنَّت.. تَطْمَئن بِحنانها على صَفاء ابْتسامته، وتَتَأكَّد من تَحُرّر حواسه من أَلمٍ أو وَجَع.. سَعيدة هي اليوم.. سَعيــدة والحُزْنُ أضاعَ الطَّريق ولَم يَعد يَتَسَكَّع بين حُجرات قَلْبها.. كانت تحمد الله وتشكره في كل قيامٍ وَقعود وكُلَّ ما عانَقت رُوحها ظِل ابْنها. قالت برجاءٍ مُتَلَهِّف: يُمّه يوسف اقعد معانا أكثر من أسبوع
ضَحكَ بخفّة: والله يُمّه ما أدري
مُحَمَّد بتوضيح: الدكتور قال إن إذا ما صار انتكاس في حالة المريض عادي يمددون له إجازته
حُور التي لَم تفارقه: لا إن شاء الله ما تنتكس حالتك.. اقعد معانا أكثر "وبتردد أضافت وهي تُراقب ملامحه" ولو بعد الإجازة تتحول إلى رخصة وتقعد معانا على طول أحسن
وافقها مما جعلها تبتسم بسعة: أنا بعد أقول جذي.. أحس إنّي مو محتاج للمستشفى.. أبي أرجع للبيت والشغل
شجعته والدته: اي بعد عمري.. بس اكتفيت من المستشفيات.. والله هي اللي تزيد المرض.. اطلع وارجع لحياتك حبيبي.. أهم شي تكون مستمر على دواك
حُور بحماس وهي تشد على يده: بنكلم الدكتور الأسبوع الجاي وإن شاء الله يوافق
تَمْتم بابْتسامة: إن شاء الله
كانوا جميعهم مُندمجون بموضوع الإجازة والمستشفى.. إلا هي كانت مُندمجة به.. عَيْناها قَد حَطَّتا على أرْضه السَّاكِنة لِتُعيد شُكْره مرة أخرى.. شَتَّان ما بين الأيام الماضية وبين اليوم.. والدتها وحُور كما حَمامتان قَد أُفْرِج عن فَرحهما.. تُحَلِّقان حَوْل يُوسف ببهجة وسعادة عظيمة.. كل واحدة لا تدري ماذا تفعل لِتُرضي يُوسف وتريّحه.. هي مُتَيَقِّنة لو أَنَّ الذوات تُهْدى.. لأهدت كُل واحدة منهما ذاتها له، ذات تكون بَدلاً عن ذاته المُشَوَّهة. هذا المشهد المُتَّخِم بالفرح تُدين به لمُحَمَّد.. فهو وَفى بوعده وَغَرَسَ في قلبها بذرة ثِقة ستترك سُقياها على عاتقه.. ستنتظر وسترى ما هي نهاية هذه البذرة.. شَجَرة كريمة تنهل عليها بالبركات.. أم جذور مَسْمومة تَزيد من علّتها.
,،
تَنظُرُ إلى هاتفِها.. تُشْغِل نَفْسَها بهِ هَرَبًا من نِقاشٍ تَكْرهه؛ لأنها تعلم أَنَّ جَوابها لَن يتغير، وَأَنَّها لَن تَكشف أَسْبابه البَتَّة.. فَمن المُسْتَحيل أَن تُعَرّي غُرورها أَمام أَيًّا كان، حتى ولو كُنَّ شقيقتيها.. فَعينيها تَرْفضان أن تَسْكنهما نَظْرة حَرِجة، أو أَن يَجْبرهما خُزيٌ على الإشاحة.. فهي غير مُعتادة على نَظْرة الشّفقة، وأُذْناها لا تَقْبلان أن تَبْتلعان كلماتٍ تُنْطَق بنبراتٍ مُنْهَزِمة.. حتى الآن هي لَم تُهْزَم.. بغض النظر عن هجرته الغريبة، إلا أَنَّها لا تقبل بالاستسلام.. لَن يُثنيها إلا جَوابًا قاطِعًا.. أو رُبَّما صَفْعة تُوقظها من حُلْمٍ طالَ حتى الْتفَّ حَوْل عُنقِها وبات يخنقها.
تَساءلت مَنار: للحين مصرة على جوابش؟
رفعت عَينيها ببرود وبنبرة حَوَت حِدّة مخفية: يعني تتوقعين تغيّر رايي عن قبل ساعة! قلت لكم لا يعني لا
باسْتنكار: زين ليــــش! ما في أي سبب مُقنع للرفض
مَرام بتوضيح: المُشكلة مو في رفضش يا مروة.. المُشكلة في إنَّ أسبابش واهية!
ارْتَفَعَ حاجبها: دراستي سبب واهي!
أَكَّدت: أي واهي.. اللي يسمعش يقول هذي توها في بداية دراستها والضغط لفوق راسها.. مو جنش متخرجة من سنة!
عَلَّقت بسخرية: اييه لأنّي اللحين أسرح وأمرح.. ما كأنّي أشتغل ليل نهار.. حتى نوم مثل الأوادم ما أنام.. ما شاء الله علي فاضية عشان ألتزم بزوج وبيت وعيال
منار بتعجّب: اللحين من اللي جاب طاري العيال! ليش إنتِ بتتزوجين اليوم وباجر بيصير عندش عشرة!
: والله إذا عقدنا بتقولون ها متى بتعرسون؟ وإذا عرّسنا.. متى بتحملين؟ تأخر حملش.. روحي تعالجي.. وإذا جبت واحد.. ها متى بتجيبين الثاني؟ وهذي هي السالفة.. ما بنخلص لين ما أموت
عُقْدة اشْتَدَّت بين حاجبي مَرام: إنتِ ليش جذي! ليش ما تعرفين تتكلمين وتتفاهمين مثل الأوادم إذا تكلمنا في هالموضوع؟ تشبّين علينا مرة وحدة حتى ما يمدينا نتكلم!
: لأنكم تقهرون.. ما كأنها حياتي.. تبون تمشوني على كيفكم.. أنا أدري متى أبي أتزوج
تساءلت منار وهي تطوي يدها على خصرها: ومتى إن شاء الله؟
أشارت لرأسها: كيـفي.. ياخي مو مستعدة حاليًا.. انا أدرى بنفسي
نَطَقَت بنبرة مُلْتوية ذات معنى وهي تَرنو لها بطرف عينها: خوفتي بس الوقفة عند الدريشة تطوّل وفي النهاية ما يجي أحد
احْتَدَّت نظراتها حتى شعرت منار أَنَّها تَرى لَهيب مُحَذِّر وَسطهما: شقصــدش!
