إرتواء نبض
12-18-2019, 09:39 PM
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
تَوَكَّلتُ على الله
الجزء الخامس و الأَرْبعون
الفَصْل الثَّاني
ماضٍ
انْتَظَرَهُ لأَيَّامٍ و لم يأتِ..سَألَ عنه..بَحَثَ عن آثار خُطواته بين تَشَقٌّقات أَرْضٍ صَمَّاء..بَكَى في زاوِيَة غُرْفَته مُعْتَقِداً
بقَلْبه البَريء أنَّ دُموعه ستَصْرُخ ليَسْمعها ذاك الغائب فيأتي..لكنَّ النَّهار انْقَضى..و اللَّيْلُ نَشَرَ أَذْرُعهُ المُطْمَسَة من السَّواد..و القَمَرُ تَلاَشى ضَوْؤه خُذْلاناً،حَتَّى اسْتوى دُخاناً يَذْوي مع انْتِحار السَّاعات المُنْتظِرة إقْباله..و لم يأتِ،هُو اشْتاقه..اشْتاقَ لِلسانٍ لا يَنْهَره..و لِيَدٍ تُرَبّت بمَلَقٍ على ظَهْره لا تَصْفَع خَدَّه اليَتيم..و اشْتاقَ إلى ابْتسامة تَرْتَدي حَناناً غَريباً..ليس حَنان والدٍ و لا والِدة..و إنَّما حَنانٌ يَتَسَرْبَل بحُبٍ أَصْفى من نَهْرٍ عَذْب..و كأنَّه بعَيْناه..بابْتسامته..و هَمْسِه اللَّطيف،يُغْدِق على ذاته الفاقِدة أَغْدِرة لها حَلاوة تَسْتَلِذ بها رُوحه..، هذا الغِياب يَتَراكم أَمامه جِداراً ذو قُضْبان ضَيّقة،تُهَدّده بفَصْله عن الرَّجُل الذي وَثَقَ بهِ قَلْبهُ الصَّغير..يَخْشى أن يَنام و يَسْرقهُ الفَجْر من صَحْوته..لذا بَقِي لأيّام يُصارع الوَسَن حتَّى تَكَحَّلت عَيْناهُ بالأرَق..و أَمْسى إخْضرارُ عَدَسَتيه المُرْمَد..جَمْراً يَنْضَح بهِ بَياض مُقْلَتيه..،الأَيَّام التي مَضَت فاتَهُ حِسابها لسَبَبان..الأَوَّل لأنَّهُ نَسِي الحِساب الذي تَعَلَّمه في المَدْرسة..أمَّا الثاني فكان لِثِقْلٍ مُوْجِع تَكَوَّم في حَلْقه..ثِقْلٌ يَنْحَتُ حُزْنه فَوْقَ حَنْجَرته..ثِقْلٌ يُسَمَّى غَصَّة..غَصَّة مَريرة مَنَعَت صَوْتَهُ من الوُلوج لعَدّ الأيَّام المُقْفَرة من ذلك الغائِب..،كانت الشَّمْسُ تُشاكِس عَيْناه بإزْعاج..يُشيح وَجْهه عَن ضَوْئِها الحاد..يَرْفع ذراعه ليَضَعها حاجِزاً بينها و بين بَصَره..لكنَّها تَتَلَصَّص من كُل مَكان لتَمْرَق عَدَسَتيه..كان يَجْلُس عند باب الغُرْفة التي اخْتارتها لهُ أُخْته..يُتابِع غَيْداء ابْنة السَّابِعة و هي تُلاعب عَبْدالله ذو الخَمْسِ سَنوات..يَنْظُر لهما من خَلْف ضَباب الوِحْدة..فأُخُوَّته وَحيدة،على الرَّغْمِ من اتّصالها بخَمْسٍ من الإناث..إلا أنَّها أسَفاً كانت أُخُوَّة مَنْبوذة..،يَنْظُر لهما و من وَجْهه يَرْتَفِع صَمْتٌ صاخِب لا يَحْكي شَيْئاً،إنَّما بِصَخَبه يُتَرْجِم بَوْحَ كلماتٍ خُنُقِت في الجَوى..هُو في بعض الأَحْيان يَلْعَب معهما..خاصَّةً عندما يَخْلو المَنْزِل من أُخْته..لكنَّ أكْثَر من نِصْف اليُوم يَبْقى جَليساً لسُفُنه..يُحادِثها بلُغَة البَحْر..لُغَة المَوْج الرَّاقِص..،ها هُو يَسْتَنِد على باب الغُرْفة من الخارج و الشَّمْسُ لا زالت تُغازل نافِذَتيه المُتَطَلّعَتان لبُزوغ وَجْه رَفيقه..رافعاً ساقيه لتَسْتَقِر فوق رُكْبَتيه سَفينة صَغيرة لها هَيْكَلٌ أَزْرَق،و شِراعٌ شابَ بَياضه آثارُ بَصمات أصابعه القَلِقة..،حاجِباه تَتَوَسَّطهما عُقْدة امْتَزَج فيها الضّيق بأَسى كَئيب..فالرُّوح تَخافُ أن تَخْسَر حَاديها..أَبْعَدَ بَصَرهُ عن غَيْداء و عَبْدالله للسَّفينة..شَيْئاً فشيء كان صَوْتُهما يَبْتَعِد..و كأنَّهُ يَذُوب بين تَلاطُمات البَحْر الذي بَدَأ يَغْرَق فيه..غَزَلَ نظَراته بالشّراع المُصَنَّم عن أي رَفْرَفة،ليَهْمس صَوتٌ بَريء في جَوْفه..لو أنّني أُبْحر بها إليه ! زَفَرَ بيَأسٍ من الفِكْرة..فالبَحْرُ بَعيد..و القَارب لا يَتَّسِع لجَسَده..،
،:طَلال قاعد أَكَلْمك !
وَعَى من غَرَقِه مُنْتَبِهاً لليد التي تَهُز كَتِفه..رَفَعَ عَيْناه ليُبْصِر ذلك الوَجْه الذي اخْتَفَى من أَيّامه فَجْأة..تَقَوَّسَت شَفَتاه بزَعَلٍ ساحِق و هَو يُعاتبه،:إنت وينك ؟ صار يوم و يومين و وايد أيام وما ييت !
هُو الذي اتَّكأ على الأرْض برُكْبته أَجاب بابْتسامة مُعْتَذِرة،:أنـا آسف طَلال "اتَّسَعَت الإبْتسامة و تَجَمَّلَت بأَلقٍ جَذَب عَدَسَتي طَلال..أَرْدَف بنَبْرة تَشَبَّعَت بالسَّعادة" بس وصلتني هديَّة من الله و نسيت كل شي في الدنيا يوم شفتها
ردَّد بذُهول رَفْرَف مع أَهْدابه،:هديَّة من الله !
هَزَّ رأسه بالإيجاب مُؤكّداً،:ايــه..و انا جاي اخذك معاي عشان تشوفها
تَسَاءَل بعَيْنان مُتَّسِعَتان من الدَّهْشة،:يصيـــر اشوفها ؟
وَقَف و هُو يَمُد يَده ناحيته،:ايـــه يصير..قوم نروح
نَظَرَ ليَده المَنْتَظِرة كَفّه..ازْدَرَد تَرَدُّده قَبْل أن يَقُول بخَوْف أَخْنَقَ صَوْته،:بس أختي مو اهني..أخاف إذا يَت و ما شافتني تعصب
تَدَثَّرَت ابْتسامته بطمأنينة تناثَرت وَدَقاً على قَلْب طَلال النَّابض بخَشْية من العِقاب..الْتَقَط يَده يَحِثّه على الوُقوف و هو يُعَقّب،:و أنا داخل البيت شفتها..إنت كنت سَرْحان..خبرتها و وافقت..بتتغدا و ببتعشى معانا بعد
بَرَقت حَدَقَتيه بفَرْحة تَزوره كُل عُشْرون حُزْن..و بصَوْت حَوَى الإبْتسامات،:والله ؟ يعني بقعد عندكم لين يصير الليل؟
و هُو يَمْشي معه،:ايــه حَبيبي..بتقعد عندنا لين الليل
اسْتَدارَ للخلف يَنْظر للحَديقة التي خَلَت من الصَّغيران و هُو يُواصل مَشْيه..و بتساؤل،:و عبود و غيداء ما بيون ؟
نَفَى،:لا..أمهم ما رضت
هَزَّ رأسه بتَفَهُّم دون أَن يُضيف كَلِمةً واحِدة..ليس مُهِماً..الأَهم أن يُغادر هو المنزل ليَتَعَرَّف على الهَدِيَّة التي من عِنْد الله..،خِلال الطَّريق إلى منزل ناصر القَريب نسبياً كان يَسْرد أَحْداث الأَيَّام التي مَضَت دون أن يأتيه..أَخْبره عن انْتظاره الطَّويل و الذي اعْتَذَر ناصِر لأَجْله ثانِيةً..و أَخْبره عن وِحْدته و ملله..و لم يَنْسَ أن يخبره عن الصَّفْعة التي وَجَّهتها لهُ أُخْته لأنَّه خَرَج مع رائد دون إسْتِئذان..عاتبهُ ناصِر بهُدوء،:يُبه طَلال ليش تطلع من غير ما تستأذن ؟
