إرتواء نبض
01-19-2020, 09:15 PM
بسم الله الرحمن الرَّحيم
تَوَكَّلتُ على الله
الجُزْء التَّاسع و الأَرْبَعون
الفَصْل الثَّاني
تَخْطو عَلى جِنْح فَراشة مُتَسَرْبِلَة بِأَلْوان رَبيع فَتِيَّة..رَبيعٌ يُعانِقُ الحَياة لِلتَّو..لَهُ رائِحة حُبٍ أَبْيَض..انْطَوى عَلى نَفْسه ذاتَ زَمَن حَتَّى لا تُنَجّسه أَرْدان الخِيانة..وَ ها هُو الحُب يَعُود مُجَدَّداً..طَيْرٌ هاجَرَ و هُو يَحْضِنُ في عَيْنيه دَمْعَ انْكِسار..يَعُود و الدَّمْع قَد أَحالَهُ اللِّقاء نُجُوماً يَهْمسُ وَميضها اشْتياقا..هي اليَوْم وَرْدَةٌ بِبِتلَّاتٍ تُبَلّلها قَطَراتُ نَدى عَذْبة..ما هي إلا أَحْفادٌ للإرْتواء الكَبير..الإرْتواء من حَبيب الطُّفولةِ و الصَّبا..،جُنَّت اليَوْم حَتْماً..وَ كَم تَسْتَلِذ بِجُنونها هذا..جُنونٌ شَهي..ضاعَ مَذاقهُ بَيْن مَرارةِ فَقْد و عَلْقَمِ شَيْطانٍ خَنَّاس..لَم يَفْتئ من تَقْييد رُوحها بِأزِمَّة الوِسْواس..،هي تَجاهَلت كُل فِكْرة مُنَغِصة..رَكَلَت ما تَراشَق عَليها من صُخورٍ تَطْمح لِتَعَثُّرِها..خَلَعَت كَفَنَ الذَّنْبِ و تَمَرَّدَت عَلى مَوْتِ الدُّنيا..غَزَلَت الشَّوْقَ بِحَواسِها..و أَصْمَتَت كُلَّ صَوْتٍ..هَمْسٍ أو وَجْس هُم يُشاغبون رُوحها..و سَمَحَت لرُوحها بِكُل حُرِّية و حُب،أن تُصْغي لِدَنْدَنات نَبَضاتها الوالِهة..،طُوفانٌ من مَشاعر مُتَعَطِّشة للإنْصباب يَكْتَسِحُها..كُلَّها يَرْتَعِش..هُدُب عَيْناها المُظَلِّلَة حَدَقَتَين أَتْخَمَهما الإشْتياق لِمَلامحٍ صَافَحها الحَلال..شَفَتاها اليَتيمَتان من قُبْلة قَد تُعيدها طِفْلة تَلْهو مَعَه..أَناملها المُطْمَسَة من دِفء يَدَيه..أَنْفاسها المُقْفَرة من عِطْر رُجولته الخاص..كُلَّها..كُلَّها مُسْتَسْلِم لارْتِعاشة لَذيــذة..،أَمام البابِ تَقِف و في يَدِها مفتاح..و في القَلْبُ غُلِّقَت أَبواب لِسَد البَواح..لَكِن اليَوم..تَعاهَدَ الجَوَى مَعَ نَبْضه بأنَّ لا بُدَّ للدّماء أن تَمْضي لإنْعاش ما ذَبُل مِن كَلِماتٍ و اعْترافات..،بِفَمٍ فاغِر يُنَبِّش عن فُتات هَواء حَشَرت المفتاح في القفل..أَغْمَضَت بالتَّوالي مع ارْتفاع رَأسها..اسْتَنْشَقَت بِعُمْقٍ جُرْأَة مُضاعَفة..تُعينها على مُواصَلة الجُنون..ازْدَرَدَت ريقها المَشْدوه وَسَطَ حَلْقِها..مَرَّرت لِسانها عَلَى شَفَتيها..و مِن ثُمَّ غادَرَ حنجرتها هَمْسٌ يَكاد أن يَذْوي سَرابا..،:بسـم الله
لَحَظات و بَزَغَ صَوْتُ الإفْراج..أَخْفَضَت المِقْبَض بهُدوءٍ شَديد..الْتَقَطَت أَسْنانها شَفَتها السُّفْلِيَّة بِحَذَر مع الْتقاء بَصَرها بِمَأواه المُتَسَتِّر على غِيابه..أَغْلَقَت الباب و هي تُحَرّر شَفَتَها التي سارعت لِشَقيقَتها..مُشَكِّلَتان مَعاً إطْباقاً خاضِع لِهَيْبَة مَسْكَنه..لِلحِجْر الذي احْتوى ضَياعه..و أَسْكَنَهُ فَسيحَ حَنانه،مُضَمِّداً بِأمانه فَزَع طُفولته و آلامها..،تَحَرَّكَت بِهُدوء عاشِقة تَمْشي عَلى وَتَرِ اللِّقاء..مُتَلَفِّتة هُنا و هُناك..تَتَفَحَّص عُشَّهُ البَسيط،تُخاطِب بِلُغَةِ عَيْنيها الجُدْران..تَسْألها عن لَيالٍ مَضَت كان فيها وَحيداً مَنْبوذا...تُقَلِّب صُوَرَاً مُشَوَّشة..حَمَّضَتها الأيَّامَ لِتُخَلِّد ذِكْرياتاً شَهَدَت أَنَّه اشْتاق..مَرِض..و نالَ منهُ تَعَبُ الفِراق....تَمْشي و عاطِفَتها حاديها المُوَجّه حَواسها لَهُ لا لِغَيْره..رَشَّحَت ذاكرتها من كُلِّ الرِّجال..والدها..أخاها..و مَن كان زَوْجَها..أَدارَت ظَهْرها لِكُلِّ الوُجوه عَداه..فَهذهِ المَشاعر..في هَذه اللحْظة قَد وُلِدَت لِأجْله..و لاتدْري..أَكانت وِلادتها من رَحْم الجُنون..أم من رَحْم نُور..تِلْك الطِّفْلة..المُراهِقة و الرَّاشِدة التي عَشِقَته حَدَّ تَجاوز المَمْنوع...و حَتَّى هذه السَّاعة..المُتَهَدْهِدة عَقاربها بين دَقائق التَّاسعة..لا زالت تَهْوى مُجابَهة المَمْنوع..لا تَهمها السّريَّة المُتَوَشّح بها عَقْد قَرانهما..و هي غير آبِهة بِظُنونهم و لا مَشاعرهم..هذه اللحْظة فقط..هي لا تَعْرف من الدُّنيا سِواه..هُو طَلال..و لا ثاني له..،
تَوَقَّفَت قَدَماها عَن المَسير اسْتِجابَةً لِلذي انْتَصَفَ طَريقها..أَخْفَضَت رَأسها مُسْتَفْسِرة..ثَوانٍ وَ لاطَفَت شَفَتَيها ابْتسامة حَنان،جَذَبَت شُعاعَ الشَّمْسِ المُسْتَرِق النَّظَرَ على خُلْوَتها مع دارِ حَبيبها..انْحَنَت مُلْتَقِطة المُلْقى بإهْمال على الأَرْض..ثَوْباً أَبْيَض،ما إن مَسَّته حَتَّى تَطايَرت منهُ رائِحة مَرَّت كارْتعاشة عَذْبة بَيْن أَوْصالها..و أَعادَتها لِسِنينٍ لَطالما انْتَشَت من عِطْره الأَذْفَر..اسْتَقامَت في وُقوفها و هي تَتَنَفَّس ببطءِ و احْتِراز..سامِحة لِأنْفاسها أَن تَلْتَقِطها مَعها لِتَزْرَعَ زُهُوراً في رُوحها،سُقْياها عَبير جَسَده..واصَلت طَريقها..خُطْوتان و عادت لِتَقِف و الإبْتسامة مازَجَها اتِّساعٌ مَرِح..فَسُتْرة بَيْضاء بِكُمَّان قَصيران كانت قَد أُلْقِيَت على مَقْرُبَة من الثَّوْب..الْتَقَطَتها هي أَيْضاً ثُمَّ خَطَت قاصِدة إحْدى الأَرائِك..تَرَكَت السُتْرة..ثُمَّ و بِعِناية مَغْزولة بالحُب بَدَأت تَطْوي الثَّوْب..و ما بَيْنَ طَيَّةٍ و أُخْرى غَرَسَت فَسائلَ أُمُومة خَجِلة،لِتُظَلِّل جَسَدهُ حينَ لِقاء..،تَلَفَّتَت تُناظر المَكان بِدِقَّة بَعْدَ أَن انْتَهَت من طَيِّها..شَاكَسَت بَصَرُها الحاذق بِضْعُ ذَرَّاتٍ من غُبار هُنا و هُناك..جَنَحَت عَيْناها لِباب غُرْفته المُوْصَد..تَأَمَّلَتهُ طِوالاً..و فَوْقَ جِدار قَلْبها نَحَتَت النَّبَضات خَيالهُ و هُو غافٍ بِسَلام..فَلْتَنَم طَلال.. .. فَلْتَنَم حَبيبي..،أَزاحَت غِطاء رَأسها مُطْلِقة سَراح خُصْلاتها النَّاعِمة،وَ التي أَسْرَعَت لِمُعانَقَة بَدْر وَجْهها ذو الجَمال الشَّبيه في هُدوئه بِسَحابة بَيْضاء..تَتَجَمَّل بِها السَّماء..خَلَعَت عَباءَتها..طَوَت كُمَّي قَميصها الزَّيْتي حَتَّى المِرْفق..و شَرَعت في عَمَلٍ تَتَعَرَّف عَليه لِلمَرَّة الأولى..،
,،
ماضٍ
الليْلُ كانَ فَرَسَهُ..و السِّرْج من فَوْقِه كانَ مَهْده،أو بِعاطِفة أَعْمَق..كان القِماط الذي احْتَضَن طُفولته..و ها هُو الآن يَحْملهُ لِتِلْكَ التي ذَبُلَت الجَنَّة الغافِية تَحْتَ قَدَمَيها..جَنَّةً أَضْناها الإنْتظار الطَّويل،العاقِد نَفْسَهُ باغْترابٍ مَجْهول الأَرَضِ و السَّماء..،فالغُرْبَة سَوادٌ سَرْمَدي،ما هُو إلا عَمى يَنْهَش ذات المَرْء..فَكَيْفَ إذا كانت الغُرْبة مَجْهولة؟ فَهْي تُمْسي دَماراً..يَغْتَصِب وُجود تِلْك الذَّات و لا يَكْتفي..فَهْو بِجُموحٍ يَسْعى لِهَدْمِ كَيان مَن كانت لَهُم وَشائج معه..لِتَنْطَبِق سَماءَهم على أَرْضِهم المُقْفَرة من نَفَسَه..،يَقِفُ أمام الباب الذي تَبَدَّلَ في غيابه..و لا يَعْلم كَم من المَرَّاتِ أَبْدَلوه..لَكن ما يَعْلَمهُ أَنَّ هذا الباب الجَديد،نَفَثَ بَيْن أَضْلاعه سُموم عَدَم راحة و اغْتراب..و عَجَباً مِن غَريبٍ يُصافح يَدَ الوَطَنِ بِغُرْبة! ارْتَفَعَت يَدهُ داقَّاً الجَرَسَ بِمَلامح اعْتَزَلتها المَشاعر..كان من رَأسه حتى باطن قَدَميهِ جامد..و كَأنَّ حَواسه قَد أَعْلَنَت اسْتسلامها..فَحُكْم التَّعْذيب المُؤبَّد الذي طالها في السَّنوات الماضِية أَنْحَرها،و اسْتَلَّ كُل مافيها حَتَّى باتت سَرابٌ يَسْتَعِد للرَّحيل..،الجَواب لَم يَأتِ بَعْد..تَأَخَّرَ لِيُضَعِّف من أَتْرِبة الإخْتناق المُتَراكمة في صَدْره..هُو يَخْتَنِق من هذا اللقاء الذي لم يَبْدَأ بَعْد..يَخْتنق فَقَط من تَصَوُّراته له..لِرَدَّة فعلهم..والدته..والده..شَقيقته و شَقيقه..و الجَميع...لِوَهْلة فَكَّر في الرُّجوع إلى جُحْر غُرْبته..لِيَبْقى على حاله بَيْنهم..فَقيدَ سَفَرٍ أو فَقيدَ حَياة! فَرُبَّما هُم قَد أَقْنَعوا ذواتهم أَنَّه قَد ارْتَدَى كَفَنَ المَوْت..بَعْد أن صُمَّت آذانهم بِأجْوبة السِّفارة في بَرْلين...