مرام بمُجاراة: والله قصدها واضح "أشارت للأعلى قاصِدة نافذة غُرفتها" إذا ناسية فالكلام المكتوب على حواف دريشتش بيذكرش
وَنَفَسُها المُرْتعش المُتسارع يُنْذر بانفجارٍ قَريب: ترى واصلة لي لين اهني "وهي تُشير لأنفها" اتــقوا شرّي ووقفوا استفزاز أحســن لي ولكم وخلّوا هالعيد يعدّي على خير
تَبادلتا مَرام ومَنار النظرات مُصْمتتان كلماتهما بامْتعاضٍ وعدم رِضا، فكلاهما مُقتنعتان بأنَّ رفض شقيقتهما المُتكرّر للخطّاب خاطئ ولا يَصُب في مصلحتها.. فهي تكبر سنة بعد سنة لا تصغر.. والعُمر لا ينتظر والحياة كذلك لن تقف من أجلها.. وهي جُل تركيزها واهتمامها من صالح دراستها وعملها، وكأنَّ لا شيء غيرهما يستحق الالتفات إليه. هي عادت لهاتفها، أَنفاسها الهائِجة تصطدم بالشاشة بحَنَق مَكْتوم غَصْبًا.. حَرَّكت إصْبعها على الشاشة ببعثرة لتَبديد غضبها.. اخْتارت أَحد التطبيقات لِتُوَجّه انتباه عقلها لغير الحديث الذي انطوى قبل ثواني.. لا تُريد أن تُفَكِّر في معنى الكلمات التي نَطقت بها الشقيقتان، عقلها يحتاج إلى راحة وهي أساسًا في فترة استجمام وتصفية بال.. فلن تُرهق أعصابها بكلماتهما الاستفزازية.. كان تطبيق "الانستقرام" الذي وقع الاختيار عليه.. أخذت تَتنقل بين الصور من غير تركيز، فهي لا زالت مشغولة بإزالة العوالق التي من شأنها أن تُعَكِّر صَفو بالها.. ظلت لدقائق تُمرر إصبعها بسرعة وبلا هدف والعُقْدة لَم تُبارح وَجهها.. وأثناء ذلك لَفَت نَظرها وَجْه.. وَجْهٌ بارَحَهُ الغَيْم سامِحًا بِلُقيا بَينه وبَين زُمُرّدتيها.. ازْدَرَدت ريقها وهي تَسْتشعر نُمو الغَصَّة؛ غَصَّة اللقاء.. تَحَرَّكَ إصْبعها بارْتجاف للصورة.. كُلّها كان يَرْتجف.. ضغطَت عليها، أَصبحت أكبر.. أَصبَح الوَجْهُ أَقْرَب.. أَشْرَقَ وَجْهها والليْلُ انْحنى باعْتذارٍ لِيَنسحب.. أَلَمان كانا يَسْكُنانها في تلك اللحظة، أَلم ارْتطام النبض بجُدران قَلْبها.. وأَلَم الشهقة التي فَرَّت من رُوحها.. أَهْدابها اضطَّربت، فَعينيها لَم تقويا على امْتصاص النُور الذي بَزَغ من ابْتسامته.. يا إلهي مُنذ متى لَم تُبْصِر هذه الابتسامة؟ صورته ظَهرت لها من العَدم.. فاجَأتها مثل حُلْمٍ أَتى بعد عامٍ من الكوابيس.. لا تدري كيف انتهى بها الأمر إليها.. رُبَّما إحدى زميلاتها الطبيبات قَد منحتها إعجابٍ أو تَركت أسفلها تَعليق.. لَم تُفَكِّر كَثيرًا.. رَفعت عَينيها لتتأكد.. كان حسابه الخاص.. عادت ونظرت للصورة.. تطمَئن على ملامحه.. على شَفتيها بانت ابْتسامة خَفيفة لاطفها حَنانٌ مُوارب.. لا زالت ملامحه مثلما هي.. سَمْحة.. مثل دفء الرَّبيع وبهجته.. لكن لَم يَخْفَ على فؤادها خَيط الحُزْن المُشاغب حَوَرَ عينيه.. اسْتنكرته ولكنها رَبطتهُ باختفائه الغَريب.. ما هُو سرّك عبد الله؟ اعْتدلت في جلوسها مُسْتَجيبةً لتعليمات نبضها المُتَحَمِّسة.. حَبَسَت أَنْفاسها.. تحرّك إصبعها من جَديد لينتقل بها إلى ملفه الشخصي.. مَرَّرت عَينيها على الصور الأخيرة بنظرة سريعة ومُتفحّصة.. نظرة في مُنتصفها تَعرقلت بمَلامحٍ أنثوية.. مَلامح كانت النَّقيض لِبَقِيَّة الصُور التي احْتَضَنت وَجْهه أو وُجوه بعض الزملاء أو حتى بعض المناظر الطبيعية.. اتَّجهت سريعًا لها.. للصورة التي جَمعت بينه وبين أُنثى تراها للمرة الأولى.. أُنثى لَها وَجْهٌ قَمري وَلونٌ يَكاد يُصَيِّره الشحوب شَبَحًا من شِدَّةِ بياضه.. بشرتها كانت رقيقة جدًّا للحد الذي أَظْهرت عُروقها.. تلك الأنفاس التي حَبَسَتها ها هي تَنطلق بهوجاء وبلا سيطرة.. عَيناها تَتخَبَّطان على كُل جُزء من الصورة، تَتفحصها بدقة، تُرَكّز في التفاصيل وتُحاول أن تُقَدِّر المسافة الفاصلة بينه وبين هذه الفتاة.. كانا واقِفان ومن خلفهما مَبنى لا تدرِ ما هُو.. رُبَّما مَعلمًا سياحيًا أو شيء كهذا.. لا يهم.. كانا واقِفان جَنْبًا إلى جَنب، مَسافة بَسيــطة جدًّا تلك التي كانت بينهما. مَسافة رآها جواها المُغتاظ أَصغر من الحَقيقة.. الشَمس كانت تُداعبهما بأشعتها التي تبدو دافئة من خلال النظر لملابس عبد الله الثقيلة.. كان هُو الذي يُصَوّر.. أما هي فكانت تقف بابْتسامة ناعِــمة بشكل مُسْتَفِز، وَيَدها قَد اسْتَقَرَّت أَعْلى حاجبيها مَظَلَّة تَحْمي