إرتواء نبض
11-28-2016, 01:29 AM
صوتُ صُرَاخٍ أيقظني من نومي على غير عادتي؛ لأنظر خلال النافذة لأجدها مفتوحة على مصراعيها، فَرَكت عينيَّ بتلك يديَّ؛ كي أميزها، ولكنها كانتْ مفتوحةً بالفعل، ولم يستغرق تفكيري الكثير سوى لحظاتٍ لأتذكر قيامي بفتحها بالأمس، حيث كان الجوُّ شديد الحر، فقمتُ بفتحها أملاً في نسائم رطبةٍ تَنْعش الجوَّ الحارَّ حتى أهنأ بنومي، جلست على السرير كي أستعيد اتِّزاني، وقمتُ ببطء شديد لأعرف أسباب هذا الصراخ المولود مبكرًا؛ لأجد طفلين يتشاجران بالألفاظ مبارزةَ الأبطال، وأصوات الجيران تعلو مؤازِرة لهم تارة، وتارة تَنْعت آباءهم بعدم نصحهم وتربيتهم التربية الصحيحة، انتهى المشهد الدرامي القتالي دون خسائر سوى ألفاظ علقت بالذهن؛ فأنبتت الغضب مع إشراقه الشمس لأستبشر يومي بنوع من الرِّيبة والحذر، ولم أتمالك نفسي سوي برفع يديَّ للسماء، والبَوْح بأسراري لربي سرًّا.
فتحتُ باب غرفتي لأجد والدتي جالسةً تُشاهد التلفاز، لتَرْمُقني بنظرة مليئة بالتعجب والإعجاب في حين واحد، وكأني أشاهد لوحة فنيَّة رائعة نُقِشت على جانِبَي وَجْنَتيها، وألقيتُ عليها السلام، لترد سلامها متبوعًا بعبارات السخرية، متسائلة عن الأسباب التي جعلتني أكسر نظامي المعتاد يوميًّا بالاستيقاظ مبكرًا، نظرتُ لوالدتي بنظرة ضاحكة، وجلستُ بجوارها عابثًا في شعري موجهًا نظري للتلفاز، فربما يأتي بجديد من الأخبار بدلاً من الدائرة المفرَّغة التي ندور داخلها يوميًّا.
أخذتُ من والدتي متحكِّم القنوات، وبدأت أغير من الترددات؛ لعل جديدًا يصادفني، ووالدتي يعلو نغمُها بكلمات ساخطة، معلِنة أمنيتها بعدم استيقاظي مبكرًا؛ لقيامي بتغيير البَرْنامج التي كانتْ تُشاهده عن طريقة عمل وجبة جديدة، تقطع فيها شرائح اللحم، وتطهى، مختلطة بقطَع من الخضروات، رَمَقتُ والدتي بنظرةِ مداعبةٍ؛ لأجد وجهها مقتضبًا يُريد الضحك، وعينيها تتخلل وجهي بكلمات يملؤها الحب والراحة لجلوسي بجانبها، بدلاً من جلوسها وحيدة لتقوم بدور المستمع، رفعتُ يدي لأضعها فوق كتفها مربِّتًا عليها؛ فكم أحب أمي، فالكل يحب والديه، ولكنَّ أمي تملأ في قلبي جبالاً من الحبِّ، وأنهارًا من الحنان، تجعلني أعلو بذاك الحب ليهبط شلال حناني متلهفًا لنيل رضاها وبركة كلماتها.
صوتُ بابٍ ينفتح، وما هي إلا لحظات لأجد أختي واقفة أمامي تفرك في عينيها ووالدتي تضحك من فعلها، وتقول موفرة لتمعُّنها: "نعم إنه هو"، فاصل من السخرية والتعجب يتبادل بين أمي وأختي، ولم أستطع القيام بدور أفضل من دور الصامت الضاحك.
أوقفتُ زِرَّ منظِّم القنوات على بَرْنامج يستضيف أحد أصحاب الشركات، وفضولي قادَني أستبقيها، فربما يكون هناك جديد ليطلي جلباب حالي بألوان منَ الأمل، الذي نسيت بغيابه لونه، وكدت أنسى اسمه بالرغم من حداثة سنين، ولكنَّ طول المكوث بغير عمل يقتل بداخلي خلايا الأمل.