"لا وُجود لِشَخْص بهذا الإسم و المُواصفات..بَرْلين بل و ألمانيا كُلَّها تَخْلو منه"
كَيْفَ حال والدته بَعْدَ هذهِ الكَلِمات التي زَفَّت نَعْشاً وَهْمياً حَوَى رُفات ذاته المَقْتولة ؟
قَرَّرَ أن يَطْبَع بَصَمات سَبَّابَته على مِفْتاح الجَرَس مَرَّة أخيرة..إن لَم يَتَلَقَّ فيها جَواب فَسَيَعود إلى الأَرض التي شَهَدت على خَساراته و ضَياع أَحْلامه..فهي تَفْهَم وَجَعه..و تَحْفَظ مَقاسات جِراحه..لِذا سَيُسْهَل عَليها تَضْميدها..،تَقَلْقَل صَوْتُ الجَرَسَ بَيْن أَزِقَّة الصَّمْت المُتَوشِّح به الحَي..الوَقْتُ لَيْل..السَّاعة قَريبة من التَّاسِعة..اخْتارَ الظَّلام لِيَكُون سِكَّته..فَغَبَشُ عَيْناه لا يَحْتَمِل ضَوْءَ نَهار..فإشْراقة الشَّمس تَشْبه حَبيباً بَعيد..تَشْتاقه و لكن لا تستطيع لُقْياه..فَأنت تَخْشى على قَلْبك أن يَراه و لا يَحْضنه..،مَضَت ثَوانٍ لَم يَحْسبها و تاه تَرَدُّد رَنين الجَرَس بين عَرَصات مَنزلهم..و الهُم هذه ضَميرٌ لا يَشْمله بالتَّأكيد..فَالسَّنوات التي خَلَت قَد بَنَت لهُ بأكُفَّ مَصائبها مَنْزِلاً وَسَط ريف بَرْلين..مَنْزِلٌ يَنْطوي على أَحْزانه..و بَوْح أَشْجانه...،تَهَدَّلَ عَزْمُه المُهْتَرئ..تَرَاجَعت قَدَمهُ اليُمْنى للوَراء..خُطْوَة واحِدة فَقَط..أَرَادت أن تَتْبَعها اليُسْرى..لَكِنَّ صَوْتاً مُفاجئ قَاطَعها..صَوْتٌ قَريب نِسْبياً..ناتج عن فَتْح أَحَدِهم للباب الدَّاخلي..ثانِية..ثانِيَتان.. ... و في السَّادِسة انْخَفَض مِقْبض الباب الذي يَقِف أَمامه..بَصَرُهُ مُعَلَّق بِحَرَكَته و بالذي بَدَأ يَتَجَلَّى من خَلْفه..بِوُضوحٍ مُوْجِع سَطَعَت مَلامحٌ بَدَّلها الزَّمَن على غَفْلة من غِياب...مَلامِحٌ خاصَمَت الطُّفولة بَعْد أن تَعَرَّت من سَنواتها العَشْر..لِتَعْقِد صَداقة مَتينة مع الرُّجولة و الشَّباب النَّاضِج بِجاذِبَيَّة...بَرَقَ شَيْءٌ خَفي وَسَط الغَبَش المُحْتَكِر حَدَقَتيه..بَرَقَ هاتِفاً بِوَجْسٍ لَم يَلْتَقطه مَسْمَعي هذا الذي كَبَر..بَعيداً عن عَيْنه كَبَر..بَعيداً عن حُبّه..مَوَدَّته..و أُخُوَّته....،لَقَد كَبِرْتَ..و أَنا هُناك فَوْقَ وِسادة الإغْتراب..أُجَدِّلُ السِّنينَ و سَاعاتها بِأناملَ حُلْمٍ..بأن أَلْتَحِق بِسِكَّةِ طُفولتك..لِأراكَ تَنْمو زَهْراً ذو شَبابٍ يانع أَمامَ عَيْني أُخُوَّتي...لَكِنَّ الحَياةَ لا تَفْتئ أن تَسْتَهْزئ بأحلامي..فالطِّفْلُ الصَّغير قَد اسْتَوى رَجُلاً يُنافِسَني طُولاً..لَهُ شارِبٌ تَعاضَد مع شُعَيْرات ذِقْنه لِيَطْمِسان تِلْك البَراءة التي ظَلَلتُ أَحْلِمُ لُقْياها لِثَلاثةَ عَشَر عاماً..لَقَد كَبِرت عَزيزي..أصْبَحتَ رَجُلاً حَبيبي.... .. عَــلي..،
عادت القَدَمُ اليُمْنى و اسْتَقَرَّت..و الجَسَدُ قَد انْتَصَبَ باسْتِقامة مَشْدوهة..العَيْنان تَطُوفان مَلامح عَلي..كَأنَّما تُنَبِّشان عن سِنينٍ خَلَت..فَيُلْقي نَظْرة على أَطْلالٍ هي يَبابٌ افْتَقَرَ لِوُجوده...،كان يَتَأَمَّله بِصَمْتٍ و خُشوع..فاصِلاً حَواسه عن الوَقْتَ و المَكان الذي يُحاصره بِغَرابته..يُناظره مُحاولاً أن يُنْعِش نبَضات قَلْبه التي خَبَت مُذ أَسْقَمها جَليد بَرْلين..حاول لِدَقيقة كان الفَشَل يَتَذَيَّل ثَوانيها الأَخيرة..لِيُؤكّد لِذاته أن على القَلْبِ السَّلام...،
عَلي هُو الآخر كان يَنْظر..مُقلَتاه مُشَبَّعَتان بالاسْتغراب..يَتَفَحَّص هَذا الرَّجُل الغَريب الواقِف على باب دارهم بِصَمْتٍ مُوْحِش..يُثير الرَّيْبة! تَفَرَّسَ في وَجْهه ذو المَلامح الغَريبة....و القَريبة..قَريبة من القَلْب..فَنَبْضه بِلا إرادة منه قَد اسْتجاب لِوُجوده المُبْهَم..لا يَدْري هل هي اسْتجابة حَذَر..أَم اسْتِجابة لِقاء! كان لا يَزال يَقِف داخل المنزل..يُسْراه مُتَشَبِّثَة بالمِقْبض بِقُوَّة أَجَّجتها أَعْصابه..لماذا لا يدري! كانت تَفْصلهما عَتَبة مُفْرَدة..هي واقِعاً جَبَلٌ من أَعْوامٍ أَسَفاً أَنَّها لا تُهَد..أَو هي بَحْرٌ من فِراقٍ حَوَى أَسْراراً و عِتاب..كان جَديراً به أَن يُرَحّب فيه..يَسْتَفْسِر وُقوفه..و يُجيب سؤله إن وُجِد..لَكِنَّهُ على النَّقيض..اعْتراهُ شُعورٌ غَريب..اسْتَحْوَذَ على رَدَّات فِعْله و اسْتجابته..و أَحالهُ جامِداً و مُتَصَنِّماً..غير قادِر على جَرِّ حَرْفٍ لِيُفْصِح عن كَلِمة..فَحَواسه بِضَعْفٍ غَرَقَت وَسَطَ دَوَّامة الشُّعور القابِضة على قَلْبه...،
هَمْسٌ كَفَّنتهُ ثُلوج بَرْلين السَّادِية..،:عَــــلي..
قَشْعَريرة مُحَمَّلة بِوابَلٍ من غَصَّاتٍ هاجَمَته..هَرَبَت من بَيْن أَضْلعه شَهْقة قَصيـرة..وَحيدة..و خائِفة...خائِفَةٌ من واقِع قَد يَرْكِلَهُ كابوسٌ مَرير..قَبْضته نالت منها رَجْفة واضِحة..شَدَّ عَليها مُحاولاً تَثْبيط ارْتعاشها..و ذاك الهَمْسُ المُوْجِع عادَ و اسْتَقَرَّ خنجراً وَسَطَ القَلْب..،:عَـــلي
عُقْدة غامِضة تَرَبَّعت بَيْن عَيْنيه..لَحَظاتٍ فَقَط و تَجَرَّأت لِتَقْبض على مَلامحه..مُسْتَعِدَّةً لِنَثْرِ العُقَد بَيْن طَيَّاتها..،
القَمَرُ كان يَسْبحُ ببطءٍ شَديد..وَسَطَ أَمْواجٍ من سُحُب رَمادِية..طَرَّزَها المَساءُ بَيْن جَنَباتِ ثَوْبٍ قُرْمزي..ارْتَدَتهُ السَّماء بِشَفَقة على حالِ شَقيقان انْتَصَف الإغْترابُ حِكاية أُخُوَّتهما..،مُحَمَّد..الخاسر الأَكْبر..المَفْجوع على حُلْمه..عائِلته..رُجولته..و ذاته...كان أَشْجع،فَهو لَم يُفَرِّط بِفُتات الشَّوْق المُتَعَلِّق بِناصِية أَمَله المُشَوَّه..أًمَل العَوْدة لِكَنَفِ العاِئِلة التي تَرَمَّد رِباطها بِنيران غِيابه..،
نَطَق مُتَسائِلاً بِلَحْنٍ تَعَثَّرَ غَصْباً بِغَصَّاتٍ مَحْشُوَّة بأَلَمٍ مُر،:خُـــ ـوك .. .. ..نسيتني؟
انْتَصَرَت الرَّعْشة عَليه،و اتَّخَذَت ثَغْرة صَدْمته لِتَنْفذ إلى رُوحه فَتُضْعِفها..صُفِعَت أَطْرافه بالوَهْن..فَانْحَسَرت أَصابع يُسْراه كاشِفةً عن انْهيار قَبْضَته..اخْتَلَجَ صَدْره كَما أَوْتارٍ أَرْجَفَتها أَناملُ عازفٍ حَزين..بَدَأت قَدَماه تَسْلُكان مَسير النَّجاة..قاصِدَتان الخَلْف بِخُطواتٍ تَنْتَعِلُ الإخْتباء..لا يُريد أن يَسْمع صَوْته المُتَوَشِّح بِشِتاءٍ كئيب..هَمْسه المُعَرَّى من دِفء الأوْطان و حميميَّة العائلة..و بَحَّة البؤس المُتَعَكِّزة بها نِداءاته..لا يُريد أَن يَلْمَح التَّيْه المُتَلَوِّنة به عَدَسَتاه..هَيْئته التي تَعَرَّضَت لِعَوامِل تَعْرِية طَمَسَت ماضيها بَعْد أَن ألْبَسَتها حاضِراً غَريب..غَريبٌ عن ذاك...ذاك الذي كان يُسَمَّى مُحَمَّد..من كان قُدْوته عِنْد الصِّغَر..و الرَّجُل البَطَل الذي كانت تَشْرأب لهُ طُفولته انْدهاشا...لا يُريد أن يَقِف أَعْزَلاً وَسَط وَغَى سُيُوفها أُخْرِجَت من غَمَدِ الفِراق..اسْتَدارَ هارِباً من نِداء الحاجة المُتَقَوْقِع بَيْن كَلِمات شَقيقه..خَجِلاً من إفْصاحٍ قَد يَفْضَح مُعاناة سنينه الطِّوال..و باسْتِدارته قابَل والده الخارِج للتّو من الدَّاخل..اسْتَفْسَر و هُو يَقْتَرب منه،:علي شفيك تأخرت!من اللي عند الباب؟
،:يُبــــه
عَيْناه لَم تَبْرحان وَجْهَ عَلي..شَفَتاه مُطْبَقَتان بِقُوَّة تَمْنع أَي كَلِمة من الوُلوج..و .. .
