ضامية الشوق
12-30-2019, 07:14 PM
كراهية وقف الرجل لماله كله، بل يقف أسهماً ويُمسك أخرى:
قال البخاري في صحيحه: "باب إذا تصدق، أو أوقف بعض ماله، أو بعض رقيقه، أو دوابه، فهو جائز"، ثم خرج (2757) عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك"، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر"، يبين ذلك الحديثان التاليان:
دليل أو الدليل الخامس عشر:
وفيه أنه لا ينبغي للمرء أن يقف في قوام عيشه، بل يقف فيما فَضَل عنه: استدلالاً بما خرجه ابن حزم في المحلى (9/178) عن ابن وهب حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ومحمد وعبد الله ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كلهم عن أبي بكر بن محمد قال: "إن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إن حائطي هذا صدقة وهو إلى الله ورسوله، فجاء أبواه فقالا: يا رسول الله، كان قوام عيشنا فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ماتا فورثهما ابنهما" زاد بعضهم "موقوفة"، تابعه الحميدي عن سفيان به عن أبي بكر بن محمد عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أري النداء، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:..."، خرجه عنه الحاكم (3/379) وفيه إرسال كما قال الذهبي، لكن يشهد له ويبينه الحديث التالي:
الدليل السادس عشر:
وفيه مشروعيةُ خروج الوقفِ على سبيل الوصية، وإبطاله إذا أضر بالورثة أو زاد عن الثلث: وقد تقدمت هذه المسألة وأن ابا حنيفة يحمل الوقف على الوصية، وأن الصواب هو لزوم الوقف مباشرة إذا أطلقه صاحبه، لأنه لا يُقبض، ولا هو ملك لشخص معين حتى يقبضه، وأما إذا قيده بما بعد الموت فهو على ما قيّد، لكن فيما دون الثلث:
برهان ذلك ما خرجه البخاري في الصحيح (2742) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال: "يرحم الله ابن عفراء"، قلت: يا رسول الله، أوصي بمالي كله؟ قال: "لا"، قلت: فالشطر، قال: "لا"، قلت: الثلث، قال: "فالثلث، والثلث كثير، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك، وعسى الله أن يرفعك، فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون"..، وفي رواية قال: فأوصى الناس بالثلث، وجاز ذلك لهم".
وقد كان هذا الوقف بمكة عام حجة الوداع، وإنما قدمته هنا لتناسبه مع الذي قبله، ومما يبين أنه كان عام حجة الوداع ما خرج البخاري (4409) عن مالك عن ابن شهاب عن عامر بن سعد عن أبيه قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، من وجع أشفيت منه على الموت.."، فذكر الحديث، قال ابن عبد البر في الاستذكار (7/270): "هكذا قال جماعة أصحاب بن شهاب في هذا الحديث، جاء رسول الله يعودني عام حجة الوداع كما قال مالك، إلا بن عيينة فإنه قال فيه عام الفتح فأخطا في ذلك"، وقد دل هذا الحديثُ على منع التصدق بأكثر من ثلث المال، فمن فعل فينفذ فيما دون الثلث فقط، وأما من وقف وتعسّف ليمنع بعض الورثة أو يضر بهم فوقْفُه مردود:
لما خرجه الضبي في أخبار القضاة (2/259) من طريق حماد بْن زيد قال: حَدَّثَنَا عطاء بْن السائب قال: سألت شريحاً فقلت: يا أبا أمية أفتني؟ قال: إني لست أفتي، ولكن أقضي؛ قلت رجل حبس داره على ولده، قال: لا حبس عَن فرائض الله".
الدليل السابع والثامن عشر:
وفيه الوقف في العقار والحوائط والآبار لأن ذلك من أعمال البر، وهو دليل مركب من آية وحديث: قال البخاري في صحيحه: "باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز، وكذلك الصدقة"، ثم خرج (2769) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، أحب ماله إليه بيرحاء مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله، فقال: "بخ، ذلك مال رابح أو رايح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين"، قال أبو طلحة: أفعل ذلك يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه"، وكذلك خرجه مسلم (998)، وخرجه أبو بكر في المصنف (4/350) عن أنس أن أبا طلحة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني جعلت حائطي لله ولو استطعت أن أخفيه فما أظهر به فقال صلى الله عليه وسلم:" اجعله في فقراء أهلك".