تحدَّث رجل الأعمال مجاوبًا على أحد أسئلة المحاوِر، عن رحلته العملية، وكيف وصل لهذه المكانة، بدأ حديثه بحمد الله وثنائه - وعلى وجه الرجل ما يدل على صلاح دينه - ثم تحدَّث عن حياته التعليمية، وحصوله على الشهادة الجامعيَّة، وسفره مباشرة بعد انتهاء خدمته العسكرية للعمل في إحدى دول الخليج وعمله بها وتفوقه وتفانيه في عمله جعله يتقلَّد أعلى المناصب، ومن ثَمَّ بدأ رصيده المالي يسمح بإنشاء شركة خاصة به، وبدأ نشاطه التجاري ينمو حتى وصل لما يقرب من سبعة فروع بدول مختلفة!
بعث المتحدِّث بحديثه السردي المليء بالأمل ذرات من التفاؤل، بدأت تكسو وجهي نظراتٌ من الأمل، وشَرَد ذهني مفكِّرًا عن السفر للخارج، ربما يوافيني الحظ وأنال نصيبًا مما أوتي هذا الرجل سالف التحدث، منذ ثلاث سنوات وأنا مُلْتَاع الفؤاد، باحثًا عن فرصة للعمل بين دفتي الصحف التي أقرؤها يوميًّا، وبين التردد على أعتاب الشركات؛ فرَبُّ القدر ساق لي هذا الحديث لكي أبدأ من نقطة جديدة، لعل الحظ يوافيني هذه المرة.
تركتُ لوالدتي منظِّم القنوات لترتد إليها ابتسامتها، وتبدأ سريعًا باستعادة بَرْنامجها المفضَّل عن طهي الطعام، دخلتُ غرفتي، وقمتُ بتبديل ملابسي، واستأذنت والدتي بالخروج، وصوت أختي يتصاعد من الداخل تلتمس مني الانتظار؛ كي نخرج معًا، وبالفعل مكثتُ قليلاً كي أستريح من منوال عتابها.
خرجت من البيت وعقلي يسبح في السفر للخارج، ترجَّلت لأحد مكاتب السفريات، ومن مكتب لآخر، ولكنَّ الحظ كان له رأي آخر لا يوافق رغبتي، قادتني قدماي لأسير في جوٍّ من التأمُّل على شاطئ النيل، وبريق الشمس يلمع كالتِّبْر فوق صفحاته، استوقفني سماعُ صوتٍ ينعتني باسمي، فتوقَّفت متعجبًا، والْتَفَتُّ لأجد صديقي أيمن الذي لم أَرَهُ من أيام الجامعة يناديني، فتقدَّمت نحوه مبتسمًا مباعدًا ذراعيَّ؛ لنلتقي بأحضان الاشتياق، وسألني عن سبب المجيء إلى هنا، وعن عملي الآن، وسألني عن الزواج والأهل، كان حال أيمن منيرًا عن حالي المظلم؛ فهو يعمل في أحد البنوك وأصبح له كُنْية الآن بطفل جميل الاسم في الحول الثاني من عمره.
أخبرتُ صديقي بما أريد، فكَّر صديقي قليلاً، ونظر إليَّ، ثم قال في صوت يملؤُه الجديَّة: إنَّ السفَر ليس كما تعتقد، أموال تُجْمع في خزائن، ثم تُلْقَى في رصيدك البنكي؛ فالسفر غربة واغتراب، وتعب ومشقة، المال يُشْبِع رغبتك في الثراء، ولكنَّ مقابله رغبات كثيرة يستحيل إشباعها إلا وسط من تحب، وتحت سماء بلادك ووطنك، وأردف زميلي متحدِّثًا بأنه يعلم أحد الشباب الذين قاموا بالسفر لأحد البلاد الأوروبية، وبإمكانه الاتصال به وتنسيق ميعاد للمقابلة، وبالفعل رحَّبت بالفكرة، وقام بالاتصال بزميله وترجَّلنا أنا وزميلي على شاطئ النيل ما يقرب من الساعة، نسرد سويًّا أقاصيص الذكريات الجامعية المضحكة، الباعثة في نفوسنا روحًا من الحب والألَم في الوقت نفسه.