بَرَّر و هُو يُحَرّك يَده و من عَيْنيه نَضَحَ صِدْقٌ بَريء،:نسيـــــت والله..رائد قال لي بسرعة..و ما صار وقت أقول لبلقيس
زَمَّ شَفَتيه و هُو يَنْعَطِف يساراً..ذِكْر اسْمها فقط يُثير غَثيانه..هُو كَذَّبَ على طَلال..لم يُحادثها قبل دقائق بل حادثَ شَقيقه الذي تَكَلَّف بمُهمة إخبارها بخُروج طَلال حينما تَعُود..بالإضافة إلى أنَّه وَعَده بالتَّصَدّي لأي ضَرْبة قد تُحاول أن تُوَجّهها له..فهذه المَرْأة تَنْفث لَهيب النار المُسْتَعِرة في جَوْفها لتَحْرُق هذا اليَتيم..تَحْرُقه بذَنبٍ مُغْرِض نَسَبتهُ لوالدته المِسْكينة..تلك التي صافَحها المَوْت و لازالَت قُلوب الأخوات الخَمْس تَلوك ذِكْراها بحِقْدٍ دَفين..و كان طَلال الصَّيْد الذي يَمْرَقونه بسهام حِقْدهن..هن بالإهْمال..و هي بكُل مَعاني القَسْوة التي عَرَفتها البَشَرِيَّة..دُون أن يُوَعّيها نَسيمُ رَحْمة..،أَوْقَف المَرْكبة في باحة المَنْزل المُخَصَّصة لها..غادَراها مُتَّجِهان لداخل المَنْزل حيثُ تَساءَل طَلال و هُو يَرْفع رأسه لناصر،:وين الهَدية؟
أَشار لإحْدى الغُرَف بابْتسامة مُجيباً،:داخل هذي الغرفة
طَرَق الباب المَفْتوح نِصْفه قَبْلَ أن يَدخُل و هو يُنادي،:ليلى
وَصَلَهُ صَوْتها الرَّقيق المُحَبّب إلى قَلْب رُجولته،:تعال ناصر مافي أحد
دَلَف و من خَلْفه طَلال الذي جالَ بَصَرهُ بانْبهار على الغُرْفة المُزَيَّنة بلونٍ زَهْري جَذَبَ لُبَّه..اسْتَقَرَّت عَيْناه على السَّرير الكبير الجالِسة فَوْقه زَوْجة ناصر و فَيْصَل و هما مَحْنِيان لشَيء لم يَسْتَطع تَمْييزه..،
صَوْت ناصِر عادَ ليُوَجّهه،:تعال اهني طَلال
تَقَدَّم بخَجَلٍ من الخالة لَيْلى،صافَحها و هي سَألتهُ بنَبْرة حَوَت وِدَّاً تَهْفو لهُ حَواسه،:شلونك طَلال؟ إنت زين ؟
هَزَّ رأسه بأدَب مع ارْتفاع هَمْسه،:ايــه زين
قال ناصر و هُو يُشير لذلك الشيء المُتَوَسّد السَّرير،:تعال شوفها..شوفها أي حلاوة
اقْتَرَب أكْثَر ليَتَّضِح لهُ الجِسْم الصَّغير جِدَّاً..مُتَدَثّر بملابس بَيْجية ناعِمة تَكْشف عن قَدَمان بطول إصْبعه السَّبابة و يَدَان بالكاد يَنْحشر فيهما خُنْصُر رَجُل بالغ..نَظَر للوَجْه بعَيْنان يُحيطهما الإسْتغراب..كُل شَيء صَغير..العَيْنان و الأَنْف..و الشَّفَتان مِثْل بُرْعمٍ لم يُزْهِر بَعْد..تَسَاءَل و هُو يُدَقّق في تَفَحُّصه،:هذي لعبة حقك ؟ هذي الهديَّة ؟
الجَوَاب وَصَلهُ بطَريقة أَرْعَبته للحَد الذي جَعل شَهْقة تُباغت حَلْقه..تَراجع خُطْوة للخَلْف و هُو يَهْمِس بعَيْنان أَوْسَعهما الفَزَع،:تتحَرَّك !
عَقَّد حاجبيه بعدم فَهْم لِضحكة ناصر و زوجته و كذلك فَيْصَل الذي قال بنَبْرة ثِقَته المُعْتادة،:طَلال إنت ما تعرف..هذي مو لعبة هذي إختي الصَّغيرة
رَدَّد ليَجْترع عَقْله المَعْنى،:إخْتك الصَّغيرة !
أَكَّد ناصر و هُو يَجْلس على السَّرير عند رأسها،:ايــه أخته..هذي بنتي طَلال..بنتي نُور
نَطَقَ صَوْت في قَلْبه للمَرَّة الأولى تَسْمَعهُ رُوحه..نُـــور !تابَعَ حَرَكْة ناصِر الذي انْحنى ليُقَبّل رأَسَها..هي اسْتَشْعَرَت قُبْلَته ليَتَحَرَّك رأسها بِخفَّة و كأنَّها تَبْحَث عنه..يَدَها الصَّغيرة ارْتَفَعت بلا هدى و اصْطَدَمَت بخَدّها المُتَكَوّر..هَمَسَ بما يَجُول في خَاطره،:صَغيــرة...نِتْفة !
عَلَّقَت الخالة لَيْلى مُوَضّحة،:لأنها بيبي توها مَولودة "أشارت بإصْبعيها" عمرها بس شهرين
هَزَّ رأسه و هُو يَعُود ببصره لهذا الكائِن الغَريب..فعَيْناه لم تَشْهَدان من قَبْل على "بيبي" مثلما تَقُول..يَتَذَكَّر عبدالله صَغيراً..لكنَّهُ كان أَكْبر من هذه الهَدِيَّة..عَقْله غير قادِراً على اسْتيعاب حَجْمَها الضَّئيل..فهي بحجم العرائس التي تَلْعب بهن غَيْداء..تُسَرّح شَعْرهن و تُلْبسهن الفساتين البَرَّاقة مثلما يَحْلو لها..دُون أن تصدر منهن حَرَكة واحدة..فكيف لهذه أن تَتَحَرَّك ! شارَكهم الجُلوس على السَّرير و لسانه نَطَق بإسْتئذانه،:يصير اسلّم عليها ؟
هَزَّ رأسه بالموافقة،:ايـــه أكيــد أكيد..أنا اصلاً جايبك عشان تسلم عليها
ببطءٍ مُتَرَدّد رَفَع يَده الكَبيرة مُقارنة بيَدها المَبْسوطة على بَطْنها..باحْتراز مَسَّ ظاهِرها مُتَحَسّساً نُعومتها البالِـــغة..بابْتسامة خَفيفة مَرَّر أصابعه عَليها و نَظَراته تنتقل بينها و بين وَجْهها المُتَشَرّب بحَمَرة شَهِيَّة..،بخِفَّة داعبَ باطنها بسَبَّابته مُثيراً حَواسَها الحَديثة المَوْلِد لتَقْبض عليها بقوَّة أَنْبَتَ ارْتعاشة لَذيذة بين أَوْصَاله..فَغَرَ فَمَهُ بعَدَم تَصْديق حَلَّقَ حَوْلَ مَلامحه ليَقُول و الذُّهول لَحْنه و هُو يَنْظر لكَفّها المٌتَشَبّثة بإصْبعه،:سَلّمت علي ! يعني هي تحبني !
فيصل بغيرة على التي اعْتَبَرها من مُمْتلكاته الخاصَّة،:أنا بعد تحبني و تسوي لي جذي
لم يُجبه..بل هُو لم يَسْمعه..فحَواسه أَجْمعها كانت مَشْدوهة لهذه النُّــور و لِيَدها الباعِثة لهُ من خُطوطها رَبيعاً بَهي..فحَدَقَتيه المُتراقِصَتين عليها أُنْبِتَت وَسَطهما زُهوراً شَتَّى تُبَشّره بألْوانٍ زاهِية سَتُنْعِش ذاته الفاقِدة..فَمهُ المَفْغور من انْبهاره الطُّفولي يَلِج من خلاله هواء نَقي يَتَحَوَّر في جَوْفه إلى حَمامات بَيْضاء تَعْزف بجَناحَيْها مُوسيقى الأَمَل..فشَيءٌ وَسَط رُوحه يَهْمس لهُ بأنَّهُ سَيَرى نُور الحَياة من خلال هذه الهَدِيَّة..سَيراها مُشْرِقةً بَعْد أن ابْتَلَع المَوْتُ ضِياءَها..،كما فَعَل ناصِر قَبْلَ دقائق،انْحَنى عليها بهُدوء..أَرْخى شَفَتيه على جَبينها لتُناغيه رائِحتها العَذْبة،و بِخِفَّة قَبَّلَها،و بِقُبْلته بَصَمَ على انْعقاد ذاته بها...بنُــور..،
،