وخرجه ابن حبان (الزوائد 213) باب فيمن وقف شيئاً ولم يسم مصرفه، من طريق ثابت عن أنس قال لما نزلت هذه الآية ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ قال أبو طلحة يا رسول الله إن الله يسألنا من أموالنا فإني أشهدك أني قد جعلت أرضي وقفا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلها في قرابتك" فقسمها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب".
الدليل التاسع عشر:
وفيه وقف الآبار أيضا - وقد مضى ذلك -: خرجه البخاري (2769) وابن شبة في تاريخه (1/157) من طريق إسحاق بن عبد الله عن أنس رضي الله عنه قال: "كان أبو طلحة رضي الله عنه أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بئر حاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فتصدق بها أبو طلحة رضي الله عنه"، قال المطري في الهجرة (155): "وتعرف الآن بالنويرية، اشتراها بعض نساء النويريين ووقفها على الفقراء والمساكين والواردين والصادرين لزبارة سيد المرسلين".
الدليل العشرون:
وفيه الوقف في السلاح والعتاد ووسائل الركوب: تقدم ما خرجه مسلم (1757) عن عمر بن الخطاب قال:" "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح، عدة في سبيل الله".
20: وقال البخاري "باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت"، ثم خرج (2775) عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر حمل على فرس له في سبيل الله أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحمل عليها رجلا، فأخبر عمر أنه قد وقفها يبيعها، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاعها، فقال: "لا تبتعها، ولا ترجعن في صدقتك".
دليل أو الدليل الحادي والعشرون:
وفيه - إضافةً لما سبق - أن ما تولد من الوقف يبقى له حكم الوقف أبدا: فخرج ابن ماجه (2393) عن يزيد بن هارون عن سليمان التيمي أبي عثمان النهدي عن عبد الله بن عامر عن الزبير بن العوام أنه حمل على فرس يقال له غمر أو غمرة فرأى مهرا أو مهرة من أفلائها يباع، ينسب إلى فرسه فنهي عنها "، تابعه يزيد بن زريع وابن المبارك عن التيمي.
وهو حديث فيه اضطراب: فقد خالفهم يحيى القطان فرواه عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن عباس، بدل عبد الله بن عامر عن ابن الزبير.
وكذلك رواه عاصم بن سليمان الأحول عن أبي عثمان النهدي عن ابن عباس: أن الزبير حمل علي فرس... واختلف فيه على عاصم أيضاً:
لكن رواه يونس بن محمد عن حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن ابن عامر أن الزبير حمل على فرس.."، كما قال يزيد ومن معه، خرجه عنه الضياء في المختارة (871)، وقد خالفه سريج بن النعمان فقال: حدثنا حماد عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن ابن عباس:.."، خرجه عنه الطحاوي في المشكل (13/24) بلفظ: "عن ابن عباس: أن الزبير حمل على فرس في سبيل الله، فوجد فرسا يباع من ضئضئها، يعني ولد ولدها، فنهي أن يشتريها".
وأما لفظ البزار عن سريج: "أن الزبير حمل على فرس فأضاعه صاحبه فأراد الزبير أن يشتريه فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعود في صدقته".
قال الدارقطني في العلل (4/ 246):
"وكذلك قال يحيى القطان عن سليمان التيمي بموافقة عاصم، وقيل: عن عاصم الأحول عن أبي عثمان عن عياش أن الزبير..".
وخالفهم مؤمل بن إسماعيل وهو ضعيف فرواه عن شعبة عن عاصم الأحول عن أبي عثمان عن عمر بن الخطاب قال: أعطيت ناقة في سبيل الله.."، فأدمجه في حديث عمر السابق ووهم فيه.
الدليل الثاني والعشرون:
وفيه الوقف في السلاح أيضا: خرجه البخاري (1468) ومسلم (983) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقيل منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، وعباس بن عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ".. وأما خالد: فإنكم تظلمون خالدا، قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله.."، ذكرت هذا الحديث هنا في هذه المرحلة لتأخر إسلام خالد، فقد قال الوقدى: أسلم أول يوم من صفر سنة ثمان، وشهد مؤتة وانتهت إليه الإمارة يومئذ عن غير إمرة، ونقل في فتوح الشام عن خالد قال: أحبسُ على الجهاد في سبيل الله ولا أبخل على الله ورسوله فلعل الله أن ينجيني من النار ويرزقني الشهادة".
