جنــــون
07-18-2017, 12:45 PM
رواية قيد القمر .. الفصل الثالث عشر
فتحت نو ا ر عينيها ببطء لتقابلها ملامح رؤوف وهو ينظر إليها ببرود.. وسمعته يأمرها
بجفاء:
استعدي بسرعة, فيجب علينا العودة سريعاً للمستشفى..
سألته بخوف وهي تتغافل عن جموده:
هل جدي بخير؟..
رد باختصار قبل أن يغادر مسرعاً:
كما هو.
صدمت نو ا ر من تصرفه وانص ا رفه السريع.. ماذا يحدث؟.. لقد ظنت الليلة الماضية أنهما
عب ا ر مرحلة البرود والجفاء بعد سقوطه بين ذ ا رعيها يذرف دموعه على صدرها.. وسقطت
كل الحواجز التي كان يشيدها ببسالة حول مشاعره لينكشف لها الطفل الخائف من ألم
الحرمان واليتم مرة أخرى.. لم يفاجئها انهياره بقدر ما صدمها قوة هذا الانهيار وهو ينتفض
باكياً بين ذ ا رعيها كطفل صغير يخشى فقدان عائلته..
ألجمتها الصدمة للحظة إلا أن غريزتها سرعان ما دفعتها لتحتضنه بقوة وهي تربت على
كتفيه وتملس خصلاته الثائرة كجسده الذي كان ينتفض بفعل شهقاته العنيفة..
لم تحاول أن تتكلم.. فكل الكلام لا معنى له أمام انهياره العنيف.. فتركته يفرغ كل ما
بداخله على صدرها وهي تكاد تحبس أنفاسها تخشى أن يشعر بوجوده بين ذ ا رعيها.. يتذكر
أنه يضغطها بجسده في الف ا رش فيمتنع عن إف ا رغ شحنة حزنه وألمه.. تريده أن يتخلص من
تلك الشجون فهو لن يتحمل المزيد..
عيناه التائهتان والجميع يلتف حوله في المستشفى يسأله المشورة أخبرتاها بوضوح أنه وصل
إلى حافة تحمله, لذلك أصرت على البعد عنهم بأقصى سرعة وليظنوا ما يحلو لهم.. هو ما
يهمها.. وهو فقط.. لقد أوشك على الإنهيار بالفعل ولم تكن تسمح لأي شخص أن يشهد
ذلك الإنهيار.. وهو لم يكن ليسامح نفسه لو سقط منها ا رً أمام أي شخص, وما هي متأكدة
منه أنه لن يسامحها لأنها شهدت لحظة ضعفه..
بدأت شهقاته تهدأ قليلاً.. فعلمت أنه بدأ يعود للواقع ويدرك ما قام به.. مرت فترة سكون
كادت أن تسمع فيها صوت الهواء وهو يتحرك في الغرفة.. فسكنت تماماً تنتظر ثورته, إلا
أنها شعرت بذ ا رعيه تشتدان حولها لتضمها إليه ولكن هذه المرة لم تكن ضمة مواساة.. لم
يكن يبحث عن دعم ذ ا رعيها, بل عن عاطفتها.. عن تجاوبها.. وتأكدت من ذلك عندما
تحركت شفتاه على صدرها تنشر قبلات لاهبة وهو يزيد من ضغط ذ ا رعيه حولها حتى
كادت أن تشعر بعظامها تتفتت من قوته...
أدركت أنه غير مدرك للقوة التي يستخدمها فبدأت تمسد شعره برقة وهي توزع قبلاتها على
وجهه تحاول أن تمنحه ال ا رحة والحنان حتى يخفف من القسوة التي يعاملها بها ولكنها
سرعان ما وجدت شفتيه تزحفان لتصلا إلى شفتيها فيضغطهما بعنف غريب عليه.. همست
بضعف:
رؤوف...
وصلها صوته وهو يقول بش ا رسة حارقة:
أحتاجكِ يا قمري.. أحتاجكِ بشدة..
كان صوته يحمل نبرة يائسة وهو ما ي ا زل يتمسك بها بقوة.. ولأول مرة يُشعِرها بحاجته إليها,
بل ويصرح بذلك أيضاً فلم يكن أمامها إلا الإستسلام له تمنحه ما يحتاج من سكينة و ا رحة..
وحب.. حبها الذي همسته له عدة م ا رت وهو لم يمانع في سماع تلك الهمسات, بل كلما
همست له بحبها كان يزداد جنوناً واندفاعاً نحوها.. اندفاعه اتسم بالعنف, بل القسوة.. لأول
مرة تلتمس منه تلك القسوة في علاقتهما الحميمة.. وكأن لمساته خرجت عن سيطرته, فبدلاً
من الحماية والدلال والشغف الذي تستشعره منه دائماً.. تلقت القسوة والألم..
انتهى جنونه سريعاً فاستلقى على ظهره لاهثاً وهو يغطي عينيه بذ ا رعه يخفيهما عنها وكأنه
غير قادر على مواجهتها بعد تلك العاصفة التي سحبها إليها.. فهو لأول مرة يفكر في نفسه
أولاً.. ويأخذ كل ما تهبه إياه بد ون أن يفكر بالعطاء في المقابل.. لقد تصرف مثل وغد
أناني وهو يكره نفسه لذلك.. لكنه كان بحاجة إليها بشدة.. حاجة لم يستطع تفسيرها, بل لم
يرد ذلك.. فهو لم يكن في احتياج لام أ رة.. لعلاقة.. بل لوجودها هي معه ولإحساسه بها بين
ذ ا رعيه, وكأنها تق أ ر أفكاره.. وجدها تحرك أ رسها لتضعها على كتفه وشعر بيدها الصغيرة
تتسلل بهدوء على عضلات صدره وهي تهمس بخفوت:
هل تعلم شيئاً؟..