تِلْكَ الذّكْرى ما مَرَّ أمام رُوحه في هذه اللَّحْظة،كما سَحابة اخْتَبَأت خَلْف أَحْزِمة من سَواد سَماء احْتَكَرتها ظُلْمة لَيْل مُوْحِشة..هُو أَدارها إليه لتَلْتَقي عَيْناه بوَجْهها المُحَرَّم عليه لأعْوامٍ شاقَّة..حَدَّ اتّباع الشَّيْطان كانت شاقَّة..و أَسفاً أنَّهُ اتَّبَعَه ! ذراعه لا زالت تُحيط بخِصْرها،مُواصِلةً كَيَّهُ بنيرانها..نَطَقَ بجُمْلَته و هُو عالِماً أنَّ الجَواب لن يَصِله..يَدَهُ اليُسْرى ارْتَفَعت إلى رأسها،تُزيح الحِجاب الذي كان مُرْتَخِياً من فَوْضَوِيَّة المَوْقِف..أَزاحَه كاشِفاً عن شعرها المَرْفوع ببعْثَرة ساهَمَت في تَمَلُّص بعض الخُصلات لتُعانق وَجْهها و عُنُقها بجاذِبيَّة..اخْفَضَ يَده لتُسافر إلى أَرْض خَدّها..مَسَّهُ بأَطْراف أَصابعه و كأنَّهُ يَتَأكَّد بأنَّها واقِع،لا حُلْم يَتَطاير قَزَعاً يَهْرُب من صَحْوته..أبْعَدَ تِلْك الخُصْلات ثُمَّ عاد ليَحْتَضن ذلك الخَد المُحْتَرِق من لَمساته..ضَغَطَ بخِفَّة حَوَت حَناناً مَكْسُور الخاطِر،لذلك لم تَسْتَشْعِرهُ حَواسها المُرْتَبِكة..أَخْفَضَ ظَهْره قَليلاً، مُقَرّباً وَجْههُ من وَجْهها و هي اسْتَوَت شَمْعٌ يَذوب بلا حيلة بين يَديه..هَمَسَت من بين تَخَبُّطات أَنْفاسَها،:طَـ ـ ـلال
تَجَاهَل نِداءَها و رَكَّزَ حَواسه على رَغْبته المُسَيّرة حَرَكاته..أَغْمَضَت بشِدَّة و رَجْفَتها وَصَلت عَنان السَّقَف حتى شَعَرت بالمَكان حَوْلها يَنْتَفِض من قُوَّتها..الكابُوس يُباغتها و اقْترابه هذا كالسَّيْف القاطِع خَيْط هُدوءَها..الغَثَيان يَحُوم في صَدرْها مُهَدّداً حَلْقها..سَتَسْتَفْرِغ حَتْماً و هذا لا يَكف عن جُنونه..تُريد أن تَرْفع يَدها لتُبْعِده..لكنَّ الطَّاقة نَهَبَها قُرْبه المَعْقود بنتانة الكابُوس..حَبَسَت أَنْفاسها المُتَقَطّعة مع انْقطاع مَسِير الدّماء في عُروقِها..تَجَمَّدَت أَطْرافها و اخْتنَقَت عَدَستاها خَلْف جِفْنيها..فَشَفتاه اللَّاثِمَتان جَبينها فَصَلَتا رُوحها عن جَسَدها..،هُو قَبَّلَها بطُفولته..بفَقْده و اشْتياقه..قَبَّلها بذاته المُقَيَّدة بها..و بحُبّه المَخْلوق لأَجْلِها..قَبَّلها بِقَلْبه الذي بُحَّت نَبَضاته من بُكائهِ على خَسارتها..و بأَنْفَاسه المُشَبَّعة بشَذا سنينه مَعها قَبَّلها..هُو بأَصْغَر خَلِيَّة في كَيان رُجولته قَبَّلها..،قُبْلته طالت مُجْتَرِعاً بها وُجودها..ساقَها اضطْرَبَتا حَتَّى ظَنَّت لوَهْلة أَنَّها سَتَسْقُط..أَنْفها رُغْماً عَنْها كان مَغْموراً في عُنُقِه لتَغْزوها رائِحته..الغَثَيان شَدَّ رَحْله حتَّى سَقْف حَلْقها..كانت لحْظة فَقط سَبَقت يَدها التي نَجَحت في الإرْتفاع..لكنَّ الإسْتفراغ فازَ عليها ليُغادِر فَمَها باتّجاه عُنُقِه و أَعْلى صَدْره..،أَبْعَدَها عنه بهُدوء لو كانت مُنْتَبِهة له لاسْتَنْكَرته..تابَعتهُ و هُو يُخْفِض بَصَره يُحاول أن يَنْظُر للذي بَدَأ يَسيل فَوْقَ سُتْرَته ناحِية صَدْره..جَسَدَها كان يَشْتَعِل بصَيْفٍ حَرَقَ جِلْدها حتى غَدا لون بَشْرتها قانٍ أَحْمر..ضَمَّت شَفَتيها للدَّاخِل ضاغِطة بقُوَّة تَنُم عن حَرَجِها..أَرْخَتْهما اسْتِسْلاماً لِشَهْقة بُكاء عَبَرَتهما..تَطَافرت الدُّموع من عَيْنيها مع ارْتفاع كَفّها لفَمها و هي تَقُول بتَأنيب،:كِلَّه منّـ ـك..ليش تقرب مني !
أَخْفَت وَجْهها المَحْفوف ببلايا الحَرَج و من بين فَراغات أَصابعها هَتَفَت شَهَقاتها المُنْبَجِسة من صَدْرٍ تَكالبت عَليه مَشاعر المَوْقِف الغَريب..في ساعة فَقَط أَصْبَحَت زَوْجته..لم يَمْنَحها والدَهُا و لَو ثوانٍ لتَلْتَقِط أَنْفاسها و تُهَدّأ من رَوْعها..أَتاها على غَفْلة من حُب مُضَّطَرِب..حُبٌ مُتَخَضّب بدَرْن ذَنْبٍ مُغَيَّب بين الهَذَيان و الوَعْي..تَلَقَّفَ يَدَها التَّائِهة حاشِراً قَلَماً كان حِبْره الطُّوفان الذي اقْتَلَع قُيود الحَرام بينهما..لتَصْبح بعد ثوانٍ حَليلته..بُكاءَها كان بُكاء حَرَج يُعاضِدهُ رَهْبة من الحَدَثَ..حِمْلٌ ثَقيل هذا الذي يَحْصل..هي زَوْجته..زَوْجة طَلال ! زَوْجة من تَمَنَّاهُ قَلْبها و صُمَّت أُمْنيته يَوم تَرَبَّعَت أُنوثتها على عَرْش عَبْدالله..ابْن أُخْته..اخْتَرَقَت عِظامها رَجْفة مُؤلِمة نَخَرَت الحَقيقة في نُخاعِها..فأنتِ الآن زَوْجة الذي وَقَفَ مَعَكِ على مَقْصلة الإتَّهام المُشَيَّدة بيدين بَلْقيس..لا مَفَرَّ من شُكوكهم..بل هُم سيَتَيَقَّنون من صِدْقها..إلهي رُحْماك..،تَضاعَف نَحيبها من هذه الفِكْرة التي غَزَلَت سُمومها بعباءَة المَوْقِف المُعْتَلِية كَتِفها..عَباءة سَوداء تُنْذِر بمآسٍ قَريبة..كَيْف فَكَّر والدُها هَكذا ! تَسَرَّع و جِدَّاً..هُو خَطَفَ نَبْضَها بتَسَرُّعه..،
تَدَاخل مع الْتباساتها صَوْته المُبْهَمة حالة نَبْرته..لم يَكُن ضائِقاً و لا مُرْتاحاً..لا بارداً و لا مُسْتَعِرا،:خَــلاص نُور..ما صار شي "أَرْدَفَ يُوَجّهها" دخلي الحمام اللي اهني إذا تبين تغسلين..أنا بروح برا "و هُو يَبْتَعِد للباب" اخذي راحتش
انْتَظَرَت حَتَّى تَأَكَّدت من خَواء الغُرْفة من جَسَده لتَكْشِف عن لَوْحة وَجْهها المُهْتَرِئة المَلامح..تَنَشَّقَت بِضْع أُكْسُجينات امْتَزَجَت معها رائِحة أَنْفاسه لتُحَفّز دُموعاً جَديدة وَسَط مُقْلَتيها..رَفَعت يَدها و بظاهرها تَشَرَّبَت صَبيبها..خَطَت ناحِية دَوْرة المِياه التي أَشار إليها بِقَدَمان تَزْحَفان فَوْقَ كَديدٍ زَعْزَعهُ انْعِقاد أُنوثتها برُجولته..،دَلَفت لتُطَهّر صَفْحة وَجْهها من شَوائِب الدُّموع..سَقَته بالماءَ ثَلاث مَرَّات لتُطْفئ حَرارته اللَّاسِعة..نَظَّفَت فَمَها جَيّداً و ذاكِرتها تُمارِس تَعْذيباً على رُوحها..فهي تُعيد لها مَشْهَد اقْترابه..قُبْلته و اسْتفراغها الهَزيل..احْتَضَنت أَجْفانها عَيْنيها لتَحْميهما من تلك الصُّور المُهاجِمة وَعْيها..أَغْلَقَت صُنْبور الماء قَبْل أن تَتَراجع مُسْتَنِدةً بجانب جَسَدها على الباب بإعْياءٍ أَحالها كائناً على أَعْتاب الإغْماء..أَخْفَضَت بَصرها للمِقْبَض..كان يَبْعد عن يَدها مَسافة شِبْر أو أَكْثَر بقَليل..لكنَّ تَعَبَها أَوْحى لها بأنَّهُ يَبْعُد عَنْها كما جَبَلاً شاهِقاً يَتَطَلَّب تَسَلُّقها..إضافة إلى أنَّ حَواسها تَرْفض أن تَنْفَرد مع ذلك الرُّجل..انْكَمَشَ جَسَدها خَوْفاً من البقاء مَعهُ وَحيدة..تَخافُ على قَلْبها و ذاكرتها..تَخافُ على مُقْلَتيها من جَفافٍ تَطْرُق بابهُ الدُّموع..تَخْشى أن يُخونها الكابوس للمرَّة الأَلْف و تَذْوي بين يَديه بلا حيلة..لا تَسْتطيع أن تُواجهه و كأنَّ شيئاً لم يَكُن..فحتَّى هذه الثَّانية،لا شيء من وُجودها آمَن بحَقيقة أنَّها زَوْجته...،