عَينيها الغير واضحتين من الشمس.. وشعرها الأَشْقر قَد انْسَدل على كَتفيها بتموجات جَريئة. أَخفضت الصفحة للأسفل تنظر لتاريخ الصورة.. كانت قبل حوالي الشهر.. عادت ونظرت إليها لِتُزيد من الحَطب داخلها.. مُسْتَفِزَّة.. مُسْــتَفِزة الصورة وابْتسامته الواسعة أَكثر اسْتفزازًا.. وعنوان الصُورة كان عُود الثقاب الذي أَشْعَل النيران داخلها.. كان العنوان "مارتينا" بالإنجليزية وبجانب الاسم قَلْبٌ أَحْمَر! انتقلت سَريعًا لصورته عند اسمه لتكتشف المَزيد، أو لِتُحْرِق داخلها المَزيد.. ضغطت لتظهر لها صورة لطاولة بأطباق عديدة ومتنوعة.. أعقبتها صورة لتلك المارتينا وهي تحمل طبق كبير نسبيًا برأس مائل وبذات الابتسامة المُستفزة.. صُورة أخرى لطبق يبدو طبقه.. كان فارغًا إلا من السكين والشوكة وتعليق مَرِح "فاتكم غدا العيد الإيرلندي".. صورة أخرى تجمعه بصاحبة الابتسامة المُستفزة وبرَجل لا تدري من هُو لكن مارتينا كانت متعقلة بذراعه بكلتا يديها.. رُبما شَقيقها أو صديقها أو زوجها.. لا تدري.. أما الصورة الأخيرة فكانت الأكثر وَقاحة بالنسبة لها.. هُو ومارتينا يقفان عند الفُرْن بانْسجامٍ وانْدماج.. والتعليق "نعلمها تسوي قهوة عربية جان نخطبها" وختمها بأيقونة لوجهٍ يَضحك.. انتهت الصور.. وانتهى مَخْزون الأنفاس المُتَّزِنة.. كُل الذي بَقى مُخَلَّفات للوَغى التي التهبت داخلها.. كانت تَسْتنشق الغيرة والقَهر لِتزفرها جَذوة تُرْمِد الهواء حَوْلها.. ضَغَطَت على الهاتف وهي تُعيد مُشاهدة الصور.. بل تُعيد جلد قَلْبها.. هُو هُناك مُرْتاح وَسَعيد وَيستهل حَياةً جَديدة.. وهي هُنا تَحْترق وتعرق وتزفر اشْتياقًا إليه وغيرة عَليه.. أي عَدْلٍ هَذا! تبًا له.. تبًا لك عبد الله.. تبًا لك ولمارتينا المُستفزة.
,،
يتبع
توكلتُ على الله
الجزء الثاني والخَمسون
الفصل الأول
لامَت نَفْسَها كَثيرًا على تَسرّعها.. لا تدري من أين أَتتها الثقة التي دَفَعتها لإطلاق وَعْدٍ تَعْلَمُ يَقينًا أنَّها لَن تَسْتَطيع الوَفاء به.. الأَمر ليس مُسْتَحيل.. لَكن في وضعها فهو مُسْتَحيل وجدًّا.. بالطَّبع لَن تَذهب للمستشفى لِتُحادِث طَبيب شَقيقها.. لا قُدْرة لَها على مُواجهة رَجُل غَريب، هي حتى لو تَحَدَّثت مع إحْدى المُمرضات بالتَّأكيد سَيَطْلِبَن منها التَّكلم مع الطَبيب مُباشرة.. فهن لا يَمْلِكَن الصَّلاحية لإصدار أوامر بخصوص المَرْضى.. إذن ماذا تَفْعَل؟ هل تَصْمت وتنطوي على ذاتها وكأنَّ شَيئًا لَم يَكُن؟ لَم تَسْلَخ الدُّموع وَجه والدتها ولَم يَنْهَش الأَسى قَلْبها لِفراق ابْنها؟ تَدّعي النسيان وتَنْكِر وَعْدًا نَطَقَ بهِ لِسانها؟ لا أَبدًا.. يُسْتَحال أن تَتلاعب بِحُزْنِ والدتها.. هي وَعَدت وما دامت لَم تَفِ فهي مَدينة لها حَتَّى هذه اللحظة.. ولو حَتَّى بلقاءٍ خاطِف بَينها وبَين وَليد قَلْبها في يَوْم العيد.. لَعَلَّ الكَمَدَ المُعَرْبِد بَيْن حَنايا رُوحها يَعْتَذِر عند اللقاء في ذلك اليوم، لِتغدو الرُّوح خَفيفة، وبها سِعة قادِرة على تَشَرُّب وَجَع ابْنها.... لكن كَيْف؟ كَيف سَتفي بالوَعْد! زَفَرت بحيرة أَضْنَت فِكْرها خلال الساعات الماضِية.. زَفْرَتها كانت مَسْموعة.. وَرُبَّما كانت مَحْسوسة من قِبَلِ الجالس على يَمينها.. رَفَعَ رأسه لها باحِثًا عن سَبَبًا لهذه الزَّفْرة المأهولة بالتَّعب.. توَقَّف عن مَضغ اللقمة حينما رَأى وَجْهها وَهُو مُسْهب في غرقه.. واضحٌ جِدًّا أَنَّها تَعيش صِراعًا بِصَمْت.. أَخْفَض بَصره لِطَبقها.. مُحْتواه من الأساس قَليل ومع ذلك لَم تَأكل منهُ الكَثير.. وكَأَنَّها لَم تَمسّه أَصْلاً.. المَلْعَقة في وَسَطه وهي مُمسكة بها بارْتخاء وعَيْناها مُتَعَلِّقَتان بشيءٍ لا يَراه، شيءٌ تُخْفيه عنه.. رُبّما هو الشيء ذاته الذي أَبْكاها فَجْرًا...
ابْتَلَع ما في فَمه، مرّر لسانه على شَفتيه ثُمَّ نَاداها بهُدوء..: مَلاك "احْتاج أن يُناديها ثانِية لِيطْفو وَعْيها" مَــلاك
الْتَفَتَت إليه.. نَظَرت لهُ بِضياع مُحاولةً فَصْلَ واقعها عن غوغاء عقلها.. اسْتوعبت بعَد لحظات، نَحَت عَينيها عنه وهي تُجيب بهمس: نعم
أَشارَ لِطَبقها وعَيْناه لَم تُفارِقان مَلامحها: البارحة ما تسحرتين واللحين ما أشوفش تفطرين!