لم تنتظر إجابته واسترسلت:
ليلة زفافنا.. عندما اكتشفت أن جناحنا يقع في الطابق الأرضي.. انتابني غضب شديد..
فقد شعرت بالإهانة وبجرح عميق لكبريائي حتى أنني توعدتك س ا رً وأقسمت أن أجعلك تطلب
مني الانتقال إلى الطابق الأعلى لأتخذ مكاني الملائم كسيدة للمنزل... مثلها تماماً..
نظر إليها باستفهام وهو ما ا زل متمسكاً بصمته.. فحركت أ رسها قليلاً لتضعها على صدره
قريباً من قلبه فكاد صوت دقاته العالية والسريعة أن يصم أذنيها وأكملت سرد قصتها:
لقد فكرت في الت ا رجع عن قسمي لاحقاً وخاصة بعدما لمحت الحديقة الداخلية التي تربط
الجناح بغرفة مكتبك.. فهي ا رئعة, بل مذهلة لقد أحببتها على الفور.. ولكن ما حسم الأمر
بداخلي فعلاً.. وجعلني أتمسك بموقع جناحي بالطابق الأرضي.. اكتشافي أنني استطيع
م ا رقبتك والإطمئنان عليك من خلال نافذتينا المتواجهتين.. فم ا رقبتي لك وأنت تعمل..
وخاصة في الأيام التي بعدت عني فيها, هي ما ساعدني على تخطي بعدك وجفائك.. فكان
أن فضلت اطمئناني عليك واحساسي بتواجدك معي ولو عن بعد على انتصاري عليها في
معركة السيادة على المنزل...
تجمد رؤوف تماماً تحت لمساتها الدافئة وهو لا يصدق ما تحاول إخباره به.. هل تقصد ما
فهمه من كلامها؟!!.. هل تقصد أنها فضلته عن نفسها.. أنها قدمته هو على كبريائها!!..
هل هذا صحيح؟.. هل يمثل لها تلك الأهمية!!..
وللمرة الثانية ترد على أفكاره التي لم ينطق بها وهي تتمتم:
أنت أهم وأغلى عندي من كل شيء... فقط صدق هذا..
تلك المرة عندما لفها بذ ا رعيه مقرباً إياها من صدره ومرتشفاً رحيق شفتيها.. كانا بالفعل
يتبادلان الحب..
حاولت نو ا ر سحب نفسها من ذكريات ليلتها الحافلة فأغمضت عينيها تعتصرهما حتى لا
تجري دموعها على وجنتيها وهي تكمل استعدادها حتى تصطحبه للمشفى محدثة نفسها
بألم..
"إلى متى؟... إلى متى تمتد حلقة جفائك التي لا تريد كسرها ولا تسمح لي باخت ا رقها؟".
تحركت بألم تبحث عن رؤوف الذي كان يجوب الطابق السفلي كمن مسه الجنون.. ضرب
إحدى الموائد الجانبية بعنف شديد مما تسبب في تكسير بعض التحف التي سقطت أرضاً..
كان الغضب يمزقه, بل يحرقه حرقاً.. كيف سمح بما حدث الليلة الماضية؟.. كيف يسمح
لنفسه بهذا الانهيار.. وأمامها.. بين ذ ا رعيها!!.. هي من دون الجميع تشهد على دموعه..
على لحظة ضعفه وانهياره..
لقد ظن أنه يملك بأس وثبات جده, الذي تلقى خبر وفاة ولده وهو ثابتاً.. صامداً و ا ربط
الجأش.. ولكن أثبتت الأيام أنه ضعيف, بل أضعف مما تخيل يوماً, فلقد سقط منها ا رً عند
تفكيره أنه قد يفقد جده, لم يتخيل أبداً أن ينتابه مثل ذلك الشعور.. لقد شعر بالهلع, بل
الرعب حتى أنه لجأ إلى ذ ا رعيها يلتمس الدعم منها وال ا رحة على صدرها..
هل انغماسه بها الليلة الماضية كان هروباً من هلعه.. ف ا ر ا رً من ضعفه الذي لمسه لأول مرة
الليلة الماضية وهو يواسي الجميع ويحل مشاكلهم, بينما كان في أعماقه يتوق لربته رقيقة
تطمئنه وتهدأ من مخاوفه.. لضمة من صدر حنون تخبره ألا يخاف ولا يجزع..
حتى نعمات.. حتى مواستها له جاءت رسمية وهي تحثه على الصمود من أجل الجميع..
هل لهذا السبب لم يلجأ لنعمات تلك الم أ رة التي استوعبته لسنوات... كلا.. لقد أ ا رد نو ا ر..
تاق إليها.. كان بحاجتها مهما حاول أن يهرب من تفسير ما شعر به أو يخدع نفسه بأن
اندفاعه الغير مسبوق نحوها كان سببه طول فترة بعده عنها.. إلا إنه لن يستطيع إنكار
السلام الذي وجده بين ذ ا رعيها.. وال ا رحة التي منحتها له بدون حساب.. وهو ينهل من
حبها, يأخذ كل ما تمنحه إياه متغاضياً عن العطاء..
كيف له أن يواجه عينيها بعد ما شعرت بحاجته إليها التي صرح بها بكل وضوح ليلة أمس,
وحتى بعد اعت ا رفاتها المتوالية بالحب.. يجد نفسه الآن في الموقف الأضعف وهروبه من
أمامها منذ قليل هو أكبر دليل على ضعفه ذاك.. لقد انكشف أمامها.. تعرت روحه تماماً..
خرج الطفل الخائف بداخله إلى العلن وكانت هي من أخذت بيده لتخرجه من ظلمات
الحرمان إلى ضياء الحب والاحتواء.. ولكن يبقى السؤال الصعب.. كيف يمكن لأي رجل
بعنفوانه أن يواجه ام أ رته بعد أن بكى بين ذ ا رعيها كالطفل الخائف؟.. ام أ رته التي تقف بعيداً
الآن مترددة ولا تعرف كيف تتواصل معه.. تحاول ألا تشعره بوجودها.. تريده أن ينفث عن
عصبيته وغضبه قبل أن يذهبا معاً ويواجها الجميع باختفائهما الغير مبرر.. والذي لن يمر
بسهولة... ولكنها لم تعلم أنه شعر بها منذ أن خطت بقدميها خارج غرفة جدهما..