الدليل الثالث والعشرون:
وفيه الوقف في الحائط والبستان والأشجار وجعل غلة ذلك في سبيل الله: برهان ذلك ما قاله البخاري في الصحيح: "باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز، وكذلك الصدقة"، ثم خرج (ر2770) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمه توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم"، قال: فإن لي مخرافا وأشهدك أني قد تصدقت به عنها"، وفي رواية غير البخاري: "مخرفا"، وهو البستان.
دليل أو الدليل الرابع والعشرون:
وفيه التصدق بالرباع والبيوت والاستثمار فيها والإشهاد على ذلك: كما خرج الحاكم (3/574) وابن سعد في الطبقات (3/242) من طريق الواقدي عن عثمان بن هند بن عبد الله بن عثمان بن الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي قال: أخبرني أبي عن يحيى بن - عمران - عثمان بن الأرقم حدثني جدي عثمان بن الأرقم أنه كان يقول: أنا ابن سبع الإسلام، أسلم أبي سابع سبعة، وكانت داره على الصفا وهي الدار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون فيها في الإسلام، وفيها دعا الناس إلى الإسلام، فأسلم فيها قوم كثير، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاثنين فيها: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام"، فجاء عمر بن الخطاب من الغد بكرة، فأسلم في دار الأرقم، وخرجوا منها وكبروا وطافوا بالبيت ظاهرين، ودعيت دار الأرقم دار الإسلام، وتصدق بها الأرقم على ولده، فقرأت نسخة صدقة الأرقم بداره: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قضى الأرقم في ربعه ما حاز الصفا، أنها صدقة بمكانها من الحرم لا تباع، ولا تورث شهد هشام بن العاص، وفلان مولى هشام بن العاص، قال: فلم تزل هذه الدار صدقة قائمة فيها ولده يسكنون ويؤاجرون ويأخذون عليها حتى كان زمن أبي جعفر"،.. قال ابن الهمام: "أخرج الحاكم بسند فيه الواقدي وهو حسن عندنا"، وهو كما قال، وهذا الوقف متأخر فيما أرى - والله أعلم - لأمور:
إحداها: أنه وقف غير مشهور ضمن الأوقاف الأولى كما هو الحال في وقف مخيريق وعمر.
والثاني: أن الشاهد على هذا الوقف في الأرجح هو هشام بن العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم المخزومي، وليس ابن وائل السهمي أخو عمرو بن العاص لأن المخزمي هو أحد بني عمومة الأرقم، فإن اسمه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، واسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي، وإن كانت أمه من بني سهم، لأن هذا وقف ذري في القرابة، والغالب أن يَشْهد عليه الأقربون وهم بنو العمومة، وإذ ذلك كذلك وكون الأمر كذلك، فإن هشاماً المخزومي الشاهد على الوقف، متأخر الإسلام، لم يسلم إلا بعد فتح مكة كما قال ابن عبد البر في الاستعاب من ترجمته: "هو الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وكشف عن ظهره ووضع يده على خاتم النبوة فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فأزالها ثم ضرب في صدره ثلاثاً وقال اللهم اذهب عنه الغل والحسد ثلاثاً".
ثم وجدت ذلك صريحًا فيما خرجه ابن شبة (1/244) عن الواقدي قوله: "واتخذ هشام بن العاص بن هشام بن المغيرة داره التي بين دار عبد الله بن عوف الزهري التي بالبلاط، وبين دار عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فهي بأيدي ولده إلى اليوم صدقة عليهم".
دليل أو الدليل الخامس والعشرون:
وفيه إلحاق دور مكة بالأوقاف والله أعلم، وفي ذلك خلاف، فخرج أبو نعيم في معرفة الصحابة (4/1793) من طريق حذيفة ثنا سفيان عن عمر بن سعيد عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال: كانت دور مكة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر تدعى السوائب من احتاج سكن، ومن استغنى سكن، لا تباع، ولا تورث"، قال: "ذكره من حديث الفريابي عن سفيان فقال: عبد الله بن نضلة، وقال: رواه معاوية بن هشام عن سفيان وقال: علقمة بن نضلة، وهو الأصح"، وعن مجاهد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع رباع مكة، وعن أجر بيوتها".