,،
ماضٍ
الكَوْنُ يَرْتَجِف..السَّماءُ تَلْتَحِفُ برداءٍ أَسْود تَطوفه شُهبٌ غَبَشِيَّة تُثير الرَّهْبة..القَمَرُ قَد اسْتَتَرَّ خلف سُحُبٍ امْتَصَّت لَوْناً رَمادياً لهُ وِحْشة تَزيغ منها القُلوب..شِتاءُ بَرْلين قد وَصَلَ إلى ذَرْوته،و الجَليدُ قَد شَدَّ رَحْله فَوْق الأراضي و الجِبال..كان زَرْعُ حَديقتهم قَد تَلَوَّن ببياضِ الثُّلوج..إلا أنَّهُ كانَ بَياضاً مُشَوَّشَ النَّقاء..إثْر اخْتلاطه باحْمرارٍ مُريب..و من بين الأَزْهار..و من جِذْع شَجَرَة البُرْتُقال،تَفَرَّعَت رائِحة نَتِنة..تَكَوَّمَت في حَلْقِها المَشْروخ من الزَّعيق..،حُبِسَت في غُرْفَتِها لِيَوْمان،صَيَّرَهُما الرُّعْبُ قَرْنان شابت منهما الرُّوح..نَهَبَ ابْنَتَها من بين أَحْضانها و هي نائِمة بوَجَل..و لم يَكْتَفِ..هُو تَمَرَّدَ و قادَ مُرَبّيتها و زَوْجها و ابْنتهما أَمَل لخارج المَنْزِل..إلى أَيْن لم تَدْرِ..سَألتَ الجُدْران..السَّقْف..النَّافِذة و الأبْواب..و لم يَصِلها إلا نَحيبها المُتواصِل بلا انْقطاع..،كانت مُنْطَوِية على نَفْسِها وَسَط السَّرير المُصَيّرتهُ دُموعها بَحْراً أُجاجا..تَبْكي و تَذْرف أنْهاراً لها طَعْمُ عَلْقم انْبَجَسَ من عَيْن المَرارة النَّابِتة في رُوحها..تَجُرُّ بعَويلها أَلْفَ بَيْتٍ و بَيْت من الحُزْن..لتُحيك بمَغْزَلة نَوْحِها قَصيدة اليُتْم..و الفَقْد العَظيم..،رياحُ زَمْهَرير تَجُوس في الخارج..تُحَرّك أَغْصان الشَّجَرَ ليَصْدَح حَفيفٌ مُوْحِش..اللَّيْلُ قَد أَعْلَن امْتداد ساعاته،رافِضاً أن تَمْرَقَ ظُلْمَته إشْراقة شَمْس تُغَرّد بالأمَلَ..لا أَمَل فاتِن..فأنتِ للفَقْد و الحِرْمان قد خُلِقْتِ..فلا تَدَعي عُنُقكِ يَشْرَأبَ إلى العَلْياءِ بَحْثاً عن ثَغْرة يَلِجُ منها ضَوْءُ أَمَل..لا تَحْلُمي..فالحُلْمُ للاتي بين والدٍ و والدة يَتْرَعن..و فَوْقَ أَرْضِ وَطَنٍ آمِن يَضَّجِعْن..لا للتي تَتَخَبَّط ذاتها بين غُرْبة و فَقْد..لا تَحْلُمي..،ارْتَعَشَ جَسَدُها الهَزيل لِصَوْت قُفْل الباب..اسْتَقَرَ باطن كَفُّها على السَّرير لتَرْفع جَسدها..بصعوبة اسْتَطاعت أن تَرْفعه و تَتَّكئ على مِرْفَقِها..فُتِح الباب ليَتَّضِح وَجْههُ المُتَشَبّع إجْراماً..اسْتَحْكَمَت منها رَجْفة مُوْجِعة..لم تَكُن رَجْفة خَوْف أو خِشْية..بل كانت انْتفاضة حِقْد عَميق..،تَقَدَّم منها و هي تُتابعه من خلف غِشاء شَفَّاف يَرْفض الإبْتعاد عن ساحتيها الواسعتين..تَوَقَّفَ أَمامها ليَنْطُق بصَوْته البَغيض،:كنتِ تبين تشردين معاهم ها ؟ تبين تغافليني و تشردين إلى لندن "شَخَرَ بسُخْرِية و هُو يُشير إليها باسْتصغار مُرْدِفاً" تظنين نفسش تقدرين عَلَي! أنا سلطان إللي برلين بكبرها ما قدرت عَلَي..إنت تجين و تفردين عضلاتش قدامي !
ببحَّة ابْتَلَعت ثَلاثة أَرْباع صَوْتها ليَخْرُج نَحيلاً..كأنَّما هَزَمهُ مَرَض،:بيجي يوم و بيجرونك مثل البهيمة يا كلْـــ...
اشْتَعَلَت حَدَقتاها غَيْظاً من ضِحْكته المُتَشَدّقة..قُبْح العالم أَجْمع يَسْري مع دمائه النَّجِسة..تَقَلَّصَت ضِحْكته إلى ابْتسامة تَميل خَباثَةً ليَهْمُس بنَبْرة لا تُطاق،:ما عليــــه..مَقْبولة منش يا حلـــووة
تَجاهلت كلماته القاصِدة مآرب تُسَبّب لها الغَثَيان..تَساءَلت بحِدَّة مَبْحوحة و هي تَعْتَدِل جالِسة فوْق رُكْبتيها،:وين بنتي ؟ أم أَمَل و حَجُّو و أمل..وينهم ؟
أَجابَ بابْتسامته التي تَعاضَدت مع الثّقة،:بنتش لو تلفين العالم كلَّه ما بتحصلينها "رَقَصَ الشَّيْطان في داخله عندما أَبْصَر عَيْناها كَيْف جَحِظَتا من خَبَره..أَكْمَل مع انْحشار يَده في جَيْب بنطاله القماشي" فلا تتعبين نفسش
أَلْقى عَليها وَرَقَة مَطْوية..طَرَفَها الحاد جَرَح أَسْفَل عَيْنها المُنْسَلِخ جِلْدها من الدَّمْع..تَجاهلت الإحْتراق الذي كَوَّنتهُ الوَرَقة،مُنَصّبةً جُلَّ حَواسها لكلماته،:هذي ورقة طلاقش..صرتين حُرَّة..روحي أي مكـــان تبين
تَلَقَّفَت الوَرَقة و بيدها شَوَّهت ملامحها قَبْل أن تَرْميها عليه ببداية غَضَب صارِخةً،:وينهـــم يا حقيـــر يا مُجرم يا ســـ... .،..وينهــــم !
اسْتَقَرَّ بيديه في جَيْبي بنطاله..أَخْفَضَ رأسه قَليلاً يَنْظُر لحذائه اللَّامع كما لَمْعة المَكْر القافِزة ثَعْلَباً من عَيْنيه..،هَمَسَ بابْتسامة أَظْهَرت نابه المُلَوَّث بدماء طاهِرة،:في الحديقة..عند شجرة البُرْتقال
تَرَكَت السَّرير بتَخَبُّط لتَجْري إلى الأسْفَل بقَدَمان انْتَعَلتا التَّوَتُّر..كلماته النَّاقِعة في نَبْرة مَسْمومة طَرَقَت ناقُوس الخَطَر في صَدْرها..لَمَحت بين عَيْنيه سيوفٌ و رِماح تَحْكي عن حَرْبٍ خَبَت كان هُو فيها المُنْتَصِر..نعم كان هُو المُنْتَصِر و تلك السُّيوف قد طالَت أَرْواحاً كانت لها عائِلة دافِئِة..،تَوَقَّفَت خُطواتها مُنْتَبِهةً للون المُضاد لبياض الثَّلوج..أَحْنَت جِذْعها تنظر لهُ بتَدْقيق..ثوانٍ و اتّساعٌ فَزِع أحاط بعَيْنيها..فاللَّوْن لم يَكُن سِوى دماءٌ احْمرارها بَدَأ يُحَوّرهُ الجَفاف إلى سوادٍ مُخيف..،اسْتَقامت واقِفة بملامح مَخْطوفة..تَقَلَّبت عَدَستَاها وَسَط البياض بهَذَيان..و بهَمْسٍ اقْتَرَبَ من المَوْت،:أَمـــ ـل...