،:يُبــه
تَسَلَّقَ بَصَرهُ الشُّحْنات الغَريبة المُتَكَدِّسة في الهَواء..تَسَلَّقها مُسْتَرِقاً النَّظَر على الذي بَدَأ يَقْترب..يَجُر خُطواته بِثقل إلى مَكان وُقوفهما..رَجُلٌ لَهُ طُول قامَة مُلْفِتة..عَريض المَنْكَبين و ذو سُمْرة جَذَّابة..مُقْلَتاه تَحْتَضِنان عَدَسَتان تَنْعق مِنْهما غِرْبانٌ مُتَوَشِّحة بِسَوادٍ غَامض..وَقَفَ خَلْف عَلي لِيَعُود مُنادِياً و أَهْداب عَيْنه اليُسْرى ترْتَعِش..كَأنَّما دَمْعٌ لا مَرْئي كان يُشاغبها..،:يُبـــه... "هذه المَرَّة أَكْمَل مُرْعِداً السُّكون المُحْتَضِنَهما" هذا أنا يُبه... محمد.. ..ولدك
اسْتَدار لهُ عَلي بقُوَّة مُعارِضاً نُطْقه..،:محمد مـــات..من سنين مات... لا تجذب
شَدَّت السُّخْرِية شَفَتيه..يَسْخَرُ من واقعه..من ذاته المُحَطَّمة..نعم ماتَ مُحَمَّد أَخي..دُفِنُ مُنذ أَعْوامٍ دُون كَفَنٍ و لا غُسْل..فَبَرْلين أَعادتهُ لِحَقيقة تَكْوينه..تُرابٌ بلا اسْمٍ و لا تعريف..اخْتَلَط مع أَديم أَرْضٍ أَشْفَقَت عليه و تَلَقَّفَت أَشْلاءه..فكان مَوْته..نعم أنا مَيّتٌ أخي..أَنا جَسَدٌ تُوازن تَعَثُّراته عَضَلاتٌ بَنَتها تَدريبات آستور القاسِية..أنا لَسْتُ سِوى جَسَدٌ مُجَوَّف..طَلَّقتهُ الرُّوح مُذ انْتُهِكَت رُجولته خَلْف قُضْبان زِنزانة نَتِنة..نعم أنا مَيّت و لن أَحْيا..،
،:محمَّــد !
,،
حاضِر
مَرَّت دَقيقة صَمْت..كَتِلْكَ التي تُحَلّق بَعْد انْتهاء مَعْركة دَمَوِيَّة..سُجِّلَت فيها خَسائِر عَظيمة لا تُعَوَّض..مِثال...قَلْبه..،تَشَبَّثَ بِجُل قُوَّته الوَهِنة بالشَّوْكة و السّكين..شَدَّ عَليهما مُطالباً منهما امْتصاصٍ لِلإرْتجافة التي عَبَثَت بِسُكون دَواخله..هذا الحَديث..هذا الخَبَر..أو بالأحرى..هذا الإعْتراف...نَحَر كُل فِكْرة..جَواب،أو شَك كان قَد زُرِع في تُرْبة عَقْله...عَقله الذي افْتَقَر لِحكْمته..حَذاقته و رَزانته في أَحيانٍ كَثيرة..إثْر جُحودٍ أَهْدتهُ إيّاه المَرْأة التي ظَنَّ أنَّ رُجولته قَد قُيِّدَت بها..،حاولَ أن يَزْدرد ريقه..لَكِن لَم يَجِد سوى خَواء حَجَّرتهُ الغَصَّة..تَصافَقت أهدابه بِبَعْثَرة مع هُروب عَدَسَتيه عن وَجْه عَمّه المُتَسَرْبِل بِثِقة جارِحة....ماذا يَقول! كيف لهُ أن ينطق بهذه الكَلِمات المُدَجَّجة بالخَطَر؟ و المُحَمَّلة بسوءٍ لَم يَسْتنشقه قَط..على الرَّغْمِ من سُموم والدته التي حاولت بِشَتَّى الطُّرق أن تُجَلّط بها حُب نُور الذي كان يَجْري في عُروقه..،أَخْفَضَ رَأسه قَليلاً..عَلَّق بَصره بأطرافٍ مُتَآكِلة لِصورة حَوَت اللحْظة التي اعْتَرَفت فيها نُور بكُرْهها..و بِبَحَّة يشوبها قَهَرٌ مَكْتوم..،:نُــور.. .. و.. طَلال..يــ ــ... يــحبـ ـون بعض؟
كان يَنْتظر واحدة من اثْنتان..نعم أو لا..لكن ما نَطَقَ به عَمَّه أَلْقى فِكْره لِنقطة الصّفر..مُجَدّداً،:أُمّك اللي قايلة لك هالحجي الفاضي؟
نَظَرَ لهُ من خَلْف حائِط صَبْره المُصاب بِتَصَدُّعات تُهَدّد بانْهياره..تَساءَل مُسْتَنْكِراً ذِكْره لوالدته،:شدخل أمي؟ أمي مالها دخل في موضوعنا
ارْتَفَع حاجبه بالثّقة ذاتها و كأنَّهُ كان شاهِداً على الأحاديث و الأباطيل التي كانت تُوْسوس لهُ بها والدته،:و من غيرها مُمكن يخليك تتساءل بهالسؤال!
ضَغَطَ على الذي بيده حَتَّى اصْطَبَغت أَصابعه بحُمْرة كانت بَقايا للبُرْكان المَبْصوقة حُمَمه على مَلامحه..و من بين أَسْنانه كَرَّر،:عمّــي..أمّـــي مالــها دخــل
عَقَّبَ بِنَبْرة كانت كالمِطْرقة في حِدَّتها..كَسَرت صَبْره حَتَّى فَتَّته،:أمّك هي سبب كل شي صار..هي سبب طلاقكم..و سبب غياب طَلال "أَكْمَل و حَواسه مُنْتَبِهة للشُّحوب الذي بَدَأ يَرْتَشِف لَوْنه ببطءٍ يُثير الشَّفَقة" أُمّك لعبت بصبر بنتي..نُور وصلت لمرحلة قَريبة من الوسواس...لولا رحمة الله و وجودنا حوالينها جان غرقت في الاكتئاب
الأَنْفاسُ تَشْخَبُ من رِئتيه..كان يَجْتَرَّها بصعوبة بالِغة يَنْتِج عنها صَوْتٌ أَليم..كَحِصانٍ يَنْعى فَقْدَ فارسه بِصَهيلٍ باكٍ..حَرَّكَ رَأسه مُسْتَفْسِراً بِهَمْسٍ أَهْرَمتهُ البَحَّة،:و أَنـــ ـا..ويني عن كل هذا!
أَجابَ ببساطة،:كنت مسافر..السفرة اللي بعدها طلبت نور الطلاق
وَجَفَ قَلْبُهُ بِوَهَن..و تَصَلَّبَت عِظامه من بُرودة قارِسة تَشَبَّثَت بِأطْرافه..حِمْلٌ ثَقيـــل..خانِق و صادم ذاك الذي أَلْقاهُ عَمَّه عَلى رُوحه..غير قادر على التَّصْديق..عَقْله يَرْفض أن يُنَبِّش بين الكَلِمات عن مَعانٍ للذي أَفْصَحَ عَنْه..وُجوده يَرْفض أَن تُعْجَن مَعه حَقائِق تَسَتَّرَت بِلَيالٍ غَرَقَت في دُجى لَم يُبْصِره بَيَاض قَلْبه المُشْرِق..أَسَفاً أَنَّهُ لَم يُبْصِر شيء..و أَسَفاً أَنَّهُ صَدَّقَ كُلَّ شيء.. ..كُلَّ شيء..عَلى الرَّغْمِ من أنَّ الحَقائق هَذه تُوَجِّه إصْبع اتِّهاماتها نَحْو والدته..نَحْو جَنَّته..لَكِنَّهُ صَدَّقَها..صَدَّقَ أَنَّ الجَنَّة لَها جُذُورٌ نَبَتَت منها شَجَرَة زَقُّوم تَنْضَح ثِمارها بالمَرارة..،تَرَكَت أَصابعه لِهَزَلٍ أَصابَها ما كانت مُتَشَبِّثة به.. لِيَقْبِض كَفَّيه بِشِدَّة يُخامرها ارْتجافٌ مَصْدوم..ذلك السَّفَر.. .. والدته..و نُور...وسواسٌ و اكْتئاب...هُروب طَلال..اعْتراف نُور و كُرْهها المُتَوَسِّطَ القَلْب كَما جَذْوة حارِقة..وَ أَخيراً...الفِراق الأَبَدي! ما هذا كُلّه؟ مُعادَلة مُعَقَّدة يُسْتَعْصى على عَقْله حَلَّها الآن..فالبُهوت الذي نَثَرَتهُ عليه كَلِمات عَمَّه..حالت بَيْن عَقْله و بَيْن الْتقاط الأفْكار..أَعْصابه أَصابَها مَسٌّ من ارْتباك..عَرَّاها من انتظامها حَتَّى باتت تَتَخَبَّط بِتَيْه..غير قادِرة على نَقْل وَ لو نِصْف إشارة..وَ كَأنَّها قَد أَضَاعت طَريقها..،
،:عَبْدالله
أَسْبَلَ جِفْنيه مُخَبِّئاً سُفُن الإنْكسار التي بَدَأت بالرَّسو عِنْد شاطئ حَوَره...يا لَهُ من ساذِج..غَبي و سَهل الخِداع..لَم يُنَبِّش فيما مَضَى..لَم يَصْنَع من تَسَاؤلاته مِنْظاراً هُو به يَكْتَشِف خَبايا حِكايته..كُلُّ الذي فَعَله..عِتابٌ جَرَّاهُ لِسانه الفَقير من كَلِمات عَلى مَسْمَعي نُور التي صُمَّت أٌذُنَيها من نَحيبٍ احْتَكَر حنجرتها..عاتَبها بِهَمَساتٍ تَيَتَّمَت من حُب وَهْمي..عَرَضَ عَليها ذِكْريات السّنين القّصيرة التي جَمَعتهما..أَطَّر لَوْحات السَّعادة المَرْسومة بأَنامل عَيْشهما الرَّغيد..لَكِنَّها كَسَرتهم..كَسَرت اللَّوْحَات..و أَرْمَدَت أَلْوان الفَرَح بنيران فِراقها..نَبَذَته..نَبَذَت حُبّه..كَلِماته..قُبْلاته..و نَبَذَت رُجولته..نَبَذَته لِلَحد الذي تَضَخَّم منهُ القَلْبَ هَضيمةً على ظُلْمها لِذاته..هُو بالكاد اسْتطاع أن يُوازن ذاته لِيَعُودَ رَجُلاً يَسْتطيع المَضْي بِلا هَمَسات أُنْثَوِيَّة تُيَسِّر لهُ طَريق الحَياة..و الآن..و بعد مَضي عامان..تِلْك التي نَبَذَته..ظَلَمتهُ و جَرَحته... كانت شَريكته في النَّبْذِ و الظُّلْمِ و الجُرْح!