نَظَرَت للطَّبق وكأَنَّها للتو تنتبه له.. قالت وهي تتناول شيئًا بَسيطًا بالملعقة: قاعدة آكل
تاَبعها مُطَوَّلاً وهي تأكل.. كانت بالكاد تُحَرّك فَمَها لتَمضغ الطَّعام.. لُقمتان فَقط ومن ثُمَّ تَوَقَّفَت لِتعود لزوبعة أَفْكارها.. ما بها! بسرعة تَجاهل السؤال.. لا يُريد أن يُكَذِّب على نفسه ويُعاملها كالإنسان الطَبيعي ويُطيع تَساؤلاته.. سَيَحْبس اسْتنكاراته واسْتفساراته.. أمَّا اهْتمامه فهو لَن يَلْتَفِت لَهُ مَرَّة أخرى.. فبعد الذي حَصَل فَجْرًا، لن يَتَقَمَّص مُجَدَّدًا دور الزوج الحَنون العاطِف على زَوْجته.. لا يُليق به هذا الثوب.. لا يُليق بهِ أبَدًا. عندما أَبْعَدَ عَيْنيه عَنها حَرَّكت هي عَيْنيها إليه.. وكان دَوْرها للاستماع إلى تساؤلات ذاتها.. لِماذا لا تطلب من محمد المُساعدة؟ أليس ارْتباطهما في المَقام الأوَّل كان من أجل التعاون معها؟ وهذا تعاون.. صَحيح أنَّ الموضوع بعيد عن قضية والدها.. ولكنّهُ يَشْمل شخْصًا لهُ علاقة بخفايا القَضِيِّة.. أخيها يُوسف المُتَضَرّر الأكبر من القضية.. فليس خَطأً إن طَلبت منهُ المُساعدة.. فقد يكون ذلك في صالح القضية... حسنًا، انتهت من تحوير الأسباب وتَرميمها لِتَظْفَر بِسَببٍ مُقْنِع يَدفعها لِطَلب المُساعَدة منه.. لكن الآن، كيف سَتَتجاوز عَقَبة خَجَلها؟ انْتَبهت لِوقوفه.. حَمَل طَبَقه وكأسه لِيَتَّجه للمغسلة.. نَظَرت بِمَلل لِطَبقها، هو أنهى طَعامه وهي لَم تأكل أكثر من لُقْمَتَيْن.. على الرغم من عدمِ تَناولها أي شيء منذ فطور البارحة، إلا أَنَّها لا تشعر بالجُوع، مَعدتها فقط بَدأت بِمُعاقَبِتها ببضع آلام مُنذ ساعات العَصْر الأخيرة.. لكن الجُوع لا مَكان لهُ بين مَشاعرها.. فَكُلُّها مُتَّخِم بِفكرة واحدة. اسْتَدارَ بعد أن غَسَلَ طَبقه، الْتَقَت عَيْناها بِعَينيه.. تَرَكت المَلْعَقة لِتَنخفض يَدها في حضنها لِتشد على اليَد الأُخرى.. التَّردُّد الذي غَمَرَ مُقْلَتيها أَرْغمه على عدم التَّحرك.. وكأَنَّها تُريد أن تُكَلّمه.. نَطَقَ عندما لم يَصْدر منها فعل آخر: تبين تقولين شي؟
أَشاحت عنهُ بِسُرْعة وبِخَجَلٍ لَطيف بَدأت رُوحه تَألفه.. مَسَّت خدّها بطرف سَبَّابتها وهي تُجيب: بس كنت... كنت أبي يعني.. أسأل.. أبي أسألك
هَزَّ رأسه: أي تفضلي اسألي
رَشَّحت صوتها من التَّردد بِبَصر مُسْتَقِر على ذراعيه المَعْقودتيْن على صدره: يصير نطلب من دكتور يوسف إن يطلعه من المستشفى حق العيد؟ "وَضَّحت" أمي المسكينة كاسرها إن يمر العيد وهو مو حولها.. قلت لها بتصرف "حَرَّكت يَدها بتخَبَّط دلالة على بَعثرتها" بس ما أدري.. يعني ما أعرف شنو أسوي
تَخَلَّصَت من تنهيدة أخرى بعد أن أنهت كلامها، ولكنّها لَم تَسْتَطِع أن تَتَخَلَّص من ملامح البؤس المُحْتَكِرة وَجْهها.. هُو الذي وَضَحت له الصُّور كامِلة، اتَّكأ بِساعديه على الكُرسي وجسده يَنحني قليلاً.. اسْتَفسر: يعني تبيني أكلم دكتوره؟
هَمَسَت وهي تُلقي عليه نظرة لحظية تورات من خلف أهدابها حاجة مُحْرَجة: إذا مو كلافة عليك
: أكيد مو كلافة.. جان من البداية قلتين لي بدل ما تشغلين بالش "حَرَّكت كَتِفها تشرح تَيْهها وهُو واَصلَ بنبرة واثِقة" اعتبري الموضوع خالص
رفعت عينيها وبتعجّب: شلــوون!