قال البخاري في صحيحه: "باب إذا تصدق، أو أوقف بعض ماله، أو بعض رقيقه، أو دوابه، فهو جائز"، ثم خرج (2757) عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك"، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر"، يبين ذلك الحديثان التاليان:
دليل أو الدليل الخامس عشر:
وفيه أنه لا ينبغي للمرء أن يقف في قوام عيشه، بل يقف فيما فَضَل عنه: استدلالاً بما خرجه ابن حزم في المحلى (9/178) عن ابن وهب حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ومحمد وعبد الله ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كلهم عن أبي بكر بن محمد قال: "إن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إن حائطي هذا صدقة وهو إلى الله ورسوله، فجاء أبواه فقالا: يا رسول الله، كان قوام عيشنا فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ماتا فورثهما ابنهما" زاد بعضهم "موقوفة"، تابعه الحميدي عن سفيان به عن أبي بكر بن محمد عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أري النداء، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:..."، خرجه عنه الحاكم (3/379) وفيه إرسال كما قال الذهبي، لكن يشهد له ويبينه الحديث التالي:
الدليل السادس عشر:
وفيه مشروعيةُ خروج الوقفِ على سبيل الوصية، وإبطاله إذا أضر بالورثة أو زاد عن الثلث: وقد تقدمت هذه المسألة وأن ابا حنيفة يحمل الوقف على الوصية، وأن الصواب هو لزوم الوقف مباشرة إذا أطلقه صاحبه، لأنه لا يُقبض، ولا هو ملك لشخص معين حتى يقبضه، وأما إذا قيده بما بعد الموت فهو على ما قيّد، لكن فيما دون الثلث:
برهان ذلك ما خرجه البخاري في الصحيح (2742) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال: "يرحم الله ابن عفراء"، قلت: يا رسول الله، أوصي بمالي كله؟ قال: "لا"، قلت: فالشطر، قال: "لا"، قلت: الثلث، قال: "فالثلث، والثلث كثير، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك، وعسى الله أن يرفعك، فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون"..، وفي رواية قال: فأوصى الناس بالثلث، وجاز ذلك لهم".
وقد كان هذا الوقف بمكة عام حجة الوداع، وإنما قدمته هنا لتناسبه مع الذي قبله، ومما يبين أنه كان عام حجة الوداع ما خرج البخاري (4409) عن مالك عن ابن شهاب عن عامر بن سعد عن أبيه قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، من وجع أشفيت منه على الموت.."، فذكر الحديث، قال ابن عبد البر في الاستذكار (7/270): "هكذا قال جماعة أصحاب بن شهاب في هذا الحديث، جاء رسول الله يعودني عام حجة الوداع كما قال مالك، إلا بن عيينة فإنه قال فيه عام الفتح فأخطا في ذلك"، وقد دل هذا الحديثُ على منع التصدق بأكثر من ثلث المال، فمن فعل فينفذ فيما دون الثلث فقط، وأما من وقف وتعسّف ليمنع بعض الورثة أو يضر بهم فوقْفُه مردود:
لما خرجه الضبي في أخبار القضاة (2/259) من طريق حماد بْن زيد قال: حَدَّثَنَا عطاء بْن السائب قال: سألت شريحاً فقلت: يا أبا أمية أفتني؟ قال: إني لست أفتي، ولكن أقضي؛ قلت رجل حبس داره على ولده، قال: لا حبس عَن فرائض الله".
الدليل السابع والثامن عشر:
وفيه الوقف في العقار والحوائط والآبار لأن ذلك من أعمال البر، وهو دليل مركب من آية وحديث: قال البخاري في صحيحه: "باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز، وكذلك الصدقة"، ثم خرج (2769) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، أحب ماله إليه بيرحاء مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله، فقال: "بخ، ذلك مال رابح أو رايح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين"، قال أبو طلحة: أفعل ذلك يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه"، وكذلك خرجه مسلم (998)، وخرجه أبو بكر في المصنف (4/350) عن أنس أن أبا طلحة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني جعلت حائطي لله ولو استطعت أن أخفيه فما أظهر به فقال صلى الله عليه وسلم:" اجعله في فقراء أهلك".