،:عبد الله قاعد أكلمك!
أَرْجَعَ ظَهْره لِلخَلْفِ مُسْتَنِداً..كَأَنَّهُ باسْتناده يَهْربُ من الحَقائق النَّاظِرة لَهُ بِمَكْرٍ انْبَجَسَ منهُ غَثَيان في صَدْره..ارْتَفَع صَدْره باخْتِلاجاتٍ تَحْكي ضِعْفاً و ضَياع..أَخْفَضَهُ بَعْدَ أَن تَكَدَّسَ الهواء بَيْن أَضْلعهُ بِقِلَّة حيلة..فالرُّوح تَأبى أن تَسْتَنْشِق هَواءً تُسَمّمهُ الحَقيقة المُرَّة...هَمَسَ و حَدَقَتاه تَتَعَثَّران بِحيرة أَسْفَل أَهْدابه الكَثيفة..،:عمّــ ـي..أنا مو..مو..فاهم شي!
تَنْهيدة مُشَوَّشَة الشُّعور غادَرَت صَدْرَ عَمَّه..لَم يَسْتَطِع أن يُتَرْجِم فَحْواها..أَهي تَنْهيدة تَعَب..قَهَر..قَلَق..أَم انْكسار!..رُبَّما لأنَّه في اللحْظة هذه قَد فَقَد أَي قُدْرة تُعينه على تَرْجمة الواقع..يَشْعُر بِأنَّه غريب عن هذه الأَرْض و عن هذه الأَجْواء..وَ كَأنَّ السَّمَاء قَذَفته من عالَمٍ مُبْهَم،تَسْبَح أَجْزاؤه في اللاوُجود..إلى أَرْضٍ تَحْكي بِلُغَةٍ يُسْتَعْصى على ذاته اجْتراعها..لُغَة الحَقيقة الآسِنة..،
عَمّهُ نَطَقَ و هُو يَلْحَظ انْتباهه المُخْتَبئ خَلْف التَّوَتُّر،:اسمعني عَبْدالله "أَفْرَغَ فَرْداً من تَناهيد زَرَعَ تشَعُّباً مَكْدواًد في صَدْره ثُمَّ أَرْدَفَ بِلَحْنٍ يُمازجهُ عَطْفٌ جَلي" إنت ولدي قبل لا تكون ولد أخوي..إنت بحسبة فيصل..اللي ما أرضاه لولدي ما أرضاه لك..ما أرضى إنّك تكون ضحية ماضي "هُو الآخر أَرْجَعَ ظَهْره مُسْتَنِداً مع انْقِباض ذراعيه فَوْق صَدْره..كَأنهُ يَسْجُنُ كَلِمات لا يُجوزُ لها الوُلوج" أُمّك ما كانت تبي زواجك من نور و إنت أكثر واحد تدري..صَحيح إنها في النهاية رَضَخَت لِرَغبتك..بس ظَلَّت حابسة رَفضها لين ما فَجَّرته قبل سنتين.. ..استغلت قُرب نُور وَ طَلال في الماضي..و استغلت غيابك...و....
صَمَت لِثَوانٍ و في جَوْفه قَطَفَ الصَّوْتُ بِتِلَّاتٍ من حَرير..دَثَّرَ بِها الكَلَمات لِكَي لا تَكون أَشْواكٌ تَنْغَرِس في جَواه..ذلك الجَوى الذي أَحَبَّ طَلال..و نُور...أَفْصَح و عَيْناه مُتَشَبِّثَتان بِمَلامح ابن أَخيه،:و اســتغلت.. .. حُب طَلال...لنُور
رَفْرَفَت أَهْدابُ يُسْراه كَما جِنْحِي طَيْرٍ أَسْيان..داعَبَ حُزْنَهُ نايٌ مَبْحوح الأَلْحان..مالَت شَفَتاه عَلى صَفيحٍ يَسْعَرُ بالسُّخْرِيَة...سُخْرِيَة مَريرة هُو بِها يَنْدُبُ عَماهُ و سَذَاجَته...و بِبِحَّة مَذْبوحة،:خالي..كـ ـا..يـ ـ حــ... ..يحـ ـب.. .. زوجتـ ـي!.. . يحـــبها! "اسْتَطْرَدَ وِ لِسانهُ يَلوكُ الكَلِماتُ قَهَراً" توّك.. .. قبل دقايق قلت...قـــلت إنّــه حَجي فاضي!! "شَخَرَ بِسُخْرِية مُهْتَرِئة و هُو يَرْفع كَتِفه مُرْدِفاً" ولَّا بس لأن الكلام طلع من أمي صار فاضي!
أَجابَ بِهُدوء مُتَفَهِّماً تَخَبُّط أَدَبه من الصَّدْمة،:أُمّك مَقْصدها من هالحجي السُّوء..قصدها تطعن شرف بنتي و شرف خالك "أَكْمَلَ و الغُموضُ يَصْبَغ كَلِماته بِسَوادٍ مُطْمَسَ..لا يَحْوي جَواب" حتى لو كَلَّفها الأمر إنها تتعَدَّى على دينها..و السبب بسيــط... ....الماضي
تَساءَل و هُو الذي يَخْتَنِق بَين أَمْواجٍ مُتَلاَطِمة من الأَسْئِلة،:أي ماضــي؟!
فَكَّ عُقْدَة ذِراعيه مُجيباً بِتَنْهيدة جَديدة،:ما أقدر أقول شي زيادة..أمّك اللي لازم تقول و تتحجى "أَخْفَضَ رَأسه قَليلاً جِدَّاً..لِيَنْظُر لَهُ من أَسْفل جِفْنَيه مُواصِلاً عَقْدَ الحَيرة في نَفْسِ عَبْدالله" مابي أكون الشخص اللي يفرق بين أم و ولدها..
شَهَقَت الغَصَّة في حَلْقه..و انْتَصَفَ مُقْلَتاه بَرْقٌ أَضاء لِلَحْظة زاوِية مُعْتِمة في خَياله..رَأى نَفْسه مُتَكَوَّراً فيها.. و عَلى شَفَتَيه ماتَ عِتابٌ أن لِمَ أُمَّاه....لِمَ فَعَلتِ ذلك! ازْدَرَد ريقه باخْتناقٍ بَدَأ يَشْتَد..زاغت عَيْناه مع احْتلال الإرْتباك أَطْرافه..زَمْجَرَت نَبَضات قَلْبه حَتَّى شَعَر بأن حُجْراته هالِكة لا مَحالة..زَمْجَرَت تُحَذّره من فَتْحِ أَبْوابٍ أَنْحَر الصَّدَأُ أَقْفالها..فَلا تَعْلَمُ حَجْمَ القُبْحِ الذي قَد يَنْهَشَ عَيْشَك عَبْدالله..لذا احْذَر..احْذَر من ماضٍ تَجْهَله..،
تَمْتَمَ وَ بَصَرهُ يُعانِقُ الفَراغَ بانْهِزامٍ و تَسْليم..تَمْتَمَ و كَلِماته تَخُط قَصيدة غَباءَه،:غيداء عندها حجي..نُور عندها حجي..عمّي..و أمّــي. .. وطَلال... طـ ـ..طــَلال " نَظَرَ لِعَمّه مُكَرِّراً بِلَحْنِ سُؤال" طَلال!
ناصِر أَجابَ عَلى حَذاقة ابن أخيه،:طَلال وَصَّاني عليه جدّك الله يرحمه..و بما إنّه جاني يبي الإسْتقرار و يبي يعيش الحَياة اللي انحرم منها..و اللي أنا شاركت في حرمانه منها..قَرَّرت أَصَحّح غلطة السنين اللي راحت..قَرَّرت أهديه و أهدي بنتي الرَّاحة اللي فقدوها.. ...خَطَبت نُور له..خَطبتها له عبدالله..كلمتهم..كلمت الإثنين..و ناقشت الإثنين..و الإثنين ما فارق لسانهم اسم واحد.. ....اسمك...عبدالله
وَقَف فَجْأة..باسْتقامة ماهي إلا تَصَلُّبٌ الْتَبَسَه مُذ أُشْعِلَ عُود ثِقاب الحَقيقة الأولى..و ها هي الأعواد تَتَعاقب عَلى رُوحه لِتُشْعِل ناراً لاتَفْتئ أن تَزيد اهْتياجا..نارٌ لا يدري هل يَحْرق بها حُب خاله و طَليقته؟ أم يُرْمِد بها مُروج الزُّهور التي تَنْمو بين حَنايا جَنَّته المُتَسَرْبِلة بالدَّمار!