وَضَّح وهو يَسْتقيم في وقوفه: يعني يوسف بيكون معاكم في العيد
تَساءلت: يعني عادي.. يرضون المستشفى؟
أَكَّد: اي يرضون.. أصلاً المريض إذا تحسَّنت حالته يعطونه إجازة.. وإنتِ من آخر زيارة قلتِ إنّه كان زين
هَزَّت رأسه: اي الحمد لله
وهُو يَسْتعد للخروج من المطبخ: خلاص يعني.. ريحي بالش
ابْتَسَمت له بامْتنان وبتلّات الخَجَل زاحَمت بؤس ملامحها: مشكـوور
هَمَسَ آمِرًا ذاته بغض البَصَر عن زَهْر خَدَّيها: واجــب
,،
بِعِناية فائِقة اخْتارت أَنواع الحَلويات التي سَتُرْسِلها.. أَطْباق كَبيرة فضّية وأَنيقة رُتِّبَت فيها قِطع الحلوى.. كؤوس ذهبية حَوَت نوعًا آخر من الحَلويات تَزَيَّن سَطحها بإضافات جَذَّابة ومُلْفِتة.. أَشكال ونكهات مُخْتِلفة من الكعك الصغير والكَبير والفطائر أيضًا.. كانت وَليمة من الحَلويات. اعْتَنَت بهذه الطَلِبية بِشكْلٍ واضح دَفَع أحد الطَّباخين للتعليق: يبدو أنَّها لشخصٍ مُهِم جَدًّا
ضَحَكَت بِسِعة قَبْلَ أن تُجيب وَمِن عَيْنيها الْتَمَع حُسامَ حَرْبها: نعـم.. مُهِم جدًّا جدًّا
أَضافَ: هذا كرم منكِ آنستي أن تُرْسلين للمباني المُجاورة حلوى العيد
مالَ رأسها وبنعومة: شُكرًا للطفك "كَذَبت" أُحِب أن أتَعَرَّف على ناس جُدد.. والحلويات أَشهى هدية تعارف
هَزَّ رَأسه موافقًا: هذا صَحيح "تَساءَل بعد أن جَهَّز الذي بيده" هل تُريدين شيء إضافي أم هذا كافٍ؟
: لا هذا جيّد.. لكن لا ترسلونهم الآن.. انتظروا حتى يَصِل الوَرد وارسلوهم معًا
ضَحك بعلو: أيضًا ورد! الآن أنا أشعر بالفضول.. أريد أن أعرف من هو هذا الشخص المهم.. حلوى وكعك وورد.. هذا كثيــر
تَمْتَمَت بابْتسامة جانِبية: لا هذا قليل.. قليـــلٌ جدًّا
,،
تَطايرت أوْراق الخَريف الغافِية بانْهزامٍ على أَرْضٍ لا هي التي دفنتها لِتُنهي حَياتها.. ولا هي التي احْتَضَنتها لِتُجَدِّد الحَياة فيها لتنمو من جَديد وتَحْظى بعائلة تَحُفَّها.. اليومُ يَنْطَفئ الحُزْن لفترة، يَخلع الليل سواده تَبْجيلاً للعيد المُتباهي بِسَناهُ المُشْرِق.. الوُجوه دَعَكَت تَرَسُّبات الأسى.. غَسَلت بغيث العيد شوائب ما مضى.. وَزَرعت بين ثناياها ابْتساماتٍ تُعانِق أرواح الأَحِبِّة.. فللعيد دفءٌ خاص لا يُحْتَضِنك إلا حينما تكون بين أحْبابك. ثَبَّتت تاج الزُّهور على شَعْر صغيرتها والابْتسامة قَد تَوَسَّعت حتى غَمَرت رُوحها.. عيدها الأوَّل مع ابْنتها.. مَذاقٌ جَديد للعيد وشُعورٌ يَخْتلف عن كل الذي عاشته من قَبْل.. قالت بحُب وهي تُلْقي نَظْرة شامِلة عليها: بعد عُمري طالعة أحلى من القمر
ضَحَكت بخجل وهي تلمس خصلات والدتها المُتحرّرة: إنت بعد حلوة ماما "وبإعجاب تراقصَ وَسَط عينيها" حلو شعرش وثيابش.. حتى مكياجش حلو
قَبَّلت خَدَّيها بخفّة: حيــاتي عيونش الحلوة حبيبتي " وقفت متَّجهة للمنضدة حيثُ تستقر مجوهراتها البسيطة.. تَساءلت وهي ترتدي الأقراط" ماما متى تبين تروحين لبابا فيصل؟
أَجابت وهي التي جلست على المقعد تُراقبها بانْدماج: أنا للحين زعلانة
عُقْدة خَفيفة بين حاجبيها وابْتسامة: ومتى بيخلص الزعل؟ بيصير لش أسبوع زعلانة
هَزَّت رأسها: اييي "كَرَّرت" للحين زعلانة
سؤال آخر: انزين ماما إنتِ ما قلتين لي من شنو زعلانة؟ يمكن بابا ما كان قصده يزعلش
صَمَتَت لثواني وأصابعها تَعْبث بحاجيات والدتها فوق المنضدة.. همست: ماما ليلى قالت ليي إن اللي سويته غلط.. وأنا بس عرفت.. لكن بابا صرخ علي
رَفعت ذقنها وبرقّة: ماماتي جنى.. بابا إذا في مرة صرخ فهو ما يقصد.. بس لأن يكون معصّب فيرتفع صوته.. هو يحبش وما يحب يشوفش تسوين شي غلط
نَظَرت لها وببراءة: أنا بعد أحبــه.. بس أنا ما كنت أدري إن غلط.. والله.. بس ماما ليلى قالت لي لأن البابا ما يصير يشوف شعرش وما يصير يلمس يدش.. أنا ما يصير أخليه يشوف ثيابش
تَساءلت وكأنَّها لا تدري: أي ثياب؟
بخجل أجابت وصوتها ينخفض أكثر: كنتِ بتوحشيني ماما.. وأنا أحب ريحتش.. أخذت قميصش معاي.. أشمها إذا بنام.. أحبـها
أَرْخَت عاطِفة عَميــقة جِفْنيها، وابْتسامة من حُنو لاطفت شَفتيها بعذوبة.. انْحَنت لها مُحْتَضنة مَلامحها البَريئة.. قَبَّلت وَجْنتيها: بعد قلبي وعمري إنتِ.. بس مثل ما قالت ماما ليلى.. ما يصير بابا يشوفهم
أَفْصَحَت الطِفلة عن سؤال من بين ضَجيج الأسئلة داخلها: ماما يعني إنتِ وبابا خلاص ما يصير تتصالحون؟
أَجابت بهدوء: ماما احنا مو متهاوشين
: زين ليش للحين ديفورس؟ "عَبَّرت عن مُشْكلتها المُرْهِقة قلبها الصَّغير" أبي انا معاكم اثنينكم.. إذا أنام معاش يوحشني بابا.. وإذا أنام مع بابا توحشيني إنتِ "بنفاذ صبر تنهدت" متــى يخلّص الديفورس؟