مَشَت ببطء و بخطوات مُتَعَرّجة..شَجَرَة البُرْتقال كانت تَقْتَرِب منها شَيئاً فشيء..أَوْراقها الكَثيفة حَيَّتها بذُبولٍ فَرَضَهُ عليها الشّتاء..تَقَدَّمت لتَخْتَرِق أَنْفَها رائِحة قَوِيَّة باغَتَت حَلْقَها..رَفَعت كَفَّها لفَمها و هي تَسْعُل،بالتَّوالي مع ارْتفاع عَيْنها للذي كان مُتَدَلّياً من الشَّجَرة..،لم يَكُن صَعيق بَرْلين ذاك الذي جَمَّدَ دِماءَها..و لم تَكُن رَجْفة البرد ما قَبَضَ على ذِقْنها..و لم تَكُن السُّحُب المُتَكَدّسة في السَّماء من أَفْرَغَت وَدَقَها وَسَطَ مُقْلَتيها..إنَّما كانت الأَجْساد الثَّلاثة المُعَلَّقة بلا حَرَكة بأغْصان شَجَرة البُرْتقال..و من أَسْفلها تَكَوَّنت بُحَيْرة من دماءٍ قَد تَكَلَّسَت بعد أن شَخَبَت من أَوْداجهم المَقْطوعة..،صَرْخــة مُدْوِية تَفَجَّرت من أَعْماق رُوحها لتَعْلو نَعيقاً شَقَّ ثَوْبَ السَّماء،و تَصَدَّعَ منهُ قَمَراً كان قَد انْطوى حَسْرةً على أَرواحٍ بَريئة..،الأَرْضُ اجْتَذَبَت جَسَدها المَذْبوح لتَتَعَفَّر بهيستيريَّة فَوْق دمائهم..تَصْرُخ و من حَنْجَرتها تُحَلّق مُعَلَّقاتٍ من بُكاءٍ و عَويل..تَلْطُم وَجْهها..تَخْدش خَدَّيها و تَرْكِلُ أَرْضاً أَنْجَبَتها من أَجْلِ تَعْذيبها..لَيْلتها كان النَّحيبُ نَوْمها..و الدَّماء الطَّاهِرة سَريرها..و أجْسادهم كانت السَّقْفَ الذي حَجَبَ عَنها مَطَرَ سَماءٍ خَائنة..شَهِدت على نَحْرهم و لم تُنْقذهم..كانت وَحيدة..تَرْتَعِش بَرْداً و هَلَعاً..و في عَيْنيها باتَ مَشْهَدٌ دَمَوي قَضَى على آخر فُتات أَفْراحِها..و أَمْسَت بَكْماء من كَلِمات..غَيْر الصُّراخ لم تَسْتَمِع الأَشْجار..صُراخٌ تَذَيَّل بأُمْنية..أُمْنية وَحيدة تنتشلها من هذا العَذاب....أُمْنية المَـــوْت...،
,،
يتبع
تَوَكَّلتُ على الله
الجزء الخامس و الأَرْبعون
الفَصْل الثَّاني
ماضٍ
انْتَظَرَهُ لأَيَّامٍ و لم يأتِ..سَألَ عنه..بَحَثَ عن آثار خُطواته بين تَشَقٌّقات أَرْضٍ صَمَّاء..بَكَى في زاوِيَة غُرْفَته مُعْتَقِداً
بقَلْبه البَريء أنَّ دُموعه ستَصْرُخ ليَسْمعها ذاك الغائب فيأتي..لكنَّ النَّهار انْقَضى..و اللَّيْلُ نَشَرَ أَذْرُعهُ المُطْمَسَة من السَّواد..و القَمَرُ تَلاَشى ضَوْؤه خُذْلاناً،حَتَّى اسْتوى دُخاناً يَذْوي مع انْتِحار السَّاعات المُنْتظِرة إقْباله..و لم يأتِ،هُو اشْتاقه..اشْتاقَ لِلسانٍ لا يَنْهَره..و لِيَدٍ تُرَبّت بمَلَقٍ على ظَهْره لا تَصْفَع خَدَّه اليَتيم..و اشْتاقَ إلى ابْتسامة تَرْتَدي حَناناً غَريباً..ليس حَنان والدٍ و لا والِدة..و إنَّما حَنانٌ يَتَسَرْبَل بحُبٍ أَصْفى من نَهْرٍ عَذْب..و كأنَّه بعَيْناه..بابْتسامته..و هَمْسِه اللَّطيف،يُغْدِق على ذاته الفاقِدة أَغْدِرة لها حَلاوة تَسْتَلِذ بها رُوحه..، هذا الغِياب يَتَراكم أَمامه جِداراً ذو قُضْبان ضَيّقة،تُهَدّده بفَصْله عن الرَّجُل الذي وَثَقَ بهِ قَلْبهُ الصَّغير..يَخْشى أن يَنام و يَسْرقهُ الفَجْر من صَحْوته..لذا بَقِي لأيّام يُصارع الوَسَن حتَّى تَكَحَّلت عَيْناهُ بالأرَق..و أَمْسى إخْضرارُ عَدَسَتيه المُرْمَد..جَمْراً يَنْضَح بهِ بَياض مُقْلَتيه..،الأَيَّام التي مَضَت فاتَهُ حِسابها لسَبَبان..الأَوَّل لأنَّهُ نَسِي الحِساب الذي تَعَلَّمه في المَدْرسة..أمَّا الثاني فكان لِثِقْلٍ مُوْجِع تَكَوَّم في حَلْقه..ثِقْلٌ يَنْحَتُ حُزْنه فَوْقَ حَنْجَرته..ثِقْلٌ يُسَمَّى غَصَّة..غَصَّة مَريرة مَنَعَت صَوْتَهُ من الوُلوج لعَدّ الأيَّام المُقْفَرة من ذلك الغائِب..،كانت الشَّمْسُ تُشاكِس عَيْناه بإزْعاج..يُشيح وَجْهه عَن ضَوْئِها الحاد..يَرْفع ذراعه ليَضَعها حاجِزاً بينها و بين بَصَره..لكنَّها تَتَلَصَّص من كُل مَكان لتَمْرَق عَدَسَتيه..كان يَجْلُس عند باب الغُرْفة التي اخْتارتها لهُ أُخْته..يُتابِع غَيْداء ابْنة السَّابِعة و هي تُلاعب عَبْدالله ذو الخَمْسِ سَنوات..يَنْظُر لهما من خَلْف ضَباب الوِحْدة..فأُخُوَّته وَحيدة،على الرَّغْمِ من اتّصالها بخَمْسٍ من الإناث..إلا أنَّها أسَفاً كانت أُخُوَّة مَنْبوذة..،يَنْظُر لهما و من وَجْهه يَرْتَفِع صَمْتٌ صاخِب لا يَحْكي شَيْئاً،إنَّما بِصَخَبه يُتَرْجِم بَوْحَ كلماتٍ خُنُقِت في الجَوى..هُو في بعض الأَحْيان يَلْعَب معهما..خاصَّةً عندما يَخْلو المَنْزِل من أُخْته..لكنَّ أكْثَر من نِصْف اليُوم يَبْقى جَليساً لسُفُنه..يُحادِثها بلُغَة البَحْر..لُغَة المَوْج الرَّاقِص..،ها هُو يَسْتَنِد على باب الغُرْفة من الخارج و الشَّمْسُ لا زالت تُغازل نافِذَتيه المُتَطَلّعَتان لبُزوغ وَجْه رَفيقه..رافعاً ساقيه لتَسْتَقِر فوق رُكْبَتيه سَفينة صَغيرة لها هَيْكَلٌ أَزْرَق،و شِراعٌ شابَ بَياضه آثارُ بَصمات أصابعه القَلِقة..،حاجِباه تَتَوَسَّطهما عُقْدة امْتَزَج فيها الضّيق بأَسى كَئيب..فالرُّوح تَخافُ أن تَخْسَر حَاديها..أَبْعَدَ بَصَرهُ عن غَيْداء و عَبْدالله للسَّفينة..شَيْئاً فشيء كان صَوْتُهما يَبْتَعِد..و كأنَّهُ يَذُوب بين تَلاطُمات البَحْر الذي بَدَأ يَغْرَق فيه..غَزَلَ نظَراته بالشّراع المُصَنَّم عن أي رَفْرَفة،ليَهْمس صَوتٌ بَريء في جَوْفه..لو أنّني أُبْحر بها إليه ! زَفَرَ بيَأسٍ من الفِكْرة..فالبَحْرُ بَعيد..و القَارب لا يَتَّسِع لجَسَده..،
،:طَلال قاعد أَكَلْمك !
وَعَى من غَرَقِه مُنْتَبِهاً لليد التي تَهُز كَتِفه..رَفَعَ عَيْناه ليُبْصِر ذلك الوَجْه الذي اخْتَفَى من أَيّامه فَجْأة..تَقَوَّسَت شَفَتاه بزَعَلٍ ساحِق و هَو يُعاتبه،:إنت وينك ؟ صار يوم و يومين و وايد أيام وما ييت !
هُو الذي اتَّكأ على الأرْض برُكْبته أَجاب بابْتسامة مُعْتَذِرة،:أنـا آسف طَلال "اتَّسَعَت الإبْتسامة و تَجَمَّلَت بأَلقٍ جَذَب عَدَسَتي طَلال..أَرْدَف بنَبْرة تَشَبَّعَت بالسَّعادة" بس وصلتني هديَّة من الله و نسيت كل شي في الدنيا يوم شفتها
ردَّد بذُهول رَفْرَف مع أَهْدابه،:هديَّة من الله !
هَزَّ رأسه بالإيجاب مُؤكّداً،:ايــه..و انا جاي اخذك معاي عشان تشوفها
تَسَاءَل بعَيْنان مُتَّسِعَتان من الدَّهْشة،:يصيـــر اشوفها ؟
وَقَف و هُو يَمُد يَده ناحيته،:ايـــه يصير..قوم نروح
نَظَرَ ليَده المَنْتَظِرة كَفّه..ازْدَرَد تَرَدُّده قَبْل أن يَقُول بخَوْف أَخْنَقَ صَوْته،:بس أختي مو اهني..أخاف إذا يَت و ما شافتني تعصب
تَدَثَّرَت ابْتسامته بطمأنينة تناثَرت وَدَقاً على قَلْب طَلال النَّابض بخَشْية من العِقاب..الْتَقَط يَده يَحِثّه على الوُقوف و هو يُعَقّب،:و أنا داخل البيت شفتها..إنت كنت سَرْحان..خبرتها و وافقت..بتتغدا و ببتعشى معانا بعد
بَرَقت حَدَقَتيه بفَرْحة تَزوره كُل عُشْرون حُزْن..و بصَوْت حَوَى الإبْتسامات،:والله ؟ يعني بقعد عندكم لين يصير الليل؟