سُؤالٌ مُسْتَفْسِر غادَرَ من قَلْب ناصِر المُثْقَل و هُو يَنْظر لِبُرْكانه الأَبْكَم،:وين بتروح عبدالله؟
ذاك المَصْدوم..المَكْسور...و المَخْذول من أَحِبَّائه..أَجاب و الضَّياع يُعَثِّر صَوْته،:بــ ــروح....بروح له..طَلال... لازم.. .. لازم اكلمـ ـه
,،
يَتْبَع
تَوَكَّلتُ على الله
الجُزْء التَّاسع و الأَرْبَعون
الفَصْل الثَّاني
تَخْطو عَلى جِنْح فَراشة مُتَسَرْبِلَة بِأَلْوان رَبيع فَتِيَّة..رَبيعٌ يُعانِقُ الحَياة لِلتَّو..لَهُ رائِحة حُبٍ أَبْيَض..انْطَوى عَلى نَفْسه ذاتَ زَمَن حَتَّى لا تُنَجّسه أَرْدان الخِيانة..وَ ها هُو الحُب يَعُود مُجَدَّداً..طَيْرٌ هاجَرَ و هُو يَحْضِنُ في عَيْنيه دَمْعَ انْكِسار..يَعُود و الدَّمْع قَد أَحالَهُ اللِّقاء نُجُوماً يَهْمسُ وَميضها اشْتياقا..هي اليَوْم وَرْدَةٌ بِبِتلَّاتٍ تُبَلّلها قَطَراتُ نَدى عَذْبة..ما هي إلا أَحْفادٌ للإرْتواء الكَبير..الإرْتواء من حَبيب الطُّفولةِ و الصَّبا..،جُنَّت اليَوْم حَتْماً..وَ كَم تَسْتَلِذ بِجُنونها هذا..جُنونٌ شَهي..ضاعَ مَذاقهُ بَيْن مَرارةِ فَقْد و عَلْقَمِ شَيْطانٍ خَنَّاس..لَم يَفْتئ من تَقْييد رُوحها بِأزِمَّة الوِسْواس..،هي تَجاهَلت كُل فِكْرة مُنَغِصة..رَكَلَت ما تَراشَق عَليها من صُخورٍ تَطْمح لِتَعَثُّرِها..خَلَعَت كَفَنَ الذَّنْبِ و تَمَرَّدَت عَلى مَوْتِ الدُّنيا..غَزَلَت الشَّوْقَ بِحَواسِها..و أَصْمَتَت كُلَّ صَوْتٍ..هَمْسٍ أو وَجْس هُم يُشاغبون رُوحها..و سَمَحَت لرُوحها بِكُل حُرِّية و حُب،أن تُصْغي لِدَنْدَنات نَبَضاتها الوالِهة..،طُوفانٌ من مَشاعر مُتَعَطِّشة للإنْصباب يَكْتَسِحُها..كُلَّها يَرْتَعِش..هُدُب عَيْناها المُظَلِّلَة حَدَقَتَين أَتْخَمَهما الإشْتياق لِمَلامحٍ صَافَحها الحَلال..شَفَتاها اليَتيمَتان من قُبْلة قَد تُعيدها طِفْلة تَلْهو مَعَه..أَناملها المُطْمَسَة من دِفء يَدَيه..أَنْفاسها المُقْفَرة من عِطْر رُجولته الخاص..كُلَّها..كُلَّها مُسْتَسْلِم لارْتِعاشة لَذيــذة..،أَمام البابِ تَقِف و في يَدِها مفتاح..و في القَلْبُ غُلِّقَت أَبواب لِسَد البَواح..لَكِن اليَوم..تَعاهَدَ الجَوَى مَعَ نَبْضه بأنَّ لا بُدَّ للدّماء أن تَمْضي لإنْعاش ما ذَبُل مِن كَلِماتٍ و اعْترافات..،بِفَمٍ فاغِر يُنَبِّش عن فُتات هَواء حَشَرت المفتاح في القفل..أَغْمَضَت بالتَّوالي مع ارْتفاع رَأسها..اسْتَنْشَقَت بِعُمْقٍ جُرْأَة مُضاعَفة..تُعينها على مُواصَلة الجُنون..ازْدَرَدَت ريقها المَشْدوه وَسَطَ حَلْقِها..مَرَّرت لِسانها عَلَى شَفَتيها..و مِن ثُمَّ غادَرَ حنجرتها هَمْسٌ يَكاد أن يَذْوي سَرابا..،:بسـم الله
لَحَظات و بَزَغَ صَوْتُ الإفْراج..أَخْفَضَت المِقْبَض بهُدوءٍ شَديد..الْتَقَطَت أَسْنانها شَفَتها السُّفْلِيَّة بِحَذَر مع الْتقاء بَصَرها بِمَأواه المُتَسَتِّر على غِيابه..أَغْلَقَت الباب و هي تُحَرّر شَفَتَها التي سارعت لِشَقيقَتها..مُشَكِّلَتان مَعاً إطْباقاً خاضِع لِهَيْبَة مَسْكَنه..لِلحِجْر الذي احْتوى ضَياعه..و أَسْكَنَهُ فَسيحَ حَنانه،مُضَمِّداً بِأمانه فَزَع طُفولته و آلامها..،تَحَرَّكَت بِهُدوء عاشِقة تَمْشي عَلى وَتَرِ اللِّقاء..مُتَلَفِّتة هُنا و هُناك..تَتَفَحَّص عُشَّهُ البَسيط،تُخاطِب بِلُغَةِ عَيْنيها الجُدْران..تَسْألها عن لَيالٍ مَضَت كان فيها وَحيداً مَنْبوذا...تُقَلِّب صُوَرَاً مُشَوَّشة..حَمَّضَتها الأيَّامَ لِتُخَلِّد ذِكْرياتاً شَهَدَت أَنَّه اشْتاق..مَرِض..و نالَ منهُ تَعَبُ الفِراق....تَمْشي و عاطِفَتها حاديها المُوَجّه حَواسها لَهُ لا لِغَيْره..رَشَّحَت ذاكرتها من كُلِّ الرِّجال..والدها..أخاها..و مَن كان زَوْجَها..أَدارَت ظَهْرها لِكُلِّ الوُجوه عَداه..فَهذهِ المَشاعر..في هَذه اللحْظة قَد وُلِدَت لِأجْله..و لاتدْري..أَكانت وِلادتها من رَحْم الجُنون..أم من رَحْم نُور..تِلْك الطِّفْلة..المُراهِقة و الرَّاشِدة التي عَشِقَته حَدَّ تَجاوز المَمْنوع...و حَتَّى هذه السَّاعة..المُتَهَدْهِدة عَقاربها بين دَقائق التَّاسعة..لا زالت تَهْوى مُجابَهة المَمْنوع..لا تَهمها السّريَّة المُتَوَشّح بها عَقْد قَرانهما..و هي غير آبِهة بِظُنونهم و لا مَشاعرهم..هذه اللحْظة فقط..هي لا تَعْرف من الدُّنيا سِواه..هُو طَلال..و لا ثاني له..،
تَوَقَّفَت قَدَماها عَن المَسير اسْتِجابَةً لِلذي انْتَصَفَ طَريقها..أَخْفَضَت رَأسها مُسْتَفْسِرة..ثَوانٍ وَ لاطَفَت شَفَتَيها ابْتسامة حَنان،جَذَبَت شُعاعَ الشَّمْسِ المُسْتَرِق النَّظَرَ على خُلْوَتها مع دارِ حَبيبها..انْحَنَت مُلْتَقِطة المُلْقى بإهْمال على الأَرْض..ثَوْباً أَبْيَض،ما إن مَسَّته حَتَّى تَطايَرت منهُ رائِحة مَرَّت كارْتعاشة عَذْبة بَيْن أَوْصالها..و أَعادَتها لِسِنينٍ لَطالما انْتَشَت من عِطْره الأَذْفَر..اسْتَقامَت في وُقوفها و هي تَتَنَفَّس ببطءِ و احْتِراز..سامِحة لِأنْفاسها أَن تَلْتَقِطها مَعها لِتَزْرَعَ زُهُوراً في رُوحها،سُقْياها عَبير جَسَده..واصَلت طَريقها..خُطْوتان و عادت لِتَقِف و الإبْتسامة مازَجَها اتِّساعٌ مَرِح..فَسُتْرة بَيْضاء بِكُمَّان قَصيران كانت قَد أُلْقِيَت على مَقْرُبَة من الثَّوْب..الْتَقَطَتها هي أَيْضاً ثُمَّ خَطَت قاصِدة إحْدى الأَرائِك..تَرَكَت السُتْرة..ثُمَّ و بِعِناية مَغْزولة بالحُب بَدَأت تَطْوي الثَّوْب..و ما بَيْنَ طَيَّةٍ و أُخْرى غَرَسَت فَسائلَ أُمُومة خَجِلة،لِتُظَلِّل جَسَدهُ حينَ لِقاء..،تَلَفَّتَت تُناظر المَكان بِدِقَّة بَعْدَ أَن انْتَهَت من طَيِّها..شَاكَسَت بَصَرُها الحاذق بِضْعُ ذَرَّاتٍ من غُبار هُنا و هُناك..جَنَحَت عَيْناها لِباب غُرْفته المُوْصَد..تَأَمَّلَتهُ طِوالاً..و فَوْقَ جِدار قَلْبها نَحَتَت النَّبَضات خَيالهُ و هُو غافٍ بِسَلام..فَلْتَنَم طَلال.. .. فَلْتَنَم حَبيبي..،أَزاحَت غِطاء رَأسها مُطْلِقة سَراح خُصْلاتها النَّاعِمة،وَ التي أَسْرَعَت لِمُعانَقَة بَدْر وَجْهها ذو الجَمال الشَّبيه في هُدوئه بِسَحابة بَيْضاء..تَتَجَمَّل بِها السَّماء..خَلَعَت عَباءَتها..طَوَت كُمَّي قَميصها الزَّيْتي حَتَّى المِرْفق..و شَرَعت في عَمَلٍ تَتَعَرَّف عَليه لِلمَرَّة الأولى..،
,،
ماضٍ
الليْلُ كانَ فَرَسَهُ..و السِّرْج من فَوْقِه كانَ مَهْده،أو بِعاطِفة أَعْمَق..كان القِماط الذي احْتَضَن طُفولته..و ها هُو الآن يَحْملهُ لِتِلْكَ التي ذَبُلَت الجَنَّة الغافِية تَحْتَ قَدَمَيها..جَنَّةً أَضْناها الإنْتظار الطَّويل،العاقِد نَفْسَهُ باغْترابٍ مَجْهول الأَرَضِ و السَّماء..،فالغُرْبَة سَوادٌ سَرْمَدي،ما هُو إلا عَمى يَنْهَش ذات المَرْء..فَكَيْفَ إذا كانت الغُرْبة مَجْهولة؟ فَهْي تُمْسي دَماراً..يَغْتَصِب وُجود تِلْك الذَّات و لا يَكْتفي..فَهْو بِجُموحٍ يَسْعى لِهَدْمِ كَيان مَن كانت لَهُم وَشائج معه..لِتَنْطَبِق سَماءَهم على أَرْضِهم المُقْفَرة من نَفَسَه..،يَقِفُ أمام الباب الذي تَبَدَّلَ في غيابه..و لا يَعْلم كَم من المَرَّاتِ أَبْدَلوه..لَكن ما يَعْلَمهُ أَنَّ هذا الباب الجَديد،نَفَثَ بَيْن أَضْلاعه سُموم عَدَم راحة و اغْتراب..و عَجَباً مِن غَريبٍ يُصافح يَدَ الوَطَنِ بِغُرْبة! ارْتَفَعَت يَدهُ داقَّاً الجَرَسَ بِمَلامح اعْتَزَلتها المَشاعر..كان من رَأسه حتى باطن قَدَميهِ جامد..و كَأنَّ حَواسه قَد أَعْلَنَت اسْتسلامها..فَحُكْم التَّعْذيب المُؤبَّد الذي طالها في السَّنوات الماضِية أَنْحَرها،و اسْتَلَّ كُل مافيها حَتَّى باتت سَرابٌ يَسْتَعِد للرَّحيل..،الجَواب لَم يَأتِ بَعْد..تَأَخَّرَ لِيُضَعِّف من أَتْرِبة الإخْتناق المُتَراكمة في صَدْره..هُو يَخْتَنِق من هذا اللقاء الذي لم يَبْدَأ بَعْد..يَخْتنق فَقَط من تَصَوُّراته له..لِرَدَّة فعلهم..والدته..والده..شَقيقته و شَقيقه..و الجَميع...لِوَهْلة فَكَّر في الرُّجوع إلى جُحْر غُرْبته..لِيَبْقى على حاله بَيْنهم..فَقيدَ سَفَرٍ أو فَقيدَ حَياة! فَرُبَّما هُم قَد أَقْنَعوا ذواتهم أَنَّه قَد ارْتَدَى كَفَنَ المَوْت..بَعْد أن صُمَّت آذانهم بِأجْوبة السِّفارة في بَرْلين...