أشار زميلي على أحد المقاهي لإخباري أن صديقه ينتظرنا هناك، وبدأتْ شرايين قلبي بالاتساع، وكأني بدأتُ أستنشق كمية إضافية من الهواء، وصلنا للمقهى، وألقينا التحية على الصديق، وتبادل زميلي الحديث معه معرِّفًا كلانا للآخر، وبعد شرح زميلي لصديقه عن أحوالي، طلب مني بعض الأوراق، وطلب رَقْم هاتفي، ثم وعدني بلقاء قريب.
شكرته كثيرًا، وقمتُ مودِّعًا له ولصديقي إثر مكالمةٍ من والدتي تخبرني بقدوم خالتي، وحاجتها لرؤيتي، مشيتُ على عجل وعيني مبصرة بضياء الأمل، وبعد وصولي للمنزل ألقيتُ السلام على الحاضرين، وتقدَّمتُ بالسلام على خالتي - وقلبي يخفق - منتظرًا رؤية ما أحب لتبادرني والدتي بأن ابنة خالتي تمكث مع أختي بالداخل، لأهرع مستبقًا خطواتي، وفتحت باب الغرفة؛ لتشرق الشمس ساطعة في ليلي المظلم؛ لتنيره بأجمل الأشعة على الإطلاق، ولم يَحْجِب تلك الأشعة سوى تصرف أختي الحمقاء - التي تعلم ما في نفسي - وقيامها بطردي من الغرفة، وهي تضحك، وتشاركها الشمس في الضحك مملوءًا بالاشتياق.
جلستُ في المنزل وعيني موجَّهة لهاتفي، أنتظر منه صوتًا يحمل بين ثناياه نبراس الخلاص، مرَّت الأيام وكأن ثقلاً كبيرًا معلقًا بعقاربها، وبعد أسبوع تقريبًا جاءني الاتصال، وتم الاتفاق على اللقاء في نفس المكان الذي التقينا فيه من قبل، بدلت ملابسي سريعًا، وهَمَمت بالنزول وصوت دعوات أمي تتردد على أستار أذني؛ لتفتحمها رغمًا عنها، وتصل لقلبي وعقلي صافية مملوءة بالحب والحنان.
رجل في الأربعين من عمره يبدو على وجهه الصلاح والتعب أيضًا؛ فوجهه تَبْرز فيه التجاعيد؛ لتَنُمَّ عن خبرات متزايدة من تراكمات حياتية واجهته، تجاذَبنا أطراف الحديث ليخبرني أنه وجد لي عملاً بأحد البلاد الأوروبية، بأحد الفنادق؛ لتسمو نفسي لحظات، ثم تهوى سريعًا.
ولكنَّ المهم أني أخرج من هذا البلد، طَلَب مني الرجل عشرة آلاف من الجنيهات؛ حتى يستطيع الانتهاء من إجراءات السفر، وقال لي: إن السفر سيكون على أحد المراكب؛ لتنطلق في نفسي قشعريرة بالخوف، تسري في كياني، ولكنها ما لبثت أن تبدَّلت بارتياح، عندما نحَّيت كل هذه الأفكار، وتخيَّلت نفسي مترجلاً في شوارع أوروبا رمز الثراء، والأمل في عيني، استمعت إليه بعناية وتواعدنا على الغد لتسليم النقود.
وبالفعل كلَّمت والدتي وأخبرتها بأن أحد زملائي قد جَلَب لي فرصة عمل بالخارج، ولكن يشترط مبلغًا من المال لكي أنهي إجراءاته، الدمع انساب غزيرًا من والدتي دون مقدِّمات؛ ليعلن الرفض لتركها بدون سند - كما تقول بعد وفاة أبي - وأختي المقبلة على الزواج، وأخي المقبل على مرحلة مهمة من حياته الدراسية - وهي الثانوية العامة - وبدأت أُكَفْكِف دمعها بكلمات من الأمل، والحلم بحياة أفضل تمكننا من نَيْل ما نريد، ونصبو إليه في حياتنا، وننال حياة هنيئة.