وخرجه ابن حبان (الزوائد 213) باب فيمن وقف شيئاً ولم يسم مصرفه، من طريق ثابت عن أنس قال لما نزلت هذه الآية ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ قال أبو طلحة يا رسول الله إن الله يسألنا من أموالنا فإني أشهدك أني قد جعلت أرضي وقفا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلها في قرابتك" فقسمها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب".
الدليل التاسع عشر:
وفيه وقف الآبار أيضا - وقد مضى ذلك -: خرجه البخاري (2769) وابن شبة في تاريخه (1/157) من طريق إسحاق بن عبد الله عن أنس رضي الله عنه قال: "كان أبو طلحة رضي الله عنه أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بئر حاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فتصدق بها أبو طلحة رضي الله عنه"، قال المطري في الهجرة (155): "وتعرف الآن بالنويرية، اشتراها بعض نساء النويريين ووقفها على الفقراء والمساكين والواردين والصادرين لزبارة سيد المرسلين".
الدليل العشرون:
وفيه الوقف في السلاح والعتاد ووسائل الركوب: تقدم ما خرجه مسلم (1757) عن عمر بن الخطاب قال:" "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح، عدة في سبيل الله".
20: وقال البخاري "باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت"، ثم خرج (2775) عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر حمل على فرس له في سبيل الله أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحمل عليها رجلا، فأخبر عمر أنه قد وقفها يبيعها، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاعها، فقال: "لا تبتعها، ولا ترجعن في صدقتك".
دليل أو الدليل الحادي والعشرون:
وفيه - إضافةً لما سبق - أن ما تولد من الوقف يبقى له حكم الوقف أبدا: فخرج ابن ماجه (2393) عن يزيد بن هارون عن سليمان التيمي أبي عثمان النهدي عن عبد الله بن عامر عن الزبير بن العوام أنه حمل على فرس يقال له غمر أو غمرة فرأى مهرا أو مهرة من أفلائها يباع، ينسب إلى فرسه فنهي عنها "، تابعه يزيد بن زريع وابن المبارك عن التيمي.
وهو حديث فيه اضطراب: فقد خالفهم يحيى القطان فرواه عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن عباس، بدل عبد الله بن عامر عن ابن الزبير.
وكذلك رواه عاصم بن سليمان الأحول عن أبي عثمان النهدي عن ابن عباس: أن الزبير حمل علي فرس... واختلف فيه على عاصم أيضاً:
لكن رواه يونس بن محمد عن حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن ابن عامر أن الزبير حمل على فرس.."، كما قال يزيد ومن معه، خرجه عنه الضياء في المختارة (871)، وقد خالفه سريج بن النعمان فقال: حدثنا حماد عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن ابن عباس:.."، خرجه عنه الطحاوي في المشكل (13/24) بلفظ: "عن ابن عباس: أن الزبير حمل على فرس في سبيل الله، فوجد فرسا يباع من ضئضئها، يعني ولد ولدها، فنهي أن يشتريها".
وأما لفظ البزار عن سريج: "أن الزبير حمل على فرس فأضاعه صاحبه فأراد الزبير أن يشتريه فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعود في صدقته".
قال الدارقطني في العلل (4/ 246):
"وكذلك قال يحيى القطان عن سليمان التيمي بموافقة عاصم، وقيل: عن عاصم الأحول عن أبي عثمان عن عياش أن الزبير..".
وخالفهم مؤمل بن إسماعيل وهو ضعيف فرواه عن شعبة عن عاصم الأحول عن أبي عثمان عن عمر بن الخطاب قال: أعطيت ناقة في سبيل الله.."، فأدمجه في حديث عمر السابق ووهم فيه.
الدليل الثاني والعشرون:
وفيه الوقف في السلاح أيضا: خرجه البخاري (1468) ومسلم (983) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقيل منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، وعباس بن عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ".. وأما خالد: فإنكم تظلمون خالدا، قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله.."، ذكرت هذا الحديث هنا في هذه المرحلة لتأخر إسلام خالد، فقد قال الوقدى: أسلم أول يوم من صفر سنة ثمان، وشهد مؤتة وانتهت إليه الإمارة يومئذ عن غير إمرة، ونقل في فتوح الشام عن خالد قال: أحبسُ على الجهاد في سبيل الله ولا أبخل على الله ورسوله فلعل الله أن ينجيني من النار ويرزقني الشهادة".