أجفلت عندما وصلها صوته:
مستعدة؟..
أجابته بخفوت:
نعم..
ما أن وصلا إلى المشفى حتى اندفع إليه منذر وقاسم يسألانه بلهفة:
رؤوف!!.. أين كنت؟.
أجاب بغموض:
ذهبت لإنهاء بعض المهام الخاصة بالعمل.. هل جد جديد؟..
سأله قاسم بغيظ وهو يرمق نو ا ر بنظرة ذات معنى:
وهل أخذت تلك المهام الليل بأكمله؟.
شيئاً ما في نبرة قاسم لم ترق لرؤوف.. أو ربما في نظ ا رته نحو نو ا ر التي ألصقت نفسها به..
مما دفعه للرد بجفاء:
هذا شأن خاص بي..
عاد قاسم يتأمل نو ا ر مرة أخرى وهو يخاطب رؤوف بطريقة مستفزة:
يبدو أن تلك المهام كانت عاجلة بالفعل.. ولم تستطع الانتظار لأدائها..
ضغط رؤوف على أسنانه بغيظ وقد وصله المغزى من كلام قاسم ولكنه قرر تجاهله:
يجب أن يتواجد أحدنا بالشركة اليوم, فلتذهب أنت يا قاسم.
أجاب قاسم بحدة:
ولماذا أنا؟..
أنت المسئول عن الشئون القانونية, ويجب أن ت ا رجع العقد الخاص بالصفقة الأخيرة.. ماذا
بك؟.
أجابه قاسم بحدة:
كلا.. سأبقى.. سأجري عدة مكالمات لأسوي الأمور.. ولكني لن أذهب..
كانت نعمات ت ا رقب ما يحدث عن بعد.. واستطاعت أن تفهم من تعابيرهم أنهم يتجادلون
حول أمر ما.. لم تهتم بهذا, فما لفت انتباهها هو ملامح رؤوف المبهمة.. ولغة جسده
الغامضة.. فهو يبدو محتداً وعصبياً, ولكن في نفس الوقت مسيط ا رً وهادئ بل يكاد يكون
مسترخياً قليلاً عن ليلة أمس..
نقلت بصرها إلى السم ا رء الصغيرة بجانبه تلاحظ أن ملامحها تنطق بالاهتمام والقلق وهي
ترمقه بنظ ا رتها الجانبية, فأدركت أن نو ا ر هي من سحبته من بينهم جميعاً لتستأثر به
لنفسها..
تحركت نحوهما وهي تستشيط غضباً من اختفائه ليلة أمس.. وانعكس هذا على لهجتها
الحادة:
رؤوف.. أين كنت؟.
أجاب بحدة:
ماذا بكم جميعاً؟.. هل يجب أن أتواجد أمامكم طوال الأربع والعشرين ساعة؟!!.. ألا
أستطيع الحصول على بعض ال ا رحة؟..
تلعثمت نعمات أمام حدة رؤوف:
بالط.. ب.. ع.. ولكني لم أعتد اختفائك في الأوقات العصيبة..
أجاب بغضب وهو يتحرك مبتعداً:
لكل شيء بداية..
ثم ما لبث أن عاد وكأنه تذكر أم ا رً ما.. فسحب نو ا ر من ذ ا رعها.. متوجهاً نحو عمه.. تاركاً
نعمات وهي تتميز غيظاً وغلاً..
خاطب نو ا ر بحدة فهو يريدها بعيداً عن قاسم.. بعيداً جداً:
انتظريني هنا..
أجابت في خفوت وهي متعجبة من تصرفه:
حسناً..
بعد أن اطمئن من الطبيب المختص بحالة جده أن وضع هذا الأخير مستقر.. وأنه على
وشك نقله إلى غرفة عادية بدلاً من غرفة العناية المركزة.. خرج إلى حديقة المشفى ومشهد
قاسم وهو يرمق نو ا ر بتلك النظ ا رت الغريبة.. يتكرر في ذهنه م ا ر ا رً وتك ا ر ا رً.. ماذا و ا رء تلك
النظ ا رت؟.. وهل كانت موجهة نحو نو ا ر فقط؟.. أم نحوهما معاً, رداً على غيابهما
الطويل؟..
هل هذا ما طلبته منك يا رؤوف؟..
التفت ليجد نعمات تواجهه وملامح الغضب تبدو عليها.. فسألها بحيرة:
ماذا هناك يا نعمات؟..
أجابته بغضب:
ألم أطلب منك أن تحافظ على ك ا رمتي وخاصة أمام... زوجتك؟..
أجابها بإرهاق وهو يمسح وجهه بكفيه:
نعمات.. من أجل الله.. هل تظنين أن الوقت مناسب لحوار كهذا؟..
أجابته بغيظ:
وهل كان الوقت مناسب لتختفي مع ... زوجتك.. لتفعلا ما يحلو لكما؟..
انتفض جسده بصدمة من قولها.. وأخذ يتأملها للحظات.. يعلم أنها غاضبة لاختفائه ليلة
أمس ولكنه لا يدري لما لم يشعر بتعاطف مع غضبها هذا وبدلاً من ذلك أجابها بهدوء:
لا الوقت ولا المكان مناسبين للحوار الذي تريدينه..
قطع كلامه وصول نو ا ر اللاهث:
رؤوف.. لقد استفاق جدي... وهو يطلب رؤيتك.
أ ا زح نعمات من طريقه متوجهاً نحو جده, وتبعته نو ا ر ولكن نعمات استوقفتها:
لا تظني أنكِ ستمتلكينه, فقط لأنه مهووس بجسدكِ الشاب..