"لا وُجود لِشَخْص بهذا الإسم و المُواصفات..بَرْلين بل و ألمانيا كُلَّها تَخْلو منه"
كَيْفَ حال والدته بَعْدَ هذهِ الكَلِمات التي زَفَّت نَعْشاً وَهْمياً حَوَى رُفات ذاته المَقْتولة ؟
قَرَّرَ أن يَطْبَع بَصَمات سَبَّابَته على مِفْتاح الجَرَس مَرَّة أخيرة..إن لَم يَتَلَقَّ فيها جَواب فَسَيَعود إلى الأَرض التي شَهَدت على خَساراته و ضَياع أَحْلامه..فهي تَفْهَم وَجَعه..و تَحْفَظ مَقاسات جِراحه..لِذا سَيُسْهَل عَليها تَضْميدها..،تَقَلْقَل صَوْتُ الجَرَسَ بَيْن أَزِقَّة الصَّمْت المُتَوشِّح به الحَي..الوَقْتُ لَيْل..السَّاعة قَريبة من التَّاسِعة..اخْتارَ الظَّلام لِيَكُون سِكَّته..فَغَبَشُ عَيْناه لا يَحْتَمِل ضَوْءَ نَهار..فإشْراقة الشَّمس تَشْبه حَبيباً بَعيد..تَشْتاقه و لكن لا تستطيع لُقْياه..فَأنت تَخْشى على قَلْبك أن يَراه و لا يَحْضنه..،مَضَت ثَوانٍ لَم يَحْسبها و تاه تَرَدُّد رَنين الجَرَس بين عَرَصات مَنزلهم..و الهُم هذه ضَميرٌ لا يَشْمله بالتَّأكيد..فَالسَّنوات التي خَلَت قَد بَنَت لهُ بأكُفَّ مَصائبها مَنْزِلاً وَسَط ريف بَرْلين..مَنْزِلٌ يَنْطوي على أَحْزانه..و بَوْح أَشْجانه...،تَهَدَّلَ عَزْمُه المُهْتَرئ..تَرَاجَعت قَدَمهُ اليُمْنى للوَراء..خُطْوَة واحِدة فَقَط..أَرَادت أن تَتْبَعها اليُسْرى..لَكِنَّ صَوْتاً مُفاجئ قَاطَعها..صَوْتٌ قَريب نِسْبياً..ناتج عن فَتْح أَحَدِهم للباب الدَّاخلي..ثانِية..ثانِيَتان.. ... و في السَّادِسة انْخَفَض مِقْبض الباب الذي يَقِف أَمامه..بَصَرُهُ مُعَلَّق بِحَرَكَته و بالذي بَدَأ يَتَجَلَّى من خَلْفه..بِوُضوحٍ مُوْجِع سَطَعَت مَلامحٌ بَدَّلها الزَّمَن على غَفْلة من غِياب...مَلامِحٌ خاصَمَت الطُّفولة بَعْد أن تَعَرَّت من سَنواتها العَشْر..لِتَعْقِد صَداقة مَتينة مع الرُّجولة و الشَّباب النَّاضِج بِجاذِبَيَّة...بَرَقَ شَيْءٌ خَفي وَسَط الغَبَش المُحْتَكِر حَدَقَتيه..بَرَقَ هاتِفاً بِوَجْسٍ لَم يَلْتَقطه مَسْمَعي هذا الذي كَبَر..بَعيداً عن عَيْنه كَبَر..بَعيداً عن حُبّه..مَوَدَّته..و أُخُوَّته....،لَقَد كَبِرْتَ..و أَنا هُناك فَوْقَ وِسادة الإغْتراب..أُجَدِّلُ السِّنينَ و سَاعاتها بِأناملَ حُلْمٍ..بأن أَلْتَحِق بِسِكَّةِ طُفولتك..لِأراكَ تَنْمو زَهْراً ذو شَبابٍ يانع أَمامَ عَيْني أُخُوَّتي...لَكِنَّ الحَياةَ لا تَفْتئ أن تَسْتَهْزئ بأحلامي..فالطِّفْلُ الصَّغير قَد اسْتَوى رَجُلاً يُنافِسَني طُولاً..لَهُ شارِبٌ تَعاضَد مع شُعَيْرات ذِقْنه لِيَطْمِسان تِلْك البَراءة التي ظَلَلتُ أَحْلِمُ لُقْياها لِثَلاثةَ عَشَر عاماً..لَقَد كَبِرت عَزيزي..أصْبَحتَ رَجُلاً حَبيبي.... .. عَــلي..،
عادت القَدَمُ اليُمْنى و اسْتَقَرَّت..و الجَسَدُ قَد انْتَصَبَ باسْتِقامة مَشْدوهة..العَيْنان تَطُوفان مَلامح عَلي..كَأنَّما تُنَبِّشان عن سِنينٍ خَلَت..فَيُلْقي نَظْرة على أَطْلالٍ هي يَبابٌ افْتَقَرَ لِوُجوده...،كان يَتَأَمَّله بِصَمْتٍ و خُشوع..فاصِلاً حَواسه عن الوَقْتَ و المَكان الذي يُحاصره بِغَرابته..يُناظره مُحاولاً أن يُنْعِش نبَضات قَلْبه التي خَبَت مُذ أَسْقَمها جَليد بَرْلين..حاول لِدَقيقة كان الفَشَل يَتَذَيَّل ثَوانيها الأَخيرة..لِيُؤكّد لِذاته أن على القَلْبِ السَّلام...،
عَلي هُو الآخر كان يَنْظر..مُقلَتاه مُشَبَّعَتان بالاسْتغراب..يَتَفَحَّص هَذا الرَّجُل الغَريب الواقِف على باب دارهم بِصَمْتٍ مُوْحِش..يُثير الرَّيْبة! تَفَرَّسَ في وَجْهه ذو المَلامح الغَريبة....و القَريبة..قَريبة من القَلْب..فَنَبْضه بِلا إرادة منه قَد اسْتجاب لِوُجوده المُبْهَم..لا يَدْري هل هي اسْتجابة حَذَر..أَم اسْتِجابة لِقاء! كان لا يَزال يَقِف داخل المنزل..يُسْراه مُتَشَبِّثَة بالمِقْبض بِقُوَّة أَجَّجتها أَعْصابه..لماذا لا يدري! كانت تَفْصلهما عَتَبة مُفْرَدة..هي واقِعاً جَبَلٌ من أَعْوامٍ أَسَفاً أَنَّها لا تُهَد..أَو هي بَحْرٌ من فِراقٍ حَوَى أَسْراراً و عِتاب..كان جَديراً به أَن يُرَحّب فيه..يَسْتَفْسِر وُقوفه..و يُجيب سؤله إن وُجِد..لَكِنَّهُ على النَّقيض..اعْتراهُ شُعورٌ غَريب..اسْتَحْوَذَ على رَدَّات فِعْله و اسْتجابته..و أَحالهُ جامِداً و مُتَصَنِّماً..غير قادِر على جَرِّ حَرْفٍ لِيُفْصِح عن كَلِمة..فَحَواسه بِضَعْفٍ غَرَقَت وَسَطَ دَوَّامة الشُّعور القابِضة على قَلْبه...،
هَمْسٌ كَفَّنتهُ ثُلوج بَرْلين السَّادِية..،:عَــــلي..
قَشْعَريرة مُحَمَّلة بِوابَلٍ من غَصَّاتٍ هاجَمَته..هَرَبَت من بَيْن أَضْلعه شَهْقة قَصيـرة..وَحيدة..و خائِفة...خائِفَةٌ من واقِع قَد يَرْكِلَهُ كابوسٌ مَرير..قَبْضته نالت منها رَجْفة واضِحة..شَدَّ عَليها مُحاولاً تَثْبيط ارْتعاشها..و ذاك الهَمْسُ المُوْجِع عادَ و اسْتَقَرَّ خنجراً وَسَطَ القَلْب..،:عَـــلي
عُقْدة غامِضة تَرَبَّعت بَيْن عَيْنيه..لَحَظاتٍ فَقَط و تَجَرَّأت لِتَقْبض على مَلامحه..مُسْتَعِدَّةً لِنَثْرِ العُقَد بَيْن طَيَّاتها..،
القَمَرُ كان يَسْبحُ ببطءٍ شَديد..وَسَطَ أَمْواجٍ من سُحُب رَمادِية..طَرَّزَها المَساءُ بَيْن جَنَباتِ ثَوْبٍ قُرْمزي..ارْتَدَتهُ السَّماء بِشَفَقة على حالِ شَقيقان انْتَصَف الإغْترابُ حِكاية أُخُوَّتهما..،مُحَمَّد..الخاسر الأَكْبر..المَفْجوع على حُلْمه..عائِلته..رُجولته..و ذاته...كان أَشْجع،فَهو لَم يُفَرِّط بِفُتات الشَّوْق المُتَعَلِّق بِناصِية أَمَله المُشَوَّه..أًمَل العَوْدة لِكَنَفِ العاِئِلة التي تَرَمَّد رِباطها بِنيران غِيابه..،
نَطَق مُتَسائِلاً بِلَحْنٍ تَعَثَّرَ غَصْباً بِغَصَّاتٍ مَحْشُوَّة بأَلَمٍ مُر،:خُـــ ـوك .. .. ..نسيتني؟
انْتَصَرَت الرَّعْشة عَليه،و اتَّخَذَت ثَغْرة صَدْمته لِتَنْفذ إلى رُوحه فَتُضْعِفها..صُفِعَت أَطْرافه بالوَهْن..فَانْحَسَرت أَصابع يُسْراه كاشِفةً عن انْهيار قَبْضَته..اخْتَلَجَ صَدْره كَما أَوْتارٍ أَرْجَفَتها أَناملُ عازفٍ حَزين..بَدَأت قَدَماه تَسْلُكان مَسير النَّجاة..قاصِدَتان الخَلْف بِخُطواتٍ تَنْتَعِلُ الإخْتباء..لا يُريد أن يَسْمع صَوْته المُتَوَشِّح بِشِتاءٍ كئيب..هَمْسه المُعَرَّى من دِفء الأوْطان و حميميَّة العائلة..و بَحَّة البؤس المُتَعَكِّزة بها نِداءاته..لا يُريد أَن يَلْمَح التَّيْه المُتَلَوِّنة به عَدَسَتاه..هَيْئته التي تَعَرَّضَت لِعَوامِل تَعْرِية طَمَسَت ماضيها بَعْد أَن ألْبَسَتها حاضِراً غَريب..غَريبٌ عن ذاك...ذاك الذي كان يُسَمَّى مُحَمَّد..من كان قُدْوته عِنْد الصِّغَر..و الرَّجُل البَطَل الذي كانت تَشْرأب لهُ طُفولته انْدهاشا...لا يُريد أن يَقِف أَعْزَلاً وَسَط وَغَى سُيُوفها أُخْرِجَت من غَمَدِ الفِراق..اسْتَدارَ هارِباً من نِداء الحاجة المُتَقَوْقِع بَيْن كَلِمات شَقيقه..خَجِلاً من إفْصاحٍ قَد يَفْضَح مُعاناة سنينه الطِّوال..و باسْتِدارته قابَل والده الخارِج للتّو من الدَّاخل..اسْتَفْسَر و هُو يَقْتَرب منه،:علي شفيك تأخرت!من اللي عند الباب؟
،:يُبــــه
عَيْناه لَم تَبْرحان وَجْهَ عَلي..شَفَتاه مُطْبَقَتان بِقُوَّة تَمْنع أَي كَلِمة من الوُلوج..و .. .