أودعتُ الرجل النقود، وأمهلني أسبوعًا كي أَحْزِم أمتعتي، وأُوَدِّع هلى وجاء أهلى أهلي لتجيء مكالمته بعد مرور ست ليال؛ بإخباري بميعاد السفر في الواحدة صباح الغد، وقمتُ بتوديع أمي وإخوتي، وبدموع الطفل استقبلني أخي مصطفى؛ لتتشارك سيول الدمع من ينابيع ست غمرت قلبي بالمياه، فجعلته غريقًا في الأسى؛ لينطلق سريعاً محاولاً الانفلات بفتح باب البيت والانطلاق، وأصوات الوداع تأبى العزف بدون الدموع.
وصلتُ للقطار لأستقله إلى الإسكندرية، ومنها أقابل الرجل وباقي الزملاء المسافرين، وما إن هبطت من المحطة إلا وقمتُ سريعًا بالاتِّصال، ليعلمني الرجل بالانتظار على شاطئ البحر، وسيأتي بمركبة لتقلنا جميعًا، الجو شديد البرودة، نظرتُ للبحر بخوف، فكيف سنقوم باجتياز هذا المانع العظيم، في هذا الليل البهيم، والجو السقيع؛ لأسمع صوتًا يناديني بالإسراع والدخول لإحدى المركبات؛ لأجده الرجل المنوط به سفرنا، وركبت المركبة لأجدني أجلس على أرجل ثلاثين من الرجال.
المركبة تسير مسرعة لتصل لنقطة النهاية وقمنا بالنزول.
والأمل يتراءى لنا، أعمارنا متقاربة من بعض بين العقد الثاني والثالث، وليست الأعمار فقط، بل أفكار السخط واليأس تبدو متراقصة بين أسناننا.
لَم تحتمل عيناي المنظر الوحشي لثلاثين رجلاً، يُلْقَون في عُرْض البحر، على لوح من الخشب لا يتسع سوى لتسع من الرجال، إن جاز ذلك بالفعل، الجميع تسابق ليأخذ مكانه، وتلعثمت قدماي، وكانت جاذبية الأرض رأت فيها شيئًا آخر.
بدأ الرجال يرتعدون من البرد، وينادوني للانطلاق في ظلمات البحر، بلا أمل سوى الموت، أو الموت كما أظن، توجَّهت نحوهم بقدمي، وقلبي يخفق سريعًا، وعقلي يزيد من ضغطه على أسوار جمجمتي لأتذكر والدتي وإخوتي، وشمسي المشرقة في بيت خالتي، ووقفت مكاني، والكل يدعوني للركوب أو الانصراف، ولكني تمالكْتُ ما بقي في جسدي من آدمية، ورفعتُ يدي إليهم، وأعطيتهم ظهري معطيًا إيَّاهم الحرية بالانصراف.
فتحتُ باب غرفتي لأجد والدتي جالسةً تُشاهد التلفاز، لتَرْمُقني بنظرة مليئة بالتعجب والإعجاب في حين واحد، وكأني أشاهد لوحة فنيَّة رائعة نُقِشت على جانِبَي وَجْنَتيها، وألقيتُ عليها السلام، لترد سلامها متبوعًا بعبارات السخرية، متسائلة عن الأسباب التي جعلتني أكسر نظامي المعتاد يوميًّا بالاستيقاظ مبكرًا، نظرتُ لوالدتي بنظرة ضاحكة، وجلستُ بجوارها عابثًا في شعري موجهًا نظري للتلفاز، فربما يأتي بجديد من الأخبار بدلاً من الدائرة المفرَّغة التي ندور داخلها يوميًّا.