رمقتها نو ا ر باشمئ ا زز من عبا ا رتها واستمرت في طريقها.. لكنها التفتت لتقول من خلف
كتفها:
لا تجعليني أفقد آخر ما أكنه لكِ من احت ا رم..
*****************
وقف رؤوف على باب غرفة جده متردداً في الدخول إليه.. لا يريد أن ي ا ره في تلك الحالة
الضعيفة.. صحيح أن جده مر ببعض الأزمات الصحية من قبل, إلا أن تلك الأزمة الأخيرة
كانت أشدهم.. وأكثرهم خط ا رً على حياته..
سمع صوت جده يناديه بخفوت:
رؤوف.. تعالى يا بني..
تقدم رؤوف بسرعة.. وركع بجانب الف ا رش:
حمداً لله على سلامتك يا جدي.. لقد أثرت قلقنا جميعاً.
ربت الجد على كتفه بحنان:
لا تقلق ولا تحزن يا بني.. فأنت لم تعد وحيداً الآن, فلديك زوجة وقريباً سيكون لديك أبناء
أيضاً.. لقد طلبت رؤيتك الآن لأسألك شيئاً يا رؤوف.
سل ما تشاء يا جدي.
سعل العجوز بجهد:
رؤوف.. أريدك أن تسامحني يا ولدي.. فأنا أعلم أنني ظلمتك..
قاطع رؤوف كلام جده وهو يقول:
أنت لم تجبرني على شيء يا جدي.. أنا كنت موافق على كل شيء.
هل ترى أنني لم أجبرك؟.. ولكني لم أتح لك الخيار أيضاً..
أحنى رؤوف أ رسه ليقبل يد جده قائلاً:
دعك من هذا الكلام الآن.. فصحتك هي الأهم.. وتأكد لو أن الزمن عاد للو ا رء لم أكن
لأغير شيء مما حدث..
تمتم جده بخفوت:
بارك الله فيك يا بني.. آمل أن تكون شموس بنفس سماحتك.. هل هي بالخارج؟..
نعم يا جدي.
اطلب منها أن تأتي هي الأخرى..
دخلت شموس إلى غرفة العجوز بخطوات مترددة ي ا رفقها عبد السلام, ولكن ما أن رآه والده
حتى طلب منه أن يدعه مع شموس بمفردهما....
*****************
تأففت نو ا ر بضيق وهي جالسة بجانب سهير أمام غرفة جدهما:
يا الهي.. أصبحت لا أطيق ا رئحة تلك المطه ا رت.. لقد مر أكثر من شهر.. ألن يسمحوا
لجدي بالخروج من ذلك المكان؟..
ردت عليها سهير بنزق:
لماذا تصرين على الحضور يومياً, إذا كنتِ تنزعجين هكذا من ا رئحة المشفى؟..
أجابتها نو ا ر بغيظ وهي ترمق رؤوف ومنذر وهما يقفان مع إحدى الممرضات والتي توزع
ابتساماتها بسخاء للرجلين:
وهل أتركه لتلك الحرباء التي تستمر في مغازلته بلا هوادة؟.
سألتها سهير بخفوت:
ولم تقلقين؟ إن رؤوف لا يبدي أي اهتمام بها..
"بعكس منذر الذي يبدو كالأبله أمام محاولاتها الحقيرة".
كان هذا ما قالته سهير في نفسها.. بالطبع لم تسمعه نو ا ر التي هبت فجأة من مكانها,
فسألتها سهير:
أين تذهبين؟.
أجابتها نو ا ر بغيظ:
ألا ترين تلك الحقيرة؟... سوف أذهب لأقتلع عينيها..
وجهت سهير نظرها حيث تتجه نو ا ر, فوجدت تلك الممرضة تمسد ذ ا رع رؤوف كما لو كانت
تنظف كمه من بعض الأتربة الوهمية.. ولكن الحق يقال كان رؤوف يحاول جذب ذ ا رعه
منها بشدة عندما وصلت إليهما نو ا ر والتي كانت تحمل كوباً من الشاي الساخن لا تدري
سهير من أين التقطته في طريقها لهما..
أدركت سهير ما تنتويه نو ا ر وتحركت مسرعة لتمنعها.. ولكن ما أن اقتربت منهم حتى
لاحظت أن نو ا ر ترنحت فجأة وتمايلت نحو الممرضة ليسقط كوب الشاي بمحتوياته الساخنة
على زيها الأبيض النظيف, وهي تشهق من الصدمة:
أيتها المجنونة ماذا فعلتِ؟.
أجابتها نو ا ر بب ا رءة مزيفة:
آسفة.. أظن أنني أصبت بدوار بسيط.. يبدو أن الأجواء هنا تسبب لي الغثيان..
ابتعدت الممرضة في غيظ بعد أن فهمت تلميح نو ا ر المزدوج بينما سألها منذر بعتاب:
لما فعلت ذلك يا نو ا ر؟.. إن وداد طيبة القلب وتولي جدي رعاية خاصة..
استفهمت نو ا ر:
وداد؟!!!.. أتقصد تلك الح.. تلك الفتاة؟.. نعم أرى أنها تولي الجميع رعاية خاصة!!..
ثم وجهت كلامها إلى رؤوف:
أليس كذلك؟..
تأملها رؤوف للحظة.. ليدرك أنها تشعر بالغيرة.. ولكن لم؟.. هل تظن أنه يهتم بتلك
الفتاة؟.. إنه لا يهتم إلا بها هي.. وهي تعلم ذلك جيداً.. لحظة.. هل تعلم ذلك بالفعل؟..
هز أ رسه بحيرة.. بالطبع تعلم.. فلا يعقل ألا تشعر كم هي غالية وأثيرة عنده...
رؤوف!!.
انتبه من شروده وهو يقول:
أعتقد أنها ممرضة بارعة.. لقد أوصى الطبيب بها كم ا رفقة طبية.. لجدي في المنزل .