و هُو يَمْشي معه،:ايــه حَبيبي..بتقعد عندنا لين الليل
اسْتَدارَ للخلف يَنْظر للحَديقة التي خَلَت من الصَّغيران و هُو يُواصل مَشْيه..و بتساؤل،:و عبود و غيداء ما بيون ؟
نَفَى،:لا..أمهم ما رضت
هَزَّ رأسه بتَفَهُّم دون أَن يُضيف كَلِمةً واحِدة..ليس مُهِماً..الأَهم أن يُغادر هو المنزل ليَتَعَرَّف على الهَدِيَّة التي من عِنْد الله..،خِلال الطَّريق إلى منزل ناصر القَريب نسبياً كان يَسْرد أَحْداث الأَيَّام التي مَضَت دون أن يأتيه..أَخْبره عن انْتظاره الطَّويل و الذي اعْتَذَر ناصِر لأَجْله ثانِيةً..و أَخْبره عن وِحْدته و ملله..و لم يَنْسَ أن يخبره عن الصَّفْعة التي وَجَّهتها لهُ أُخْته لأنَّه خَرَج مع رائد دون إسْتِئذان..عاتبهُ ناصِر بهُدوء،:يُبه طَلال ليش تطلع من غير ما تستأذن ؟
بَرَّر و هُو يُحَرّك يَده و من عَيْنيه نَضَحَ صِدْقٌ بَريء،:نسيـــــت والله..رائد قال لي بسرعة..و ما صار وقت أقول لبلقيس
زَمَّ شَفَتيه و هُو يَنْعَطِف يساراً..ذِكْر اسْمها فقط يُثير غَثيانه..هُو كَذَّبَ على طَلال..لم يُحادثها قبل دقائق بل حادثَ شَقيقه الذي تَكَلَّف بمُهمة إخبارها بخُروج طَلال حينما تَعُود..بالإضافة إلى أنَّه وَعَده بالتَّصَدّي لأي ضَرْبة قد تُحاول أن تُوَجّهها له..فهذه المَرْأة تَنْفث لَهيب النار المُسْتَعِرة في جَوْفها لتَحْرُق هذا اليَتيم..تَحْرُقه بذَنبٍ مُغْرِض نَسَبتهُ لوالدته المِسْكينة..تلك التي صافَحها المَوْت و لازالَت قُلوب الأخوات الخَمْس تَلوك ذِكْراها بحِقْدٍ دَفين..و كان طَلال الصَّيْد الذي يَمْرَقونه بسهام حِقْدهن..هن بالإهْمال..و هي بكُل مَعاني القَسْوة التي عَرَفتها البَشَرِيَّة..دُون أن يُوَعّيها نَسيمُ رَحْمة..،أَوْقَف المَرْكبة في باحة المَنْزل المُخَصَّصة لها..غادَراها مُتَّجِهان لداخل المَنْزل حيثُ تَساءَل طَلال و هُو يَرْفع رأسه لناصر،:وين الهَدية؟
أَشار لإحْدى الغُرَف بابْتسامة مُجيباً،:داخل هذي الغرفة
طَرَق الباب المَفْتوح نِصْفه قَبْلَ أن يَدخُل و هو يُنادي،:ليلى
وَصَلَهُ صَوْتها الرَّقيق المُحَبّب إلى قَلْب رُجولته،:تعال ناصر مافي أحد
دَلَف و من خَلْفه طَلال الذي جالَ بَصَرهُ بانْبهار على الغُرْفة المُزَيَّنة بلونٍ زَهْري جَذَبَ لُبَّه..اسْتَقَرَّت عَيْناه على السَّرير الكبير الجالِسة فَوْقه زَوْجة ناصر و فَيْصَل و هما مَحْنِيان لشَيء لم يَسْتَطع تَمْييزه..،
صَوْت ناصِر عادَ ليُوَجّهه،:تعال اهني طَلال
تَقَدَّم بخَجَلٍ من الخالة لَيْلى،صافَحها و هي سَألتهُ بنَبْرة حَوَت وِدَّاً تَهْفو لهُ حَواسه،:شلونك طَلال؟ إنت زين ؟
هَزَّ رأسه بأدَب مع ارْتفاع هَمْسه،:ايــه زين
قال ناصر و هُو يُشير لذلك الشيء المُتَوَسّد السَّرير،:تعال شوفها..شوفها أي حلاوة
اقْتَرَب أكْثَر ليَتَّضِح لهُ الجِسْم الصَّغير جِدَّاً..مُتَدَثّر بملابس بَيْجية ناعِمة تَكْشف عن قَدَمان بطول إصْبعه السَّبابة و يَدَان بالكاد يَنْحشر فيهما خُنْصُر رَجُل بالغ..نَظَر للوَجْه بعَيْنان يُحيطهما الإسْتغراب..كُل شَيء صَغير..العَيْنان و الأَنْف..و الشَّفَتان مِثْل بُرْعمٍ لم يُزْهِر بَعْد..تَسَاءَل و هُو يُدَقّق في تَفَحُّصه،:هذي لعبة حقك ؟ هذي الهديَّة ؟
الجَوَاب وَصَلهُ بطَريقة أَرْعَبته للحَد الذي جَعل شَهْقة تُباغت حَلْقه..تَراجع خُطْوة للخَلْف و هُو يَهْمِس بعَيْنان أَوْسَعهما الفَزَع،:تتحَرَّك !
عَقَّد حاجبيه بعدم فَهْم لِضحكة ناصر و زوجته و كذلك فَيْصَل الذي قال بنَبْرة ثِقَته المُعْتادة،:طَلال إنت ما تعرف..هذي مو لعبة هذي إختي الصَّغيرة
رَدَّد ليَجْترع عَقْله المَعْنى،:إخْتك الصَّغيرة !
أَكَّد ناصر و هُو يَجْلس على السَّرير عند رأسها،:ايــه أخته..هذي بنتي طَلال..بنتي نُور
نَطَقَ صَوْت في قَلْبه للمَرَّة الأولى تَسْمَعهُ رُوحه..نُـــور !تابَعَ حَرَكْة ناصِر الذي انْحنى ليُقَبّل رأَسَها..هي اسْتَشْعَرَت قُبْلَته ليَتَحَرَّك رأسها بِخفَّة و كأنَّها تَبْحَث عنه..يَدَها الصَّغيرة ارْتَفَعت بلا هدى و اصْطَدَمَت بخَدّها المُتَكَوّر..هَمَسَ بما يَجُول في خَاطره،:صَغيــرة...نِتْفة !
عَلَّقَت الخالة لَيْلى مُوَضّحة،:لأنها بيبي توها مَولودة "أشارت بإصْبعيها" عمرها بس شهرين
هَزَّ رأسه و هُو يَعُود ببصره لهذا الكائِن الغَريب..فعَيْناه لم تَشْهَدان من قَبْل على "بيبي" مثلما تَقُول..يَتَذَكَّر عبدالله صَغيراً..لكنَّهُ كان أَكْبر من هذه الهَدِيَّة..عَقْله غير قادِراً على اسْتيعاب حَجْمَها الضَّئيل..فهي بحجم العرائس التي تَلْعب بهن غَيْداء..تُسَرّح شَعْرهن و تُلْبسهن الفساتين البَرَّاقة مثلما يَحْلو لها..دُون أن تصدر منهن حَرَكة واحدة..فكيف لهذه أن تَتَحَرَّك ! شارَكهم الجُلوس على السَّرير و لسانه نَطَق بإسْتئذانه،:يصير اسلّم عليها ؟
هَزَّ رأسه بالموافقة،:ايـــه أكيــد أكيد..أنا اصلاً جايبك عشان تسلم عليها
ببطءٍ مُتَرَدّد رَفَع يَده الكَبيرة مُقارنة بيَدها المَبْسوطة على بَطْنها..باحْتراز مَسَّ ظاهِرها مُتَحَسّساً نُعومتها البالِـــغة..بابْتسامة خَفيفة مَرَّر أصابعه عَليها و نَظَراته تنتقل بينها و بين وَجْهها المُتَشَرّب بحَمَرة شَهِيَّة..،بخِفَّة داعبَ باطنها بسَبَّابته مُثيراً حَواسَها الحَديثة المَوْلِد لتَقْبض عليها بقوَّة أَنْبَتَ ارْتعاشة لَذيذة بين أَوْصَاله..فَغَرَ فَمَهُ بعَدَم تَصْديق حَلَّقَ حَوْلَ مَلامحه ليَقُول و الذُّهول لَحْنه و هُو يَنْظر لكَفّها المٌتَشَبّثة بإصْبعه،:سَلّمت علي ! يعني هي تحبني !
فيصل بغيرة على التي اعْتَبَرها من مُمْتلكاته الخاصَّة،:أنا بعد تحبني و تسوي لي جذي
لم يُجبه..بل هُو لم يَسْمعه..فحَواسه أَجْمعها كانت مَشْدوهة لهذه النُّــور و لِيَدها الباعِثة لهُ من خُطوطها رَبيعاً بَهي..فحَدَقَتيه المُتراقِصَتين عليها أُنْبِتَت وَسَطهما زُهوراً شَتَّى تُبَشّره بألْوانٍ زاهِية سَتُنْعِش ذاته الفاقِدة..فَمهُ المَفْغور من انْبهاره الطُّفولي يَلِج من خلاله هواء نَقي يَتَحَوَّر في جَوْفه إلى حَمامات بَيْضاء تَعْزف بجَناحَيْها مُوسيقى الأَمَل..فشَيءٌ وَسَط رُوحه يَهْمس لهُ بأنَّهُ سَيَرى نُور الحَياة من خلال هذه الهَدِيَّة..سَيراها مُشْرِقةً بَعْد أن ابْتَلَع المَوْتُ ضِياءَها..،كما فَعَل ناصِر قَبْلَ دقائق،انْحَنى عليها بهُدوء..أَرْخى شَفَتيه على جَبينها لتُناغيه رائِحتها العَذْبة،و بِخِفَّة قَبَّلَها،و بِقُبْلته بَصَمَ على انْعقاد ذاته بها...بنُــور..،
،