أخذتُ من والدتي متحكِّم القنوات، وبدأت أغير من الترددات؛ لعل جديدًا يصادفني، ووالدتي يعلو نغمُها بكلمات ساخطة، معلِنة أمنيتها بعدم استيقاظي مبكرًا؛ لقيامي بتغيير البَرْنامج التي كانتْ تُشاهده عن طريقة عمل وجبة جديدة، تقطع فيها شرائح اللحم، وتطهى، مختلطة بقطَع من الخضروات، رَمَقتُ والدتي بنظرةِ مداعبةٍ؛ لأجد وجهها مقتضبًا يُريد الضحك، وعينيها تتخلل وجهي بكلمات يملؤها الحب والراحة لجلوسي بجانبها، بدلاً من جلوسها وحيدة لتقوم بدور المستمع، رفعتُ يدي لأضعها فوق كتفها مربِّتًا عليها؛ فكم أحب أمي، فالكل يحب والديه، ولكنَّ أمي تملأ في قلبي جبالاً من الحبِّ، وأنهارًا من الحنان، تجعلني أعلو بذاك الحب ليهبط شلال حناني متلهفًا لنيل رضاها وبركة كلماتها.
صوتُ بابٍ ينفتح، وما هي إلا لحظات لأجد أختي واقفة أمامي تفرك في عينيها ووالدتي تضحك من فعلها، وتقول موفرة لتمعُّنها: "نعم إنه هو"، فاصل من السخرية والتعجب يتبادل بين أمي وأختي، ولم أستطع القيام بدور أفضل من دور الصامت الضاحك.
أوقفتُ زِرَّ منظِّم القنوات على بَرْنامج يستضيف أحد أصحاب الشركات، وفضولي قادَني أستبقيها، فربما يكون هناك جديد ليطلي جلباب حالي بألوان منَ الأمل، الذي نسيت بغيابه لونه، وكدت أنسى اسمه بالرغم من حداثة سنين، ولكنَّ طول المكوث بغير عمل يقتل بداخلي خلايا الأمل.
تحدَّث رجل الأعمال مجاوبًا على أحد أسئلة المحاوِر، عن رحلته العملية، وكيف وصل لهذه المكانة، بدأ حديثه بحمد الله وثنائه - وعلى وجه الرجل ما يدل على صلاح دينه - ثم تحدَّث عن حياته التعليمية، وحصوله على الشهادة الجامعيَّة، وسفره مباشرة بعد انتهاء خدمته العسكرية للعمل في إحدى دول الخليج وعمله بها وتفوقه وتفانيه في عمله جعله يتقلَّد أعلى المناصب، ومن ثَمَّ بدأ رصيده المالي يسمح بإنشاء شركة خاصة به، وبدأ نشاطه التجاري ينمو حتى وصل لما يقرب من سبعة فروع بدول مختلفة!
بعث المتحدِّث بحديثه السردي المليء بالأمل ذرات من التفاؤل، بدأت تكسو وجهي نظراتٌ من الأمل، وشَرَد ذهني مفكِّرًا عن السفر للخارج، ربما يوافيني الحظ وأنال نصيبًا مما أوتي هذا الرجل سالف التحدث، منذ ثلاث سنوات وأنا مُلْتَاع الفؤاد، باحثًا عن فرصة للعمل بين دفتي الصحف التي أقرؤها يوميًّا، وبين التردد على أعتاب الشركات؛ فرَبُّ القدر ساق لي هذا الحديث لكي أبدأ من نقطة جديدة، لعل الحظ يوافيني هذه المرة.
تركتُ لوالدتي منظِّم القنوات لترتد إليها ابتسامتها، وتبدأ سريعًا باستعادة بَرْنامجها المفضَّل عن طهي الطعام، دخلتُ غرفتي، وقمتُ بتبديل ملابسي، واستأذنت والدتي بالخروج، وصوت أختي يتصاعد من الداخل تلتمس مني الانتظار؛ كي نخرج معًا، وبالفعل مكثتُ قليلاً كي أستريح من منوال عتابها.
خرجت من البيت وعقلي يسبح في السفر للخارج، ترجَّلت لأحد مكاتب السفريات، ومن مكتب لآخر، ولكنَّ الحظ كان له رأي آخر لا يوافق رغبتي، قادتني قدماي لأسير في جوٍّ من التأمُّل على شاطئ النيل، وبريق الشمس يلمع كالتِّبْر فوق صفحاته، استوقفني سماعُ صوتٍ ينعتني باسمي، فتوقَّفت متعجبًا، والْتَفَتُّ لأجد صديقي أيمن الذي لم أَرَهُ من أيام الجامعة يناديني، فتقدَّمت نحوه مبتسمًا مباعدًا ذراعيَّ؛ لنلتقي بأحضان الاشتياق، وسألني عن سبب المجيء إلى هنا، وعن عملي الآن، وسألني عن الزواج والأهل، كان حال أيمن منيرًا عن حالي المظلم؛ فهو يعمل في أحد البنوك وأصبح له كُنْية الآن بطفل جميل الاسم في الحول الثاني من عمره.