فتحت نو ا ر عينيها ببطء لتقابلها ملامح رؤوف وهو ينظر إليها ببرود.. وسمعته يأمرها
بجفاء:
استعدي بسرعة, فيجب علينا العودة سريعاً للمستشفى..
سألته بخوف وهي تتغافل عن جموده:
هل جدي بخير؟..
رد باختصار قبل أن يغادر مسرعاً:
كما هو.
صدمت نو ا ر من تصرفه وانص ا رفه السريع.. ماذا يحدث؟.. لقد ظنت الليلة الماضية أنهما
عب ا ر مرحلة البرود والجفاء بعد سقوطه بين ذ ا رعيها يذرف دموعه على صدرها.. وسقطت
كل الحواجز التي كان يشيدها ببسالة حول مشاعره لينكشف لها الطفل الخائف من ألم
الحرمان واليتم مرة أخرى.. لم يفاجئها انهياره بقدر ما صدمها قوة هذا الانهيار وهو ينتفض
باكياً بين ذ ا رعيها كطفل صغير يخشى فقدان عائلته..
ألجمتها الصدمة للحظة إلا أن غريزتها سرعان ما دفعتها لتحتضنه بقوة وهي تربت على
كتفيه وتملس خصلاته الثائرة كجسده الذي كان ينتفض بفعل شهقاته العنيفة..
لم تحاول أن تتكلم.. فكل الكلام لا معنى له أمام انهياره العنيف.. فتركته يفرغ كل ما
بداخله على صدرها وهي تكاد تحبس أنفاسها تخشى أن يشعر بوجوده بين ذ ا رعيها.. يتذكر
أنه يضغطها بجسده في الف ا رش فيمتنع عن إف ا رغ شحنة حزنه وألمه.. تريده أن يتخلص من
تلك الشجون فهو لن يتحمل المزيد..
عيناه التائهتان والجميع يلتف حوله في المستشفى يسأله المشورة أخبرتاها بوضوح أنه وصل
إلى حافة تحمله, لذلك أصرت على البعد عنهم بأقصى سرعة وليظنوا ما يحلو لهم.. هو ما
يهمها.. وهو فقط.. لقد أوشك على الإنهيار بالفعل ولم تكن تسمح لأي شخص أن يشهد
ذلك الإنهيار.. وهو لم يكن ليسامح نفسه لو سقط منها ا رً أمام أي شخص, وما هي متأكدة
منه أنه لن يسامحها لأنها شهدت لحظة ضعفه..
بدأت شهقاته تهدأ قليلاً.. فعلمت أنه بدأ يعود للواقع ويدرك ما قام به.. مرت فترة سكون
كادت أن تسمع فيها صوت الهواء وهو يتحرك في الغرفة.. فسكنت تماماً تنتظر ثورته, إلا
أنها شعرت بذ ا رعيه تشتدان حولها لتضمها إليه ولكن هذه المرة لم تكن ضمة مواساة.. لم
يكن يبحث عن دعم ذ ا رعيها, بل عن عاطفتها.. عن تجاوبها.. وتأكدت من ذلك عندما
تحركت شفتاه على صدرها تنشر قبلات لاهبة وهو يزيد من ضغط ذ ا رعيه حولها حتى
كادت أن تشعر بعظامها تتفتت من قوته...
أدركت أنه غير مدرك للقوة التي يستخدمها فبدأت تمسد شعره برقة وهي توزع قبلاتها على
وجهه تحاول أن تمنحه ال ا رحة والحنان حتى يخفف من القسوة التي يعاملها بها ولكنها
سرعان ما وجدت شفتيه تزحفان لتصلا إلى شفتيها فيضغطهما بعنف غريب عليه.. همست
بضعف:
رؤوف...
وصلها صوته وهو يقول بش ا رسة حارقة:
أحتاجكِ يا قمري.. أحتاجكِ بشدة..
كان صوته يحمل نبرة يائسة وهو ما ي ا زل يتمسك بها بقوة.. ولأول مرة يُشعِرها بحاجته إليها,
بل ويصرح بذلك أيضاً فلم يكن أمامها إلا الإستسلام له تمنحه ما يحتاج من سكينة و ا رحة..
وحب.. حبها الذي همسته له عدة م ا رت وهو لم يمانع في سماع تلك الهمسات, بل كلما
همست له بحبها كان يزداد جنوناً واندفاعاً نحوها.. اندفاعه اتسم بالعنف, بل القسوة.. لأول
مرة تلتمس منه تلك القسوة في علاقتهما الحميمة.. وكأن لمساته خرجت عن سيطرته, فبدلاً
من الحماية والدلال والشغف الذي تستشعره منه دائماً.. تلقت القسوة والألم..
انتهى جنونه سريعاً فاستلقى على ظهره لاهثاً وهو يغطي عينيه بذ ا رعه يخفيهما عنها وكأنه
غير قادر على مواجهتها بعد تلك العاصفة التي سحبها إليها.. فهو لأول مرة يفكر في نفسه
أولاً.. ويأخذ كل ما تهبه إياه بد ون أن يفكر بالعطاء في المقابل.. لقد تصرف مثل وغد
أناني وهو يكره نفسه لذلك.. لكنه كان بحاجة إليها بشدة.. حاجة لم يستطع تفسيرها, بل لم
يرد ذلك.. فهو لم يكن في احتياج لام أ رة.. لعلاقة.. بل لوجودها هي معه ولإحساسه بها بين
ذ ا رعيه, وكأنها تق أ ر أفكاره.. وجدها تحرك أ رسها لتضعها على كتفه وشعر بيدها الصغيرة
تتسلل بهدوء على عضلات صدره وهي تهمس بخفوت:
هل تعلم شيئاً؟..
لم تنتظر إجابته واسترسلت:
ليلة زفافنا.. عندما اكتشفت أن جناحنا يقع في الطابق الأرضي.. انتابني غضب شديد..