تِلْكَ الذّكْرى ما مَرَّ أمام رُوحه في هذه اللَّحْظة،كما سَحابة اخْتَبَأت خَلْف أَحْزِمة من سَواد سَماء احْتَكَرتها ظُلْمة لَيْل مُوْحِشة..هُو أَدارها إليه لتَلْتَقي عَيْناه بوَجْهها المُحَرَّم عليه لأعْوامٍ شاقَّة..حَدَّ اتّباع الشَّيْطان كانت شاقَّة..و أَسفاً أنَّهُ اتَّبَعَه ! ذراعه لا زالت تُحيط بخِصْرها،مُواصِلةً كَيَّهُ بنيرانها..نَطَقَ بجُمْلَته و هُو عالِماً أنَّ الجَواب لن يَصِله..يَدَهُ اليُسْرى ارْتَفَعت إلى رأسها،تُزيح الحِجاب الذي كان مُرْتَخِياً من فَوْضَوِيَّة المَوْقِف..أَزاحَه كاشِفاً عن شعرها المَرْفوع ببعْثَرة ساهَمَت في تَمَلُّص بعض الخُصلات لتُعانق وَجْهها و عُنُقها بجاذِبيَّة..اخْفَضَ يَده لتُسافر إلى أَرْض خَدّها..مَسَّهُ بأَطْراف أَصابعه و كأنَّهُ يَتَأكَّد بأنَّها واقِع،لا حُلْم يَتَطاير قَزَعاً يَهْرُب من صَحْوته..أبْعَدَ تِلْك الخُصْلات ثُمَّ عاد ليَحْتَضن ذلك الخَد المُحْتَرِق من لَمساته..ضَغَطَ بخِفَّة حَوَت حَناناً مَكْسُور الخاطِر،لذلك لم تَسْتَشْعِرهُ حَواسها المُرْتَبِكة..أَخْفَضَ ظَهْره قَليلاً، مُقَرّباً وَجْههُ من وَجْهها و هي اسْتَوَت شَمْعٌ يَذوب بلا حيلة بين يَديه..هَمَسَت من بين تَخَبُّطات أَنْفاسَها،:طَـ ـ ـلال
تَجَاهَل نِداءَها و رَكَّزَ حَواسه على رَغْبته المُسَيّرة حَرَكاته..أَغْمَضَت بشِدَّة و رَجْفَتها وَصَلت عَنان السَّقَف حتى شَعَرت بالمَكان حَوْلها يَنْتَفِض من قُوَّتها..الكابُوس يُباغتها و اقْترابه هذا كالسَّيْف القاطِع خَيْط هُدوءَها..الغَثَيان يَحُوم في صَدرْها مُهَدّداً حَلْقها..سَتَسْتَفْرِغ حَتْماً و هذا لا يَكف عن جُنونه..تُريد أن تَرْفع يَدها لتُبْعِده..لكنَّ الطَّاقة نَهَبَها قُرْبه المَعْقود بنتانة الكابُوس..حَبَسَت أَنْفاسها المُتَقَطّعة مع انْقطاع مَسِير الدّماء في عُروقِها..تَجَمَّدَت أَطْرافها و اخْتنَقَت عَدَستاها خَلْف جِفْنيها..فَشَفتاه اللَّاثِمَتان جَبينها فَصَلَتا رُوحها عن جَسَدها..،هُو قَبَّلَها بطُفولته..بفَقْده و اشْتياقه..قَبَّلها بذاته المُقَيَّدة بها..و بحُبّه المَخْلوق لأَجْلِها..قَبَّلها بِقَلْبه الذي بُحَّت نَبَضاته من بُكائهِ على خَسارتها..و بأَنْفَاسه المُشَبَّعة بشَذا سنينه مَعها قَبَّلها..هُو بأَصْغَر خَلِيَّة في كَيان رُجولته قَبَّلها..،قُبْلته طالت مُجْتَرِعاً بها وُجودها..ساقَها اضطْرَبَتا حَتَّى ظَنَّت لوَهْلة أَنَّها سَتَسْقُط..أَنْفها رُغْماً عَنْها كان مَغْموراً في عُنُقِه لتَغْزوها رائِحته..الغَثَيان شَدَّ رَحْله حتَّى سَقْف حَلْقها..كانت لحْظة فَقط سَبَقت يَدها التي نَجَحت في الإرْتفاع..لكنَّ الإسْتفراغ فازَ عليها ليُغادِر فَمَها باتّجاه عُنُقِه و أَعْلى صَدْره..،أَبْعَدَها عنه بهُدوء لو كانت مُنْتَبِهة له لاسْتَنْكَرته..تابَعتهُ و هُو يُخْفِض بَصَره يُحاول أن يَنْظُر للذي بَدَأ يَسيل فَوْقَ سُتْرَته ناحِية صَدْره..جَسَدَها كان يَشْتَعِل بصَيْفٍ حَرَقَ جِلْدها حتى غَدا لون بَشْرتها قانٍ أَحْمر..ضَمَّت شَفَتيها للدَّاخِل ضاغِطة بقُوَّة تَنُم عن حَرَجِها..أَرْخَتْهما اسْتِسْلاماً لِشَهْقة بُكاء عَبَرَتهما..تَطَافرت الدُّموع من عَيْنيها مع ارْتفاع كَفّها لفَمها و هي تَقُول بتَأنيب،:كِلَّه منّـ ـك..ليش تقرب مني !
أَخْفَت وَجْهها المَحْفوف ببلايا الحَرَج و من بين فَراغات أَصابعها هَتَفَت شَهَقاتها المُنْبَجِسة من صَدْرٍ تَكالبت عَليه مَشاعر المَوْقِف الغَريب..في ساعة فَقَط أَصْبَحَت زَوْجته..لم يَمْنَحها والدَهُا و لَو ثوانٍ لتَلْتَقِط أَنْفاسها و تُهَدّأ من رَوْعها..أَتاها على غَفْلة من حُب مُضَّطَرِب..حُبٌ مُتَخَضّب بدَرْن ذَنْبٍ مُغَيَّب بين الهَذَيان و الوَعْي..تَلَقَّفَ يَدَها التَّائِهة حاشِراً قَلَماً كان حِبْره الطُّوفان الذي اقْتَلَع قُيود الحَرام بينهما..لتَصْبح بعد ثوانٍ حَليلته..بُكاءَها كان بُكاء حَرَج يُعاضِدهُ رَهْبة من الحَدَثَ..حِمْلٌ ثَقيل هذا الذي يَحْصل..هي زَوْجته..زَوْجة طَلال ! زَوْجة من تَمَنَّاهُ قَلْبها و صُمَّت أُمْنيته يَوم تَرَبَّعَت أُنوثتها على عَرْش عَبْدالله..ابْن أُخْته..اخْتَرَقَت عِظامها رَجْفة مُؤلِمة نَخَرَت الحَقيقة في نُخاعِها..فأنتِ الآن زَوْجة الذي وَقَفَ مَعَكِ على مَقْصلة الإتَّهام المُشَيَّدة بيدين بَلْقيس..لا مَفَرَّ من شُكوكهم..بل هُم سيَتَيَقَّنون من صِدْقها..إلهي رُحْماك..،تَضاعَف نَحيبها من هذه الفِكْرة التي غَزَلَت سُمومها بعباءَة المَوْقِف المُعْتَلِية كَتِفها..عَباءة سَوداء تُنْذِر بمآسٍ قَريبة..كَيْف فَكَّر والدُها هَكذا ! تَسَرَّع و جِدَّاً..هُو خَطَفَ نَبْضَها بتَسَرُّعه..،
تَدَاخل مع الْتباساتها صَوْته المُبْهَمة حالة نَبْرته..لم يَكُن ضائِقاً و لا مُرْتاحاً..لا بارداً و لا مُسْتَعِرا،:خَــلاص نُور..ما صار شي "أَرْدَفَ يُوَجّهها" دخلي الحمام اللي اهني إذا تبين تغسلين..أنا بروح برا "و هُو يَبْتَعِد للباب" اخذي راحتش
انْتَظَرَت حَتَّى تَأَكَّدت من خَواء الغُرْفة من جَسَده لتَكْشِف عن لَوْحة وَجْهها المُهْتَرِئة المَلامح..تَنَشَّقَت بِضْع أُكْسُجينات امْتَزَجَت معها رائِحة أَنْفاسه لتُحَفّز دُموعاً جَديدة وَسَط مُقْلَتيها..رَفَعت يَدها و بظاهرها تَشَرَّبَت صَبيبها..خَطَت ناحِية دَوْرة المِياه التي أَشار إليها بِقَدَمان تَزْحَفان فَوْقَ كَديدٍ زَعْزَعهُ انْعِقاد أُنوثتها برُجولته..،دَلَفت لتُطَهّر صَفْحة وَجْهها من شَوائِب الدُّموع..سَقَته بالماءَ ثَلاث مَرَّات لتُطْفئ حَرارته اللَّاسِعة..نَظَّفَت فَمَها جَيّداً و ذاكِرتها تُمارِس تَعْذيباً على رُوحها..فهي تُعيد لها مَشْهَد اقْترابه..قُبْلته و اسْتفراغها الهَزيل..احْتَضَنت أَجْفانها عَيْنيها لتَحْميهما من تلك الصُّور المُهاجِمة وَعْيها..أَغْلَقَت صُنْبور الماء قَبْل أن تَتَراجع مُسْتَنِدةً بجانب جَسَدها على الباب بإعْياءٍ أَحالها كائناً على أَعْتاب الإغْماء..أَخْفَضَت بَصرها للمِقْبَض..كان يَبْعد عن يَدها مَسافة شِبْر أو أَكْثَر بقَليل..لكنَّ تَعَبَها أَوْحى لها بأنَّهُ يَبْعُد عَنْها كما جَبَلاً شاهِقاً يَتَطَلَّب تَسَلُّقها..إضافة إلى أنَّ حَواسها تَرْفض أن تَنْفَرد مع ذلك الرُّجل..انْكَمَشَ جَسَدها خَوْفاً من البقاء مَعهُ وَحيدة..تَخافُ على قَلْبها و ذاكرتها..تَخافُ على مُقْلَتيها من جَفافٍ تَطْرُق بابهُ الدُّموع..تَخْشى أن يُخونها الكابوس للمرَّة الأَلْف و تَذْوي بين يَديه بلا حيلة..لا تَسْتطيع أن تُواجهه و كأنَّ شيئاً لم يَكُن..فحتَّى هذه الثَّانية،لا شيء من وُجودها آمَن بحَقيقة أنَّها زَوْجته...،
,،
ماضٍ