ازْدَردت غَصَّتها بصعوبة.. أهدابها تَحَرَّكَت بسرعة مُحاولةً منع فِرار دمعة ساخِنة لَسَعت عَيْنها.. أوجعها هذا البوح من صغيرتها.. وكَسَرت قلبها نبرتها المُتْعَبة.. لا أُريد لِروحكِ العَياء صغيرتي.. لا أُريد أن تَشوب براءتكِ مُخَلَّفات ناضِجان أَفْسَدا الماضي مُتَجَهِلان الضَرر الذي قَد يَلْحقهُ الفَساد بالمستقبل. أَبْعدت خصلاتها عن عَيْنيها وهي تُحاول أن تُعيد رَسْم الابتسامة.. أَشارت لِيسار صَدْر جَنى هامِسَةً: ماما إنتِ قلبش أبيض مثل القطنة.. عشان جذي الله يحبش، وإذا طلبيتن منه أي شي بيعطيش.. ادعي ماما.. ادعي حبيبتي باللي تبينه وربي بيعطيش
بأمل تَساءلت: يعني إذا طلبت منه يخلّص الديفورس بيخلّص؟
نَفَس عَميــق.. ارْتجاف نَبْض..: اي مـاما.. اي.. بيخلّص الديفورس
,،
أَوْصَت جَميلة بوصايا لا تُعَد ولا تُحْصى.. حتى أَنَّ الأخيرة قالت بضحكة: والله والله بردهم لش كاملين.. ما بناخذ منهم ايد ولا رجل
بَرَّرت لقلقها: لا تلومني جميلة.. أول مرة بيفارقوني اثنينهم.. خاصة بيان.. شوي عبود يروح المدرسة.. بس بيان كلش ما تتركني
ابتسمت وهي تَنظر لبيان المُندمجة في الحَديث مع جُمانة داخل السّيارة: شوفيها مستانسة حدها "بثقة قالت" أنا قايلة ما يصلح لها إلا عزيز
أيَّدتها: والله صادقة.. عبد الله أخوي وأبوي حاولوا أي كثر يخلونها تطلع معاهم ما ترضى إلا إذا كنت أنا معاها.. هذي أول مرة تروح مكان بدوني
غَمَزَت لها: ومو آخر مرة إن شاء الله
مازحتها: لا عاد لا تزودونها.. مو حلاوة هي كل مرة كل مرة
أشارت لنفسها: أنا ممكن أستجيب لأوامرش.. بس عزيز مُسْتحيــل.. خلاص صارت بنته الثالثة "رفعت هاتفها الذي رن كاشِفًا عن رسالة" ها الطيّب عند ذكره.. يقول لي تأخرنا "قَبَّلت خَد غَيْداء" يلا حبيبتي أشوفش بعد جم ساعة
نَبَّهتها: خلّي التيلفون معاش.. بكلمش كل بين فترة وفترة أتطمن عليهم
ضَحَكت: أوووكــي أم عبّوود.. إنتِ بس تركي المحاتاة
كَرَّرت والخوف يُراوغ اطْمئنانها: تحملوا فيهم جميلة
أَشارت لعينيها: في عيوني "لوَّحت" مع السلامة
هَمَست بابْتسامة مُرْتعشة وهي تُودّع صغيريها عن بُعْد: مع السلامة.. في حفظ الله
انْتَظَرت حَتى غابت السَّيارة عن مَجال رؤيتها ثُمَّ عادت للداخل.. زَفَرت قَلقها وهي تجلس على الأريكة بالقرب من والدتها التي عَلَّقت: أشوفه هالعزيز حده مهتم في بيان وعبد الله.. حتى طلعة العيد ماخذهم مع عياله
وهي تخلع غطاءها وابْتسامة حُب لفقيد قلبها تُعانق شَفتيها: من كثر ما يحب عمّار الله يرحمه
تساءلت بنبرة لها معانٍ لَم تستوعبها غيداء: متأكدة بس عشان عمّار؟
عُقْدة حاجبين خَفيفة: اي يُمّه عشان عمّار.. هو قال لعبد الله إن واجد يحس نفسه قصّر من بعد وفاته.. فيبي اللحين يعوضهم
وهي تسكب لها الشاي: اي زين فيه الخير " رفعت الكوب لفمها وقبل أن ترتشف قالت وعَيْناها حَوت رسائل اسْتعصى على غيداء قراءتها" بس تذكري يُمّه.. الرجال ما يخطون أي خطوة بدون سبب.. وترى قلوبهم مو مثل قلوبنا تمشيها العاطفة.. قلوبهم تمشيها رغبات ثانية
,،
لِقاء يُوسف لا تُبْصِر منهُ العَين فَقط.. بَل يَحْيا بهِ القَلب وتُزْهِر منهُ الرُّوح.. مُنذ البارحة وحتى الآن رُبَّما احتضنته وقبَّلتهُ عشرون مرَّة.. أو أكثر.. تروح وتَجيء تنظر إليه، تُسَلِّم على عَيْنيه وتُعايدها مثلما تَمَنَّت.. تَطْمَئن بِحنانها على صَفاء ابْتسامته، وتَتَأكَّد من تَحُرّر حواسه من أَلمٍ أو وَجَع.. سَعيدة هي اليوم.. سَعيــدة والحُزْنُ أضاعَ الطَّريق ولَم يَعد يَتَسَكَّع بين حُجرات قَلْبها.. كانت تحمد الله وتشكره في كل قيامٍ وَقعود وكُلَّ ما عانَقت رُوحها ظِل ابْنها. قالت برجاءٍ مُتَلَهِّف: يُمّه يوسف اقعد معانا أكثر من أسبوع
ضَحكَ بخفّة: والله يُمّه ما أدري
مُحَمَّد بتوضيح: الدكتور قال إن إذا ما صار انتكاس في حالة المريض عادي يمددون له إجازته
حُور التي لَم تفارقه: لا إن شاء الله ما تنتكس حالتك.. اقعد معانا أكثر "وبتردد أضافت وهي تُراقب ملامحه" ولو بعد الإجازة تتحول إلى رخصة وتقعد معانا على طول أحسن
وافقها مما جعلها تبتسم بسعة: أنا بعد أقول جذي.. أحس إنّي مو محتاج للمستشفى.. أبي أرجع للبيت والشغل
شجعته والدته: اي بعد عمري.. بس اكتفيت من المستشفيات.. والله هي اللي تزيد المرض.. اطلع وارجع لحياتك حبيبي.. أهم شي تكون مستمر على دواك
حُور بحماس وهي تشد على يده: بنكلم الدكتور الأسبوع الجاي وإن شاء الله يوافق
تَمْتم بابْتسامة: إن شاء الله
كانوا جميعهم مُندمجون بموضوع الإجازة والمستشفى.. إلا هي كانت مُندمجة به.. عَيْناها قَد حَطَّتا على أرْضه السَّاكِنة لِتُعيد شُكْره مرة أخرى.. شَتَّان ما بين الأيام الماضية وبين اليوم.. والدتها وحُور كما حَمامتان قَد أُفْرِج عن فَرحهما.. تُحَلِّقان حَوْل يُوسف ببهجة وسعادة عظيمة.. كل واحدة لا تدري ماذا تفعل لِتُرضي يُوسف وتريّحه.. هي مُتَيَقِّنة لو أَنَّ الذوات تُهْدى.. لأهدت كُل واحدة منهما ذاتها له، ذات تكون بَدلاً عن ذاته المُشَوَّهة. هذا المشهد المُتَّخِم بالفرح تُدين به لمُحَمَّد.. فهو وَفى بوعده وَغَرَسَ في قلبها بذرة ثِقة ستترك سُقياها على عاتقه.. ستنتظر وسترى ما هي نهاية هذه البذرة.. شَجَرة كريمة تنهل عليها بالبركات.. أم جذور مَسْمومة تَزيد من علّتها.