فقد شعرت بالإهانة وبجرح عميق لكبريائي حتى أنني توعدتك س ا رً وأقسمت أن أجعلك تطلب
مني الانتقال إلى الطابق الأعلى لأتخذ مكاني الملائم كسيدة للمنزل... مثلها تماماً..
نظر إليها باستفهام وهو ما ا زل متمسكاً بصمته.. فحركت أ رسها قليلاً لتضعها على صدره
قريباً من قلبه فكاد صوت دقاته العالية والسريعة أن يصم أذنيها وأكملت سرد قصتها:
لقد فكرت في الت ا رجع عن قسمي لاحقاً وخاصة بعدما لمحت الحديقة الداخلية التي تربط
الجناح بغرفة مكتبك.. فهي ا رئعة, بل مذهلة لقد أحببتها على الفور.. ولكن ما حسم الأمر
بداخلي فعلاً.. وجعلني أتمسك بموقع جناحي بالطابق الأرضي.. اكتشافي أنني استطيع
م ا رقبتك والإطمئنان عليك من خلال نافذتينا المتواجهتين.. فم ا رقبتي لك وأنت تعمل..
وخاصة في الأيام التي بعدت عني فيها, هي ما ساعدني على تخطي بعدك وجفائك.. فكان
أن فضلت اطمئناني عليك واحساسي بتواجدك معي ولو عن بعد على انتصاري عليها في
معركة السيادة على المنزل...
تجمد رؤوف تماماً تحت لمساتها الدافئة وهو لا يصدق ما تحاول إخباره به.. هل تقصد ما
فهمه من كلامها؟!!.. هل تقصد أنها فضلته عن نفسها.. أنها قدمته هو على كبريائها!!..
هل هذا صحيح؟.. هل يمثل لها تلك الأهمية!!..
وللمرة الثانية ترد على أفكاره التي لم ينطق بها وهي تتمتم:
أنت أهم وأغلى عندي من كل شيء... فقط صدق هذا..
تلك المرة عندما لفها بذ ا رعيه مقرباً إياها من صدره ومرتشفاً رحيق شفتيها.. كانا بالفعل
يتبادلان الحب..
حاولت نو ا ر سحب نفسها من ذكريات ليلتها الحافلة فأغمضت عينيها تعتصرهما حتى لا
تجري دموعها على وجنتيها وهي تكمل استعدادها حتى تصطحبه للمشفى محدثة نفسها
بألم..
"إلى متى؟... إلى متى تمتد حلقة جفائك التي لا تريد كسرها ولا تسمح لي باخت ا رقها؟".
تحركت بألم تبحث عن رؤوف الذي كان يجوب الطابق السفلي كمن مسه الجنون.. ضرب
إحدى الموائد الجانبية بعنف شديد مما تسبب في تكسير بعض التحف التي سقطت أرضاً..
كان الغضب يمزقه, بل يحرقه حرقاً.. كيف سمح بما حدث الليلة الماضية؟.. كيف يسمح
لنفسه بهذا الانهيار.. وأمامها.. بين ذ ا رعيها!!.. هي من دون الجميع تشهد على دموعه..
على لحظة ضعفه وانهياره..
لقد ظن أنه يملك بأس وثبات جده, الذي تلقى خبر وفاة ولده وهو ثابتاً.. صامداً و ا ربط
الجأش.. ولكن أثبتت الأيام أنه ضعيف, بل أضعف مما تخيل يوماً, فلقد سقط منها ا رً عند
تفكيره أنه قد يفقد جده, لم يتخيل أبداً أن ينتابه مثل ذلك الشعور.. لقد شعر بالهلع, بل
الرعب حتى أنه لجأ إلى ذ ا رعيها يلتمس الدعم منها وال ا رحة على صدرها..
هل انغماسه بها الليلة الماضية كان هروباً من هلعه.. ف ا ر ا رً من ضعفه الذي لمسه لأول مرة
الليلة الماضية وهو يواسي الجميع ويحل مشاكلهم, بينما كان في أعماقه يتوق لربته رقيقة
تطمئنه وتهدأ من مخاوفه.. لضمة من صدر حنون تخبره ألا يخاف ولا يجزع..
حتى نعمات.. حتى مواستها له جاءت رسمية وهي تحثه على الصمود من أجل الجميع..
هل لهذا السبب لم يلجأ لنعمات تلك الم أ رة التي استوعبته لسنوات... كلا.. لقد أ ا رد نو ا ر..
تاق إليها.. كان بحاجتها مهما حاول أن يهرب من تفسير ما شعر به أو يخدع نفسه بأن
اندفاعه الغير مسبوق نحوها كان سببه طول فترة بعده عنها.. إلا إنه لن يستطيع إنكار
السلام الذي وجده بين ذ ا رعيها.. وال ا رحة التي منحتها له بدون حساب.. وهو ينهل من
حبها, يأخذ كل ما تمنحه إياه متغاضياً عن العطاء..
كيف له أن يواجه عينيها بعد ما شعرت بحاجته إليها التي صرح بها بكل وضوح ليلة أمس,
وحتى بعد اعت ا رفاتها المتوالية بالحب.. يجد نفسه الآن في الموقف الأضعف وهروبه من
أمامها منذ قليل هو أكبر دليل على ضعفه ذاك.. لقد انكشف أمامها.. تعرت روحه تماماً..
خرج الطفل الخائف بداخله إلى العلن وكانت هي من أخذت بيده لتخرجه من ظلمات
الحرمان إلى ضياء الحب والاحتواء.. ولكن يبقى السؤال الصعب.. كيف يمكن لأي رجل
بعنفوانه أن يواجه ام أ رته بعد أن بكى بين ذ ا رعيها كالطفل الخائف؟.. ام أ رته التي تقف بعيداً
الآن مترددة ولا تعرف كيف تتواصل معه.. تحاول ألا تشعره بوجودها.. تريده أن ينفث عن
عصبيته وغضبه قبل أن يذهبا معاً ويواجها الجميع باختفائهما الغير مبرر.. والذي لن يمر
بسهولة... ولكنها لم تعلم أنه شعر بها منذ أن خطت بقدميها خارج غرفة جدهما..