،:يُبــه
تَسَلَّقَ بَصَرهُ الشُّحْنات الغَريبة المُتَكَدِّسة في الهَواء..تَسَلَّقها مُسْتَرِقاً النَّظَر على الذي بَدَأ يَقْترب..يَجُر خُطواته بِثقل إلى مَكان وُقوفهما..رَجُلٌ لَهُ طُول قامَة مُلْفِتة..عَريض المَنْكَبين و ذو سُمْرة جَذَّابة..مُقْلَتاه تَحْتَضِنان عَدَسَتان تَنْعق مِنْهما غِرْبانٌ مُتَوَشِّحة بِسَوادٍ غَامض..وَقَفَ خَلْف عَلي لِيَعُود مُنادِياً و أَهْداب عَيْنه اليُسْرى ترْتَعِش..كَأنَّما دَمْعٌ لا مَرْئي كان يُشاغبها..،:يُبـــه... "هذه المَرَّة أَكْمَل مُرْعِداً السُّكون المُحْتَضِنَهما" هذا أنا يُبه... محمد.. ..ولدك
اسْتَدار لهُ عَلي بقُوَّة مُعارِضاً نُطْقه..،:محمد مـــات..من سنين مات... لا تجذب
شَدَّت السُّخْرِية شَفَتيه..يَسْخَرُ من واقعه..من ذاته المُحَطَّمة..نعم ماتَ مُحَمَّد أَخي..دُفِنُ مُنذ أَعْوامٍ دُون كَفَنٍ و لا غُسْل..فَبَرْلين أَعادتهُ لِحَقيقة تَكْوينه..تُرابٌ بلا اسْمٍ و لا تعريف..اخْتَلَط مع أَديم أَرْضٍ أَشْفَقَت عليه و تَلَقَّفَت أَشْلاءه..فكان مَوْته..نعم أنا مَيّتٌ أخي..أَنا جَسَدٌ تُوازن تَعَثُّراته عَضَلاتٌ بَنَتها تَدريبات آستور القاسِية..أنا لَسْتُ سِوى جَسَدٌ مُجَوَّف..طَلَّقتهُ الرُّوح مُذ انْتُهِكَت رُجولته خَلْف قُضْبان زِنزانة نَتِنة..نعم أنا مَيّت و لن أَحْيا..،
،:محمَّــد !
,،
حاضِر
مَرَّت دَقيقة صَمْت..كَتِلْكَ التي تُحَلّق بَعْد انْتهاء مَعْركة دَمَوِيَّة..سُجِّلَت فيها خَسائِر عَظيمة لا تُعَوَّض..مِثال...قَلْبه..،تَشَبَّثَ بِجُل قُوَّته الوَهِنة بالشَّوْكة و السّكين..شَدَّ عَليهما مُطالباً منهما امْتصاصٍ لِلإرْتجافة التي عَبَثَت بِسُكون دَواخله..هذا الحَديث..هذا الخَبَر..أو بالأحرى..هذا الإعْتراف...نَحَر كُل فِكْرة..جَواب،أو شَك كان قَد زُرِع في تُرْبة عَقْله...عَقله الذي افْتَقَر لِحكْمته..حَذاقته و رَزانته في أَحيانٍ كَثيرة..إثْر جُحودٍ أَهْدتهُ إيّاه المَرْأة التي ظَنَّ أنَّ رُجولته قَد قُيِّدَت بها..،حاولَ أن يَزْدرد ريقه..لَكِن لَم يَجِد سوى خَواء حَجَّرتهُ الغَصَّة..تَصافَقت أهدابه بِبَعْثَرة مع هُروب عَدَسَتيه عن وَجْه عَمّه المُتَسَرْبِل بِثِقة جارِحة....ماذا يَقول! كيف لهُ أن ينطق بهذه الكَلِمات المُدَجَّجة بالخَطَر؟ و المُحَمَّلة بسوءٍ لَم يَسْتنشقه قَط..على الرَّغْمِ من سُموم والدته التي حاولت بِشَتَّى الطُّرق أن تُجَلّط بها حُب نُور الذي كان يَجْري في عُروقه..،أَخْفَضَ رَأسه قَليلاً..عَلَّق بَصره بأطرافٍ مُتَآكِلة لِصورة حَوَت اللحْظة التي اعْتَرَفت فيها نُور بكُرْهها..و بِبَحَّة يشوبها قَهَرٌ مَكْتوم..،:نُــور.. .. و.. طَلال..يــ ــ... يــحبـ ـون بعض؟
كان يَنْتظر واحدة من اثْنتان..نعم أو لا..لكن ما نَطَقَ به عَمَّه أَلْقى فِكْره لِنقطة الصّفر..مُجَدّداً،:أُمّك اللي قايلة لك هالحجي الفاضي؟
نَظَرَ لهُ من خَلْف حائِط صَبْره المُصاب بِتَصَدُّعات تُهَدّد بانْهياره..تَساءَل مُسْتَنْكِراً ذِكْره لوالدته،:شدخل أمي؟ أمي مالها دخل في موضوعنا
ارْتَفَع حاجبه بالثّقة ذاتها و كأنَّهُ كان شاهِداً على الأحاديث و الأباطيل التي كانت تُوْسوس لهُ بها والدته،:و من غيرها مُمكن يخليك تتساءل بهالسؤال!
ضَغَطَ على الذي بيده حَتَّى اصْطَبَغت أَصابعه بحُمْرة كانت بَقايا للبُرْكان المَبْصوقة حُمَمه على مَلامحه..و من بين أَسْنانه كَرَّر،:عمّــي..أمّـــي مالــها دخــل
عَقَّبَ بِنَبْرة كانت كالمِطْرقة في حِدَّتها..كَسَرت صَبْره حَتَّى فَتَّته،:أمّك هي سبب كل شي صار..هي سبب طلاقكم..و سبب غياب طَلال "أَكْمَل و حَواسه مُنْتَبِهة للشُّحوب الذي بَدَأ يَرْتَشِف لَوْنه ببطءٍ يُثير الشَّفَقة" أُمّك لعبت بصبر بنتي..نُور وصلت لمرحلة قَريبة من الوسواس...لولا رحمة الله و وجودنا حوالينها جان غرقت في الاكتئاب
الأَنْفاسُ تَشْخَبُ من رِئتيه..كان يَجْتَرَّها بصعوبة بالِغة يَنْتِج عنها صَوْتٌ أَليم..كَحِصانٍ يَنْعى فَقْدَ فارسه بِصَهيلٍ باكٍ..حَرَّكَ رَأسه مُسْتَفْسِراً بِهَمْسٍ أَهْرَمتهُ البَحَّة،:و أَنـــ ـا..ويني عن كل هذا!
أَجابَ ببساطة،:كنت مسافر..السفرة اللي بعدها طلبت نور الطلاق
وَجَفَ قَلْبُهُ بِوَهَن..و تَصَلَّبَت عِظامه من بُرودة قارِسة تَشَبَّثَت بِأطْرافه..حِمْلٌ ثَقيـــل..خانِق و صادم ذاك الذي أَلْقاهُ عَمَّه عَلى رُوحه..غير قادر على التَّصْديق..عَقْله يَرْفض أن يُنَبِّش بين الكَلِمات عن مَعانٍ للذي أَفْصَحَ عَنْه..وُجوده يَرْفض أَن تُعْجَن مَعه حَقائِق تَسَتَّرَت بِلَيالٍ غَرَقَت في دُجى لَم يُبْصِره بَيَاض قَلْبه المُشْرِق..أَسَفاً أَنَّهُ لَم يُبْصِر شيء..و أَسَفاً أَنَّهُ صَدَّقَ كُلَّ شيء.. ..كُلَّ شيء..عَلى الرَّغْمِ من أنَّ الحَقائق هَذه تُوَجِّه إصْبع اتِّهاماتها نَحْو والدته..نَحْو جَنَّته..لَكِنَّهُ صَدَّقَها..صَدَّقَ أَنَّ الجَنَّة لَها جُذُورٌ نَبَتَت منها شَجَرَة زَقُّوم تَنْضَح ثِمارها بالمَرارة..،تَرَكَت أَصابعه لِهَزَلٍ أَصابَها ما كانت مُتَشَبِّثة به.. لِيَقْبِض كَفَّيه بِشِدَّة يُخامرها ارْتجافٌ مَصْدوم..ذلك السَّفَر.. .. والدته..و نُور...وسواسٌ و اكْتئاب...هُروب طَلال..اعْتراف نُور و كُرْهها المُتَوَسِّطَ القَلْب كَما جَذْوة حارِقة..وَ أَخيراً...الفِراق الأَبَدي! ما هذا كُلّه؟ مُعادَلة مُعَقَّدة يُسْتَعْصى على عَقْله حَلَّها الآن..فالبُهوت الذي نَثَرَتهُ عليه كَلِمات عَمَّه..حالت بَيْن عَقْله و بَيْن الْتقاط الأفْكار..أَعْصابه أَصابَها مَسٌّ من ارْتباك..عَرَّاها من انتظامها حَتَّى باتت تَتَخَبَّط بِتَيْه..غير قادِرة على نَقْل وَ لو نِصْف إشارة..وَ كَأنَّها قَد أَضَاعت طَريقها..،
،:عَبْدالله
أَسْبَلَ جِفْنيه مُخَبِّئاً سُفُن الإنْكسار التي بَدَأت بالرَّسو عِنْد شاطئ حَوَره...يا لَهُ من ساذِج..غَبي و سَهل الخِداع..لَم يُنَبِّش فيما مَضَى..لَم يَصْنَع من تَسَاؤلاته مِنْظاراً هُو به يَكْتَشِف خَبايا حِكايته..كُلُّ الذي فَعَله..عِتابٌ جَرَّاهُ لِسانه الفَقير من كَلِمات عَلى مَسْمَعي نُور التي صُمَّت أٌذُنَيها من نَحيبٍ احْتَكَر حنجرتها..عاتَبها بِهَمَساتٍ تَيَتَّمَت من حُب وَهْمي..عَرَضَ عَليها ذِكْريات السّنين القّصيرة التي جَمَعتهما..أَطَّر لَوْحات السَّعادة المَرْسومة بأَنامل عَيْشهما الرَّغيد..لَكِنَّها كَسَرتهم..كَسَرت اللَّوْحَات..و أَرْمَدَت أَلْوان الفَرَح بنيران فِراقها..نَبَذَته..نَبَذَت حُبّه..كَلِماته..قُبْلاته..و نَبَذَت رُجولته..نَبَذَته لِلَحد الذي تَضَخَّم منهُ القَلْبَ هَضيمةً على ظُلْمها لِذاته..هُو بالكاد اسْتطاع أن يُوازن ذاته لِيَعُودَ رَجُلاً يَسْتطيع المَضْي بِلا هَمَسات أُنْثَوِيَّة تُيَسِّر لهُ طَريق الحَياة..و الآن..و بعد مَضي عامان..تِلْك التي نَبَذَته..ظَلَمتهُ و جَرَحته... كانت شَريكته في النَّبْذِ و الظُّلْمِ و الجُرْح!