الدليل الثالث والعشرون:
وفيه الوقف في الحائط والبستان والأشجار وجعل غلة ذلك في سبيل الله: برهان ذلك ما قاله البخاري في الصحيح: "باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز، وكذلك الصدقة"، ثم خرج (ر2770) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمه توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم"، قال: فإن لي مخرافا وأشهدك أني قد تصدقت به عنها"، وفي رواية غير البخاري: "مخرفا"، وهو البستان.
دليل أو الدليل الرابع والعشرون:
وفيه التصدق بالرباع والبيوت والاستثمار فيها والإشهاد على ذلك: كما خرج الحاكم (3/574) وابن سعد في الطبقات (3/242) من طريق الواقدي عن عثمان بن هند بن عبد الله بن عثمان بن الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي قال: أخبرني أبي عن يحيى بن - عمران - عثمان بن الأرقم حدثني جدي عثمان بن الأرقم أنه كان يقول: أنا ابن سبع الإسلام، أسلم أبي سابع سبعة، وكانت داره على الصفا وهي الدار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون فيها في الإسلام، وفيها دعا الناس إلى الإسلام، فأسلم فيها قوم كثير، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاثنين فيها: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام"، فجاء عمر بن الخطاب من الغد بكرة، فأسلم في دار الأرقم، وخرجوا منها وكبروا وطافوا بالبيت ظاهرين، ودعيت دار الأرقم دار الإسلام، وتصدق بها الأرقم على ولده، فقرأت نسخة صدقة الأرقم بداره: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قضى الأرقم في ربعه ما حاز الصفا، أنها صدقة بمكانها من الحرم لا تباع، ولا تورث شهد هشام بن العاص، وفلان مولى هشام بن العاص، قال: فلم تزل هذه الدار صدقة قائمة فيها ولده يسكنون ويؤاجرون ويأخذون عليها حتى كان زمن أبي جعفر"،.. قال ابن الهمام: "أخرج الحاكم بسند فيه الواقدي وهو حسن عندنا"، وهو كما قال، وهذا الوقف متأخر فيما أرى - والله أعلم - لأمور:
إحداها: أنه وقف غير مشهور ضمن الأوقاف الأولى كما هو الحال في وقف مخيريق وعمر.
والثاني: أن الشاهد على هذا الوقف في الأرجح هو هشام بن العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم المخزومي، وليس ابن وائل السهمي أخو عمرو بن العاص لأن المخزمي هو أحد بني عمومة الأرقم، فإن اسمه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، واسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي، وإن كانت أمه من بني سهم، لأن هذا وقف ذري في القرابة، والغالب أن يَشْهد عليه الأقربون وهم بنو العمومة، وإذ ذلك كذلك وكون الأمر كذلك، فإن هشاماً المخزومي الشاهد على الوقف، متأخر الإسلام، لم يسلم إلا بعد فتح مكة كما قال ابن عبد البر في الاستعاب من ترجمته: "هو الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وكشف عن ظهره ووضع يده على خاتم النبوة فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فأزالها ثم ضرب في صدره ثلاثاً وقال اللهم اذهب عنه الغل والحسد ثلاثاً".
ثم وجدت ذلك صريحًا فيما خرجه ابن شبة (1/244) عن الواقدي قوله: "واتخذ هشام بن العاص بن هشام بن المغيرة داره التي بين دار عبد الله بن عوف الزهري التي بالبلاط، وبين دار عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فهي بأيدي ولده إلى اليوم صدقة عليهم".
دليل أو الدليل الخامس والعشرون:
وفيه إلحاق دور مكة بالأوقاف والله أعلم، وفي ذلك خلاف، فخرج أبو نعيم في معرفة الصحابة (4/1793) من طريق حذيفة ثنا سفيان عن عمر بن سعيد عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال: كانت دور مكة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر تدعى السوائب من احتاج سكن، ومن استغنى سكن، لا تباع، ولا تورث"، قال: "ذكره من حديث الفريابي عن سفيان فقال: عبد الله بن نضلة، وقال: رواه معاوية بن هشام عن سفيان وقال: علقمة بن نضلة، وهو الأصح"، وعن مجاهد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع رباع مكة، وعن أجر بيوتها".