أجفلت عندما وصلها صوته:
مستعدة؟..
أجابته بخفوت:
نعم..
ما أن وصلا إلى المشفى حتى اندفع إليه منذر وقاسم يسألانه بلهفة:
رؤوف!!.. أين كنت؟.
أجاب بغموض:
ذهبت لإنهاء بعض المهام الخاصة بالعمل.. هل جد جديد؟..
سأله قاسم بغيظ وهو يرمق نو ا ر بنظرة ذات معنى:
وهل أخذت تلك المهام الليل بأكمله؟.
شيئاً ما في نبرة قاسم لم ترق لرؤوف.. أو ربما في نظ ا رته نحو نو ا ر التي ألصقت نفسها به..
مما دفعه للرد بجفاء:
هذا شأن خاص بي..
عاد قاسم يتأمل نو ا ر مرة أخرى وهو يخاطب رؤوف بطريقة مستفزة:
يبدو أن تلك المهام كانت عاجلة بالفعل.. ولم تستطع الانتظار لأدائها..
ضغط رؤوف على أسنانه بغيظ وقد وصله المغزى من كلام قاسم ولكنه قرر تجاهله:
يجب أن يتواجد أحدنا بالشركة اليوم, فلتذهب أنت يا قاسم.
أجاب قاسم بحدة:
ولماذا أنا؟..
أنت المسئول عن الشئون القانونية, ويجب أن ت ا رجع العقد الخاص بالصفقة الأخيرة.. ماذا
بك؟.
أجابه قاسم بحدة:
كلا.. سأبقى.. سأجري عدة مكالمات لأسوي الأمور.. ولكني لن أذهب..
كانت نعمات ت ا رقب ما يحدث عن بعد.. واستطاعت أن تفهم من تعابيرهم أنهم يتجادلون
حول أمر ما.. لم تهتم بهذا, فما لفت انتباهها هو ملامح رؤوف المبهمة.. ولغة جسده
الغامضة.. فهو يبدو محتداً وعصبياً, ولكن في نفس الوقت مسيط ا رً وهادئ بل يكاد يكون
مسترخياً قليلاً عن ليلة أمس..
نقلت بصرها إلى السم ا رء الصغيرة بجانبه تلاحظ أن ملامحها تنطق بالاهتمام والقلق وهي
ترمقه بنظ ا رتها الجانبية, فأدركت أن نو ا ر هي من سحبته من بينهم جميعاً لتستأثر به
لنفسها..
تحركت نحوهما وهي تستشيط غضباً من اختفائه ليلة أمس.. وانعكس هذا على لهجتها
الحادة:
رؤوف.. أين كنت؟.
أجاب بحدة:
ماذا بكم جميعاً؟.. هل يجب أن أتواجد أمامكم طوال الأربع والعشرين ساعة؟!!.. ألا
أستطيع الحصول على بعض ال ا رحة؟..
تلعثمت نعمات أمام حدة رؤوف:
بالط.. ب.. ع.. ولكني لم أعتد اختفائك في الأوقات العصيبة..
أجاب بغضب وهو يتحرك مبتعداً:
لكل شيء بداية..
ثم ما لبث أن عاد وكأنه تذكر أم ا رً ما.. فسحب نو ا ر من ذ ا رعها.. متوجهاً نحو عمه.. تاركاً
نعمات وهي تتميز غيظاً وغلاً..
خاطب نو ا ر بحدة فهو يريدها بعيداً عن قاسم.. بعيداً جداً:
انتظريني هنا..
أجابت في خفوت وهي متعجبة من تصرفه:
حسناً..
بعد أن اطمئن من الطبيب المختص بحالة جده أن وضع هذا الأخير مستقر.. وأنه على
وشك نقله إلى غرفة عادية بدلاً من غرفة العناية المركزة.. خرج إلى حديقة المشفى ومشهد
قاسم وهو يرمق نو ا ر بتلك النظ ا رت الغريبة.. يتكرر في ذهنه م ا ر ا رً وتك ا ر ا رً.. ماذا و ا رء تلك
النظ ا رت؟.. وهل كانت موجهة نحو نو ا ر فقط؟.. أم نحوهما معاً, رداً على غيابهما
الطويل؟..
هل هذا ما طلبته منك يا رؤوف؟..
التفت ليجد نعمات تواجهه وملامح الغضب تبدو عليها.. فسألها بحيرة:
ماذا هناك يا نعمات؟..
أجابته بغضب:
ألم أطلب منك أن تحافظ على ك ا رمتي وخاصة أمام... زوجتك؟..
أجابها بإرهاق وهو يمسح وجهه بكفيه:
نعمات.. من أجل الله.. هل تظنين أن الوقت مناسب لحوار كهذا؟..
أجابته بغيظ:
وهل كان الوقت مناسب لتختفي مع ... زوجتك.. لتفعلا ما يحلو لكما؟..
انتفض جسده بصدمة من قولها.. وأخذ يتأملها للحظات.. يعلم أنها غاضبة لاختفائه ليلة
أمس ولكنه لا يدري لما لم يشعر بتعاطف مع غضبها هذا وبدلاً من ذلك أجابها بهدوء:
لا الوقت ولا المكان مناسبين للحوار الذي تريدينه..
قطع كلامه وصول نو ا ر اللاهث:
رؤوف.. لقد استفاق جدي... وهو يطلب رؤيتك.
أ ا زح نعمات من طريقه متوجهاً نحو جده, وتبعته نو ا ر ولكن نعمات استوقفتها:
لا تظني أنكِ ستمتلكينه, فقط لأنه مهووس بجسدكِ الشاب..