أخبرتُ صديقي بما أريد، فكَّر صديقي قليلاً، ونظر إليَّ، ثم قال في صوت يملؤُه الجديَّة: إنَّ السفَر ليس كما تعتقد، أموال تُجْمع في خزائن، ثم تُلْقَى في رصيدك البنكي؛ فالسفر غربة واغتراب، وتعب ومشقة، المال يُشْبِع رغبتك في الثراء، ولكنَّ مقابله رغبات كثيرة يستحيل إشباعها إلا وسط من تحب، وتحت سماء بلادك ووطنك، وأردف زميلي متحدِّثًا بأنه يعلم أحد الشباب الذين قاموا بالسفر لأحد البلاد الأوروبية، وبإمكانه الاتصال به وتنسيق ميعاد للمقابلة، وبالفعل رحَّبت بالفكرة، وقام بالاتصال بزميله وترجَّلنا أنا وزميلي على شاطئ النيل ما يقرب من الساعة، نسرد سويًّا أقاصيص الذكريات الجامعية المضحكة، الباعثة في نفوسنا روحًا من الحب والألَم في الوقت نفسه.
أشار زميلي على أحد المقاهي لإخباري أن صديقه ينتظرنا هناك، وبدأتْ شرايين قلبي بالاتساع، وكأني بدأتُ أستنشق كمية إضافية من الهواء، وصلنا للمقهى، وألقينا التحية على الصديق، وتبادل زميلي الحديث معه معرِّفًا كلانا للآخر، وبعد شرح زميلي لصديقه عن أحوالي، طلب مني بعض الأوراق، وطلب رَقْم هاتفي، ثم وعدني بلقاء قريب.
شكرته كثيرًا، وقمتُ مودِّعًا له ولصديقي إثر مكالمةٍ من والدتي تخبرني بقدوم خالتي، وحاجتها لرؤيتي، مشيتُ على عجل وعيني مبصرة بضياء الأمل، وبعد وصولي للمنزل ألقيتُ السلام على الحاضرين، وتقدَّمتُ بالسلام على خالتي - وقلبي يخفق - منتظرًا رؤية ما أحب لتبادرني والدتي بأن ابنة خالتي تمكث مع أختي بالداخل، لأهرع مستبقًا خطواتي، وفتحت باب الغرفة؛ لتشرق الشمس ساطعة في ليلي المظلم؛ لتنيره بأجمل الأشعة على الإطلاق، ولم يَحْجِب تلك الأشعة سوى تصرف أختي الحمقاء - التي تعلم ما في نفسي - وقيامها بطردي من الغرفة، وهي تضحك، وتشاركها الشمس في الضحك مملوءًا بالاشتياق.
جلستُ في المنزل وعيني موجَّهة لهاتفي، أنتظر منه صوتًا يحمل بين ثناياه نبراس الخلاص، مرَّت الأيام وكأن ثقلاً كبيرًا معلقًا بعقاربها، وبعد أسبوع تقريبًا جاءني الاتصال، وتم الاتفاق على اللقاء في نفس المكان الذي التقينا فيه من قبل، بدلت ملابسي سريعًا، وهَمَمت بالنزول وصوت دعوات أمي تتردد على أستار أذني؛ لتفتحمها رغمًا عنها، وتصل لقلبي وعقلي صافية مملوءة بالحب والحنان.
رجل في الأربعين من عمره يبدو على وجهه الصلاح والتعب أيضًا؛ فوجهه تَبْرز فيه التجاعيد؛ لتَنُمَّ عن خبرات متزايدة من تراكمات حياتية واجهته، تجاذَبنا أطراف الحديث ليخبرني أنه وجد لي عملاً بأحد البلاد الأوروبية، بأحد الفنادق؛ لتسمو نفسي لحظات، ثم تهوى سريعًا.