الكَوْنُ يَرْتَجِف..السَّماءُ تَلْتَحِفُ برداءٍ أَسْود تَطوفه شُهبٌ غَبَشِيَّة تُثير الرَّهْبة..القَمَرُ قَد اسْتَتَرَّ خلف سُحُبٍ امْتَصَّت لَوْناً رَمادياً لهُ وِحْشة تَزيغ منها القُلوب..شِتاءُ بَرْلين قد وَصَلَ إلى ذَرْوته،و الجَليدُ قَد شَدَّ رَحْله فَوْق الأراضي و الجِبال..كان زَرْعُ حَديقتهم قَد تَلَوَّن ببياضِ الثُّلوج..إلا أنَّهُ كانَ بَياضاً مُشَوَّشَ النَّقاء..إثْر اخْتلاطه باحْمرارٍ مُريب..و من بين الأَزْهار..و من جِذْع شَجَرَة البُرْتُقال،تَفَرَّعَت رائِحة نَتِنة..تَكَوَّمَت في حَلْقِها المَشْروخ من الزَّعيق..،حُبِسَت في غُرْفَتِها لِيَوْمان،صَيَّرَهُما الرُّعْبُ قَرْنان شابت منهما الرُّوح..نَهَبَ ابْنَتَها من بين أَحْضانها و هي نائِمة بوَجَل..و لم يَكْتَفِ..هُو تَمَرَّدَ و قادَ مُرَبّيتها و زَوْجها و ابْنتهما أَمَل لخارج المَنْزِل..إلى أَيْن لم تَدْرِ..سَألتَ الجُدْران..السَّقْف..النَّافِذة و الأبْواب..و لم يَصِلها إلا نَحيبها المُتواصِل بلا انْقطاع..،كانت مُنْطَوِية على نَفْسِها وَسَط السَّرير المُصَيّرتهُ دُموعها بَحْراً أُجاجا..تَبْكي و تَذْرف أنْهاراً لها طَعْمُ عَلْقم انْبَجَسَ من عَيْن المَرارة النَّابِتة في رُوحها..تَجُرُّ بعَويلها أَلْفَ بَيْتٍ و بَيْت من الحُزْن..لتُحيك بمَغْزَلة نَوْحِها قَصيدة اليُتْم..و الفَقْد العَظيم..،رياحُ زَمْهَرير تَجُوس في الخارج..تُحَرّك أَغْصان الشَّجَرَ ليَصْدَح حَفيفٌ مُوْحِش..اللَّيْلُ قَد أَعْلَن امْتداد ساعاته،رافِضاً أن تَمْرَقَ ظُلْمَته إشْراقة شَمْس تُغَرّد بالأمَلَ..لا أَمَل فاتِن..فأنتِ للفَقْد و الحِرْمان قد خُلِقْتِ..فلا تَدَعي عُنُقكِ يَشْرَأبَ إلى العَلْياءِ بَحْثاً عن ثَغْرة يَلِجُ منها ضَوْءُ أَمَل..لا تَحْلُمي..فالحُلْمُ للاتي بين والدٍ و والدة يَتْرَعن..و فَوْقَ أَرْضِ وَطَنٍ آمِن يَضَّجِعْن..لا للتي تَتَخَبَّط ذاتها بين غُرْبة و فَقْد..لا تَحْلُمي..،ارْتَعَشَ جَسَدُها الهَزيل لِصَوْت قُفْل الباب..اسْتَقَرَ باطن كَفُّها على السَّرير لتَرْفع جَسدها..بصعوبة اسْتَطاعت أن تَرْفعه و تَتَّكئ على مِرْفَقِها..فُتِح الباب ليَتَّضِح وَجْههُ المُتَشَبّع إجْراماً..اسْتَحْكَمَت منها رَجْفة مُوْجِعة..لم تَكُن رَجْفة خَوْف أو خِشْية..بل كانت انْتفاضة حِقْد عَميق..،تَقَدَّم منها و هي تُتابعه من خلف غِشاء شَفَّاف يَرْفض الإبْتعاد عن ساحتيها الواسعتين..تَوَقَّفَ أَمامها ليَنْطُق بصَوْته البَغيض،:كنتِ تبين تشردين معاهم ها ؟ تبين تغافليني و تشردين إلى لندن "شَخَرَ بسُخْرِية و هُو يُشير إليها باسْتصغار مُرْدِفاً" تظنين نفسش تقدرين عَلَي! أنا سلطان إللي برلين بكبرها ما قدرت عَلَي..إنت تجين و تفردين عضلاتش قدامي !
ببحَّة ابْتَلَعت ثَلاثة أَرْباع صَوْتها ليَخْرُج نَحيلاً..كأنَّما هَزَمهُ مَرَض،:بيجي يوم و بيجرونك مثل البهيمة يا كلْـــ...
اشْتَعَلَت حَدَقتاها غَيْظاً من ضِحْكته المُتَشَدّقة..قُبْح العالم أَجْمع يَسْري مع دمائه النَّجِسة..تَقَلَّصَت ضِحْكته إلى ابْتسامة تَميل خَباثَةً ليَهْمُس بنَبْرة لا تُطاق،:ما عليــــه..مَقْبولة منش يا حلـــووة
تَجاهلت كلماته القاصِدة مآرب تُسَبّب لها الغَثَيان..تَساءَلت بحِدَّة مَبْحوحة و هي تَعْتَدِل جالِسة فوْق رُكْبتيها،:وين بنتي ؟ أم أَمَل و حَجُّو و أمل..وينهم ؟
أَجابَ بابْتسامته التي تَعاضَدت مع الثّقة،:بنتش لو تلفين العالم كلَّه ما بتحصلينها "رَقَصَ الشَّيْطان في داخله عندما أَبْصَر عَيْناها كَيْف جَحِظَتا من خَبَره..أَكْمَل مع انْحشار يَده في جَيْب بنطاله القماشي" فلا تتعبين نفسش
أَلْقى عَليها وَرَقَة مَطْوية..طَرَفَها الحاد جَرَح أَسْفَل عَيْنها المُنْسَلِخ جِلْدها من الدَّمْع..تَجاهلت الإحْتراق الذي كَوَّنتهُ الوَرَقة،مُنَصّبةً جُلَّ حَواسها لكلماته،:هذي ورقة طلاقش..صرتين حُرَّة..روحي أي مكـــان تبين
تَلَقَّفَت الوَرَقة و بيدها شَوَّهت ملامحها قَبْل أن تَرْميها عليه ببداية غَضَب صارِخةً،:وينهـــم يا حقيـــر يا مُجرم يا ســـ... .،..وينهــــم !
اسْتَقَرَّ بيديه في جَيْبي بنطاله..أَخْفَضَ رأسه قَليلاً يَنْظُر لحذائه اللَّامع كما لَمْعة المَكْر القافِزة ثَعْلَباً من عَيْنيه..،هَمَسَ بابْتسامة أَظْهَرت نابه المُلَوَّث بدماء طاهِرة،:في الحديقة..عند شجرة البُرْتقال
تَرَكَت السَّرير بتَخَبُّط لتَجْري إلى الأسْفَل بقَدَمان انْتَعَلتا التَّوَتُّر..كلماته النَّاقِعة في نَبْرة مَسْمومة طَرَقَت ناقُوس الخَطَر في صَدْرها..لَمَحت بين عَيْنيه سيوفٌ و رِماح تَحْكي عن حَرْبٍ خَبَت كان هُو فيها المُنْتَصِر..نعم كان هُو المُنْتَصِر و تلك السُّيوف قد طالَت أَرْواحاً كانت لها عائِلة دافِئِة..،تَوَقَّفَت خُطواتها مُنْتَبِهةً للون المُضاد لبياض الثَّلوج..أَحْنَت جِذْعها تنظر لهُ بتَدْقيق..ثوانٍ و اتّساعٌ فَزِع أحاط بعَيْنيها..فاللَّوْن لم يَكُن سِوى دماءٌ احْمرارها بَدَأ يُحَوّرهُ الجَفاف إلى سوادٍ مُخيف..،اسْتَقامت واقِفة بملامح مَخْطوفة..تَقَلَّبت عَدَستَاها وَسَط البياض بهَذَيان..و بهَمْسٍ اقْتَرَبَ من المَوْت،:أَمـــ ـل...
مَشَت ببطء و بخطوات مُتَعَرّجة..شَجَرَة البُرْتقال كانت تَقْتَرِب منها شَيئاً فشيء..أَوْراقها الكَثيفة حَيَّتها بذُبولٍ فَرَضَهُ عليها الشّتاء..تَقَدَّمت لتَخْتَرِق أَنْفَها رائِحة قَوِيَّة باغَتَت حَلْقَها..رَفَعت كَفَّها لفَمها و هي تَسْعُل،بالتَّوالي مع ارْتفاع عَيْنها للذي كان مُتَدَلّياً من الشَّجَرة..،لم يَكُن صَعيق بَرْلين ذاك الذي جَمَّدَ دِماءَها..و لم تَكُن رَجْفة البرد ما قَبَضَ على ذِقْنها..و لم تَكُن السُّحُب المُتَكَدّسة في السَّماء من أَفْرَغَت وَدَقَها وَسَطَ مُقْلَتيها..إنَّما كانت الأَجْساد الثَّلاثة المُعَلَّقة بلا حَرَكة بأغْصان شَجَرة البُرْتقال..و من أَسْفلها تَكَوَّنت بُحَيْرة من دماءٍ قَد تَكَلَّسَت بعد أن شَخَبَت من أَوْداجهم المَقْطوعة..،صَرْخــة مُدْوِية تَفَجَّرت من أَعْماق رُوحها لتَعْلو نَعيقاً شَقَّ ثَوْبَ السَّماء،و تَصَدَّعَ منهُ قَمَراً كان قَد انْطوى حَسْرةً على أَرواحٍ بَريئة..،الأَرْضُ اجْتَذَبَت جَسَدها المَذْبوح لتَتَعَفَّر بهيستيريَّة فَوْق دمائهم..تَصْرُخ و من حَنْجَرتها تُحَلّق مُعَلَّقاتٍ من بُكاءٍ و عَويل..تَلْطُم وَجْهها..تَخْدش خَدَّيها و تَرْكِلُ أَرْضاً أَنْجَبَتها من أَجْلِ تَعْذيبها..لَيْلتها كان النَّحيبُ نَوْمها..و الدَّماء الطَّاهِرة سَريرها..و أجْسادهم كانت السَّقْفَ الذي حَجَبَ عَنها مَطَرَ سَماءٍ خَائنة..شَهِدت على نَحْرهم و لم تُنْقذهم..كانت وَحيدة..تَرْتَعِش بَرْداً و هَلَعاً..و في عَيْنيها باتَ مَشْهَدٌ دَمَوي قَضَى على آخر فُتات أَفْراحِها..و أَمْسَت بَكْماء من كَلِمات..غَيْر الصُّراخ لم تَسْتَمِع الأَشْجار..صُراخٌ تَذَيَّل بأُمْنية..أُمْنية وَحيدة تنتشلها من هذا العَذاب....أُمْنية المَـــوْت...،
,،
يتبع