رمقتها نو ا ر باشمئ ا زز من عبا ا رتها واستمرت في طريقها.. لكنها التفتت لتقول من خلف
كتفها:
لا تجعليني أفقد آخر ما أكنه لكِ من احت ا رم..
*****************
وقف رؤوف على باب غرفة جده متردداً في الدخول إليه.. لا يريد أن ي ا ره في تلك الحالة
الضعيفة.. صحيح أن جده مر ببعض الأزمات الصحية من قبل, إلا أن تلك الأزمة الأخيرة
كانت أشدهم.. وأكثرهم خط ا رً على حياته..
سمع صوت جده يناديه بخفوت:
رؤوف.. تعالى يا بني..
تقدم رؤوف بسرعة.. وركع بجانب الف ا رش:
حمداً لله على سلامتك يا جدي.. لقد أثرت قلقنا جميعاً.
ربت الجد على كتفه بحنان:
لا تقلق ولا تحزن يا بني.. فأنت لم تعد وحيداً الآن, فلديك زوجة وقريباً سيكون لديك أبناء
أيضاً.. لقد طلبت رؤيتك الآن لأسألك شيئاً يا رؤوف.
سل ما تشاء يا جدي.
سعل العجوز بجهد:
رؤوف.. أريدك أن تسامحني يا ولدي.. فأنا أعلم أنني ظلمتك..
قاطع رؤوف كلام جده وهو يقول:
أنت لم تجبرني على شيء يا جدي.. أنا كنت موافق على كل شيء.
هل ترى أنني لم أجبرك؟.. ولكني لم أتح لك الخيار أيضاً..
أحنى رؤوف أ رسه ليقبل يد جده قائلاً:
دعك من هذا الكلام الآن.. فصحتك هي الأهم.. وتأكد لو أن الزمن عاد للو ا رء لم أكن
لأغير شيء مما حدث..
تمتم جده بخفوت:
بارك الله فيك يا بني.. آمل أن تكون شموس بنفس سماحتك.. هل هي بالخارج؟..
نعم يا جدي.
اطلب منها أن تأتي هي الأخرى..
دخلت شموس إلى غرفة العجوز بخطوات مترددة ي ا رفقها عبد السلام, ولكن ما أن رآه والده
حتى طلب منه أن يدعه مع شموس بمفردهما....
*****************
تأففت نو ا ر بضيق وهي جالسة بجانب سهير أمام غرفة جدهما:
يا الهي.. أصبحت لا أطيق ا رئحة تلك المطه ا رت.. لقد مر أكثر من شهر.. ألن يسمحوا
لجدي بالخروج من ذلك المكان؟..
ردت عليها سهير بنزق:
لماذا تصرين على الحضور يومياً, إذا كنتِ تنزعجين هكذا من ا رئحة المشفى؟..
أجابتها نو ا ر بغيظ وهي ترمق رؤوف ومنذر وهما يقفان مع إحدى الممرضات والتي توزع
ابتساماتها بسخاء للرجلين:
وهل أتركه لتلك الحرباء التي تستمر في مغازلته بلا هوادة؟.
سألتها سهير بخفوت:
ولم تقلقين؟ إن رؤوف لا يبدي أي اهتمام بها..
"بعكس منذر الذي يبدو كالأبله أمام محاولاتها الحقيرة".
كان هذا ما قالته سهير في نفسها.. بالطبع لم تسمعه نو ا ر التي هبت فجأة من مكانها,
فسألتها سهير:
أين تذهبين؟.
أجابتها نو ا ر بغيظ:
ألا ترين تلك الحقيرة؟... سوف أذهب لأقتلع عينيها..
وجهت سهير نظرها حيث تتجه نو ا ر, فوجدت تلك الممرضة تمسد ذ ا رع رؤوف كما لو كانت
تنظف كمه من بعض الأتربة الوهمية.. ولكن الحق يقال كان رؤوف يحاول جذب ذ ا رعه
منها بشدة عندما وصلت إليهما نو ا ر والتي كانت تحمل كوباً من الشاي الساخن لا تدري
سهير من أين التقطته في طريقها لهما..
أدركت سهير ما تنتويه نو ا ر وتحركت مسرعة لتمنعها.. ولكن ما أن اقتربت منهم حتى
لاحظت أن نو ا ر ترنحت فجأة وتمايلت نحو الممرضة ليسقط كوب الشاي بمحتوياته الساخنة
على زيها الأبيض النظيف, وهي تشهق من الصدمة:
أيتها المجنونة ماذا فعلتِ؟.
أجابتها نو ا ر بب ا رءة مزيفة:
آسفة.. أظن أنني أصبت بدوار بسيط.. يبدو أن الأجواء هنا تسبب لي الغثيان..
ابتعدت الممرضة في غيظ بعد أن فهمت تلميح نو ا ر المزدوج بينما سألها منذر بعتاب:
لما فعلت ذلك يا نو ا ر؟.. إن وداد طيبة القلب وتولي جدي رعاية خاصة..
استفهمت نو ا ر:
وداد؟!!!.. أتقصد تلك الح.. تلك الفتاة؟.. نعم أرى أنها تولي الجميع رعاية خاصة!!..
ثم وجهت كلامها إلى رؤوف:
أليس كذلك؟..
تأملها رؤوف للحظة.. ليدرك أنها تشعر بالغيرة.. ولكن لم؟.. هل تظن أنه يهتم بتلك
الفتاة؟.. إنه لا يهتم إلا بها هي.. وهي تعلم ذلك جيداً.. لحظة.. هل تعلم ذلك بالفعل؟..
هز أ رسه بحيرة.. بالطبع تعلم.. فلا يعقل ألا تشعر كم هي غالية وأثيرة عنده...
رؤوف!!.
انتبه من شروده وهو يقول:
أعتقد أنها ممرضة بارعة.. لقد أوصى الطبيب بها كم ا رفقة طبية.. لجدي في المنزل .