ولكنَّ المهم أني أخرج من هذا البلد، طَلَب مني الرجل عشرة آلاف من الجنيهات؛ حتى يستطيع الانتهاء من إجراءات السفر، وقال لي: إن السفر سيكون على أحد المراكب؛ لتنطلق في نفسي قشعريرة بالخوف، تسري في كياني، ولكنها ما لبثت أن تبدَّلت بارتياح، عندما نحَّيت كل هذه الأفكار، وتخيَّلت نفسي مترجلاً في شوارع أوروبا رمز الثراء، والأمل في عيني، استمعت إليه بعناية وتواعدنا على الغد لتسليم النقود.
وبالفعل كلَّمت والدتي وأخبرتها بأن أحد زملائي قد جَلَب لي فرصة عمل بالخارج، ولكن يشترط مبلغًا من المال لكي أنهي إجراءاته، الدمع انساب غزيرًا من والدتي دون مقدِّمات؛ ليعلن الرفض لتركها بدون سند - كما تقول بعد وفاة أبي - وأختي المقبلة على الزواج، وأخي المقبل على مرحلة مهمة من حياته الدراسية - وهي الثانوية العامة - وبدأت أُكَفْكِف دمعها بكلمات من الأمل، والحلم بحياة أفضل تمكننا من نَيْل ما نريد، ونصبو إليه في حياتنا، وننال حياة هنيئة.
أودعتُ الرجل النقود، وأمهلني أسبوعًا كي أَحْزِم أمتعتي، وأُوَدِّع هلى وجاء أهلى أهلي لتجيء مكالمته بعد مرور ست ليال؛ بإخباري بميعاد السفر في الواحدة صباح الغد، وقمتُ بتوديع أمي وإخوتي، وبدموع الطفل استقبلني أخي مصطفى؛ لتتشارك سيول الدمع من ينابيع ست غمرت قلبي بالمياه، فجعلته غريقًا في الأسى؛ لينطلق سريعاً محاولاً الانفلات بفتح باب البيت والانطلاق، وأصوات الوداع تأبى العزف بدون الدموع.
وصلتُ للقطار لأستقله إلى الإسكندرية، ومنها أقابل الرجل وباقي الزملاء المسافرين، وما إن هبطت من المحطة إلا وقمتُ سريعًا بالاتِّصال، ليعلمني الرجل بالانتظار على شاطئ البحر، وسيأتي بمركبة لتقلنا جميعًا، الجو شديد البرودة، نظرتُ للبحر بخوف، فكيف سنقوم باجتياز هذا المانع العظيم، في هذا الليل البهيم، والجو السقيع؛ لأسمع صوتًا يناديني بالإسراع والدخول لإحدى المركبات؛ لأجده الرجل المنوط به سفرنا، وركبت المركبة لأجدني أجلس على أرجل ثلاثين من الرجال.
المركبة تسير مسرعة لتصل لنقطة النهاية وقمنا بالنزول.
والأمل يتراءى لنا، أعمارنا متقاربة من بعض بين العقد الثاني والثالث، وليست الأعمار فقط، بل أفكار السخط واليأس تبدو متراقصة بين أسناننا.
لَم تحتمل عيناي المنظر الوحشي لثلاثين رجلاً، يُلْقَون في عُرْض البحر، على لوح من الخشب لا يتسع سوى لتسع من الرجال، إن جاز ذلك بالفعل، الجميع تسابق ليأخذ مكانه، وتلعثمت قدماي، وكانت جاذبية الأرض رأت فيها شيئًا آخر.
بدأ الرجال يرتعدون من البرد، وينادوني للانطلاق في ظلمات البحر، بلا أمل سوى الموت، أو الموت كما أظن، توجَّهت نحوهم بقدمي، وقلبي يخفق سريعًا، وعقلي يزيد من ضغطه على أسوار جمجمتي لأتذكر والدتي وإخوتي، وشمسي المشرقة في بيت خالتي، ووقفت مكاني، والكل يدعوني للركوب أو الانصراف، ولكني تمالكْتُ ما بقي في جسدي من آدمية، ورفعتُ يدي إليهم، وأعطيتهم ظهري معطيًا إيَّاهم الحرية بالانصراف.