،:عبد الله قاعد أكلمك!
أَرْجَعَ ظَهْره لِلخَلْفِ مُسْتَنِداً..كَأَنَّهُ باسْتناده يَهْربُ من الحَقائق النَّاظِرة لَهُ بِمَكْرٍ انْبَجَسَ منهُ غَثَيان في صَدْره..ارْتَفَع صَدْره باخْتِلاجاتٍ تَحْكي ضِعْفاً و ضَياع..أَخْفَضَهُ بَعْدَ أَن تَكَدَّسَ الهواء بَيْن أَضْلعهُ بِقِلَّة حيلة..فالرُّوح تَأبى أن تَسْتَنْشِق هَواءً تُسَمّمهُ الحَقيقة المُرَّة...هَمَسَ و حَدَقَتاه تَتَعَثَّران بِحيرة أَسْفَل أَهْدابه الكَثيفة..،:عمّــ ـي..أنا مو..مو..فاهم شي!
تَنْهيدة مُشَوَّشَة الشُّعور غادَرَت صَدْرَ عَمَّه..لَم يَسْتَطِع أن يُتَرْجِم فَحْواها..أَهي تَنْهيدة تَعَب..قَهَر..قَلَق..أَم انْكسار!..رُبَّما لأنَّه في اللحْظة هذه قَد فَقَد أَي قُدْرة تُعينه على تَرْجمة الواقع..يَشْعُر بِأنَّه غريب عن هذه الأَرْض و عن هذه الأَجْواء..وَ كَأنَّ السَّمَاء قَذَفته من عالَمٍ مُبْهَم،تَسْبَح أَجْزاؤه في اللاوُجود..إلى أَرْضٍ تَحْكي بِلُغَةٍ يُسْتَعْصى على ذاته اجْتراعها..لُغَة الحَقيقة الآسِنة..،
عَمّهُ نَطَقَ و هُو يَلْحَظ انْتباهه المُخْتَبئ خَلْف التَّوَتُّر،:اسمعني عَبْدالله "أَفْرَغَ فَرْداً من تَناهيد زَرَعَ تشَعُّباً مَكْدواًد في صَدْره ثُمَّ أَرْدَفَ بِلَحْنٍ يُمازجهُ عَطْفٌ جَلي" إنت ولدي قبل لا تكون ولد أخوي..إنت بحسبة فيصل..اللي ما أرضاه لولدي ما أرضاه لك..ما أرضى إنّك تكون ضحية ماضي "هُو الآخر أَرْجَعَ ظَهْره مُسْتَنِداً مع انْقِباض ذراعيه فَوْق صَدْره..كَأنهُ يَسْجُنُ كَلِمات لا يُجوزُ لها الوُلوج" أُمّك ما كانت تبي زواجك من نور و إنت أكثر واحد تدري..صَحيح إنها في النهاية رَضَخَت لِرَغبتك..بس ظَلَّت حابسة رَفضها لين ما فَجَّرته قبل سنتين.. ..استغلت قُرب نُور وَ طَلال في الماضي..و استغلت غيابك...و....
صَمَت لِثَوانٍ و في جَوْفه قَطَفَ الصَّوْتُ بِتِلَّاتٍ من حَرير..دَثَّرَ بِها الكَلَمات لِكَي لا تَكون أَشْواكٌ تَنْغَرِس في جَواه..ذلك الجَوى الذي أَحَبَّ طَلال..و نُور...أَفْصَح و عَيْناه مُتَشَبِّثَتان بِمَلامح ابن أَخيه،:و اســتغلت.. .. حُب طَلال...لنُور
رَفْرَفَت أَهْدابُ يُسْراه كَما جِنْحِي طَيْرٍ أَسْيان..داعَبَ حُزْنَهُ نايٌ مَبْحوح الأَلْحان..مالَت شَفَتاه عَلى صَفيحٍ يَسْعَرُ بالسُّخْرِيَة...سُخْرِيَة مَريرة هُو بِها يَنْدُبُ عَماهُ و سَذَاجَته...و بِبِحَّة مَذْبوحة،:خالي..كـ ـا..يـ ـ حــ... ..يحـ ـب.. .. زوجتـ ـي!.. . يحـــبها! "اسْتَطْرَدَ وِ لِسانهُ يَلوكُ الكَلِماتُ قَهَراً" توّك.. .. قبل دقايق قلت...قـــلت إنّــه حَجي فاضي!! "شَخَرَ بِسُخْرِية مُهْتَرِئة و هُو يَرْفع كَتِفه مُرْدِفاً" ولَّا بس لأن الكلام طلع من أمي صار فاضي!
أَجابَ بِهُدوء مُتَفَهِّماً تَخَبُّط أَدَبه من الصَّدْمة،:أُمّك مَقْصدها من هالحجي السُّوء..قصدها تطعن شرف بنتي و شرف خالك "أَكْمَلَ و الغُموضُ يَصْبَغ كَلِماته بِسَوادٍ مُطْمَسَ..لا يَحْوي جَواب" حتى لو كَلَّفها الأمر إنها تتعَدَّى على دينها..و السبب بسيــط... ....الماضي
تَساءَل و هُو الذي يَخْتَنِق بَين أَمْواجٍ مُتَلاَطِمة من الأَسْئِلة،:أي ماضــي؟!
فَكَّ عُقْدَة ذِراعيه مُجيباً بِتَنْهيدة جَديدة،:ما أقدر أقول شي زيادة..أمّك اللي لازم تقول و تتحجى "أَخْفَضَ رَأسه قَليلاً جِدَّاً..لِيَنْظُر لَهُ من أَسْفل جِفْنَيه مُواصِلاً عَقْدَ الحَيرة في نَفْسِ عَبْدالله" مابي أكون الشخص اللي يفرق بين أم و ولدها..
شَهَقَت الغَصَّة في حَلْقه..و انْتَصَفَ مُقْلَتاه بَرْقٌ أَضاء لِلَحْظة زاوِية مُعْتِمة في خَياله..رَأى نَفْسه مُتَكَوَّراً فيها.. و عَلى شَفَتَيه ماتَ عِتابٌ أن لِمَ أُمَّاه....لِمَ فَعَلتِ ذلك! ازْدَرَد ريقه باخْتناقٍ بَدَأ يَشْتَد..زاغت عَيْناه مع احْتلال الإرْتباك أَطْرافه..زَمْجَرَت نَبَضات قَلْبه حَتَّى شَعَر بأن حُجْراته هالِكة لا مَحالة..زَمْجَرَت تُحَذّره من فَتْحِ أَبْوابٍ أَنْحَر الصَّدَأُ أَقْفالها..فَلا تَعْلَمُ حَجْمَ القُبْحِ الذي قَد يَنْهَشَ عَيْشَك عَبْدالله..لذا احْذَر..احْذَر من ماضٍ تَجْهَله..،
تَمْتَمَ وَ بَصَرهُ يُعانِقُ الفَراغَ بانْهِزامٍ و تَسْليم..تَمْتَمَ و كَلِماته تَخُط قَصيدة غَباءَه،:غيداء عندها حجي..نُور عندها حجي..عمّي..و أمّــي. .. وطَلال... طـ ـ..طــَلال " نَظَرَ لِعَمّه مُكَرِّراً بِلَحْنِ سُؤال" طَلال!
ناصِر أَجابَ عَلى حَذاقة ابن أخيه،:طَلال وَصَّاني عليه جدّك الله يرحمه..و بما إنّه جاني يبي الإسْتقرار و يبي يعيش الحَياة اللي انحرم منها..و اللي أنا شاركت في حرمانه منها..قَرَّرت أَصَحّح غلطة السنين اللي راحت..قَرَّرت أهديه و أهدي بنتي الرَّاحة اللي فقدوها.. ...خَطَبت نُور له..خَطبتها له عبدالله..كلمتهم..كلمت الإثنين..و ناقشت الإثنين..و الإثنين ما فارق لسانهم اسم واحد.. ....اسمك...عبدالله
وَقَف فَجْأة..باسْتقامة ماهي إلا تَصَلُّبٌ الْتَبَسَه مُذ أُشْعِلَ عُود ثِقاب الحَقيقة الأولى..و ها هي الأعواد تَتَعاقب عَلى رُوحه لِتُشْعِل ناراً لاتَفْتئ أن تَزيد اهْتياجا..نارٌ لا يدري هل يَحْرق بها حُب خاله و طَليقته؟ أم يُرْمِد بها مُروج الزُّهور التي تَنْمو بين حَنايا جَنَّته المُتَسَرْبِلة بالدَّمار!
سُؤالٌ مُسْتَفْسِر غادَرَ من قَلْب ناصِر المُثْقَل و هُو يَنْظر لِبُرْكانه الأَبْكَم،:وين بتروح عبدالله؟
ذاك المَصْدوم..المَكْسور...و المَخْذول من أَحِبَّائه..أَجاب و الضَّياع يُعَثِّر صَوْته،:بــ ــروح....بروح له..طَلال... لازم.. .. لازم اكلمـ ـه
,،
يَتْبَع