,،
تَنظُرُ إلى هاتفِها.. تُشْغِل نَفْسَها بهِ هَرَبًا من نِقاشٍ تَكْرهه؛ لأنها تعلم أَنَّ جَوابها لَن يتغير، وَأَنَّها لَن تَكشف أَسْبابه البَتَّة.. فَمن المُسْتَحيل أَن تُعَرّي غُرورها أَمام أَيًّا كان، حتى ولو كُنَّ شقيقتيها.. فَعينيها تَرْفضان أن تَسْكنهما نَظْرة حَرِجة، أو أَن يَجْبرهما خُزيٌ على الإشاحة.. فهي غير مُعتادة على نَظْرة الشّفقة، وأُذْناها لا تَقْبلان أن تَبْتلعان كلماتٍ تُنْطَق بنبراتٍ مُنْهَزِمة.. حتى الآن هي لَم تُهْزَم.. بغض النظر عن هجرته الغريبة، إلا أَنَّها لا تقبل بالاستسلام.. لَن يُثنيها إلا جَوابًا قاطِعًا.. أو رُبَّما صَفْعة تُوقظها من حُلْمٍ طالَ حتى الْتفَّ حَوْل عُنقِها وبات يخنقها.
تَساءلت مَنار: للحين مصرة على جوابش؟
رفعت عَينيها ببرود وبنبرة حَوَت حِدّة مخفية: يعني تتوقعين تغيّر رايي عن قبل ساعة! قلت لكم لا يعني لا
باسْتنكار: زين ليــــش! ما في أي سبب مُقنع للرفض
مَرام بتوضيح: المُشكلة مو في رفضش يا مروة.. المُشكلة في إنَّ أسبابش واهية!
ارْتَفَعَ حاجبها: دراستي سبب واهي!
أَكَّدت: أي واهي.. اللي يسمعش يقول هذي توها في بداية دراستها والضغط لفوق راسها.. مو جنش متخرجة من سنة!
عَلَّقت بسخرية: اييه لأنّي اللحين أسرح وأمرح.. ما كأنّي أشتغل ليل نهار.. حتى نوم مثل الأوادم ما أنام.. ما شاء الله علي فاضية عشان ألتزم بزوج وبيت وعيال
منار بتعجّب: اللحين من اللي جاب طاري العيال! ليش إنتِ بتتزوجين اليوم وباجر بيصير عندش عشرة!
: والله إذا عقدنا بتقولون ها متى بتعرسون؟ وإذا عرّسنا.. متى بتحملين؟ تأخر حملش.. روحي تعالجي.. وإذا جبت واحد.. ها متى بتجيبين الثاني؟ وهذي هي السالفة.. ما بنخلص لين ما أموت
عُقْدة اشْتَدَّت بين حاجبي مَرام: إنتِ ليش جذي! ليش ما تعرفين تتكلمين وتتفاهمين مثل الأوادم إذا تكلمنا في هالموضوع؟ تشبّين علينا مرة وحدة حتى ما يمدينا نتكلم!
: لأنكم تقهرون.. ما كأنها حياتي.. تبون تمشوني على كيفكم.. أنا أدري متى أبي أتزوج
تساءلت منار وهي تطوي يدها على خصرها: ومتى إن شاء الله؟
أشارت لرأسها: كيـفي.. ياخي مو مستعدة حاليًا.. انا أدرى بنفسي
نَطَقَت بنبرة مُلْتوية ذات معنى وهي تَرنو لها بطرف عينها: خوفتي بس الوقفة عند الدريشة تطوّل وفي النهاية ما يجي أحد
احْتَدَّت نظراتها حتى شعرت منار أَنَّها تَرى لَهيب مُحَذِّر وَسطهما: شقصــدش!
مرام بمُجاراة: والله قصدها واضح "أشارت للأعلى قاصِدة نافذة غُرفتها" إذا ناسية فالكلام المكتوب على حواف دريشتش بيذكرش
وَنَفَسُها المُرْتعش المُتسارع يُنْذر بانفجارٍ قَريب: ترى واصلة لي لين اهني "وهي تُشير لأنفها" اتــقوا شرّي ووقفوا استفزاز أحســن لي ولكم وخلّوا هالعيد يعدّي على خير
تَبادلتا مَرام ومَنار النظرات مُصْمتتان كلماتهما بامْتعاضٍ وعدم رِضا، فكلاهما مُقتنعتان بأنَّ رفض شقيقتهما المُتكرّر للخطّاب خاطئ ولا يَصُب في مصلحتها.. فهي تكبر سنة بعد سنة لا تصغر.. والعُمر لا ينتظر والحياة كذلك لن تقف من أجلها.. وهي جُل تركيزها واهتمامها من صالح دراستها وعملها، وكأنَّ لا شيء غيرهما يستحق الالتفات إليه. هي عادت لهاتفها، أَنفاسها الهائِجة تصطدم بالشاشة بحَنَق مَكْتوم غَصْبًا.. حَرَّكت إصْبعها على الشاشة ببعثرة لتَبديد غضبها.. اخْتارت أَحد التطبيقات لِتُوَجّه انتباه عقلها لغير الحديث الذي انطوى قبل ثواني.. لا تُريد أن تُفَكِّر في معنى الكلمات التي نَطقت بها الشقيقتان، عقلها يحتاج إلى راحة وهي أساسًا في فترة استجمام وتصفية بال.. فلن تُرهق أعصابها بكلماتهما الاستفزازية.. كان تطبيق "الانستقرام" الذي وقع الاختيار عليه.. أخذت تَتنقل بين الصور من غير تركيز، فهي لا زالت مشغولة بإزالة العوالق التي من شأنها أن تُعَكِّر صَفو بالها.. ظلت لدقائق تُمرر إصبعها بسرعة وبلا هدف والعُقْدة لَم تُبارح وَجهها.. وأثناء ذلك لَفَت نَظرها وَجْه.. وَجْهٌ بارَحَهُ الغَيْم سامِحًا بِلُقيا بَينه وبَين زُمُرّدتيها.. ازْدَرَدت ريقها وهي تَسْتشعر نُمو الغَصَّة؛ غَصَّة اللقاء.. تَحَرَّكَ إصْبعها بارْتجاف للصورة.. كُلّها كان يَرْتجف.. ضغطَت عليها، أَصبحت أكبر.. أَصبَح الوَجْهُ أَقْرَب.. أَشْرَقَ وَجْهها والليْلُ انْحنى باعْتذارٍ لِيَنسحب.. أَلَمان كانا يَسْكُنانها في تلك اللحظة، أَلم ارْتطام النبض بجُدران قَلْبها.. وأَلَم الشهقة التي فَرَّت من رُوحها.. أَهْدابها اضطَّربت، فَعينيها لَم تقويا على امْتصاص النُور الذي بَزَغ من ابْتسامته.. يا إلهي مُنذ متى لَم تُبْصِر هذه الابتسامة؟ صورته ظَهرت لها من العَدم.. فاجَأتها مثل حُلْمٍ أَتى بعد عامٍ من الكوابيس.. لا تدري كيف انتهى بها الأمر إليها.. رُبَّما إحدى زميلاتها الطبيبات قَد منحتها إعجابٍ أو تَركت أسفلها تَعليق.. لَم تُفَكِّر كَثيرًا.. رَفعت عَينيها لتتأكد.. كان حسابه الخاص.. عادت ونظرت للصورة.. تطمَئن على ملامحه.. على شَفتيها بانت ابْتسامة خَفيفة لاطفها حَنانٌ مُوارب.. لا زالت ملامحه مثلما هي.. سَمْحة.. مثل دفء الرَّبيع وبهجته.. لكن لَم يَخْفَ على فؤادها خَيط الحُزْن المُشاغب حَوَرَ عينيه.. اسْتنكرته ولكنها رَبطتهُ باختفائه الغَريب.. ما هُو سرّك عبد الله؟ اعْتدلت في جلوسها مُسْتَجيبةً لتعليمات نبضها المُتَحَمِّسة.. حَبَسَت أَنْفاسها.. تحرّك إصبعها من جَديد لينتقل بها إلى ملفه الشخصي.. مَرَّرت عَينيها على الصور الأخيرة بنظرة سريعة ومُتفحّصة.. نظرة في مُنتصفها تَعرقلت بمَلامحٍ أنثوية.. مَلامح كانت النَّقيض لِبَقِيَّة الصُور التي احْتَضَنت وَجْهه أو وُجوه بعض الزملاء أو حتى بعض المناظر الطبيعية.. اتَّجهت سريعًا لها.. للصورة التي جَمعت بينه وبين أُنثى تراها للمرة الأولى.. أُنثى لَها وَجْهٌ قَمري وَلونٌ يَكاد يُصَيِّره الشحوب شَبَحًا من شِدَّةِ بياضه.. بشرتها كانت رقيقة جدًّا للحد الذي أَظْهرت عُروقها.. تلك الأنفاس التي حَبَسَتها ها هي تَنطلق بهوجاء وبلا سيطرة.. عَيناها تَتخَبَّطان على كُل جُزء من الصورة، تَتفحصها بدقة، تُرَكّز في التفاصيل وتُحاول أن تُقَدِّر المسافة الفاصلة بينه وبين هذه الفتاة.. كانا واقِفان ومن خلفهما مَبنى لا تدرِ ما هُو.. رُبَّما مَعلمًا سياحيًا أو شيء كهذا.. لا يهم.. كانا واقِفان جَنْبًا إلى جَنب، مَسافة بَسيــطة جدًّا تلك التي كانت بينهما. مَسافة رآها جواها المُغتاظ أَصغر من الحَقيقة.. الشَمس كانت تُداعبهما بأشعتها التي تبدو دافئة من خلال النظر لملابس عبد الله الثقيلة.. كان هُو الذي يُصَوّر.. أما هي فكانت تقف بابْتسامة ناعِــمة بشكل مُسْتَفِز، وَيَدها قَد اسْتَقَرَّت أَعْلى حاجبيها مَظَلَّة تَحْمي عَينيها الغير واضحتين من الشمس.. وشعرها الأَشْقر قَد انْسَدل على كَتفيها بتموجات جَريئة. أَخفضت الصفحة للأسفل تنظر لتاريخ الصورة.. كانت قبل حوالي الشهر.. عادت ونظرت إليها لِتُزيد من الحَطب داخلها.. مُسْتَفِزَّة.. مُسْــتَفِزة الصورة وابْتسامته الواسعة أَكثر اسْتفزازًا.. وعنوان الصُورة كان عُود الثقاب الذي أَشْعَل النيران داخلها.. كان العنوان "مارتينا" بالإنجليزية وبجانب الاسم قَلْبٌ أَحْمَر! انتقلت سَريعًا لصورته عند اسمه لتكتشف المَزيد، أو لِتُحْرِق داخلها المَزيد.. ضغطت لتظهر لها صورة لطاولة بأطباق عديدة ومتنوعة.. أعقبتها صورة لتلك المارتينا وهي تحمل طبق كبير نسبيًا برأس مائل وبذات الابتسامة المُستفزة.. صُورة أخرى لطبق يبدو طبقه.. كان فارغًا إلا من السكين والشوكة وتعليق مَرِح "فاتكم غدا العيد الإيرلندي".. صورة أخرى تجمعه بصاحبة الابتسامة المُستفزة وبرَجل لا تدري من هُو لكن مارتينا كانت متعقلة بذراعه بكلتا يديها.. رُبما شَقيقها أو صديقها أو زوجها.. لا تدري.. أما الصورة الأخيرة فكانت الأكثر وَقاحة بالنسبة لها.. هُو ومارتينا يقفان عند الفُرْن بانْسجامٍ وانْدماج.. والتعليق "نعلمها تسوي قهوة عربية جان نخطبها" وختمها بأيقونة لوجهٍ يَضحك.. انتهت الصور.. وانتهى مَخْزون الأنفاس المُتَّزِنة.. كُل الذي بَقى مُخَلَّفات للوَغى التي التهبت داخلها.. كانت تَسْتنشق الغيرة والقَهر لِتزفرها جَذوة تُرْمِد الهواء حَوْلها.. ضَغَطَت على الهاتف وهي تُعيد مُشاهدة الصور.. بل تُعيد جلد قَلْبها.. هُو هُناك مُرْتاح وَسَعيد وَيستهل حَياةً جَديدة.. وهي هُنا تَحْترق وتعرق وتزفر اشْتياقًا إليه وغيرة عَليه.. أي عَدْلٍ هَذا! تبًا له.. تبًا لك عبد الله.. تبًا لك ولمارتينا المُستفزة.
,،
يتبع